ترجمة رملية لأعراس الغبار قراءة خاصة… الدكتور محمد جمال صقر
> ترجمة رملية لأعراس الغبار قراءة خاصة… الدكتور محمد جمال صقر
1- للبردوني – رحمه الله ! – بضع عشرة مجموعة شعرية ، بدأت رحلة صدورها سنة إحدى وستين وتسعمائة وألف للميلاد ، وحالت وفاته في سنة تسع وتسعين وتسعمائة وألف دون غايتها. من ثم أعتمد في رؤيته على سابق قراءتي للتسع الأولى منها التي حصلت لي ، ثم على النظر الحاضر في مجموعته الثامنة ” ترجمة رملية لأعراس الغبار ” الصادرة سنة ثلاث وثمانين ، بعد أربع سنوات من المجموعة السابقة لها ، وقبل ست عشرة من وفاته ، أي في زمان فورة نهجه الجديد وأوج اضطرامه.
رسائل البردوني:
يبث البردوني في شعره ثلاث رسائل متداخلة: القومية ، والوطنية ، والاشتراكية ، بادي التعصب في الأولى والثانية ، والسخط في الأخرى ، دون أن يخرج في أي من ذلك عن العُرْف إلى النُّكْر.
2- حينما يقرأ لأمته الكف يعجب:
” هل هذا الجاري مفهوم يبدو مجهولا معلوم…
أدري أني محتل وأرى فوقي خيل الروم
أدري لكن ما الجدوى من علمي إني موصوم
هل يبنيني إدراكي أني من أصلي مهدوم
هل يشفي من أزماتي ترديدي إني مأزوم ” (ص157، 169)
وحينما يسرد علامات العالم المستحيل يقول:
” قيل تنشق بذرة عنه يوما قيل تدمي البروق عنه السحابا
ربما كان تحت حزن الدوالي وقريبا يجتاز ذاك الحجابا ” (ص187)
إنه يرى في كف أمته تهاويل لا تصدق ، وهي قائمة واقعة بها ، يعلمها كل من ينتمي إليها ، كما يعلم أن علمها وحده غير مجد شيئا. وربما حمله على استعمال ذلك القالب في بناء قصيدته ، ما يبدو عليه ابن هذه الأمة العالم بواقعها الحزين ، من عدم مبالاة به ، وكأنه يتوهمه ولا يراه ، غير أن الشاعر لا يملك إلا أن يطمح إلى واقع سعيد وإن بدا مستحيلا.
3- وحينما يسمر مع أم ميمون بحكايا مفاخر اليمن يقول:
” آباؤكم كانوا أعز على ذهب المعز وكل ما يغوي
ماذا أقص اليوم كم سقطوا والموت لا يغفو ولا يثوي
كان الصباح كأنف أمسية كان الدجى كالملعب الجوي
والآن هل ألقى معازفه زمن الأسى كي يبتدي شدوي
وتنحنحت كي تبتدي خبرا فبكت فغاص أمر ما تحوي
حدث الذي والدمع يسبقها ويقول عنها غير ما تطوي “. (ص228- 229)
إنه يمجد زمان البطولات العزيز السالف ، ويريد أن ينعم بعاقبته الواقعة غير أنه لا يستطيع أن يخدع نفسه ، فالواقع اليمني كالواقع العربي ، حزين.
4- وحينما يتفقد حوادث هذا الواقع اليمني العربي ، ويتسمع إلى صخب دعوات أبواقه المزيفة وشعاراته الطارئة الجوفاء ، يراها أعراس غبار لا أصل لها ، رحى تطحن قرونا- كما قال المعري في مثلها- فيقول:
“يا ريح هل تعطين غير قش من أين تاريخ الركام بعلي
غدا تراني أستهل عهدا لأنني ضيعت مستهلي
في القلب شيء يا زمان أقوى لا تنعطف من أجله وأجلي
أحب ما تولين من عطايا يا هذه الأيام أن تولي “. (ص 30)
فليس ثم عطاء إلا الوهم ، ولا اشتراك إلا في العدم بالغنى وبالفقر جميعا ، إذ لا قيمة لغنًى مُبْطِر ولا لفقر مُقْعِد.
5- ولقد كان من آثار عصبيته القومية كثرة استعمال مفردات الثقافة العربية ، أحداثا وشخوصا وعلوما وفنونا ، فهي متغلغلة في قصائد المجموعة التي تنوب عن المجموعات الأخرى أحسن نيابة ، حتى إن الشاعر يخص ذلك أحيانا بالقصيدة حين تصلح المفردة الثقافية العربية ، رمزا خالدا لقضاياه الثلاث السابقات ، كما فعل في قصيدتيه ” وردة من دم المتنبي “، و” تحولات يزيد بن مفرغ الحميري “، يقول في الأولى:
” شاخ في نعله الطريق وتبدو كل شيخوخة صبىً مدلهما
كلما انهار قاتل قام أخزى كان يستخلف الذميم الأذما
هل طغاة الورى يموتون زعما يا منايا كما يعيشون زعما
أين حتمية الزمان لماذا لا يرى للتحول اليوم حتما
هل يجاري وفي حناياه نفس أنفت أن تحل طينا محمى…
التعاريف تجتليه وتغضي ألتناكير عنه ترتد كلمى
كلهم يأكلونه وهو طاو كلهم يشربونه وهو أظما
كلهم لا يرونه وهو لفح تحت أجفانهم من الجمر أحمى
حاولوا حصره فأذكوا حصارا في حناياهم يدمي ويدمى
جرب الموت محوه ذات يوم وإلى اليوم يقتل الموت فهما “. (ص56،60-61)
يبرز المتنبي في القصيدة فارسا متحققا بمعنى الفروسية ، عالي الهمة ، طامح الأمل ، شديد الأنفة ، يريد الجليل الأسمى لأمته ووطنه ونفسه ، ويضيق بالحقير الأدنى ، المستولي على أمته ووطنه ونفسه ، فيشذ عن الخضوع له غير عابئ بما يصيبه من تضييع وتقتيل ، فيضيِّع هو نفسُه تضييعَه ويهتدي ، ويقتِّل هو نفسُه تقتيلَه ويعيش !
ومن عصبيته القومية وقوفه في شعره عند العمودي ، فلم يتجاوزه إلا في قصيدتين من سبع وثلاثين ، استعمل المشطر في الأولى – وهو نمط من التجديد العروضي قديم – وتعديد القافية في الأخرى ، ثم استعمل عشرة بحور ، لبعضها عنده أكثر من صورة ، ثم استعمل في روي القافية واحدا وعشرين حرفا من حروف المعجم بين المعروف بكثرة الوقوع رويا كالراء والميم واللام والنون ، والمعروف بقلته كالكاف والشين والواو والهاء ، والمعروف بندرته كالطاء والغين والثاء والذال. وأنا لا أخلي ذلك من أثر عماه.
لقد انقسم الشعراء منذ قديم طوائف أغرت العلماء بالنظر إليهم من جهتها ، عسى أن يكون لها في شعرهم من أثرٍ وجَّههم إلى ما اتجهوا فيه إليه ، فدرس لويس شيخو شعراء النصرانية ، ودرس بعض أصحابنا شعراء الدعوة الإسلامية ، ودرس الدكتور عبده بدوي الشعراء السود ، ودرس الدكتوران عبدالحليم حفني ويوسف خليف كل على حدة ، الشعراء الصعاليك ، ودرس آخرون الشعراء اللصوص ، ولا تقل طائفة العميان عن تلك أهمية ، بل ربما زادت عليها ، إذ الصورة التي أصابها عماهم ، موطنُ عبقرية الشعراء. والحق أن للجاحظ رسالة طريفة في البرصان والعرجان والعميان والحولان ، ربما استطرد فيها إلى ما يفيد في ذلك.
لقد أستطيع أن أقول معتمدا على سابق اطلاعي على شعر الأعشَيْن وبشار والعكوّك والمعري والحبسي العماني والبردوني اليمني ، وعلى شعر بعض زملائي من العميان ، إن هذه الطائفة أشد تمسكا بالعمودي ومبالغة في الأخذ به ، على رغم أن التجديد حولهم من قديم وقد اطلعوا عليه ، ولا ريب في أن لعماهم أثرا ؛ إذ يستوفز سمعهم ويتعلق بما ألفه.
6- ولقد كان من آثار عصبية البردوني الوطنية كثرة استعمال مفردات الثقافة اليمنية ، أحداثاً وشخوصا وعلوما وفنونا متغلغلة في قصائد المجموعة على النحو السالف في آثار العصبية القومية ، نفسه ، فالرسائل متداخلة كما سبق أن ذكرت ، غير أن الأمر هنا أشد وضوحا لشدة حضور الوطن الخاص والأهل ، بالقياس إلى الوطن العام والأمة. وليكف دليلا أن البردوني حينما تحدث عن قصائده في قصيدته ” الصديقات “، قال:
” هن أنى ذهبن وجه بلادي جئن عنه وجئن منه اختصارا
أي أسمائهن أشذى نثيثا أي أوصافهن أشهى ابتكارا
قد أرى هذه تعزا وتبدو تلك صنعا هاتيك تبدو ذمارا
تلك تبدو بيحان هاتيك إبا تلك لحجا هذي تلوح ظفارا
قد أسمي هذا سعادا وأدعو هذه وردة وهذي النوارا
هن ما شئت من أسام وإني كيفما شئن لي أموت اختيارا “. (ص12 -13)
إنه يرى في قصائده معالم اليمن ، لأنه يرى في معالم اليمن قصائده ، تخرج القصيدة مبنى كالمبنى أو طريقا كالطريق أو جبلا كالجبل أو مدينة كالمدينة أو فتاة كالفتاة ، عفوا لا قصدا وقصدا لا عفوا لأن غايته اليمن ولأن اليمن غايته ، في نمط فريد من الحلول أو الاتحاد بين الشعر والوطن. ويتصل بذلك عشقه الأمكنة الطبيعية وكرهه الأمكنة الصناعية ، وكأنه يرى الأولى خالصة لليمن والأخرى مشوبة بغيره:
” فتموت صنعا وهي توقد فوق نهديها النيون
ويقال تولم للردى وتصوغ من دمها الصحون “. (ص16)
7- ولقد كان من آثار سخطه الاشتراكي ، أن أنكر على الفقير قعوده عن حقه ، كما أنكر على الغني بطره ، وأن أنكر على المحكوم استكانته ، كما أنكر على الحاكم طغيانه ، يقول في قصيدته ” زامر الأحجار “:
“موطني أدعوك من تحت الخناجرْ والى زنديك من موتي أسافرْ
موطني هل أكشف الغور أما يوجز البرقُ المصابيح السواهر
يرتقي العهر على العهر إلى آخر المرقى لأن السوق عاهر
ولأن الشارع الشعبي على زحمة الأهل لغير الأهل شاغر
هذه الموضات أعراس بلا أي عرس هكذا الموت المعاصر
أيها الأسواق من ذا ها هنا إنها ملأى ولكن من أحاور
ذلك الدكان يعطي غير ما عنده هذا بلا حق يناور
ذاك ماخور بلا واجهة ذاك ذو وجهين ودّيّ ونافر
كل شيء رائج منتعش هل سوى الإنسان معروض وبائر
تلك أصوات أناس لا أعي أي حرف أصبح الإسمنت هادر
يا فتى يا ذلك الآتي إلى غيره يرنو صباح الخير صابر
سنة تبحث عن بيت سدى أتعب التفتيشَ مسعود وشاكر
إن هداك البحث عن بيت إلى مقعد في أي مقهى لست خاسر”. (ص137، 140، 142-144)
صباح الخير شاكر ، وصباح الشر ثائر ، فيا أيها الفتى الوطن الصابر على عهر سوق هذا الزمن ، إن عثرت بموضع لرجليك في أي مكان مبتذل ، فافرح به بيتا عظيم المأوى ، ولا تَشَكَّ خسران الصفقة ؛ فقد رضيت أن يُمنع من الحق أهله ، وأن تُعشي العيونَ أضواءُ الزيف ، وأن يُميَّز بعض الناس من بعض بغير حق ، وأن يصير الرياء دينا ، والإنسان سلعة يطغى على صوته الحي ، صوت المال والجاه الإسمنتي.
وسائل البردوني:
اتخذ البردوني لرسائله المتداخلة ، ثلاث وسائل متداخلة مثلها ، متفاوتة الأداء هي: السخرية ، والحوار ، والتصوير.
8- أما السخرية فشرْط الأدب فيما أرى ، لابد من أن يشتمل شاديه على مقدار منها في طبيعته ، فإن منزلته تكون عند منتهى سخريته. وما ذلك إلا لما تتسرب إليه السخرية من مفارقات في الحياة ، هي أعمق ما يطمح الأدب إلى تناوله.
لقد فُطر البردوني على السخرية ، وأشعلها لديه ضيق حاله وهو المبدع الموهوب ، وسعة حال غيره من المترفين الغُلف – كما قال في مقدمة أعماله الكاملة- ، وهي أول ما اطلع عليه من مفارقات ، ثم زادها اشتعالا غرامه بالاطلاع على تراث الهجاء ، يتعزى به – كما قال – عن الحرمان.
لقد سخر من قومه مُرّ السخرية ، في قصيدته ” من حماسيات يعرب الغازاتي “، فقال:
” نحن أحفاد عنتره.. نحن أولاد حيدره
كلنا نسل خالد والسيوف المشهره
يعربيون إنما أمنا اليوم لندره
أمراء وفوقنا عين ريجنْ مؤمره
وسكاكيننا على أعين الشعب مخبِره
نحن للمعتدي يد وعلى الشعب مجزره
كلنا سادة الرماح* والفتوح المعطره
كل ثقب لنا به خبرة الديك بالذره
في الملاهي لنا الأمام* في الحروب المؤخره
حين صهيون يعتدي يصبح الكل مقبره”. (ص230 – 231)
* هكذا ، وقد انكسر منه ، ولو قال: (سادة الشرى ، لنا الذرى) مثلا ، لانجبر.
وسخر من وطنه مر السخرية ، في قصيدته ” ترجمة رملية لأعراس الغبار “، فقال:
” أيا التي سميتها بلادي بلاد من يا زيف لا تقل لي
بلاد من يا عاقرا وأما ويا شظايا تصطلي وتُصْلي
يا ظبية في عصمة ابن آوى يا ثعلبا تحت قميص مِشْلي
يا طفلة في أسرها تغني ويا عجوزا في الدجى تفلي
يا حلوة دودية التشهي يا بهرجا من أشنع التحلي
همست للقواد هاك صدري وقلت للسكين هاك طفلي
وللغراب البس فمي وكفي وللجراد اسكن جذور حقلي
فهل تبقى الآن منك مني شيء سوى لعلّها لعلي “. (ص25 – 26)
وسخر من علاقة الفقراء بالأغنياء والرعية بالأمراء ، مر السخرية ، في قصيدته ” بنوك وديوك “، فقال:
” لنا بطون ولديكم بنوكْ هذي المآسي نصبتكم ملوكْ
يا ضعفنا تبدو لهم سافرا يا ضعفهم هيهات أن يدركوك
لكم سجون ولنا عنكم تجادل مثل نقار الديوك
عنا تلوكون اللغات التي نعني سواها أي همس نلوك
ظنونكم عنا يقينية يقيننا عنكم كخوف الشكوك
لنا مناقير حمامية لكم مدى عطشى وجبن سَفوك “. (ص150، 152)
بل قد سخر من نفسه مر السخرية ، في قصيدته ” لعينيك يا موطني “، فقال:
” لأني رضيع بيان وصرفْ أجوع لحرف وأقتات حرفْ
لأني ولدت بباب النحاة أظل أواصل هرفا بهرف
أنوء بوجه كأخبار كان بجنبين من حرف جر وظرف
أعندي لعينيك يا موطني سوى الحرف أعطيه سكبا وغرف “. (ص7)
فبعد أن سخر من الجعجعة العربية بالقوة والجرأة والنخوة ، والمجعجعون جميعا أسرى الضعف والجبن والذل ، وسخر من الجعجعة اليمنية بالأمن والحماية والرَّغَد ، وما ثم إلا الخوف والأسر والخراب ، وسخر من بطر الأغنياء وضعف الفقراء وطغيان الأمراء واستكانة الرعية – تفكر في نفسه وما يفعله لتغيير الواقع الحزين إلى أفضل منه ، فلم يجد نفسه تجاوز الكلام ، فسخر من صنعته المحدودة مهما حاول سكب الهرف بغرف الحرف.
ويبدو لي أن من سخريته ، عزوفه عن العشق والغزل والتشبيب والنسيب ، ولسان حاله يقول: أنى لي وأنا السجين الحزين المسكين ، أن أتطلع إلى خواطر الطلقاء السعداء ونزغات المترفين !
ومن سخريته الوثيقة الصلة بعماه ، إنطاقه الجوامد والمجردات ، بالفلسفة الملائمة ، وكأنه يستأنس بها وهي التي تشاركه دون غيرها ، حله وترحاله ، وصحوه ونومه ، في حين أن الناس مهما جالسوه ، منفضون عنه – لا محالة – في وقت ما.
إنه متى اقترنت بعماه وحدته ، سلط عقله على ما حوله ، وتلبسه ، ثم جعل يتكلم عنه ، فتجد عندئذ للجبل فلسفة (جبليَّة) ، وللرصيف فلسفة (رصيفيَّة) ، وللجدار فلسفة (جداريَّة) ، ولليل فلسفة (ليليَّة) !
قال في قصيدته (حوارية الجدران والسجين):
” هيا يا جدران الغرفة قولي شيئا خبرا طرفه
تاريخا منسيا حلما ميعادا ذكرى عن صدفه
أشعارا سجعا فلسفة بغبار الدهشة ملتفه
في قلبي ألسنة الدنيا لكن لفمي عنها عفه
الصمت حوار محتمل والهجس أدل من الزفه
إطلاق الأحرف حرفتكم اخترت الصمت أنا حرفه
أو قل ما اخترت ولا اخترتم طبعتنا العادة والألفه
حسنا ألديك سوى هذا إجهادي من طول الوقفه
من صف ركامي لا يدري أني أوجاع مصطفه “. (ص103/ 107- 108)
كأنه في أول كلامه يُدل بقدرته السحرية على إنطاق الجوامد بالفلسفة الملائمة ، فتنطق الجدران بأنها تشتمل على أسئلة الدنيا وتعف عنها معتمدة بلاغة الصمت ، ثم تبدو لها دعواها أعرض مما ينبغي ، فترى الصمت طبيعتها والنطق طبيعة غيرها ، فيستحسن الشاعر السجين بينها منطقها ، فيستزيدها ، فتبوح بتعبها من طول الوقفة ، وبأن إضافة اللبنة إلى اللبنة فيها ، كانت منذ البدء إضافة الوجع إلى الوجع.
وينبغي لي أن أذكر أنه خطر لي كلام للدكتور إبراهيم السامرائي سمعته منه في مجلس أستاذي أبي فهر محمود شاكر في مبتدأ التسعينيات ، يصف فيه شعر البردوني بالركاكة ، فرغبت هنا في بيان أنه ربما تعمد ذلك عفة منه عن دلالة الجزالة ، وخشية لتهمتها ، وأن ذلك من تمام سخريته التي لن تؤديها له على أقسى ما تكون ، إلا تعابير صحفية أو لهجية دارجة ، فارقا بين هذه اللغة وبين العروض الذي تمسك بعموديه ، لتستمر في كل قصيدة المفارقة التي هي مبعث السخرية ، ثم أقبلت أفتش المجموعة المختارة ذهابا وإيابا ، عن شواهد لتلك الفكرة الخاطرة ، فما وجدت لها شيئا ، إلا أن أتكلف الحديث عن الأسماء اللهجية والأعجمية ، أو الاقتباسات من الأغاني أو العبارات الخاصة اللهجية ، وهو ما لا مغمز فيه ولا مؤاخذة به.
بل ازداد عجبي من البردوني ، حينما عثرت بقصيدته ” زَوّار الطواشي ” أي زوار الحي الصنعاني القديم ذي الحمام التركي الشهير ، واستبشرت أن تشهد للركاكة شهادة عليا ، لفكرتها التي ينبغي أن تجر الشاعر الساخر إلى الركاكة ، فما شهدَتْ. يقول فيها:
” كان يرتاد الطواشي راكبا بغلا وماشي
تارة يلبس طمرا تارة أزهى التواشي
كان يخشى من يراه كل راء منه خاش
لي هنا حام كأهلي وحمى يبغي انتهاشي
ما لهم يكسون جذعي أعينا تحسو مشاشي
هل دروا أوطار قلبي من ضموري وانتفاشي
ألفوا الدهشة مني وأنا طال اندهاشي
جاوزوا دور التوقي كيف أجتاز انكماشي”. (ص208 – 209)
وهكذا يستمر فيها بالجزالة لا الركاكة ، غير أن سهولة كلامه وتحدره وتدفقه قريبا من المتلقي ممتزجا به ، يوهم من لم يطلع على حقيقة الجزالة في الكلام العربي ، بركاكته.
9- أما الحوار فباب البردوني إلى أنس الحرية ، الذي هرب به من وحشة أسر العمى والحزن والوحدة ، باب انفتح له بمفتاح الموروث القليل ، وبمفتاح حب التقرب من الناس ، فلما انتبه إليه أولع به ، حتى هدم الجدران كلها ليدخل إلى قصائده الحوار من كل جهة.
لقد كان الحوار وما زال لدى غيره ، وسيلة عارضة لبناء القصيدة العمودية ، فصار لديه كالسخرية ، أساس كل قصيدة. وكان وما زال لدى غيره تقليديا ساذجا بقال فلان وتقول فلانة ، فصار لديه عجيبا غريبا خفيا متقنا لا يدرك أحيانا إلا بفضل تفكير ، حتى إنه ليرحم المتلقي عنه فينبهه إليه بالترقيم أو التحديد الصريح ، ولو لم يفعل لكان أوقع وأشد تأثيرا وإعجابا. وكان وما زال لدى غيره حوارا لمن يستطيعه أو كأنه يستطيعه ، فصار لديه حوارا لكل شيء مُدْرَك بأية حاسة من الحواس مادية أو معنوية ، وفيما سبق نماذج صالحة لحواره لنفسه ولغيره من الناس ، وللجدران ، وللريح ولموطنه ، غير أن في قوله في قصيدته ” وردة من دم المتنبي “:
” البراكين أمه صار أما للبراكين للإرادات عزما
كم إلى كم تفنى الجيوش افتداء لقرود يفنون لثما وضما
ما اسم هذا الغلام يا ابن معاذ إسمه لا من أين هذا المسمى
إنه أخطر الصعاليك طرا إنه يعشق الخطورات جما “. (ص48 – 49)
نموذجا ، لمدى خصب الحوار لديه وعظم طاقته فيه واقتداره عليه في القصيدة العمودية ؛ إذ تكثر الأصوات ليختلط في هذا المضيق ، صوت البردوني وصوت المتنبي وصوت راعي المتنبي وصوت صاحب راعي المتنبي.
10- أما التصوير الذي أصابه عمى البردوني في مقتله ، فصار عنده ممتحنه الذي يجتهد له ويستنفر كل ما تسرب إليه من علم وما وُهب من فن – وكل ذي عاهة جبار – ليصنع منه ما يعلو به على غيره من المبصرين ، فإذا كان التصوير وما زال لدى غيره وسيلة من وسائل بناء القصيدة أو وسيلة الوسائل التي يمكن أن تُترك إلى غيرها ، فقد صار لديه مع السخرية والحوار ، أساس كل قصيدة ، وصار أعظم توفيقه فيه ، حين يجمع بينه وبين السخرية والحوار في وقت واحد معا – وهو الاجتماع الذي يجلو الوسائل الثلاث ويرتفع بها إلى سماء الإبداع – فإذا ما فرق بينه وبينهما ، صار إلى نمط من التشبيه أو الاستعارة أو المجاز ، لا يخلو من طرافة ، غير أنه لا يخلو أيضا من تكلفٍ مقصور.
أما النمط الموفق فقد سبقت نماذج صالحة له ، وأما النمط الآخر فكما في مثل قوله في قصيدته ” غير كل هذا “:
” مثلما تهرم في الصلب الأجنه تأسن الأمطار في جوف الدُّجُنَّه
يحبل الرعد ويحسو حمله ثم يستمني غبارا وأسنه
تمطر الأعماق نفطا ودما يحلم الغيث بأرض مطمئنه
يعشب الرمل رمالا وحصى يستحيل الغيم بيدا مرجحنه
ينطوي البرق على إيماضه كتغاضي عمة عن طيش كَنَّ
ينشد الحلم البكارات التي لا يعي النخاس من ذا باعهنه
تأكل العفة من أثدائها يغتدي القتل على المقتول منه “. (ص179 – 180)
لقد أراد أن يعبر عن فساد العالم الواقع وطموحه إلى غيره ، فاحتطب بعض الظواهر ، وتكلف لها بعض الصور الطريفة المقصورة العاجزة ، فتمنينا أن لو فعل (غير كل هذا) !
رحم الله سيدنا عبدالله بن صالح البردوني ، أبا بصير اليمني ، الذي كان نسيج وحده في هذا الزمان العربي الإسلامي المتهرِّئ ، وتجاوز عن سيئاته ، ولم يحرمنا أجره ، ولم يفتنا بعده. آمين !
الثلاثاء 01 أبريل 2003