البردوني قامة في الشعر، وموسوعة في الأدب.. الدكتور عبدالرضا علي
> البردوني قامة في الشعر، وموسوعة في الأدب.. الدكتور عبدالرضا علي
في السبعينات تعرفته رسماً وصوتاً لكنني لم ألتق به شخصياً وظلت أمنية اللقاء مؤجلة حتى التسعينات. حين زرته في بيته كان الفضل في اللقاء يعود إلى تلميذي النجيب الشاعر علوان مهدي فقد رتب الزيارة تاريخاً ووقتاً فوجدت الرجل متواضعاً يحدثك مع ابتسامة دائمة ونكتة مناسبة ترد بين الفينة والأخرى ضمن أحاديثه الممتعة ثم تكررت اللقاءات وإن كانت متباعدة لكنني كنت أحرص فيها على توجيه بعض الأسئلة إليه وبخاصة تلك التي تتعلق بالعملية الإبداعية أو أقرأ له رأياً لي مكتوبا غير منشور قد يخص موقفاً أو ظاهرة أدبية فيصغي على نحو يشجعك فيه على الاستمرار ثم يزيد بأن يطري المقروء وكان يستمع في الوقت نفسه إلى الشباب الذين يجيئون إليه ليعرضوا عليه بعض شعرهم بالدقة نفسها دون أن ينسى المزحة والطرفة والنكتة. شاركته في بعض الندوات الأدبية أو اللقاءات لا سيما تلك التي عقدتها وزارة الثقافة والسياحة كالندوة المكرسة لإحياء الذكرى الحادية والثلاثين للشاعر محمد محمود الزبيري في 1/4/96م والمهرجان الخاص بالجواهري سنة 1997م. واللقاء التلفزيوني على الفضائية اليمنية (هذا العام/ 1999م) فخرجت بانطباع من تلك الندوات يتمثل بالآتي:
1- حين يتحدث البردوني يسترسل فيطنب كثيراً لأن المعلومات التي يحفظها عن المبدع أو التاريخ الأدبي العام كثيرة جداً لهذا لن تجد منهجية في حديثه فقد يخرج عن الموضوع إلى موضوعات أخرى ولا يعود إليه إلا بعد أن تظن بأنه نسيه.
2- كان أديباً موسوعياً بكل معنى الموسوعة ففضلا عن كونه شاعراً كبيراً من شعراء الكلاسيكية الجديدة إلا أنه ناقد ذو منطلقات جريئة وتجد تلك المنطلقات في العديد من كتبه وبخاصة: “رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه” و”فنون الأدب الشعبي في اليمن” و”من أول قصيدة إلى آخر طلقة” دراسة في شعر الزبيري وحياته. كما أنه مقالي معروف لكن بعض مقالاته تميل إلى الإسهاب أيضاً لكثرة ما يختزن في ذاكرته من معلومات؟
3- حين يتحدث في الندوات لا يميل إلى الاستشهاد بالشعر وإذا ما فعل ذلك من النادر لأن التاريخ يستغرقه بأحداثه ومواقف الرجال وهو حريص على ذكر تلك الأحداث والمواقف، مؤرخة بالسنة والشهر واليوم أحياناً، كما في إيراده في سبب سجن الزبيري، وخروج الجواهري من حجابة الملك فيصل الأول.
أما انطباعي عن إنجازه الشعري فليس سهلاً أن يرد في بضع كلمات لأن البردوني قمة عالية من قمم شعر الشطرين وهو يكتب هذا اللون بروح المعاصرة والإيمان بدور الخوف في الإثارة أو التغير أو الرفد وقد نشر اثني عشر ديواناً خلال سنوات عمره الإبداعي بداءة بديوان “من أرض بلقيس” ونهاية بديوان “رجعة الحكيم بن زايد” وفي تلك الدواوين ظواهر فنية عديدة ومضامين موضوعية لها خصوصيتها اليمنية. ففي الجانب الفني يميل إلى استخدام التراث تاريخاً ورموزاً ونصوصا ومدنا وجبالا وحوادث لها مغزاها ولعل هذا الاهتمام دعاه لأن يكتب قصيدة القناع التي تجلت في “تحولات يزيد بن مفرغ الحميري الذي قاده مزاحه الشعري إلى المطاردة والسجن في قوله:
ألا ليت اللحى كانت حشيشاً فنعلفها خيول المسلمينا
حين شاهد الريح تلعب بلحية والي (سجستان) عباد بن زيد. كما أن البردوني يميل إلى استخدام تقنية السرد الحديثة كالمنولوج الدرامي والديولوج والراوي العليم وغير ذلك ولعل في “السلطان.. والثائر الشهيد” خير مثال على هذه التقنية إْذ جعل الثلاثة والثلاثين بيتاً الأولى على لسان السلطان الأخرى على لسان الشهيد الذي يبعث من جديد في نهاية القصيدة:
كالبذر دفنت هنا جسدي
والآن البذر هنا أورقْ
فلقلب التربة أشواق
كالورد وحلم كالزئبقْ
بدماء الفادي تتحنى
لزفاف مناه تتزوقْ
أما أهم ما في شعره من مضامين أو أبعاد موضوعية فيتجلى في الدعوة إلى الوحدة ونبذ الفرقة والدفاع عن الوطن والتغني بصنعاء وتمجيد ثورتي سبتمبر وأكتوبر 62-1963م.و السخرية الشديدة من الطغاة المتجبرين وأدعياء النضال ومروجي ثقافة القصور وبائعي الذمم وسراق الشعوب والمتاجرين بالحرية.ولعل قصيدته “بنوك.. وديوك” خير ما يمثل هذه السخرية الحادة:
لنا بطون.. ولديكم بنوك
هذي المآسي نصبتكم ملوك
لنا شروط ولكم شرطة
تخط بالكرباج (حسن السلوك)
أنتم تحوكون الذي لا نرى
وتستشفون الذي لا نحوك
رحم الله عبدالله البردوني لقد كان قامة كبيرة في شعر الشطرين وكاتباً ذا دراية موسوعية الأدب، وعزاؤنا في تلك الآثار الإبداعية والنقدية التي تركها لتدل على بقائه بين أهله وأصدقائه ومحبيه حيًّا
ملحق الثورة الثقافي عدد (12717).