البردوني وشاعرية اليمن…وجه من قصة الخلود!!… الأستاذ حسن اللوزي
> البردوني وشاعرية اليمن…وجه من قصة الخلود!!… الأستاذ حسن اللوزي
ونحن على مشارف الذكرى الرابعة الحزينة والمريرة للرحيل الأليم لمبدع الوطن الكبير الشاعر العربي العملاق عبدالله البردوني رحمه الله رحمة الابرار لا نملك إلاّ ان نقف بإمعان لمزيد من التعلم وتجويد استيعاب الدروس الابداعية التي جادت بها حياته الغنية علينا وعلى الامة العربية وثقافتها الحية والثقافة الانسانية بشكل عام وان نتقن التأمل في البصمات الخاصة التي ارادها الراحل له وحده ليحلق بعيداً خارج اقبية القافية الصماء!! وارتقاءً بها بعيداً عن المطروق المكرر والمغلق!!
نعم لقد كان رحيلاً ضارباً بأثاره التي لا يمكن وصفها الا بلسان جوّاني يستنطق كل باطن تشجرت فيه معرفة الشاعر وألمت بابداعاته. ويبوح ويتغنى بكل ما يعتمل ويفيض في الاعماق.. وما يزال البعض منه يتشكل ليحيا في ذماء القلوب ورحاب الحشا وجعاً اسطوريا حميماً لا ينفك يقدح زناد المشاعر الاصيلة التي لايمكن ان تستوعب فداحة الفقد الا بإداراك حقيقة حتمية الاكتمال في لوحة الوجود المادي”الجسدي” في أو ان حاسم لا يتقدم ولا يتأخر ولايسمح بفتنة اقتراف الاخضرار والاثمار المستمرين..ليكون المتسع كله بعد ذلك للتوقد الابدي لمعنى الروح التي اراد الخالق سبحانه وتعالى استحالة ادراكها..كما هو الشأن بالنسبة لامر الشعر الذي يكاد لولا ان اللغة هي اداته المستوعبة والناقلة والمتحركة به.. ان يكون صنواً لها وهو ما جعله من امر الانسان يحيا به حياته الفاضلة عبر توالي الازمان.. وهو بذلك لا ينفك يباري الروح في مراقي الديمومة وفوق الهامات التي يتبرج على شرفاتها وجه الخلود!!
وذلك وجه من قصة الخلود التي سطرها البردوني لنفسه بإقتداره.. وكفاحه وجدارته الابداعية وهي شريحة فريدة من نسيج قصة الشعب الحي الذي انجبه.. وهيأ له هذا القدر الانساني الذي سيبقى ساطعاً في مشكاة الابدية.. وقد اغترف من بحر الكلمات التي لا نفاذ لها وافاض.. ولم تعطل همته حبائل الزبد!! مضى مشرقاً بالناصع من فيض عطائه الذي لن يتكرر وليس له شبيه ولانظير فيما ابدعة شعراء القرن العشرين والذي صار متصدراً لقائمته العربية دون منازع فهو شاعر العروبة البار بها وبكل القضايا الثقافية والسياسية.. كما هو في العمق شاعر اليمن الطالع من ايقونة المهد ليقدم تجربة شعرية فريدة سوف تحتاج العروبة ونقادها والمختصون فيها وقتاً طويلاً من اجل الوصول إلى تقويم عادل ومنصف لها من حيث حقيقة الحداثة الاصيلة التي عبرت عنها.. ومن حيث عناصر التميز وميادين التفوق التي صال وجال فيها دون ان يقف امامه أي منازل ممن ينسجون على نفس المنوال حتى بدا وصار بلوغ ذروة سدرته ضربا من اجتراح المحال لمن اراد ان يجرب ويغرق في ذات الاسلوب ونفس التقنية ومنهاج المعالجة الابداعية اللغوية والرؤية الشعرية.
ذلك أن من أعظم مميزاته الإبداعية انه استطاع ان يوظف الحوار شعرياً كما لم يفعل ذلك شاعر من قبل من يوم ان افترعت اللغة العربية فالتشخيص والتمسرح والوثوب إلى عمق الحياة البسيطة اجتلاءا واستكناها للرؤى الشعرية سمة بردونية لم يبلغها المستضون بعيونهم وفعلها الرائي بأحاسيسه الانسانية وأعماقه الفطرية القادرة على الالتقاط والجيشان وذلك ربما كان وفاءً منه لصلته العميقة بالشارع وبالارصفة التي ظلت خطواته تقرؤها على مدار العمر كله حيث لم يكن يستخدم السيارة التي امتلكها في العقدين الأخيرين إلا لماما وهو إلى جوانب كثيرة صارت من خاصيته ولا تتسع هذه المساحة لها قد اشعل ذائقة جديدة للشعر لدى المتلقي في الوطن اليمني والجزيرة العربية وعلى امتداد الخارطة العربية اللغوية والجغرافية ان القافية لديه لاتشكل اثقالاً أو أغلالاً أو بؤراً تحول دون التجلي الرائع بقلائده الابداعية المطلقة الروح والنافذة الايحاء والبوح على سعة التكون والتشكل والآفاق الادراكية والحسِّية بقوة إلتقاط الباطن والمستكن تحت طلب الصيد الذهني والحسي على حدٍ سواء وكل ماتحفل به الرسالة المنتجة في ماتطرحه وتثمره بل وتتفجر بينابيعه القصيدة البردونية.. وهي في مجموعها الباقي في تناسل غير مغلق محصلة يتسامى وزنها الفاعل في الحياة كلها وليس في حقول الثقافة فحسب لذات الاشراقات النابعة من فيض القصيدة البردونية ومن جوهر الالتزام بالقيم الخالدة التي سكنت واثمرت واينعت في مجمل ابداعه الثقافي وبخاصة منه الشعر الذي توزع على توالي المراحل الابداعية صعوداً متقناً في اثني عشر ديواناً بداية بباكورته (من ارض بلقيس) وبدون نهاية يحددها ديوانه (رجعة الحكيم ابن زايد) وقصائد اخرى لم تضمها دفتا ديوان بعد!!
وهي ابداع مكتوب برؤيا الشعب والأمة والانسانية على حد سواء.. فالجغرافيا متكأ ومهد اما منتهى القصد فهو الانسانية التي يتعين عليها ان تتزيأ وتتقمص احلامها في مشكاة الضاد المجرة الاتصالية المخلدة التي لا بد لها ان تحيك سعادة الخلق وتبني تعارفهم وسلامهم على هذا الملكوت على اختلاف ميادين الثقافات وتنوع تراث الحضارات وخاصة وهو يدرك بأن الضاد موعودة بوجود لا ينقطع بنفخ الصور وقيام النشور.. ولقد عرف كيف ينحت وجهته فيه شعريا في عمق خضم لم يتشكل بعد!! أو قد أودع في مرايا الحروف التي صاغها جواهر بيانية متنامية بكل اسرار النجاة التي اراد عامداً ومجاهداً ان لاتبقى مطلسمة واغلالاً صدئه في توابيت تقليديه ترتع فيها الأوبئة وقد اجرى له نهراً يدل عليه.. مباح الابحار فيه دون أي ادعاء.. ولكن في جهاد دؤوب في التصدي ومواجهة المحيط المعتكر بالرواسب وطحالب الركام الزائف وقد كان له مايشاء، وفي الاساس والجوهر أن لا تدفن روحه المدعبة في ذات التابوت.. أو الجدث!!
ولا شك انه في العمق مما فعل قد أشعل مساحةً سوف تبقى مخضلة ومخضرةً في شاعرية اليمن.. وكان دليلاً عملاقاً عليها.. وما يزال!!
عن صحيفة 26سبتمبر