مجالس البردوني الأدبية.. الأستاذ عبدالله علوان
> مجالس البردوني الأدبية.. الأستاذ عبدالله علوان
رحيل الأستاذ الجليل عبدالله البردوني ترك فراغا ثقافيا واسعا لا على مستوى الساحة الثقافية اليمنية؛ بل والعربية فقد كان الشاعر الجليل لسان حال الأمة العربية وضميرها الثقافي، وكان مع هذا وذاك ضمير الإنسانية التواقه إلى الانعتاق من عذابات الأنظمة الاستبدادية الطاغية كان البردوني صوتها الصارخ في وجهه الظلم وكان شعره ونثره صوت العدالة الاجتماعية، والحرية.
حكاياته لون وضوء عرفته
كشعب كبير وهو فرد من الورى
بسيط “كقاع الحقل” من كل البقاع لأنه
يجود ولا يدرون، من أين أمطرَ
يغيم ولا يدرون، من أين ينجلي
يغيب ولا يدرون من أين أسفرَ
وقد يعتريه الموت مليون مرة
ويأتي وليداً، ناسياً كلما اعترى..
ذلك هو الجليل البردوني يضيء بشعره الروح ويهديه إلى منابت الحب والفداء فيصير شعبا كبيرا في عطائه الأدبي، مع أنه واحد من الناس: بسيط كالضوء وسامٍ كالشمس.
جواد وكريم. فبيته مفتوح لكل الناس، دون الفوارق الطبقية، أو العرقية التي يفتعلها الأوغاد وجيبه مبذول لكل محتاج وهو الغيم والمطر، وهو الشمس والقمر.
الجليل البردوني هو الحياة في مقارعة الموت، وهو الخصب في مقارعة الجدب، يرفض الموت القسري، أي الصمت.. أو السكون.. لأن الصمت صفة للموتى؛ ولأن السكوت صفة الجبناء، لذا عاش ضد الموت والظلم، ومن أجل الشعب والإنسان.
تمتصني آهات هذا الليل في شرهٍ صموت
وتعيد ما بدأت وتنوي أن تفوت ولا تفوت
وتثير أوجاعي وترغمني على وجع السكوت
وتقول لي: مت أيها الذاوي فأنسى أن أموت
لكن في قلبي دجى الموتى.. وأحزان البيوت
ونشيج أيتام بلا مأوى.. بلا ماء وقوت.
هذا القصيدة (أنسى أن أموت) هي من مؤثرات جلسائه الذين يساومونه على الكلمة فيأبي. ومع أن أمواج الليل عبارة ممنوحة من ليل أمرئ القيس (وليل كموج البحر أرخى سدوله) إلا أنها هنا إشارة إلى قوى سلطوية غاشمة، حاولت توجيهه إلى وجهة غير الحق، فصدها.. رغم الأوجاع، فوجع السكوت عن قول الحقيقة أقسى من أوجاع الواقع وليس هذا الواقع سوى قلب الجليل عبدالله البردوني، وعواطفه الحميمة، والحانية على أحزان الفقراء والمساكين المقهورين على أمرهم المسلوبي الحقوق.. أحزان البيوت، نشيج الأيتام، وأنين المدينة المسلوبة؛ تلك الأوجاع تحثة على قول الحقيقة بصورة أقوى من هراوات الرفاق اللينة، ووعيد النظام القمعي..
كانت مجالس البردوني مصدراً من مصادر شعره فلمجالسته أثر شاعري قوي لأنه لا يجالس أصدقاءه أو أعداءه أو زواره، وفي يده هراوة البابوية.. بل كان يحاورهم بالكلمة الصادقة يقبل ويرفض، ويسمع ويتكلم، يعارض ويقول رأية بهدوء وأدب حتى وإن شط محاوره، وهرج عليه كل هذا نجده في شعره، وبشكل حوارات.
أتقول أعياك القياس وإنما
هاتيك غاشمة وهذي الغاشمة؟
هذا البيت من مشهد حواري مع (مأرب الأغلى) وهو لا بد وأنه ترميز إلى صديق كان يحاوره، حول الفوارق بين حضارة الأمس، وحضارة اليوم، يقول مخاطبا جليسه، وقد مهره أسما عزيزاً عليه(مأرب الأغلى)
يا مأرب الأغلى.. أتى (اليوم) الذي
يغني بدغدغة الأكف الناعمة
سميت سيل الغيث أمس عرامة
أسيول نفط اليوم ليست عارمة..
بالأمس كنت على التجارة حاكما
واليوم أصبحت التجارة حاكمة
كان شعر البردوني منذ ديوانه الأول (من أرض بلقيس) وحتى ديوانه الخامس (السفر إلى الأيام الخضر) يقوم على أحوال المجتمع ووقائعة السياسية والثقافية، وعلى الصراعات الاجتماعية والقومية والوطنية، أو على وقائع الثورة وأحلامها وأوجاعها، لكنه أدخل عنصري الحوار الدرامي، وجعله في مشاهد متساوقة كما في قصيدة (وجوه دخانية) التي هي مشاهد درامية من واقع الطبقات الاجتماعية ودورها في خدمة الحياة المدنية، لكن القصائد التي تعتمد على مايدور في مجالسه تأتي أقوى في ديوانه (زمان بلا نوعية) و(ترجمة رملية)، وقصيدة (سباعية الغثيان الرابع) حوار مكشوف حول نظرية الثورة العالمية بشكل عام، وهي نظرية مؤلفة من عدة مصادر اقتصادية واجتماعية وفلسفية.. لذا تجدها:
إما أنها رأسٌ يسكن في قدم حاملة وأما عوسجة بلا جذور.. أو هي شعارات بلا عقل متكامل.
لها قامة العصر.. لكن لها
رؤوس كاخفاف يوم الجمل
فهي نظرية حديثة، بلا جدال ، لكنها محمولة على رؤوس بلهاء، لا تدري ماذا تريد.. وهكذا يدور الحوار بينه وبين رفيقه متنقلا من موضوع إلى موضوع، ولكن في الإطار السياسي المعاش، وهو سياسي هزيل بلا نظرية وبلا وعي، وبلا مقياس دقيق أو حس سليم.
أجاءت مفأجاة..؟ كل شيء
خلا الجو- من عكسه محتمل
هل أنبت عن جذعها كل جذر
أفي الوجه أم في المرايا الخلل
ثم يعزف على هذه الأسئلة، لأنها تواجهه بالإرهاب الحديث:
لماذا أسائل إن الجواب
هيب يحذرني لا تسل
لأن عيون المقاهي صقور
لأن القناني خيول الملل
لأن النقيض التقى بالنقيض
ولا يعرف البعد كيف اتصل
ودار ابن لقمان باعت صبيحا
فجاء الذي منذ ألف رحل
له ساعد من حديد يمد
لقتل الخزامى يد من يصل
في هذا المشهد يفصح البردوني، عن جوهر النظريات المستوردة، فهي ليست سوى وسيلة للتجسس، كما في عيون المقاهي وإلا وسيلة للهيمنة والإرهاب، وإلى حد أصبحت هذه النظريات الملفقة مؤسسات أمنية وسياسية تعمل على قمع الشعوب العربية واستغلال أسواقها ونهب ثرواتها، وباسم المبادئ الوطنية والقومية والعرقية.. والتحديث.. الخ.
قصيدة (سباعية الغثيان الرابع) مشاهد درامية، أصلها مجالس البردوني الأدبية..كما في قوله من قصيدة (من ذا بقى) في ديوانه(رجعة الحكيم ابن زايد):
وكان (حضور) إلى (الحيمتين)
يبث حكايات (وادي ضمد)
و(علوان مهدي) يصفي يضيف
إلى ما سيسرد فصلا سرد
علوان مهدي الجيلاني، واحد من تلاميذ البردوني كان يجلس معه وبعض قراء البردوني مثل أمين العباسي والحارث الشميري، وتوفيق الحرازي ، كان هؤلاء قبل القراءة يديرون حواراً مع الجليل عبدالله حول وقائع اجتماعية وسياسية منها ما تشكل عنصرا، في موضوعة الشعري كما في المقطع أعلاه.. ومنها ما تكون موضوعا جماليا لوحد كما في قصيدة (زائر الأغوار) في ديوانه (رواغ المصابيح)
فزائر الأغوار شخصية ليبرالية تدعي القومية القحطانية وعلى ذلك يدور الحوار بين الشاعر والسبئي الذي ما سبا، أو الهاشمي الذي ما هشم:
سبئي وما سبا
هاشمي وما هشم
هنا يتهكم الشاعر من ادعاء جلسائه لأنساب، ربما ليس لها من التاريخ سوى المساخر.. أو المواقف الهزلية.
المهم.. عند قراءة شعر البردوني ، يجب التوقف عند مشاهدة المواقف الدرامية وإرجاعها إلى مجالسه، فمجالسه مجالس علم وأدب ومجالس سياسية واعية، تدرك ليس أسرار الكلام السياسي وحسب، بل وتحلل كل موقف سياسي.
من هذه الأسرار قوله لي شخصيا، وحكمه على أن ليس هناك أحزاب سياسية في اليمن أو في الأقطار العربية، بل مجرد تجمعات سياسية مرهونة بلحظات سياسية تمليها السياسات الدولية على هذه التجمعات، وهي مع ذلك أحزاب ليس لها أي أرضية اجتماعية ولا لها نظرية في الحكم.. بل مجرد عملاء من طراز حديث.
وفي حديث دار بيننا حول مقاطعة المعارضة للانتخابات، قال إن لم تقاطع المعارضة الانتخابات ستسقط سقوطا مريعاً، ولذا كانت المقاطعة ذريعة لتحاشي السقوط.
قلت له: إن هذه تجربة ديمقراطية تنشدها المعارضة فيكف تعادي مبادءها..؟ ولماذا لا تخوض الانتخابات وتمتحن قواها.. أو تدرب أعصابها على تداول السلطة كما تدعي..؟
قال المقاطعة ذريعة لتحاشي السقوط.. ودعوتها إلى تداول السلطة بالطرق السلمية ذريعة أشنع من المقاطعة.. هذه ليست أحزاب يا علوان واهجع.. لا تشعبني.
كان الحوار شاقا بيننا.. وكان في الجلسة علوان مهدي الجيلاني، وأمين العباسي.. فتركت مجلسه بعدما أغضبته ولكنه ودعني على أمل اللقاء لوحدنا ومن ثم الحديث حول أمور افظع من ذلك.. خرجت وأنا أردد قوله.
فظيع جهل ما يجري
وأفظع منه أن تدري..
ثم قوله.
ما لا يجري معلوم
الجاري غير المعلوم
تلك هي السياسة العربية كما يفهمها الجليل عبدالله البردوني.
محلق “الثورة” الثقافي