المقابلة الصحفية مع صحيفة (رأي) وهي آخر حديث صحفي أدلى به الفقيد
عبدالله البردوني > المقابلة الصحفية مع صحيفة (رأي) وهي آخر حديث صحفي أدلى به الفقيد
نشرت في العدد 174 الصادر بتاريخ17أغسطس1999م
أجرت الحوار: نادية مرعي
الأستاذ الجليل عبدالله البردوني الإنسان والأديب الحاضرة بصماته في قضايا وآداب وثقافة اليمن قديمه وحديثه من أول حرف إلى مالانهاية، ومعضا يملأ أرواح الحروف فيلسوفاً يناجي الحقيقة ينبض شوقاً وحنيناً يتواصل معها تفر منه يذوب فيها ترسب فيه حكمة من أرض بلقيس في مدينة الفجر طريقاً لعيني.. الأيام الخضر.. حضور متميز يبذر أزهار الحب والعطاء أنى يهم وجهه في مرايا الليل مجسداً زمناً بلا نوعية بحكمة وخبرة صقلها واقعه المعيوش ترجمة رملية لأعراس الغبار كائنات شوق آخر جوّاباً للعصور، رواغ مصابيح لروح متقدة وارفة تظلل الحياة وقلب كبير يتسع أشتات الأنفس والأفكار بشفافية، عبدالله البردوني تجربة إبداعية تختصر جوهر الإبداع في صورة عملاقة ينشر المدى رؤى وبحاراً لا تنضب.
حظيت بشرف لقائه في صومعته وكان لي معه هذا الحوار:
– تضج الساحة الإبداعية في واقعنا اليمني المعاصر بدفق من النتاجات الأدبية والفنية، يرافق ذلك الزخم صمت بارد من قبل النقاد، على أنه لاحركة إبداعية بلا حركة نقدية.. أستاذ عبدالله ماتفسيركم لهذه الأحجية؟
– إن السؤال عن النقد والنقاد في بلادنا بحاجة إلى معالجة موضوعية ذات أبعاد، فاليمن في الأربعين عاماً الأخيرة زخمت بالكثير من النتاج الإبداعي – لاسيما الأدبي – خاصة الشعر المتطور وإن كان شكلاً عمودياً، والقصيدة الجديدة التي بدأت مزاولة الظهور حتى الآن منذ بداية الستينيات، ومنذ السبعينيات حتى الآن تكاثرت الاسماء الشعرية والاسماء القصصية، وكانت الاسماء القصصية اكثر في عدن من أي مدينة يمنية، وكان تكاثر الاسماء الإبداعية عموماً في اليمن منذ السبعينيات بفضل الوجود الجامعي ومعرفة التعليم الأكاديمي وكثر الشعراء والشاعرات والمبدعون عموماً، ومع هذا كله فإن غياب النقد يرجع إلى ثلاثة أسباب:
أولاً: إن الأديب أو الفقيه اليمني لايضيق من شيء كما يضيق من النقد، ويتعوذ بالله منه ويعتبره معيبة، يفهم ذلك المتابع لكتاب “الغاية في أصول الفقه” لحسين بن القاسم؛ قال القارض:
“لله من غاية أعوذها بالله
من رأي كل منتقد”
فهم يرون الانتقاد اعتراضاً وتجهيلاً وإدراكاً لمواطن العجز أو خلق معايب ليست موجودة، ويقبلون الخصومة دون النقد.
ثانياً: إلى الآن لم ينقطع أديب للنقد في ذاته، مثل بعض النقاد، في البلاد الأخرى مثل “محمد مندور، وعزالدين إسماعيل، وحنا عبود، وإبراهيم عبود، وميشيل عاصي، وعبدالجبار البصري…إلخ”، فلانجد في بلادنا من انقطع للعمل النقدي وحتى من يقوم بالنقد مقاربة فإنه يسميها قراءة – تخلصاً من مسؤولية النقد – والناقد يتفرغ للعمل الابداعي النقدي ويتابعه ويتطور معه ويطوره، مثل الناقد “محمد النويهي” من اكبر نقاد الشعر الحديث بدأ، بالشعر القديم وانتقل إلى التفعيلة ودعا إلى الشعر الحديث، كذلك الناقد الكبير “عبدالقادر القط”، وغيرهم ممن يتابعون الإبداعات ويميزون بين ماهو خطوة للأمام وماهو غير ذلك وما هو فن معاصر جيد وجديد وبين ماهو رتيب، فالجدة لاتظهر إلاّ في الإجادة، كما أن الاختلاف والتمايز بين الاتجاهات الإبداعية يخلق المعارك النقدية الإبداعية بين السلفيين والحداثيين، وكانت تلك المعارك أحياناً تهدف إلى زوال الحديث والقضاء عليه وليس مجرد نقده بل قبوله أو رفضه.
ثالثاً: قلة الإبداع على كثرة النتاج، بمعنى عدم التميز والجدة التي تدفع الناقد للكتابة فلدينا كم كبير ومبشر لكنه أو لنقل معظمه لايرقى إلى مستوى الإبداع، ولابد من مكاشفة أنفسنا بأنها تجارب جيدة تدل على مستقبل إبداعي إذا اتخذت طابعها الخاص وتميزت بماتحدثه من ردود أفعال.
– يرى البعض أن النقد مهمة صعبة، بينما يستسهلها البعض الآخر وثارت مؤخراً مناوشات متبادلة حول النقد والكتابة الانطباعية أستاذ عبدالله.. أين النقد في كل ذلك؟
– النقد معرفة مواطن الجمال والدخول فيها، مواطن القبح والدخول فيها منطق الإبداع والجدة وإبرازه، والناقد تؤثر فيه الظروف والتغييرات الثقافية، ولابد أن يتميز الناقد بالموضوعية وثقابة الرؤية والقدرة على الاختلاط بالمؤلف والتداخل معه حتى يكاد أن يكونا شخصية واحدة ورؤية مشتركة فيغدو الناقد شريك المبدع هذه المشاركة تدفعه للإبداع والكتابة النقدية التي ليست مجرد انطباع مع أو ضد، وقد يتطرق الناقد لابعد مما قصد المبدع، فالنقد رؤية النص ورؤية ماوراء العبارة، وما استعمال الرمز، ولأي غاية، وهل الدلالات والأدوات، وما بالنص من الظواهر والكوامن.. عفوية مشروعة؟ أم أنها مفتعلة مقحمة؟ وليس النقد مجرد التوصيف والإحصاء، ولامجرد انفعالات عاطفية نحو بعض الكتابات التي تكون بفعل الصداقة، أو إجابة الطلب والمجاملة والتشجيع، برغم ماقد يكون فيها من بدوات نقدية جميلة أو تنبؤات في محلها أو في غير محلها، والنقدات، في مجالس القات والمناوشات على صفحات الجرائد ليست من النقد في شيء، بل إنها تشبه ماتتنابز به بعض النساء في “التفرطة”، وأتصور أن مادار بين المحمدين من مناوشات ليست ذات أسباب أدبية أو سياسية، فكل واحد أدلى بما في لسانه، ومايجول في خاطره عفواً، وليس مايتفق مع أدبيات النقد.
– أستاذ عبدالله – في كتابكم “رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه” كانت لكم تناولات نقدية، ما معاييرها، وهل أنتم تقبلون النقد؟!
– كانت عندي أفكار في النقد عندما كتبت ذلك الكتاب، وكنت لا أعتبر الشعر إلاّ إذا كان وطنياً متحمساً، أو كان ثورياً متحمساً، لأننا كنا نخوض أربعين جبهة من الحرب، وفي تلك الفترة ما كان يمكن للشعر إلاّ أن يكون كذلك، وقد تركت بعض الاسماء الشعرية التي كانت موجودة آنذاك ولكنها لم تكن ذات أنفاس حماسية، وقد وصفتها بالبعد عن الوطن، والغربة في سبل البحث عن مستقبل يمن جديد، أما بالنسبة لي والنقد فأنا أرحب بكل ما كتب وما يكتب وما سيكتب عني، معي أو ضدي.
– ماذا عن الحراك النقدي الأدبي عربياً؟
– كان لحركة النقد الحقيقية التي تزعمها “محمد مندور، أنور المعداوي، أو في مصر و”مارون عبود” في بيروت، “عيسى الناعوري” في الأردن، وغيرهم أثر عظيم في تطور وتغير الحركة الإبداعية، ونقد هؤلاء يعتمد على النص كيف عبر وتخيلوماذا أضاف إلى سابق عليه، وخلق مايسمى بالأدب الخلاق ومايسمى بأشعار الشاعر بوجود الشعر وأشعار القارئ بحس الشعر فيه من الأدب المقروء؛ إذ يحس بأن الأديب قد عبر عما يحس به هو، فكان لأطروحات وملاحظات النقاد حول الإبداع صدى لدى المبدعين ومن جدلية العلاقة بين النقد والإبداع تكون الجدة والتطور والحراك.
فمثلاً يرى “أنيس داود”: أن حشر الأسطورة وبعض الرموز لايؤدي مكان السياق الشعري الذي تحمله القصيدة، ولاترمز إلى شيء يقبل التعريف، وهكذا ظهر مناوئون ومؤيدون، وكانت مصر أم الشعر وأُم النقد والنشاط والإشعاع.
– كتب الناقد يوسف الشاروني كتاباً بعنوان “الثلاثة الروائيين” ماذا عن الرواية العربية ونقدها؟!
– الحقيقة أن يوسف الشاروني رتب روائييه كما يلي الأول نجيب محفوظ والثاني محمد عبدالحليم عبدالله والثالث يوسف السباعي، وقد استغربت عندما قرأت الاسماء واستغربت وجود السباعي إلى جانب محفوظ ومحمد عبدالحليم وكنت أتوقع أن يكون “توفيق الحكم” أول الاسماء، وقد تناول في هذا الكتاب اندفاع هؤلاء الكتاب إلى الرواية وقال إن محمد عبدالحليم، عاطفي يجنح للشعر والفلسفة الرومانتيكية والميل للمأساوية في الحياة والمغامرات الغرامية البائسة نحو ماجاء في روائيته التي صارت فيما بعد فيلم “لقيطة”، أما نجيب محفوظ فقد اعتمد على الواقعية الاشتراكية والسياسية وبدأ مستخدماً الرمز الفرعوني على نحو ماظهر في رواياته: “كفاح طيبة”، “رادوبس”، “عبث الأقدار”، وكلها تاريخية ثم انتقل إلى الرواية الواقعية مثل روايته “القاهرة الجديدة” والتي كانت بعنوان “فضيحة في القاهرة”، وما كان للرأي العام من أثر فيها وتأثر بها والنقد الروائي يحتاج لرؤية عميقة وخبرة وقدرة على الاستنطاق، وقد كتب “سيد قطب” – وهو اخبر ناقد وأكثر امتلاكاً للكلمة من جميع النقاد – كتب بعد صدور “القاهرة الجديدة” و”خان الخليلي” لنجيب محفوظ: إن نجيب محفوظ من الآن لانعتبره من الروائيين العرب ولا من روائيي الشرق، بل إنه ترقى إلى مصاف ديستويفسكي وبلزاك وايميل زولا، فنجيب من الروائيين العالميين، ولو كان أبطاله محليين، فالشمولية والانفتاح عالمي، فسيد قطب أول من رشح محفوظ للعالمية، وسيد قطب ناقد حصيف ذو قدرة نافذة، غير أنه مالاقى من رفاق الكلمة آنذاك المكانة التي يستحقها، وكان شاعراً وأديباً مرهفاً، ثم اتجه للكتابة السياسية والدينية.
وهكذا نلاحظ الرواية والنقد الروائي وانعكاساتهما على الواقع المحيط، وبرغم ما أحيط بنجيب محفوظ من الأقاويل إلاّ أنه مايزال يرفد الرواية الإنسانية بما يدهش فبعد “زقاق المدق” والثلاثية ظن النقاد أنه قال كل ما عنده، بل إنه صرح في استجواب صحفي بأنه وضع كل معارفه وخبراته الاجتماعية والنفسية في الثلاثية، وبعد شهرين أصدر روايته “اللص والكلاب” وهي تفوق كل ماسبق وانه مايزال يملك مايقول ويحسن القول، وفيها صوّر الثورة والتراجع عنها، والخونة وهم يهتفون لها ويرتزقون منها، وقد تناول “غالي شكري” نقد روايات نجيب محفوظ من وجهة اجتماعية وكيف يخلق النموذج الروائي، وما لذلك من أثر، كذلك كتاب “محمد مندور” “النقد المنهجي عند العرب” وما لهذا الكتاب من أثر في تعريف المثقف العربي بأثر الظروف والتغييرات عموماً في الإبداع وهكذا نجد هؤلاء النقاد خلقوا رؤى وآفاقاً جديدة لتناول الواقع ومعالجة معطياته، كما نلاحظ نشاط القصة والرواية ونقدهما في المغرب العربي كما جاء في رواية “الخبز الحافي” والتي تناولت الحياة الاجتماعية وعرى الجوع والفقر المدقع كما هو في ملايين البيوت الفقيرة في العالم وفي الجزء الثاني من الرواية واسمه “الصعاليك” أرخ الكاتب المغربي.. للصعاليك المعاصرين الذين يختلفون عن صعاليك التاريخ العربي من شعراء العصر العباسي وشطارة، وعياروه، فقد تناول الصعاليك الذين يتجسدون في الخدم والنوادل في الأفران والمطاعم والفنادق الذين يحملون أشهى الطعام والشراب وهم جوعى، وقد أُلزم أصحاب الفنادق والمطاعم إطعام العمال قبل أن يبدأوا عملهم في فرنسا، هكذا يخلق الإنسان أفكاراً خيرية تجد سبيلها للوجود والتنفيذ وإن على يد الغير وإن بعد حين وكفى هؤلاء المبدعين نبلاً أنهم خلقوا مثل تلك الأفكار والمعالجات المرهفة.
– هناك عصور ازدهار ثقافي للمجتمعات وعصور انحطاط تتأثر بعوامل الواقع، ماذا عن إبداع المرأة؟
– تتبجح بعض الجهات السياسية بأنها نقلت المرأة، وأثرت في واقعها والحق أن المرأة حاضرة في المجتمع، واتسع مجال حضورها بتطور المجتمع ولابد أن نصف تجربتها بأنها أقصر من تجربة الرجل نظراً للمواقف والمواقع التي تؤثر في تجربتها، والمرأة خلقت من إبداع الظروف ومن تحول المجتمع، وتلك المكانة غير كافية، ينبغي أن يكون لدينا خمسمائة أو سبعمائة مبدعة كممثلات لأدب المرأة في مختلف الفروع والمرأة في مختلف المناشط الثقافية والإبداعية تظل أعمالها أقل من الرجل، نتيجة عدم تفرغها تماماً للعمل الإبداعي، وحتى في بعض الحالات نجد بعض الأديبات مقلات رغم تفرغهن للعمل الأدبي سواءاً عربياً أو عالمياً مثل بنت الشاطئ، وسهير القرماوي، وكوليت سهيل الخولي ولميعة عباس عمارة، وسناء الدروبي، وحتى سيمون دي بوفوار الفرنسية.
ومهما يكن فتجربة المرأة مرهونة بأدوارها المختلفة وتطورها واجتهادها ونشاطها في التجربة الحياتية عموماً، إلاّ أن هناك من المبدعات من يقتربن في قوة وغزارة ما ينتجن من أعمال أدبية وفنية مثل “غادة السمان” في رواياتها ذات التصورات والتحليلات العميقة ذات الحس الأنثوي، ونوال السعداوي الأكاديمية التي تهتم في دراساتها الجوانب البيولوجية والاجتماعية والتاريخية للمرأة. أما عن مستقبل إبداع المرأة في اليمن فمستقبل البلد كلها معلق بجناح شيطان!
– لم يعد العالم قرية صغيرة، بل أصبح غرفة صغيرة يرى ويشعر كل من بها ببعضهم بعضاً، في ظل سياسة العولمة وتكتل الأمم شيعاً وأحزاباً كيف ترون المستقبل العربي في إطار المستجد من التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية عموماً؟
– علينا معرفة ماذا فعلنا اليوم لندخل في الغد، فالناس الذين بلغوا الغايات المختلفة والتطورات الحادثة بدأوا منذ القرن الخامس والسادس عشر إلى الآن، والمستقبل لايأتي ارتجالاً، وإنما هو صيغة جهود متلاحقة ناتجة عن تجارب وطنية، وهنا لايستطيع المواطن لدينا أن يقدم تجارب ومايعاني فنحن لانزال نعاني من سيطرة المقولة “ليس في الإمكان أفضل مما كان”، وبرغم تطور الغرب فلا خير فيه فقوتهم تقوم على إضعاف الآخر ومصادرته وسلبه، والحق إن الشعوب جميعاً تخضع لرأي دولي واحد، والمستر ويلز أول من دعا إلى العالمية، العالم الواحد، لكنه لم يدع إلى عالم تسيطر عليه دولة واحدة تحكم العالم وتصادره، ومع ذلك فقد صدمت تلك القوة التي تحاول بواحدية السيطرة على العالم بمواجهة العراق لها، وصموده أمام ضغوطها ونفس الصدمة لقيتها من يوغسلافيا التي واجهت القصف المستمر لثمانين يوماً وهكذا تهتز فكرة وجود قوة واحدة مطلقة تحكم العالم!!
– دعا فلاسفة اللغة في مطلع القرن الحالي إلى ما أسموه بفلسفة اللغة العادية، كما تجنح د. يمنى العيد إلى أن الأدباء يثرون اللغة بفصحنة الألفاظ التي يستخدمونها في واقعهم المعيوش، فمارأيكم في بعض الألفاظ الموغلة في القدم والتي يتبعها بعض الأدباء الشباب في كتاباتهم؟ وهل يعد ذلك بعث أم نكوص؟!
– في الحقيقة الكلمة المفردة جانب مهم في اللغة لكنه ليس مختاراً ولامنتقى فاللغة تتكون مما يتداوله الناس ويتفاهمون في حياتهم، وهناك لغة ارتبطت بالفقه والعلوم والأدب والتاريخ لكنها تتحد مع لغة الحياة وتأتي منها، وهذه اللغة على وحدة أصلها إلاّ أنها تختلف حسب استخدامها من النثر إلى الشعر إلى الخطابة…إلخ، والكلمات التي يقتحمها الكاتب تظل مفردات لاحكم عليها ولاقيمة لها إلاّ بما تؤديه من الدلالة والمعنى، ولذا تتمايز أساليب الأدباء التي لاتخلقها المعاجم والتراجم وإنما تخلقها الفكرة والرؤية التي تفضي إلى تصورات وصور شعرية/شعورية بديعة تحدث إيماضات تخلق لغتها ومفرداتها المعبرة بالمعنى الذي يحرك الحاسة الأدبية ويوقظ الشعور بالخلق والإبداع والصدق الذي يشعر به المتلقي بعيداً عن التنقيب والغوص والافتعال عموماً.
– في الحداثة ترون أن لانهاية لأية صياغة فنية لأن الجديد يؤصل التجديد كما يستحدث الأجد؛ هل مابعد الحداثة – وفقاً لتلك الرؤية – تستمد أصالتها من الحداثة؟
– الحداثة جارية على ما أحدث العصر وما سوف يستحدث وليس معناها أنها أساس لما بعد الحداثة والتي تعني العدم “عدم الحداثة” فهذه التسمية في غير محلها، وإن بمعنى الترتيب، فالتسمية لابد أن يكون لها مسمى، وكلمة مابعد الحداثة قائلها لم يفكر في معناها ودلالتها، وعلى أية حال فنحن لم نحقق الحداثة، فكيف مابعدها؟!
والواقع العام والتقايس الزمني ذو دورات تحمل الواحدة بذور مايليها وليس كل جديد هو الأفضل – مثل تطور الأسلحة – فهذه حداثة هدامة، تفتك بالجنس البشري، وقد تكون رؤية عصر ما أكثر حداثة من بعض الرؤى المعاصرة!
– في التيارات الشعرية المعاصرة بمدارسها وأصولها المختلفة، تبرز قامات عملاقة، كيف ترون تجربة الدرويش، أنسي الحاج وأدونيس؟!
– هناك وجوه مميزة في الاسلوب، في الأغوار البعيدة، وإذا لاحظنا الاسماء الواردة في السؤال فهي كذلك؛ إن أدونيس رائد المدرسة التي تعتمد على الحالة الشعورية وفكره الذي كان وهي تخالف الذي يكون منذ أن أصدر ديوانه الأول – شعر عمودي – بدت فيه لمحات غريبة مركبة تركيباً رمزياً ثم انتقل إلى التفعيلة في ديوان “أوراق في الريح” ومنه نشعر أنه وقف على مرسى في الدورة الفنية، ثم انتقل في “أغاني مهيار الدمشقي” فبين طريقه الشعري وفلسفته العميقة يقول في قصيدة حوار:
“من أنت، من تختار يامهيار؟
أنىّ اتجهت، الله أو هاوية الشيطان
هاوية تذهب أو هاوية تجيء
والعالم اختيار..”
وتسيطر تلك الألفاظ والمصطلحات على مفردات قصائده، وهو متميز في استخدام الرمز والقناع وكل تسمية لديه كما يشعر بها في شفافية الخلق الفني، وأهم مقومات شعره الغرابة.
محمود درويش شاعر من كل الوجوه، بدأ بالعمودي وتطور بعد ديوانه “عصافير الجليل”، و”عاشق من فلسطين” و”قهوة أُمي” في ديوان “آخر الليل” والذي حمل بذور الجديد الذي نلمسه اصداره بعد انتقاله إلى القاهرة، وفيه تعاطى مصطلحات أدونيس في ديوانه “تلك صورتها وهذا انتحار العاشق” وهي قصيدة واحدة طويلة، وعندما قرأها في دمشق كان الحضور لايقل عن مائة ألف مستمع، مع أن ذلك لم يعد مقياساً أو دليلاً على شاعرية الشاعر، وقد نجح في الروي على مصطلحات أدونيس لكنه لايملك القاعدة الفكرية والفلسفية كأدونيس، ورجع مرة أخرى إلى ذاته في ديوانه “المحاولة رقم7” محاولاً اختبار نضجه الأدونيسي ولم يفلح ولم يدن منه فرجع للدرويش مسافراً في الغربة والغرابة، وعاود نشر بعض القصائد قتلاً للصمت مثل “وردٌ أقل” و”هي أغنية”، وكانت قصائده تلك لتزجيه الوقت وأخيراً أصدر ديوان “ل ماذا تركت الحصان وحيداً” أما مجموعته الأخيرة، الجديدة فهي تكاد تختلف معجمياً عن تجاربه السابقة كلها وهناك محاولة إغراب وجده ونضج في ديوانه “سرير الغريبة” وبه يكون قد نجح في تجربة الحداثة كما هي عصرياً وفلسفياً، ونجح في محاولة الخروج إلى غيمة أدونيسية وتجربة التجربة الشعرية ذاتها، ووصولها إلى شاطئ وغاية متميزة فهذا الديوان يبدو خلاصة تثقيف وخلاصة تجربته وصياغة ثقافة تختلف عن الثقافة التي جاء منها فجاء الديوان يحمل قوة من الموسيقى المنسقة والغريبة، وكأنه يعزف بأربع آلات أقلها الصوت، أما النغمة فهي ترجع إلى غرابة المعنى ورفاهية الجملة وحسن تبرج المعنى الذي لاتكشفه مصابيح الدنيا مثلما تكشفه ومضة خاطر أو لمعة رؤى يقول في قصيدة “لا أقل ولا أكثر” من “سرير الغريبة”:
“أنا امرأة، لا أقل ولا أكثر
أعيش حياتي كما هي
خيطاً فخيطاً
وأغزل صوفي لألبسه، لا
لأكمل قصة “هومير” أو شمسه
وأرى ماأرى
كما هو في شكله
بيد أني أحدق مابين حين
وآخر في ظله
لأحس بنبض الخسارة،
فأكتب غداً
على ورق الأمس: لاصوت
إلاّ الصدي…”
– أنسي الحاج فاتح بوابة الحداثة، فمنذ أصدر ديوانه الأول “لن” سنة 60م أبدى جرأة وتميزاً، ودعا للقصيدة المتطورة، عمل في الصحافة في صحيفة “الحياة” ثم انتقل إلى “النهار” وخاض في السياسة، ثم أصدر ديوان “الرأس المقطوع” والذي بدت فيه روح الجدة والغرابة ثم تلاه ديوان “ماضي الأيام الآتية” والذي جسد رؤية فلسفية عميقة أكثر قوة ونضجاً تبعه ديوان ” ماذا صنعت بالذهب؟، ماذا فعلت بالوردة؟”، وهو تجسيد لحركة الشعر المعاصر عالج فيه الحب والجمال والخير والحرية بعمق يتجاوز حد الدهشة، تلاه ديوان “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع” تحول مغرقٌ في الحب والحياة، ثم أصدر ديوان “خواتم” ج1، ج2، ثم “الوليمة” يقول في قصيدة “تعريف”:
“…. الحب زهرة الشفقة
السماء سقف السجن
ولكن لاشيء يخنقني
لأن غرفتي بلاجدار
ومعلقة بين الأرض والسماء”.
وأخيراً أصدر ديوان “كلمات كلمات كلمات” في ثلاثة أجزاء.
وأُنسي الحاج متحرر من الهواجس والالتزام بما هو تقليدي، بوعي بالذات البشرية بحس عميق يدعو للتفاؤل بمستقبل الشعر العربي، وهؤلاء الشعراء الثلاثة يستحقون دراسة بعد استحضار أعمالهم كلها وليس الاعتماد على بعض الأعمال وهذه العجالة لاتكفي لتقييم أي منهم وإنما هو تعريج وإلماح ليس إلاّ، فكتاباتهم مبشرة علاوة على كونهم موجودين في أمة/ أمية، ولا أظن أن قراءهم مثل قراء “آراجون” أو “إيوار” أو “بوشكين” فهؤلاء آية في الإبداع والخلق الإبداعي.
– في فاتحة مدينة الغد أهديتم القارئ حروفكم – على مآسيها عذاب بديع – واليوم وبعد هذا العمر – المديد إن شاء الله – في معترك لذة/ ألم الإبداع كيف ترونها؟
– في الحقيقة لحظات الإبداع هي في ذاتها غائبة عن نفسها وغائبة عن الوجود الذي نبتت في تربته، أو تعلقت بجناحه، ولايدخلها الإنسان وهو يحمل اعتقاداً فكرياً أو فلسفياً، وإنما يجدها تقتحمه بلذة وعذاب، وان عذاب الخلق غير عذاب الموت، فالمبدع يتعذب ليخلق، يحترق ليضيء من رماده، هكذا هي لذة الإبداع وألمه، والإمكان لايكفي وإنما تجسيده وتحريكه وتجربته الداخلية من إنسان الإنسان – داخل الداخل – ومن إنسان الوسط بين المعنى وبين العبارة، وليس كل مايقوله الشاعر أو بعضه دليل على أنه أحس عذاب الحرف وعذاب إنطاقه، غير أن هذا العمل لايخلو من تعب يلذ للقارئ الشعور به في محاولة فهم المبدع، وكما يقول أبوتمام: “فإن طريق الراحة التعب”. وأنا عندما أكتب لا أتقيد ب ماذا سيقال وكيف سيكون أثر كذا.. بل إن المبدع يقع في ورطة الجميل بعض القبض على الأجمل.
– لا تخلو كتاباتكم وإبداعاتكم عامة من التفلسف والعمق الفكري، فقد جاءت بداياتكم مضمخة بالدهشة والتساؤل والحيرة هل تغتصب الفلسفة أدبكم، أم تنقاد الدفقة الأدبية للفكرة؟
– بيني وبين الفلسفة صلة أي قارئ، ولم تعد الفلسفة حبيسة الأبراج العاجية والألفاظ المبهمة، وأنا أحب الاطلاع على الفلسفة، وأجدها تفرض نفسها بقدرة وتمكن، ولايمكن أن نجد كاتباً أو روائياً أو أي مبدع دون قاعدة فلسفية، فذوو القاعدة الفلسفية كالمتنبي وأبو العلاء، ودانتي وخليل حاوي وبوشكين الذي قامت إبداعاته على فلسفة “إكسر كل ما يقف هناك، قف وراء المكسور العلي” وهكذا والقاعدة الفلسفية تتجلى في إبداع المبدع ويحتاج لإيصالها والتعبير عنها إلى قدرة وتمكن كأبي تمام، والفلسفة تبقى منصة تعين على الوثوب الشعري على أنها ليست في حد ذاتها عملاً شعرياً وإنما بالحكمة والقياس والتأمل يتكون العمل الشعري، بعيداً عن الجدل أو قريباً منه بما يسمو عن الصراع مابين فلسفة التفسير والتغيير، على نحو ما دار بين ماركس وهيجل، وقد سُئل “جوته” عن رأيه في بناء عمارة ما، فقال “هذه قصيدة صامتة” فالفلسفة جانب مهم من الثقافة.
– ما يربو عن عشرة إصدارات شعرية رفدتم بها ديوان العرب، وعدد كبير من الدراسات والإبداع النثري.. ماذا بعد “رجعة الحكيم بن زائد” وماجديدكم النثري، وأين وصلتم في مذكراتكم، ستطبعونها – أم ستظل قرينة العم ميمون؟!
– نعم.. هناك محاولة لإصدار ديوانين أو حتى واحد منهما، فقد تغيرت الأحوال والأهوال حتى أشعرتني أنني لا أدري متى سيكون ذلك؟! فدور النشر كانت تطبع ويغطي البيع نفقة الطباعة. إلاّ أنهم في الفترة الأخيرة قالوا إن الكتاب أصبح غير مستهلك، مما دفع بعض الدُور إلى الطباعة وإنزاله إلى معارض الكتاب وبيعه بكميات هائلة كما فعلت دار الحداثة، خاصة ديوان “وجوه دخانية” و”كائنات الشوق الآخر” الذين يسمونه شعر الشعر، والقضية عموماً تتعلق بالناحية المالية، أما في الكتابة والدراسات فأنا أعمل في ثمرة العمر كله كتاب “الجديد والتجديد في الثقافة اليمنية” من أول الحضارة المعينية إلى الآن ويشمل الشاعر والفنان والفقيه والخطيب واللغوي…إلخ.
والكتاب يناقش قضايا فكرية وفقهية وشرعية إلى جانب القضايا الإبداعية عموماً، فعلماء اليمن وفقهاؤها أجلاء ومطلعون على الثقافات لاسيما الثقافة الفيثاغورية، والمذكرات تسير بشكل جيد، أما رواية “العم ميمون” فهي مكتملة، لكن الطباعة في علم الله، فقد ضعفت مالياً وجسمياً…، وأنا مدين بحوالي 20.000 دولار تغطي الطباعة جزء منها والحوالات، ولكن مغامرة الطباعة في ظروفي هذه صعبة وما باليد حيلة.