newtr

  • 428 المقابلة الصحفية مع مجلة (العربي)

    عبدالله البردوني >  المقابلة الصحفية مع مجلة (العربي)

    نشرت في العدد 378 الصادر بتاريخ مايو 1990م
    أجرت الحوار: فاديا الزعبي:
    عبدالله البردوني واحد من كبار الشعراء العرب المعاصرين، ولد في قرية بردون بالجمهورية العربية اليمنية، وتلقى تعليمه في صنعاء، شارك في الحركة الوطنية المناهضة للعهد الإمامي قبل قيام الثورة. وهو يضطلع بدور كبير في الحركة الثقافية اليمنية المعاصرة. صدرت له دواوين عديدة منها: “من أرض بلقيس” و”في طريق الفجر” و”مدينة الغد” و”لعيني أم بلقيس” وله كتب في الأدب الشعبي وغير ذلك. أجرت اللقاء الزميلة فاديا الزعبي وهي صحفية من القطر العربي السوري.
    – الغموض في الشعر تختص به القصيدة الحديثة، وقد شمل هذا الغموض قصيدتك العمودية في دواوينك الأخيرة، في حين كانت قصائدك الأولى عمودية كلاسيكية واضحة. ماسر هذا الانعطاف إلى الرمزية الغامضة؟
    – لابد أن يمر كل شاعر بعدة مراحل، المرحلة الأولى استبطان الذات، والمرحلة الثانية اقتران الذات بالموضوع الخارجي، والمرحلة الثالثة إيصال الخارج إلى الداخل أو اتحادهما، والمرحلة الرابعة التوحيد التام بين الموضوع والذات. ولعل قصائدي قد اجتازت هذه المراحل منذ أواخر الأربعينيات وحتى الآن.
    كانت المجموعة الأولى “من أرض بلقيس” انعكاساً لخريف الرومانتيكية العربية، فكانت الذات تغلب على الموضوع، ومع هذا كانت المجموعة الأولى من أهم دوافعي إلى المواصلة الشعرية، لأن هذه المجموعة نالت رضا اللجنة الشعرية في المجلس الأعلى للفنون والآداب في مصر فنشرتها في أهم مشروع ثقافي هو مشروع “الألف كتاب” فحققت هذه المجموعة سمعة بعيدة، وكانت المجموعة الشعرية الوحيدة في مشروع “الألف كتاب” الذي تميز بحسن اختيار المؤلفات والمترجمات على السواء.
    أما المجموعة الثانية “في طريق الفجر” فقد كان صوت الواقع فيها أعلى من صوت الشعر، لأن قصائدها ترعرعت في ظروف المتغيرات المتسارعة من عام 1959م إلى صدور المجموعة عام 1966م. فانعكس على قصائد المجموعة الثانية تفجر الثورة ومعاركها الحربية، وجدلها السياسي مع الفئات الاجتماعية. لهذا بدت مجموعة “في طريق الفجر” بقصائدها ال58 منقطعة عن مجموعة “من أرض بلقيس” بقصائدها ال58 أيضاً.
    خصائص المرحلة الثالثة
    – بم تميزت المرحلة الثالثة من إنتاجك الشعري؟
    – بعد “في طريق الفجر” تغير المناخ الخارجي واتحد الداخل، وخفت صوت الواقع نتيجة البحث عن دافع أفضل، يناقض القائم أو يأتي منه، أو يرد عليه، فكانت مجموعة “مدينة الغد” التي صدرت عام 1970م، بداية المرحلة الثالثة من مراحلي، لأنها حنين إلى المدينة الفاضلة كما اسماها الفارابي، أو حنين إلى الطوياوية الأوروبية والجنة الموعودة أو المفقودة، فانعكست على قصائد “مدينة الغد” ثورية الواقع على واقعيته، ومحاولة الاجتياز إلى الأفضل.
    امتدت من هذه المرحلة، مرحلة مجموعة “لعيني أم بلقيس” التي صدرت طبعتها الأولى في بغداد عام 1973م. أما المرحلة التالية، فتشكلت من مجموعة “السفر إلى الأيام الخضر” التي صدرت في دمشق عام 1974م. غير أن هذا السفر لم يصل، وإنما تأرجح بين الارادة والعجز لرحلة المجتمع العربي، فأثمر هذا الشعور بالاحباط. ثم من مجموعة “وجوه دخانية في مرايا الليل” التي صدرت في الكويت عام 1977م، وامتدت هذه المرحلة بوصفها امتداداً للأدب الحزيراني دون أن تتأثر بمعركة اكتوبر 1973م. فظل الأدب الحزيراني يلوح كثيراً ويخبو قليلاً من مستهل السبعينات إلى منتصف الثمانينيات. وكانت غرة هذه المرحلة المجموعة السابقة “زمان بلا نوعية” التي صدرت عام 1979م، وفيها تصور للزمن الذي لا رائحة له، ولاشكل. وكان هذا نهاية مرحلة ثالثة.
    جاءت المرحلة الرابعة من بداية الثمانينات إلى عام 1983، وانعكس تناقضها على مجموعة “ترجمة رملية لأعراس الغبار” التي صدرت عام 1983 وفيها إشارة إلى تلقيح الرمل بالرمل، أو تخصيب الغبار بالغبار كرمز لتشابه السلطة السياسية والسلطات الثقافية.
    ظلت هذه المرحلة تتطور من داخلها حتى شكلت بداية لمرحلة جديدة تبدت في مجموعة “كائنات الشوق الآخر” التي صدرت عام 1986م. وهي شوق الأشياء إلى الرحيل، وشوق كل كائن إلى الخروج من كينونته، بما في ذلك الرصيف والربوة، والنهر والبستان، والشاطيء والصحراء.
    – نعود مرة أخرى إلى الغموض، ماسره وما الأسباب الداعية إليه؟
    – الغموض مسألة نسبية فإذا كان بعض يرى في ذلك غموضاً، فإن بعضاً آخر يرى فيه وضوحاً، وأخص بالذكر جموع المثقفين الذين واكبوا تطور الشاعر وبلغوا مستواه، فاضطر الشاعر أن يبعد علواً على الجمهور، لكي يهبط عليه هبوط المطر الذي يستنبت الأرض، ويتحول إلى قوة صعود من الهبوط فيتلاقى الشعر ومتلقيه. وليس هناك سبب سياسي للغموض، ولا أظن أن أكثر القراء يشكون غموضاً في كل دواويني، إلا الذين وقفوا على ما صدر في الخمسينيات أو الستينيات، وتجاوزهم الزمن الذي لايتوقف.
    المبدع والناقد
    – ما رأيك في الحركة النقدية العربية عموماً، واليمنية بشكل خاص، وما الجديد في مسارها؟
    – الحركة النقدية تتبع الحركة الابداعية، لأن عمل الناقد يتوقف على عمل الشاعر المنقود أو الروائي المنقود، فالناقد مسبوق بالمادة المنقودة التي هي سبب في نقده. ومع تسارع حركة الابداع تتسارع حركة النقد. ولعل اليمن كغيره من أقطار شبه الجزيرة مايزال أقرب إلى الشعر منه إلى النقد، بل إن الشعر مايزال متفوقاً على سائر الأنواع الكتابية الأخرى، لأن مجتمع شبه الجزيرة مايزال مجتمع الشعر والزراعة والتجارة.
    ومع ذلك فهناك حركة نقدية، لكنها لاتنتمي إلى شبه الجزيرة، وإنما هي من تأثير قراءة كتب النقد، ومدارسه الابداعية، ولهذا لم يسم الدكتور عبدالعزيز المقالح كتاباته النقدية “كتباً في النقد” وإنما عنونها بقراءة في شعر (فلان) أو قصص فلان أو رواية فلان، أو مسرحية فلان.
    ولاشك أن القراءة بعض النقد، ولكنها ليست النقد باسمه ومسماه، أما الذي يتميز برؤية نقدية ماتزال في بواكيرها فهو الشاعر عبدالودود سيف الذي ينتمي إلى المدرسة الأسلوبية على تسمية، أو المدرسة البنيوية على تسمية أخرى، إلا أن عبدالودود لم يتمكن من جمع المدارس أو خير مافيها لخدمة النص أو استخدامه.
    ومع ذلك لايمكن أن نقول إن في اليمن حركة نقدية، ولكن هناك محاولات نقدية بدأت من منتصف الاربعينات وازدادت تطوراً في السبعينات ثم وقعت فيما وقعت فيه المدارس النقدية من تعميم ورصد للظواهر، دون وصول إلى السر الشعري. وليست هذه الظاهرة غريبة على الأدب المعاصر. فهناك سبق للمبدع على الناقد. لأن المبدع مختلف العوالم في حين يظل الناقد محصوراً بالنصوص المنقودة، فهو تابع للمنقود الذي هو أكثر منه تطوراً.
    المسافة بين الناقد والشاعر
    – هل هناك تفاوت بين الشاعر والناقد؟
    – لاحظنا في تاريخنا الأدبي المسافات بين المبدعين والنقاد، فكان الآمدي في القرن العاشر الميلادي متخلفاً بالقياس إلى إبداع منقوديه، أبي تمام والبحتري. وكان “علي عبدالعزيز الجرجاني” في القرن نفسه متخلف الذهن بالقياس إلى تحليق المتنبي، وكان “ابن بسام” في كتابه “الذخيرة” مجرد مؤرخ للأدب الاندلسي. كما كان “ابن رشيق” مجرد مدو لما رواه الشعراء في بعضهم، أو ما قاله النقاد في بعض الشعراء، دون أن يبدي رأياً معارضاً أو موافقاً. فكان كأغلب النقاد يعتمد على قول “الطرماح” في شعر “ابن أبي ربيعة” أو على قول الجاحظ في شعر “أبي نواس” أو على قول البحتري في شعر أبي تمام. فكانت آراء الشعراء في بعضهم أهم مادة قدمها “ابن رشيق” و”الآمدي” و”الجرجاني” والآراء التي كان يبديها “الآمدي” و”الجرجاني” كانت تدل على قصورهما عن بلوغ السر الشعري، أما عن قدرة الشعر على تطوير اللغة واشتقاقها وخدمتها عن طريق استخدامها فالنقد متخلف عن الابداع في كل عصر كما لاحظنا في النماذج القديمة. وكما نلاحظ من النقود التي كتبها طه حسين، والعقاد، والرافعي، ومارون عبود وأمين الريحاني. فقد كان هؤلاء يعنون بالشاعر من الوجهة النفسية، ومن حيث تأثره بظروف البيئة، وتأثيرها فيه، ولايغوصون في نصوصه إلى حد أن طه حسين قال عن لغة الشعر المهجري بأنها غير صافية، أو سماها لغة صحفية، بحجة أنها لاتشبه لغة الحطيئة والبحتري.
    الناقد الثاقب
    – من الناقد الثاقب الذي ترى فيه نموذجاً جيداً؟
    – الناقد الثاقب في رأيي هو “الدكتور محمد مندور” في كل مؤلفاته: كالنقد المنهجي عند العرب، والميزان الجديد، والشعر المصري بعد شوقي، وقضايا أدبية، فقد كان مندور لايُحِّملُ النصَ فوق ما يحتمل، ولايجاوزه إلى الظواهر المذهبية، لهذا كان يناقش النقاد القدماء، فيستغرب على “الآمدي” “استغماضه” شعر أبي تمام حتى الواضح منه.كذلك أنكر مندور على طه حسين نقده لشعر محمود أبي الوفاء، وللمهجريين، فنكاد أن نسمي كتابات مندور “نقد النقد”. أما مارون عبود الذي شغل الخمسينيات وبعض الستينيات، فكان يصدر عن ذاتية ويلجأ إلى التفكه حين يعوزه البرهان الفلسفي أو التعليل الأدبي. لهذا لم يصل النقاد إلى مصاف الشعراء، لأن الشاعر أو الروائي ينظر بعين المبدع الذي يحرك المادة، في حين ينظر الناقد إلى النص الذي أُبدع.
    صحيح أن بعض ملامح النقد تشارك المبدع في إنشائه، لكنها لاتصل إلى مرتقاه. ومن الضروري أن نعرف أن النقد إثراء للثقافة، وضرورة لتتبع مسيرة الشعر. ولكن لايمكن أن نقول أنه يُبَصِّرُ الشاعر أو يُسددَ خطاه.
    الشكل ليس مقياساً
    – الناس والنقاد في صراع بين تيارين، تيار القصيدة العمودية الكلاسيكية وتيار القصيدة التفعيلية. ويميل بعضهم إلى القول: إن القصيدة العمودية انتهى وجودها في الوطن العربي، باستثناء شعر الجواهري والبردوني، ونزار قباني وغيرهم. فما رأي البردوني في القصيدة العمودية الكلاسيكية، وفي القصيدة التفعيلية، ولماذا يُقبل الشعراء على القصيدة التفعيلية؟
    – ليس الشكل مقياساً للجودة، سواء أكان عمودياً أم تفعيلياً، فهناك قاسم مشترك في الرداءة وفي الجودة في الشكلين معاً. لهذا كان شرط الشعر أن يكون شعراً جيداً أياً كان شكله. أما تصنيف الشعر إلى عمودي وتفعيلي، وإلى عمودي متطور فهذا تصنيف خارجي يفيد في معرفة الحركة الثقافية، والتحرك الاجتماعي، لكن الشكل لايتسبب في جودة الشعر، أو في رداءته، لأن الأساس امكانيات الشاعر في أي شكل.
    ومن العجب أن الاحكام التي تواردت في الخمسينيات قد سقطت على الرغم من تكرارها، فما أكثر ما ردد الأدباء الصحفيون أن القصيدة العمودية قد انتهت. وأن القصيدة الجديدة هي شعر العصر، قالوا هذا في الخمسينيات، وهانحن في بداية التسعينيات نقرأ شعراً عمودياً جيداً. كذلك فإن بعض نقاد السبعينيات وقعوا في الخطأ، فارتأوا أن الشعر الجديد قد انقرض عهده، وانتهى بنهاية السياب، وصلاح عبدالصبور، وخليل حاوي، ولم يثبت هذا الرأي للنقاش، فقد أثبت الشعر الجديد امكانية تواصله.
    فالذين رأوا نهاية الشعر العمودي في الخمسينيات كالذين أعلنوا نهاية الشعر الجديد بموت بعض رواده وسكوت بعضهم. وكلا الحكمين خاطيء كأغلب أحكام النقد. لأن الأحكام النقدية تتأثر بالفترة الآنية، ولاتستبصر ظواهر بزوغ الفترة الآتية، وبالتالي فإن الحاسة المستقبلية عند النقاد غير مرهفة كارهاف حاسة الشعراء بما هو آت.
    ومن البديهي أن الشعر كله يملك الجودة، ويملك الرداءه، ومن المعروف أن المجيدين في كل فترة لايتجاوزون عدد أصابع اليد أو اليدين. فإذا كان في عصرنا ثلاثمائة شاعر، فلابد أن المجيدين منهم لايزيدون عن أصابع اليدين. وهذا معهود في كل فترة. ففي القرن التاسع الميلادي كان أجودُ الشعراء ثلاثة: أبوتمام والبحتري وابن الرومي، وفي القرن العاشر والحادي عشر، كان أجودهم ثلاثة: المعري، والشريف الرضي ومهيار الديلمي.
    واذا رجعنا إلى العصر الأموي فسوف نجد أكثرهم إبداعاً ستة شعراء هم ابن أبي ربيعة، وجرير، والفرزدق، وكُثَيِّرْ وجميل والأخطل. وكان هؤلاء في العصر العباسي والأموي من جملة آلاف الشعراء كما دلت على ذلك مقولة جرير: “إني كافحت ثمانين شاعراً، ظهرت عليهم جميعاً” ولانجد من أولئك الثمانين اليوم إلا الأخطل والفرزدق. فالمجيدون هم الذين يغالبون الزمن كله في كل عصر، فأصحاب الابداع المطلق -أو الطبقة العليا ابداعاً- لايزيدون عن ستة: بدر شاكر السياب، أدونيس، خليل حاوي، عبدالوهاب البياتي، نازك الملائكة. محمود درويش. كذلك القصيدة في الشعر العمودي، فإن شعراءها المجيدين لايزيدون عن عدد شعراء المدرسة الجديدة. فيمكن أن تكون الطبقة الأولى مكونة من الأسماء التالية:
    عمر أبو ريشة، والجواهري، وبشارة الخوري، ومحمد مهدي المجذوب، وسليمان العيسى، ونزار قباني، ويمكن أن تتكون الطبقة الثانية من: أحمد الصافي النجفي، ووصفي قرنفلي، وعبدالسلام عيون السود، والياس ابو شبكة، وسعيد عقل.
    كذلك في الأدب الأوروبي بشقيه الغربي والشرقي، فلايكاد أحد يذكر شاعراً فرنسياً إلى جانب بودلير، ورامبو، وأراجون. كذلك الروائيون، فإن الطبقة الأولى تتكون من أميل زولا، وبلزاك وشاتوبريان، ويأتي غيرهم في طبقة ثانية. ويمكن أن نجد الطبقة الأولى في الأدب الروسي متمثلة في تولستوي ودستوفسكي وتشيخوف وجوجول.
    وإذا لاحظنا المدرسة العربية الرومانتيكية فإننا لانجد خامساً لعلي محمود طه، وكاظم جواد، وابراهيم ناجي، وأبي القاسم الشابي، فليست المسألة كثرة الشعراء؛ وإنما المسألة زيادة نوع الشعر. والذين يجمعون بين جودة النوع وكثرة الانتاج قله في كل عصور الأدب، بما في ذلك شعراء المعلقات في الجاهلية، وشعراء الملاحم في العصور اليونانية القديمة.
    هناك شعراء يَعِدون ولايفون، وهناك من يتألقون بالقصيدة والقصيدتين ثم يتوقفون، من أمثال ابن النحاس، وابن زريق البغدادي في القديم. ومن أمثال المازني، وجبران في الحديث. ولهذا انصرف المازني إلى الكتابة، وانصرف جبران إلى القصة الطويلة، والمقالة النقدية، بعد أن بدأ الاثنان شاعرين كبيرين.
    المهرجانات محاكمة آنية:
    – من خلال حضورك لمهرجانات شعرية وندوات ومؤتمرات أدبية. هل ترى أن هذه النشاطات تضيف شيئاً إلى الواقع أم أنها مجرد نشاط آني؟
    – لاشك أن المهرجانات الشعرية والمؤتمرات الأدبية من أهم سبل التعريف بالثقافة العربية كلها، أما المهرجانات والمؤتمرات في ذاتها فإنها لاتبدع شعراً خاصاً بها، فعندما يجتمع الشعراء في أي مهرجان ينشدون ما سبق أن كتبوه، وربما يعيدون قراءة ما قرأوه في مهرجان سابق، ولهذا فإن الشعراء يصعدون إلى المنصات بدواوينهم، أو بأوراق من جرائد أو مجلات. وقلَّ من يخص المهرجان بقصيدة خاصة.

  • 429 المقابلة الصحفية مع صحيفة (رأي) وهي آخر حديث صحفي أدلى به الفقيد

    عبدالله البردوني >  المقابلة الصحفية مع صحيفة (رأي) وهي آخر حديث صحفي أدلى به الفقيد

    نشرت في العدد 174 الصادر بتاريخ17أغسطس1999م

    أجرت الحوار: نادية مرعي
    الأستاذ الجليل عبدالله البردوني الإنسان والأديب الحاضرة بصماته في قضايا وآداب وثقافة اليمن قديمه وحديثه من أول حرف إلى مالانهاية، ومعضا يملأ أرواح الحروف فيلسوفاً يناجي الحقيقة ينبض شوقاً وحنيناً يتواصل معها تفر منه يذوب فيها ترسب فيه حكمة من أرض بلقيس في مدينة الفجر طريقاً لعيني.. الأيام الخضر.. حضور متميز يبذر أزهار الحب والعطاء أنى يهم وجهه في مرايا الليل مجسداً زمناً بلا نوعية بحكمة وخبرة صقلها واقعه المعيوش ترجمة رملية لأعراس الغبار كائنات شوق آخر جوّاباً للعصور، رواغ مصابيح لروح متقدة وارفة تظلل الحياة وقلب كبير يتسع أشتات الأنفس والأفكار بشفافية، عبدالله البردوني تجربة إبداعية تختصر جوهر الإبداع في صورة عملاقة ينشر المدى رؤى وبحاراً لا تنضب.
    حظيت بشرف لقائه في صومعته وكان لي معه هذا الحوار:
    – تضج الساحة الإبداعية في واقعنا اليمني المعاصر بدفق من النتاجات الأدبية والفنية، يرافق ذلك الزخم صمت بارد من قبل النقاد، على أنه لاحركة إبداعية بلا حركة نقدية.. أستاذ عبدالله ماتفسيركم لهذه الأحجية؟
    – إن السؤال عن النقد والنقاد في بلادنا بحاجة إلى معالجة موضوعية ذات أبعاد، فاليمن في الأربعين عاماً الأخيرة زخمت بالكثير من النتاج الإبداعي – لاسيما الأدبي – خاصة الشعر المتطور وإن كان شكلاً عمودياً، والقصيدة الجديدة التي بدأت مزاولة الظهور حتى الآن منذ بداية الستينيات، ومنذ السبعينيات حتى الآن تكاثرت الاسماء الشعرية والاسماء القصصية، وكانت الاسماء القصصية اكثر في عدن من أي مدينة يمنية، وكان تكاثر الاسماء الإبداعية عموماً في اليمن منذ السبعينيات بفضل الوجود الجامعي ومعرفة التعليم الأكاديمي وكثر الشعراء والشاعرات والمبدعون عموماً، ومع هذا كله فإن غياب النقد يرجع إلى ثلاثة أسباب:
    أولاً: إن الأديب أو الفقيه اليمني لايضيق من شيء كما يضيق من النقد، ويتعوذ بالله منه ويعتبره معيبة، يفهم ذلك المتابع لكتاب “الغاية في أصول الفقه” لحسين بن القاسم؛ قال القارض:
    “لله من غاية أعوذها بالله
    من رأي كل منتقد”
    فهم يرون الانتقاد اعتراضاً وتجهيلاً وإدراكاً لمواطن العجز أو خلق معايب ليست موجودة، ويقبلون الخصومة دون النقد.
    ثانياً: إلى الآن لم ينقطع أديب للنقد في ذاته، مثل بعض النقاد، في البلاد الأخرى مثل “محمد مندور، وعزالدين إسماعيل، وحنا عبود، وإبراهيم عبود، وميشيل عاصي، وعبدالجبار البصري…إلخ”، فلانجد في بلادنا من انقطع للعمل النقدي وحتى من يقوم بالنقد مقاربة فإنه يسميها قراءة – تخلصاً من مسؤولية النقد – والناقد يتفرغ للعمل الابداعي النقدي ويتابعه ويتطور معه ويطوره، مثل الناقد “محمد النويهي” من اكبر نقاد الشعر الحديث بدأ، بالشعر القديم وانتقل إلى التفعيلة ودعا إلى الشعر الحديث، كذلك الناقد الكبير “عبدالقادر القط”، وغيرهم ممن يتابعون الإبداعات ويميزون بين ماهو خطوة للأمام وماهو غير ذلك وما هو فن معاصر جيد وجديد وبين ماهو رتيب، فالجدة لاتظهر إلاّ في الإجادة، كما أن الاختلاف والتمايز بين الاتجاهات الإبداعية يخلق المعارك النقدية الإبداعية بين السلفيين والحداثيين، وكانت تلك المعارك أحياناً تهدف إلى زوال الحديث والقضاء عليه وليس مجرد نقده بل قبوله أو رفضه.
    ثالثاً: قلة الإبداع على كثرة النتاج، بمعنى عدم التميز والجدة التي تدفع الناقد للكتابة فلدينا كم كبير ومبشر لكنه أو لنقل معظمه لايرقى إلى مستوى الإبداع، ولابد من مكاشفة أنفسنا بأنها تجارب جيدة تدل على مستقبل إبداعي إذا اتخذت طابعها الخاص وتميزت بماتحدثه من ردود أفعال.
    – يرى البعض أن النقد مهمة صعبة، بينما يستسهلها البعض الآخر وثارت مؤخراً مناوشات متبادلة حول النقد والكتابة الانطباعية أستاذ عبدالله.. أين النقد في كل ذلك؟
    – النقد معرفة مواطن الجمال والدخول فيها، مواطن القبح والدخول فيها منطق الإبداع والجدة وإبرازه، والناقد تؤثر فيه الظروف والتغييرات الثقافية، ولابد أن يتميز الناقد بالموضوعية وثقابة الرؤية والقدرة على الاختلاط بالمؤلف والتداخل معه حتى يكاد أن يكونا شخصية واحدة ورؤية مشتركة فيغدو الناقد شريك المبدع هذه المشاركة تدفعه للإبداع والكتابة النقدية التي ليست مجرد انطباع مع أو ضد، وقد يتطرق الناقد لابعد مما قصد المبدع، فالنقد رؤية النص ورؤية ماوراء العبارة، وما استعمال الرمز، ولأي غاية، وهل الدلالات والأدوات، وما بالنص من الظواهر والكوامن.. عفوية مشروعة؟ أم أنها مفتعلة مقحمة؟ وليس النقد مجرد التوصيف والإحصاء، ولامجرد انفعالات عاطفية نحو بعض الكتابات التي تكون بفعل الصداقة، أو إجابة الطلب والمجاملة والتشجيع، برغم ماقد يكون فيها من بدوات نقدية جميلة أو تنبؤات في محلها أو في غير محلها، والنقدات، في مجالس القات والمناوشات على صفحات الجرائد ليست من النقد في شيء، بل إنها تشبه ماتتنابز به بعض النساء في “التفرطة”، وأتصور أن مادار بين المحمدين من مناوشات ليست ذات أسباب أدبية أو سياسية، فكل واحد أدلى بما في لسانه، ومايجول في خاطره عفواً، وليس مايتفق مع أدبيات النقد.
    – أستاذ عبدالله – في كتابكم “رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه” كانت لكم تناولات نقدية، ما معاييرها، وهل أنتم تقبلون النقد؟!
    – كانت عندي أفكار في النقد عندما كتبت ذلك الكتاب، وكنت لا أعتبر الشعر إلاّ إذا كان وطنياً متحمساً، أو كان ثورياً متحمساً، لأننا كنا نخوض أربعين جبهة من الحرب، وفي تلك الفترة ما كان يمكن للشعر إلاّ أن يكون كذلك، وقد تركت بعض الاسماء الشعرية التي كانت موجودة آنذاك ولكنها لم تكن ذات أنفاس حماسية، وقد وصفتها بالبعد عن الوطن، والغربة في سبل البحث عن مستقبل يمن جديد، أما بالنسبة لي والنقد فأنا أرحب بكل ما كتب وما يكتب وما سيكتب عني، معي أو ضدي.
    – ماذا عن الحراك النقدي الأدبي عربياً؟
    – كان لحركة النقد الحقيقية التي تزعمها “محمد مندور، أنور المعداوي، أو في مصر و”مارون عبود” في بيروت، “عيسى الناعوري” في الأردن، وغيرهم أثر عظيم في تطور وتغير الحركة الإبداعية، ونقد هؤلاء يعتمد على النص كيف عبر وتخيلوماذا أضاف إلى سابق عليه، وخلق مايسمى بالأدب الخلاق ومايسمى بأشعار الشاعر بوجود الشعر وأشعار القارئ بحس الشعر فيه من الأدب المقروء؛ إذ يحس بأن الأديب قد عبر عما يحس به هو، فكان لأطروحات وملاحظات النقاد حول الإبداع صدى لدى المبدعين ومن جدلية العلاقة بين النقد والإبداع تكون الجدة والتطور والحراك.
    فمثلاً يرى “أنيس داود”: أن حشر الأسطورة وبعض الرموز لايؤدي مكان السياق الشعري الذي تحمله القصيدة، ولاترمز إلى شيء يقبل التعريف، وهكذا ظهر مناوئون ومؤيدون، وكانت مصر أم الشعر وأُم النقد والنشاط والإشعاع.
    – كتب الناقد يوسف الشاروني كتاباً بعنوان “الثلاثة الروائيين” ماذا عن الرواية العربية ونقدها؟!
    – الحقيقة أن يوسف الشاروني رتب روائييه كما يلي الأول نجيب محفوظ والثاني محمد عبدالحليم عبدالله والثالث يوسف السباعي، وقد استغربت عندما قرأت الاسماء واستغربت وجود السباعي إلى جانب محفوظ ومحمد عبدالحليم وكنت أتوقع أن يكون “توفيق الحكم” أول الاسماء، وقد تناول في هذا الكتاب اندفاع هؤلاء الكتاب إلى الرواية وقال إن محمد عبدالحليم، عاطفي يجنح للشعر والفلسفة الرومانتيكية والميل للمأساوية في الحياة والمغامرات الغرامية البائسة نحو ماجاء في روائيته التي صارت فيما بعد فيلم “لقيطة”، أما نجيب محفوظ فقد اعتمد على الواقعية الاشتراكية والسياسية وبدأ مستخدماً الرمز الفرعوني على نحو ماظهر في رواياته: “كفاح طيبة”، “رادوبس”، “عبث الأقدار”، وكلها تاريخية ثم انتقل إلى الرواية الواقعية مثل روايته “القاهرة الجديدة” والتي كانت بعنوان “فضيحة في القاهرة”، وما كان للرأي العام من أثر فيها وتأثر بها والنقد الروائي يحتاج لرؤية عميقة وخبرة وقدرة على الاستنطاق، وقد كتب “سيد قطب” – وهو اخبر ناقد وأكثر امتلاكاً للكلمة من جميع النقاد – كتب بعد صدور “القاهرة الجديدة” و”خان الخليلي” لنجيب محفوظ: إن نجيب محفوظ من الآن لانعتبره من الروائيين العرب ولا من روائيي الشرق، بل إنه ترقى إلى مصاف ديستويفسكي وبلزاك وايميل زولا، فنجيب من الروائيين العالميين، ولو كان أبطاله محليين، فالشمولية والانفتاح عالمي، فسيد قطب أول من رشح محفوظ للعالمية، وسيد قطب ناقد حصيف ذو قدرة نافذة، غير أنه مالاقى من رفاق الكلمة آنذاك المكانة التي يستحقها، وكان شاعراً وأديباً مرهفاً، ثم اتجه للكتابة السياسية والدينية.
    وهكذا نلاحظ الرواية والنقد الروائي وانعكاساتهما على الواقع المحيط، وبرغم ما أحيط بنجيب محفوظ من الأقاويل إلاّ أنه مايزال يرفد الرواية الإنسانية بما يدهش فبعد “زقاق المدق” والثلاثية ظن النقاد أنه قال كل ما عنده، بل إنه صرح في استجواب صحفي بأنه وضع كل معارفه وخبراته الاجتماعية والنفسية في الثلاثية، وبعد شهرين أصدر روايته “اللص والكلاب” وهي تفوق كل ماسبق وانه مايزال يملك مايقول ويحسن القول، وفيها صوّر الثورة والتراجع عنها، والخونة وهم يهتفون لها ويرتزقون منها، وقد تناول “غالي شكري” نقد روايات نجيب محفوظ من وجهة اجتماعية وكيف يخلق النموذج الروائي، وما لذلك من أثر، كذلك كتاب “محمد مندور” “النقد المنهجي عند العرب” وما لهذا الكتاب من أثر في تعريف المثقف العربي بأثر الظروف والتغييرات عموماً في الإبداع وهكذا نجد هؤلاء النقاد خلقوا رؤى وآفاقاً جديدة لتناول الواقع ومعالجة معطياته، كما نلاحظ نشاط القصة والرواية ونقدهما في المغرب العربي كما جاء في رواية “الخبز الحافي” والتي تناولت الحياة الاجتماعية وعرى الجوع والفقر المدقع كما هو في ملايين البيوت الفقيرة في العالم وفي الجزء الثاني من الرواية واسمه “الصعاليك” أرخ الكاتب المغربي.. للصعاليك المعاصرين الذين يختلفون عن صعاليك التاريخ العربي من شعراء العصر العباسي وشطارة، وعياروه، فقد تناول الصعاليك الذين يتجسدون في الخدم والنوادل في الأفران والمطاعم والفنادق الذين يحملون أشهى الطعام والشراب وهم جوعى، وقد أُلزم أصحاب الفنادق والمطاعم إطعام العمال قبل أن يبدأوا عملهم في فرنسا، هكذا يخلق الإنسان أفكاراً خيرية تجد سبيلها للوجود والتنفيذ وإن على يد الغير وإن بعد حين وكفى هؤلاء المبدعين نبلاً أنهم خلقوا مثل تلك الأفكار والمعالجات المرهفة.
    – هناك عصور ازدهار ثقافي للمجتمعات وعصور انحطاط تتأثر بعوامل الواقع، ماذا عن إبداع المرأة؟
    – تتبجح بعض الجهات السياسية بأنها نقلت المرأة، وأثرت في واقعها والحق أن المرأة حاضرة في المجتمع، واتسع مجال حضورها بتطور المجتمع ولابد أن نصف تجربتها بأنها أقصر من تجربة الرجل نظراً للمواقف والمواقع التي تؤثر في تجربتها، والمرأة خلقت من إبداع الظروف ومن تحول المجتمع، وتلك المكانة غير كافية، ينبغي أن يكون لدينا خمسمائة أو سبعمائة مبدعة كممثلات لأدب المرأة في مختلف الفروع والمرأة في مختلف المناشط الثقافية والإبداعية تظل أعمالها أقل من الرجل، نتيجة عدم تفرغها تماماً للعمل الإبداعي، وحتى في بعض الحالات نجد بعض الأديبات مقلات رغم تفرغهن للعمل الأدبي سواءاً عربياً أو عالمياً مثل بنت الشاطئ، وسهير القرماوي، وكوليت سهيل الخولي ولميعة عباس عمارة، وسناء الدروبي، وحتى سيمون دي بوفوار الفرنسية.
    ومهما يكن فتجربة المرأة مرهونة بأدوارها المختلفة وتطورها واجتهادها ونشاطها في التجربة الحياتية عموماً، إلاّ أن هناك من المبدعات من يقتربن في قوة وغزارة ما ينتجن من أعمال أدبية وفنية مثل “غادة السمان” في رواياتها ذات التصورات والتحليلات العميقة ذات الحس الأنثوي، ونوال السعداوي الأكاديمية التي تهتم في دراساتها الجوانب البيولوجية والاجتماعية والتاريخية للمرأة. أما عن مستقبل إبداع المرأة في اليمن فمستقبل البلد كلها معلق بجناح شيطان!
    – لم يعد العالم قرية صغيرة، بل أصبح غرفة صغيرة يرى ويشعر كل من بها ببعضهم بعضاً، في ظل سياسة العولمة وتكتل الأمم شيعاً وأحزاباً كيف ترون المستقبل العربي في إطار المستجد من التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية عموماً؟
    – علينا معرفة ماذا فعلنا اليوم لندخل في الغد، فالناس الذين بلغوا الغايات المختلفة والتطورات الحادثة بدأوا منذ القرن الخامس والسادس عشر إلى الآن، والمستقبل لايأتي ارتجالاً، وإنما هو صيغة جهود متلاحقة ناتجة عن تجارب وطنية، وهنا لايستطيع المواطن لدينا أن يقدم تجارب ومايعاني فنحن لانزال نعاني من سيطرة المقولة “ليس في الإمكان أفضل مما كان”، وبرغم تطور الغرب فلا خير فيه فقوتهم تقوم على إضعاف الآخر ومصادرته وسلبه، والحق إن الشعوب جميعاً تخضع لرأي دولي واحد، والمستر ويلز أول من دعا إلى العالمية، العالم الواحد، لكنه لم يدع إلى عالم تسيطر عليه دولة واحدة تحكم العالم وتصادره، ومع ذلك فقد صدمت تلك القوة التي تحاول بواحدية السيطرة على العالم بمواجهة العراق لها، وصموده أمام ضغوطها ونفس الصدمة لقيتها من يوغسلافيا التي واجهت القصف المستمر لثمانين يوماً وهكذا تهتز فكرة وجود قوة واحدة مطلقة تحكم العالم!!
    – دعا فلاسفة اللغة في مطلع القرن الحالي إلى ما أسموه بفلسفة اللغة العادية، كما تجنح د. يمنى العيد إلى أن الأدباء يثرون اللغة بفصحنة الألفاظ التي يستخدمونها في واقعهم المعيوش، فمارأيكم في بعض الألفاظ الموغلة في القدم والتي يتبعها بعض الأدباء الشباب في كتاباتهم؟ وهل يعد ذلك بعث أم نكوص؟!
    – في الحقيقة الكلمة المفردة جانب مهم في اللغة لكنه ليس مختاراً ولامنتقى فاللغة تتكون مما يتداوله الناس ويتفاهمون في حياتهم، وهناك لغة ارتبطت بالفقه والعلوم والأدب والتاريخ لكنها تتحد مع لغة الحياة وتأتي منها، وهذه اللغة على وحدة أصلها إلاّ أنها تختلف حسب استخدامها من النثر إلى الشعر إلى الخطابة…إلخ، والكلمات التي يقتحمها الكاتب تظل مفردات لاحكم عليها ولاقيمة لها إلاّ بما تؤديه من الدلالة والمعنى، ولذا تتمايز أساليب الأدباء التي لاتخلقها المعاجم والتراجم وإنما تخلقها الفكرة والرؤية التي تفضي إلى تصورات وصور شعرية/شعورية بديعة تحدث إيماضات تخلق لغتها ومفرداتها المعبرة بالمعنى الذي يحرك الحاسة الأدبية ويوقظ الشعور بالخلق والإبداع والصدق الذي يشعر به المتلقي بعيداً عن التنقيب والغوص والافتعال عموماً.
    – في الحداثة ترون أن لانهاية لأية صياغة فنية لأن الجديد يؤصل التجديد كما يستحدث الأجد؛ هل مابعد الحداثة – وفقاً لتلك الرؤية – تستمد أصالتها من الحداثة؟
    – الحداثة جارية على ما أحدث العصر وما سوف يستحدث وليس معناها أنها أساس لما بعد الحداثة والتي تعني العدم “عدم الحداثة” فهذه التسمية في غير محلها، وإن بمعنى الترتيب، فالتسمية لابد أن يكون لها مسمى، وكلمة مابعد الحداثة قائلها لم يفكر في معناها ودلالتها، وعلى أية حال فنحن لم نحقق الحداثة، فكيف مابعدها؟!
    والواقع العام والتقايس الزمني ذو دورات تحمل الواحدة بذور مايليها وليس كل جديد هو الأفضل – مثل تطور الأسلحة – فهذه حداثة هدامة، تفتك بالجنس البشري، وقد تكون رؤية عصر ما أكثر حداثة من بعض الرؤى المعاصرة!
    – في التيارات الشعرية المعاصرة بمدارسها وأصولها المختلفة، تبرز قامات عملاقة، كيف ترون تجربة الدرويش، أنسي الحاج وأدونيس؟!
    – هناك وجوه مميزة في الاسلوب، في الأغوار البعيدة، وإذا لاحظنا الاسماء الواردة في السؤال فهي كذلك؛ إن أدونيس رائد المدرسة التي تعتمد على الحالة الشعورية وفكره الذي كان وهي تخالف الذي يكون منذ أن أصدر ديوانه الأول – شعر عمودي – بدت فيه لمحات غريبة مركبة تركيباً رمزياً ثم انتقل إلى التفعيلة في ديوان “أوراق في الريح” ومنه نشعر أنه وقف على مرسى في الدورة الفنية، ثم انتقل في “أغاني مهيار الدمشقي” فبين طريقه الشعري وفلسفته العميقة يقول في قصيدة حوار:
    “من أنت، من تختار يامهيار؟
    أنىّ اتجهت، الله أو هاوية الشيطان
    هاوية تذهب أو هاوية تجيء
    والعالم اختيار..”
    وتسيطر تلك الألفاظ والمصطلحات على مفردات قصائده، وهو متميز في استخدام الرمز والقناع وكل تسمية لديه كما يشعر بها في شفافية الخلق الفني، وأهم مقومات شعره الغرابة.
    محمود درويش شاعر من كل الوجوه، بدأ بالعمودي وتطور بعد ديوانه “عصافير الجليل”، و”عاشق من فلسطين” و”قهوة أُمي” في ديوان “آخر الليل” والذي حمل بذور الجديد الذي نلمسه اصداره بعد انتقاله إلى القاهرة، وفيه تعاطى مصطلحات أدونيس في ديوانه “تلك صورتها وهذا انتحار العاشق” وهي قصيدة واحدة طويلة، وعندما قرأها في دمشق كان الحضور لايقل عن مائة ألف مستمع، مع أن ذلك لم يعد مقياساً أو دليلاً على شاعرية الشاعر، وقد نجح في الروي على مصطلحات أدونيس لكنه لايملك القاعدة الفكرية والفلسفية كأدونيس، ورجع مرة أخرى إلى ذاته في ديوانه “المحاولة رقم7” محاولاً اختبار نضجه الأدونيسي ولم يفلح ولم يدن منه فرجع للدرويش مسافراً في الغربة والغرابة، وعاود نشر بعض القصائد قتلاً للصمت مثل “وردٌ أقل” و”هي أغنية”، وكانت قصائده تلك لتزجيه الوقت وأخيراً أصدر ديوان “ل ماذا تركت الحصان وحيداً” أما مجموعته الأخيرة، الجديدة فهي تكاد تختلف معجمياً عن تجاربه السابقة كلها وهناك محاولة إغراب وجده ونضج في ديوانه “سرير الغريبة” وبه يكون قد نجح في تجربة الحداثة كما هي عصرياً وفلسفياً، ونجح في محاولة الخروج إلى غيمة أدونيسية وتجربة التجربة الشعرية ذاتها، ووصولها إلى شاطئ وغاية متميزة فهذا الديوان يبدو خلاصة تثقيف وخلاصة تجربته وصياغة ثقافة تختلف عن الثقافة التي جاء منها فجاء الديوان يحمل قوة من الموسيقى المنسقة والغريبة، وكأنه يعزف بأربع آلات أقلها الصوت، أما النغمة فهي ترجع إلى غرابة المعنى ورفاهية الجملة وحسن تبرج المعنى الذي لاتكشفه مصابيح الدنيا مثلما تكشفه ومضة خاطر أو لمعة رؤى يقول في قصيدة “لا أقل ولا أكثر” من “سرير الغريبة”:
    “أنا امرأة، لا أقل ولا أكثر
    أعيش حياتي كما هي
    خيطاً فخيطاً
    وأغزل صوفي لألبسه، لا
    لأكمل قصة “هومير” أو شمسه
    وأرى ماأرى
    كما هو في شكله
    بيد أني أحدق مابين حين
    وآخر في ظله
    لأحس بنبض الخسارة،
    فأكتب غداً
    على ورق الأمس: لاصوت
    إلاّ الصدي…”
    – أنسي الحاج فاتح بوابة الحداثة، فمنذ أصدر ديوانه الأول “لن” سنة 60م أبدى جرأة وتميزاً، ودعا للقصيدة المتطورة، عمل في الصحافة في صحيفة “الحياة” ثم انتقل إلى “النهار” وخاض في السياسة، ثم أصدر ديوان “الرأس المقطوع” والذي بدت فيه روح الجدة والغرابة ثم تلاه ديوان “ماضي الأيام الآتية” والذي جسد رؤية فلسفية عميقة أكثر قوة ونضجاً تبعه ديوان ” ماذا صنعت بالذهب؟، ماذا فعلت بالوردة؟”، وهو تجسيد لحركة الشعر المعاصر عالج فيه الحب والجمال والخير والحرية بعمق يتجاوز حد الدهشة، تلاه ديوان “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع” تحول مغرقٌ في الحب والحياة، ثم أصدر ديوان “خواتم” ج1، ج2، ثم “الوليمة” يقول في قصيدة “تعريف”:
    “…. الحب زهرة الشفقة
    السماء سقف السجن
    ولكن لاشيء يخنقني
    لأن غرفتي بلاجدار
    ومعلقة بين الأرض والسماء”.
    وأخيراً أصدر ديوان “كلمات كلمات كلمات” في ثلاثة أجزاء.
    وأُنسي الحاج متحرر من الهواجس والالتزام بما هو تقليدي، بوعي بالذات البشرية بحس عميق يدعو للتفاؤل بمستقبل الشعر العربي، وهؤلاء الشعراء الثلاثة يستحقون دراسة بعد استحضار أعمالهم كلها وليس الاعتماد على بعض الأعمال وهذه العجالة لاتكفي لتقييم أي منهم وإنما هو تعريج وإلماح ليس إلاّ، فكتاباتهم مبشرة علاوة على كونهم موجودين في أمة/ أمية، ولا أظن أن قراءهم مثل قراء “آراجون” أو “إيوار” أو “بوشكين” فهؤلاء آية في الإبداع والخلق الإبداعي.
    – في فاتحة مدينة الغد أهديتم القارئ حروفكم – على مآسيها عذاب بديع – واليوم وبعد هذا العمر – المديد إن شاء الله – في معترك لذة/ ألم الإبداع كيف ترونها؟
    – في الحقيقة لحظات الإبداع هي في ذاتها غائبة عن نفسها وغائبة عن الوجود الذي نبتت في تربته، أو تعلقت بجناحه، ولايدخلها الإنسان وهو يحمل اعتقاداً فكرياً أو فلسفياً، وإنما يجدها تقتحمه بلذة وعذاب، وان عذاب الخلق غير عذاب الموت، فالمبدع يتعذب ليخلق، يحترق ليضيء من رماده، هكذا هي لذة الإبداع وألمه، والإمكان لايكفي وإنما تجسيده وتحريكه وتجربته الداخلية من إنسان الإنسان – داخل الداخل – ومن إنسان الوسط بين المعنى وبين العبارة، وليس كل مايقوله الشاعر أو بعضه دليل على أنه أحس عذاب الحرف وعذاب إنطاقه، غير أن هذا العمل لايخلو من تعب يلذ للقارئ الشعور به في محاولة فهم المبدع، وكما يقول أبوتمام: “فإن طريق الراحة التعب”. وأنا عندما أكتب لا أتقيد ب ماذا سيقال وكيف سيكون أثر كذا.. بل إن المبدع يقع في ورطة الجميل بعض القبض على الأجمل.
    – لا تخلو كتاباتكم وإبداعاتكم عامة من التفلسف والعمق الفكري، فقد جاءت بداياتكم مضمخة بالدهشة والتساؤل والحيرة هل تغتصب الفلسفة أدبكم، أم تنقاد الدفقة الأدبية للفكرة؟
    – بيني وبين الفلسفة صلة أي قارئ، ولم تعد الفلسفة حبيسة الأبراج العاجية والألفاظ المبهمة، وأنا أحب الاطلاع على الفلسفة، وأجدها تفرض نفسها بقدرة وتمكن، ولايمكن أن نجد كاتباً أو روائياً أو أي مبدع دون قاعدة فلسفية، فذوو القاعدة الفلسفية كالمتنبي وأبو العلاء، ودانتي وخليل حاوي وبوشكين الذي قامت إبداعاته على فلسفة “إكسر كل ما يقف هناك، قف وراء المكسور العلي” وهكذا والقاعدة الفلسفية تتجلى في إبداع المبدع ويحتاج لإيصالها والتعبير عنها إلى قدرة وتمكن كأبي تمام، والفلسفة تبقى منصة تعين على الوثوب الشعري على أنها ليست في حد ذاتها عملاً شعرياً وإنما بالحكمة والقياس والتأمل يتكون العمل الشعري، بعيداً عن الجدل أو قريباً منه بما يسمو عن الصراع مابين فلسفة التفسير والتغيير، على نحو ما دار بين ماركس وهيجل، وقد سُئل “جوته” عن رأيه في بناء عمارة ما، فقال “هذه قصيدة صامتة” فالفلسفة جانب مهم من الثقافة.
    – ما يربو عن عشرة إصدارات شعرية رفدتم بها ديوان العرب، وعدد كبير من الدراسات والإبداع النثري.. ماذا بعد “رجعة الحكيم بن زائد” وماجديدكم النثري، وأين وصلتم في مذكراتكم، ستطبعونها – أم ستظل قرينة العم ميمون؟!
    – نعم.. هناك محاولة لإصدار ديوانين أو حتى واحد منهما، فقد تغيرت الأحوال والأهوال حتى أشعرتني أنني لا أدري متى سيكون ذلك؟! فدور النشر كانت تطبع ويغطي البيع نفقة الطباعة. إلاّ أنهم في الفترة الأخيرة قالوا إن الكتاب أصبح غير مستهلك، مما دفع بعض الدُور إلى الطباعة وإنزاله إلى معارض الكتاب وبيعه بكميات هائلة كما فعلت دار الحداثة، خاصة ديوان “وجوه دخانية” و”كائنات الشوق الآخر” الذين يسمونه شعر الشعر، والقضية عموماً تتعلق بالناحية المالية، أما في الكتابة والدراسات فأنا أعمل في ثمرة العمر كله كتاب “الجديد والتجديد في الثقافة اليمنية” من أول الحضارة المعينية إلى الآن ويشمل الشاعر والفنان والفقيه والخطيب واللغوي…إلخ.
    والكتاب يناقش قضايا فكرية وفقهية وشرعية إلى جانب القضايا الإبداعية عموماً، فعلماء اليمن وفقهاؤها أجلاء ومطلعون على الثقافات لاسيما الثقافة الفيثاغورية، والمذكرات تسير بشكل جيد، أما رواية “العم ميمون” فهي مكتملة، لكن الطباعة في علم الله، فقد ضعفت مالياً وجسمياً…، وأنا مدين بحوالي 20.000 دولار تغطي الطباعة جزء منها والحوالات، ولكن مغامرة الطباعة في ظروفي هذه صعبة وما باليد حيلة.

  • 430 الكناية في شعر البردوني ديوان (السفر إلى الأيام الخضر) أنموذجاً دراسة سيميوطيقية

    >  الكناية في شعر البردوني ديوان (السفر إلى الأيام الخضر) أنموذجاً دراسة سيميوطيقية

    دراسة وإعداد: عبد الله حمود الفقيه
    المقدمة:
    لكلِّ شاعر من الشعراء طرائقه في تشكيل النص، كلٌّ حسبَ رؤاه، وأفكاره، وقدرته على الخلق والإبداع، والتعامل مع أنظمة اللغة بما يسمح في إنتاج نصوصٍ تمتطي صهوة الإبداع، ولتسمو وترتفع درجاتٍ عُلا في معراج الشعريّة. والشاعر عبد الله البردّوني أحد أولئك الشعراء العظام، الذين استطاعوا، ببراعة وعبقرية، أن يجمعوا بين الأختين: (الأصالة، والمعاصرة)
    ، مستخدماً تقنيات عِدّة،وأدوات متنوعة، في إنتاج الدلالات الإيحائيّة، وبثّ الشعرية روحاً نابضاً يسري في جسد النص فيهبه الخلود.
    والنظام الكنائيّ أحد الأنظمة الفاعلة في النصِّ الأدبيّ، التي تعطيه حيويّةً وثراءً، وتكثيفاً دلاليّاً وجماليّاً في آن؛ إذ إنّه إقصاءٌ للمعاني المباشرة للدوال،والتحّول عنها إلى دلالات إيحائية عميقة، ما يجعل المتلقيّ يشعر بلذّة في رحلته الفضائية، في الكون النصي ، لاستكشاف تلك الدلالات الغائبة، السابحة في فضائه الواسع.
    ويهدف البحث، فيما يهدف إليه، إلى تسليط الضوء على الصورة الكنائيّة في شعر البردونيّ، من خلال النظر العميق، المتأنّي في ديوانه الخامس: ” السفر إلى الأيام الخضر” ، لمحاولة التعرّف على كيفية إنتاج الدلالة في النظام الكنائي، في الديوان، بالتأمل في الأنظمة العلاقية التي تربط الدوال بمدلولاتها، والسياق القوليّ للنص الكنائي، مستفيدا ًمن معطيات الدرس السيمولوجيّ الذي ” يتركز على فعاليات العنصر اللغوي داخل جملة من السياقات الترابطيّة يحددها البحث في الأنظمة الدلاليّة للشفرات،وكيفيّة إنتاجها للمعنى “،ويقوم ” بتحرير النص من المواصفات والقواعد والقيود عن طريق فتح مجالات الخيال والتفاعل مع إشارات اللغة الشعريّة وعلاماتها “.؛ ذلك أنّ ” السيمولوجيا – كمنهج – نقدي- تطوير للمفاهيم اللغويّة والتقنية والأدبية، لتجعلها قادرة على احتضان التوليفات الإبداعية الجديدة التي تدخل فيها الأشياء في نسيج مع الكلمات، والشخوص لتحقيق عمل إبداعيّ فنيّ “ ولأن الظاهرة، موضع الدرس، قد مثلتْ أحد الملامح الرئيسة في تشكيل البثّ الشعري لدى الشاعر؛ فقد آثر الطالبُ أن تكون موضوعاً للبحث، إضافة إلى ما يفتحه البحث من آفاق رحبةٍ للاطلاع، وتوسيع المدارك القرائية، والمعرفية. خاصة أنّه.. على حد علم الطالب­- لم يسبق أن تناول أحدٌ هذه الظاهرة في شعر الشاعر (البردونيّ) تناولاً متكاملاً، وعلى ضوء المنهج السيميائي.
    وقد واجهتُ صعوبات شتّى في البحث ، لعلّ أهمها عدم عثوري على الكثير من المصادر والمراجع التي تناولتْ الكناية في ثناياها خاصة وفق المنهج السيميائي.
    والحقيقة أني واجهتُ الكناية، وبناءها، في أماكن عدة، أهمها المكتباتْ؛ إذ دائماً ما كنتُ أحصلًُ على المدلول المرجعيّ (اسم المصدر) في الفهرس،لكني أظلُّ باحثاً – في المقابل – على المدلول الإيحائي المغيّب، على مستوى الوجود المادي، في المكتبة.
    ومن الصعوبات التي واجهتها كذلك: الكثافة الإيحائية التي يشكل الشاعر مادتها على أساس من التداخل والتعالق والتعامد العلاميّ، والتراكم المعرفي والثقافي، والتشتتْ الدلاليّ، بحيث يصعب التعرّف إلى دلالاتٍ واضحة أكيدة. وكان تقسيم البحث على أساس من التالي:-

    1.المبحث الأول: ويشتمل على الآتي:
    – تعريف الكناية وأقسامها عند البلاغيين القدماء- العرب- وبعض المحدثين.
    2. الكناية من حيث: البساطة والتركيب.
    3. الكناية من حيث التمركز و(اللاتمركز).

    – خاتمة: تشتمل على أهم النتائج التي خلص إليها البحث.
    – قائمة بالمصادر والمراجع التي أفاد منها البحث.

    وإذ أتمنى أن ْ أكونَ قد وفقتْ في بحثي هذا، أتقدم بالشكر الجزيل إلى أستاذي الفاضل
    د/ عبد الله البار ، الذي أفادنا كثيراً ، من منذ المستوى الأول حتى اليوم ، وسنظل إن شاء الله نفيد منه إلى ما شاء الله.
    وإلى أستاذي أ/ محمد الكميم لما أفادني من مراجع ، ومعلومات قيّمة ، وإلى كل من مدّ يد العون والمساعدة لي ، في بحثي.
    والشكر لله تعالى أولاً وأخيرًا.

    1-1 الصورة الكنائية في الدرس البلاغي القديم: –
    لم يقف الدرس البلاغي القديم عند مفهوم واحد جامع مانع لمفهوم – وماهية الكناية – بل تناهبتها الآراء، وتناوشتها وجهات النظر؛ فتعددتْ – تبعاً لذلك – المفهومات، وتشعبت – تبعاً لتغيير زوايا النظر- التقسيمات والتفريعات،وتعدى الأمر ذلك إلى الاختلاف في المصطلح ذاته، فتنقلتْ بين مسميات عدة ، فمن الإرداف إلى التتبيع والتجاوز،إلى آخر ما هنالك من ذلك، كما اخُتلف في علاقة الكناية بغيرها من الصور البلاغية الأخرى، وتقاطعها وتداخلها معها، وغير ذلك مما يجده المتأمل في كتب البلاغة العربيّة. ولا بأس من الوقوف على عجالة، عند بعض تلك الأراء والنظريات الأشتات.
    – أورد قدامة بن جعفر الكناية بمسمى (الإرداف) الذي أدرجه ضمن ما أسماه ب (ائتلاف اللفظ والمعنى) وعرفها بقوله ” أن يريد الشاعر دلالةً على معنى من المعاني، فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى، بل بلفظ يدل على معنى ردفٌ له وتابعٌ له، فإذا دل على التابع أبان عن المتبوع”، فهي ، على ذلك، انتقالٌ بالمعنى من ظاهر اللفظ إلى مضمره، وهو تاليه، أو ملازمه في المعنى ففي قولهم (بعيدة مهوى القرط)” إنما أراد أن يصف طول الجيد فلم يذكره بلفظه الخاص به، بل أتى بمعنى هو تابع لطول الجيد وهو بُعد مهوى القرط” فثمة تحوّلٌ عن المعنى القريب (المرجعيّ)، الذي يشير إليه اللفظ إشارةً مباشرةً، إلى معنى بعيد (إيحائي) يُتوصّل إليه بواسطة المعنى الناتج عن اللفظ المذكور،(المرجعيّ).
    ومثل ذلك ما ذكره الجرجانيّ في تعريفه للكناية بأنها:
    أنْ يريد المتكلّم إثبات معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود، فيومئ به إليه، ويجعله دليلاً عليه ، فهي
    (الكناية) تلازمٌ بين معنيين،يدلُّ أحدهما على الآخر، معنى تنتجه القراءة الخطية للدال، وهو المعنى الحقيقي، يتمّ تجاوزه- لعدم القصد إليه-إلى المعنى الكنائي، المقصود بالكلام، فالمعنى الأول ليس إلا أداة توصيل، تؤدي بالضرورة دور الوسيط بين اللفظ ومعناه الإيحائي، بسبب من الارتباط الوثيق بينهما (أي: بين المعنى ومعنى المعنى).
    ولعلّ في تعريف السكاكي لها أكثر إيضاحاً؛ إذ يعرِّفها بأنها: ” ترك التصريح بذكر الشيء إلى ذكر ما يلزمه، ليُنتقل من المذكور إلى المتروك كما نقول: ” فلانٌ طويل النجاد، لينتقل منه إلى ما هو ملزومه،وهو طول القامة، وسمي هذا النوع (كناية) لما فيه من إخفاء وجه التصريح”. ولكنّ المختار في تعريفها عند العلويّ في الطراز،”أن يقال: هي اللفظ الدال على معنيين مختلفين، حقيقةٍ ومجاز، من غير واسطةلا على جهة التصريح”. ويظهر من ذلك ارتباط الدال بمدلولين مختلفين من حيث حقيقة أحدهما، ومجازيّة الآخر، ولكنهما على ذلك – متساويان من حيث احتمال اللفظ لهما معاً في القصديّة).
    وهنا تبرز قضيّة أخرى، من القضايا التي ارتبطتْ بالحديث عن الكناية، وانشغل بها الدرس البلاغيّ سنوات طوالاً، تتمثّل في مجازية الكناية، وموقعها بين الحقيقة والمجاز؛ فمن الدارسين من أنكر مجازيتها، كما فعل الفخر الرازي، الذي يرى أنها ” عبارة عن أنْ تذكر لفظة، وتفيد معناها معنى ثانياً هو المقصود، وإذا كانتْ تفيد المقصود بمعنى اللف*ظ فيجب أن يكون معناه معتبراً، وإذا كان معتبراً، فما نقلت اللفظة عن موضوعها، فلا يكون مجازاً “. ويفرّق دارسو البلاغة بين الكناية والمجاز من زاويتين:
    1. أن المجاز لا يحتمل سوى معنى واحد هو المعنى المجازي؛ لوجود قرينة تمنع من إرادة المعنى الحقيقي، على العكس من الكناية التي تحتمل المعنيين معاً.
    2. يُنتقل في الكناية من لازم المعنى إلى ملزومه، وعلى العكس منها المجاز؛ إذ يُنتقل فيه من الملزوم إلى اللازم.
    ومن ناحية تقسيمهم للكناية، فالزوايا عديدة، والتقسيمات مختلفة ، ومن ذلك الآتي:
    1. من حيث المكنّىعنه: وتحته ثلاثة أقسام:
    1-2 كناية يُطلب بها نفس الصفة وهي ضربان:
    أ‌. قريبة: وفيها يتمّ الانتقال إلى المطلوب انتقالاً مباشراً كالانتقال من (طول النجاد)
    – المعنى الأول (غير المطلوب) إلى (طول القامة) المعنى المطلوب – في مثل قولهم عن فلان إنه ” طويل النجاد “.
    ب‌. بعيدة: وفيها تتعدد الانتقالات الدلاليّة بين المعنيين الحقيقي، والمجازي، فنكون أمام سلسلة مترابطة من اللوازم المؤدية إلى المعنى المقصود من التعبير الكنائي الملفوظ، ومثالهم المشهور على ذلك: الكناية (بكثير الرماد) عن الكرم؛ إذ تتضامُّ اللوازم، وتتعدد الإحالات قبل الوصول إلى مدلول (الكرم) في البنية العميقة، فتتكون السلسلة الآتية:
    (كثير الرماد) كثرة إحراق الحطب كثرة الطبخ كثرة الضيوف الجود والكرم.
    1-2 كناية يُطلب بها نفس الموصوف: وتضمّ ضربين كذلك هما:
    أ‌. قريبة: كما في قول الشاعر:
    الضاربين بكلِّ أبيض مخذم والطاعنين مجامع الأضغان
    فقوله: (مجامع الأضغان) صفة يكنى بها عن موصوف تحيل إليه يتمثل في (القلوب) على المستوى العميق.
    ب‌. بعيدة: وفيها تُضم مجموعة من الصفات التي تحدد بجملتها – الموصوف الذي تحيل إليه. كمثل القول عن الإنسان إنه: (حي،مستوى القامة، عريص الأظفار)، فمجموع هذه الصفات تحيل، بالضرورة، إلى الإنسان، طاردةً ما عداه من الكائنات.
    3-1 كناية يُقصد بها تخصيص الصفة بالموصوف، وهي ما أُسميتْ ب (كناية النسبة):” ويراد بها إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه”. ومنها قول زياد بن الأعجم:
    إن السماحة والمرؤة والندى في قبّةٍ ضُربتْ على ابن الحشرج.
    فالشاعر أراد أن ينسب، أو يثبت للممدوح كل تلك الصفات فنسبها- بمجموعها – إلى قبّة مضروبة عليه. ومثل ذلك قولهم: ” المجدبين برديه “، إذ نُسب إلى الموصوف المجد، وأثبت له، بجعله بين بُرديه، توصلاً بذلك إليه.
    وفي هذا النوع ينتفي المعنى الحقيقي من دائرة القصديّة، ولا يبقى إلا المعنى المجازي، وهو ما يتعارض مع اشتراطهم إرادة المعنيين، الحقيقي والمجازيّ، في بنية الكناية، ولربما لاحظ ذلك عبد القاهر الجرجاني الذي اعتبرها من المجاز الإسنادي” 2. من حيث الوسائط: قُسمتْ إلى الآتي:
    1-2 التعريض: ومن تعريفاته عندهم: أنه ” ما أشير به إلى غير المعنى بدلالة السياق، سواءً أكان المعنى حقيقة أو مجازاً أو كناية”. فهو – على ذلك – ليس خالصاً للكناية وحدها إذ قد يكون كنايةً، وقد يكون حقيقة،أو مجازاً، كذلك، والسياق وحده من يحدد مرجعيّته، فإذا كان السياق مبنياً على الحقيقة كان المعنى التعريضيّ حقيقياًومثلوا لذلك بقولك عند المؤذي: ” أنا لستُ بمؤذٍ للناس ” فإنّ ذلك يُنتج معنىً أوليّاً، هو أن تنفي أذى الناس عن نفسك، ولكن دلالة القياس تُسهم في إنتاج معنى آخر،تعريضيّ يتمثّل في إثبات مانفيته عن نفسك فيمن تكلمتَ به عنده. وإذا كان السياق مجازيًّا كما في قولك: ” أنا لستُ طاعناً في عيونهم” فالمعنى الناتج عن الصياغة اللفظية (نفي طعنك في عيونهم)، والمعنى المراد، نفي أذاك لهم باستعارة (الطاعن في العيون) للمؤذي، ويُشار بالسياق إلى كون من تكلمت عنده مؤذياً أيضاً.
    وقد يكون السياق كنائيّاً كما في مثل قولك” المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده” إذ تُنتج الصياغة معنى حقيقياً هو انحصار الإسلام في الموصوف،ومعنى كنائياً هو انتفاء الإسلام عن المؤذي مطلقاً، وينتقل منه سياقياً إلى نفي الإسلام عن المؤذي المُعّرض به حال القول.
    والمتأمل في الأمثلة السابقة يمكنه أن يلحظ بجلاء، أنها في مجملها، داخلةٌ تحت المفهوم الكنائي، إذ ينتقل بالمعنى من دلالته المرجعيّة إلى الدلالة الإيحائية عن طريق القياس، وقصدية المتكلم. وفي المثال الثاني بالتحديد، المدرج تحت بنية التعريض المجازي، يبدو الخلط واضحاً بين الكناية والمجاز(الاستعارة)، حسب تحديدهم لكل منهما، إذ لا قرينة تمنع من إرادة الحقيقة سوى قصديّة المتكلم، فهو على ذلك، أدخل في مفهوم الكناية؛ إذ يشير السياق الملفوظ (الخطي) إلى الأذى بالطعن في العين كنائياً،ثمّ تقوم البنية كاملة علامة تشير عبر السياق الخارجي­ – إلى إلصاق الصفة(الأذى)، التي نفيتها عن نفسك في البنية السياقية المقالية ؛ بالمُعرّض به.
    2-2 التلويح: ويصطلحونه على ما تعدّدتْ فيه الوسائط بين اللازم والملزوم، كما في قولهم المشهور:” كثير الرماد”. 3-2 الرمز: ويطلقونه على ما قلّتْ فيه الوسائط مع خفاء اللزوم نحو رمزهم للقسوة بـ
    (غليظ الكبد).
    4-2 الإيماء والإشارة: وهي ما قلّتْ وسائطها من الكنايات مع الوضوح كما في قول البحتري:
    أو ما رأيت المجد ألقى رحله في آل طلحة ثُمّ لم يتحوّل
    وللمتأمل في كتب البلاغيين أنْ يلحظ أنّ تحليلاتهم للكناية بقيتْ ” تدور في حلقة تسميتها – الكناية أو تجاذبها بين المجاز والحقيقة، أو قضيّة الإسناد والأقيسة المنطقية واللازم والملزوم.. دون الالتفات إلى بيان السياق القولي للنص الكنائي”. وذات الأمر يمكن ملاحظته بجلاء في الدرس البلاغيّ الحديث- أو على الأحرى، في بعض الدراسات الحديثة للبلاغة – عند العرب – ؛ إذ تظلّ على الرغم من محاولة تحديثها، تدور في ذات الفلك من المفاهيم والتقسيمات والتجزيئات، وحتى في نفس الأمثلة في الدرس القديم، فتُعومل معها على أنها أيقونات، وبني ثابتة غير قابلة للتغيير والتبديل، فاكتسبتْ انغلاقاً دلالياً، أثر سلباً على قيمتها الدلالية.
    فوظيفة الكناية الأساسية هي إثبات وتقرير المعنى الإيحائيّ ” عن طريق تدخل العقل في استخلاص اللازم من الصياغة” ولأن النظر إليها لم يخرج عن إطار علاقة اللزوم المنطقي بين معنيين: حقيقي ناتج عن القراءة الأولى للدال، ومجازي ناتج عن التحوّل من المعنى الحقيقي إليه عن طريق اللزوم بينهما، مع جواز إرادة الأول لعدم وجود قرينة مانعة؛ فقد ظهر” أن علاقة اللزوم في غير واضحة، ومن هنا اعتبرها عبد القاهر الجرجاني من المجاز الإسنادي… “، ومع هذا فهي إحدى أنواع الكناية، كما أنّ الفرق بين التعريض والكناية هو أنّ الكناية ” تقوم على استخدام اللفظ في اللازم مع جواز إرادة الأصل” بينما ” التعريض: أنْ يفهم من اللفظ معنى بالسياق من غير قصد استعمال اللفظ فيه أصلاً “ مع أن التأمل في بنيتي الكناية والتعريض يُظهر أنّ كليهما يومي إلى شيء آخر، وتظلُّ القصديّة متجهة نحو المعنى المجازي، في كليهما، متجاوزة حدود الملفوظ، وإلا بقيتا عند حدود الحقيقة، والحكم في كل ذلك راجعٌ إلى السياق، فهو وحده الذي يحدد المعنى المراد، ففي استخدام كنايات من مثل:
    (كثير الرماد)أو (طويل النجاد) في عصر البوتوجاز والتقنيات والتكنولوجيا الحديثة،إقصاء للمعنى الحقيقيّ، وتجاوز له إلى المدلول الإيحائي وكذلك الأمر في كتايات النسبة، التي تتشكل على أساس من تداخل الصور، وهو ما يوضحهُ ويبرزه النظر العميق في السياق. فالدلالة الكنائية- على كل حال- لا تكتسب قيمتها سوى من سياقها المتموضعة فيه.
    2-1 الكناية في النقد الأوربي الحديث(السيميائي):
    تتموضع الكناية، في الدرس البلاغي العربي الحديث، في إطار علاقتي التجاور والتداعي؛ إذ الكناية كما يرى دي سوسير ” امتدادية أو تتابعية، وتستثمر العلاقات الأفقية للغة” ويتجلى ذلك بوضوح أكثر في نظرية جاكوبسون الدلالية، التي وضعها في حديثه عن الحبسة” القائمةعلى اختزال الوجود البلاغيّة في علاقتي التشابه والتجاور، إذ تتألف هاتان العلاقتان من عملية الإزاحة الحاصلة في كل من المحورين الاستبدالي (العمودي) والسياق (الأفقي)، فالاستعارة تقوم على الإبدال اعتماداً على المشابهة والمشاكلة، على حين يعتمد المجاز المرسل والكناية على الإزاحة القائمة بين التجاور والتداعي”. وفي نموذج هنريش بليث السيميائي تأخذ الكناية موضعها، مع الاستعارة، تحت مسمى
    (الصورالدلالية، أو الميتا دلالية) المنضوية في إطار الصور المعتمدة على الانزياح في التركيب، وهي (الصور السيمو تركيبية)، وتجمع – لديه – الكناية، ” عدداً من التعويضات القائمة على المجاورة التي تعرف في الأسلوبية المعيارية باسم: المجاز المرسل (sunesdoque) (الجزء الكل، النوع- الجنس- المفرد- الجمع)، وتعويض الاسم الشخصي باسم الجنس والعكس(antonomase) والكناية(metonymie) (السبب ، المسبب ، المساحة ، الحجم ، الزمن ، المدة). وذهب إلى مثل ذلك ” جورج لا كوف ، ومارك جونسن في كتابيهما (الاستعارات التي نحيا بها) حيث يستخدمان مصطلح (الإحالة) بدلاً من (التعويض)، فهما يُعرِّفان الكناية ب (استعمال كيان معين للإحالة على كيان آخر مرتبط به ” وشبيه بذلك ما ذهب إليه (أو لمان) الذي أدرج ” الكناية (أو ما أسماه البيانيون العرب بالمجاز المرسل)، في النقول الناتجة عن المجاورة التي يمكن أن تكون فضائية- كدلالة (المكتب باعتباره أثاثاً على القاعة التي توجد فيها أو زمنية – كتسمية صلاة (المغرب) باسم الزمن… الخ”. ومن السيميائيين العرب الذين أخذوا بمثل ذلك، محمد مفتاح إذ يرى ” أنّ المجاز المرسل يصير حالة خاصة من الكناية؛ لأن كلاً منهما يحتوي على علاقة بين شيئين اثنين، وإذا صحّ هذا – فإن كثيراً من العلاقات المنسوبة إلى المجاز المرسل هي علاقات الكناية” على الرغم من وجود فوارق بينهما، الأمر الذي استدركه فيما بعد. ويرى عادل فاخوري: أن معظم الاتجاهات في دراسة الدلالات قد اتجهتْ نحو التركيب العمودي لها، وعلى ذلك ف (ثمّة جانب أفقيّ لم يول بعد الأهمية التي يستحقها، فالمدلولات (م) لا تتعلق فقط بالعلامات الفردية(ع1 أو ع2 أو….ع د) ، بل أحياناً ما تلحق بمنظوم ما من العلاقات وفقاً للتركيب النحوي، وقد تتداخل عدة توابع Function دلالية بالنسبة لمنظوم ما. فعدم الأخذ بعين الاعتبار لتراكب التوابع أو الوظائف الدلالية قد يؤدي إلى سوء الفهم والخلط بين الصور البيانية”على ذلك يمكن القول: إن دراسة البنية الكنائية في نصٍّ ما يُحتِّم عدم اجتزائها من سياقها الواردة فيه، والنظر إليها من خلال موقعها وعلاقاتها بغيرها من العلامات في إطار السياق النصِّي، ليُمكن فيما بعد” تتبّع إنتاج الدلالة الشعريّة وعوامل تولّدها بالتعرّف على هذه البنية وتحديد رموزها لإدراك كيفيّة قيامها بوظائفها السيميولوجية” 1-2 البساطة / التركيب:
    الناتج الدلالي في النظام الكنائي قد ينتج مباشرة عن البنية الكنائية دون المرور بانتقالات، وإحالات عدة عبر نواتج دلاليّة سابقة للمعنى النهائي المقصود في البنية العميقة، وهو ما أطلق عليه دارسوا البلاغة العربية بالكناية القريبة، ولكنّه في مواضع أخرى يتجاوز ذلك التركيب البسيط، ليصبح القارئ أمام شبكة دلاليّة تتعدد فيها الانتقالات الدلاليّة عبر البنية السطحية للوصول إلى الدلالة النهائية.
    ” ونستفيد هنا من قراءة (بيرس) للعلامة، حين تحدّث عن العلاقة المركبة التي تدّل على موضوع ما، وتعبيرها حين يستنطق ذهنياً متلقي العلامة ثم يحيله إلى تعبير آخر (ذهنياً) وهكذا….”. والبنية الكنائية كما في الديوان كما تتجلى بسيطة تتجلى مركبة. أما بساطتها ففي مثل قوله:
    (ما استعرتُ غير جبيني) إلى المدلول الإيحائي في البنية العميقة، المتمثل في دلالات الشموخ والعزّة ،والثانية إلى دلالات البقاء على الأصل وعدم التغيّر، فيتم التحوّل المباشر من دلالة المطابقة إلى الدلالة الإيحائية كالتالي:
    دال مدلول أو ل (مطابقة) مدلول2 إيحائي
    ما استعرت غير جبيني لا أمتلك سوى الجبين الشموخ والعزة.
    ما حملت غير سماتي لم أحمل سمات الآخرين الأصالة؛

    وتبدو بسيطة التركيب كذلك في قوله:
    كيف أقضي ديني، وليس ببيتي غير بيتي، ومعزفٌ غير شادي.
    فالبنية الكنائية(ليس ببيتي غير بيتي) تحيلنا إلى مدلول الفقر والعجز المجاور لخلاء البيت من أيّ شيء سواها، وهو ما تنتجه القراءة الأولى للدال، قبل التحوّل منه إلى المدلول الإيحائي العميق.
    وتتشكّل الدلالة هنا عبر الترابط التماسي بين الدوال في السياق النصيّ الكنائي القائم على التشاكل والتباين بينها في المستويين السطحي والعميق فالنفي في (ليس) يخالفه على المستوى السطحي الاستثناء في(غير)، إذ يقوم الاشتثناء – في الأصل – بتحجيم عمومية النفي قبله ونفيها، ولكنه في المقابل يشاكله دلالياً على المستوى العميق؛ إذ تتجذر، وتؤكّد عمومية النفي بدلالة الاستثناء، ويتضح تخالف آخر في المستوى العميق إذ يقوم التماثل الفونولوجي، سطحياً، المتجلي في الدال(بيت)المضاف إلى(ياء المتكلم)؛ بكسر مركزية التركيب في أصل الوضع، حيث إن الأصل تخالف ما بعد أداة الاستثناء وما قبلها، ولكنّه أعاده بذاته.. ليصبح كل ذلك بؤرة دلالّية تنطلق من الدلالة الكنائية، ويسهم في تكثيفها دلالياً وجمالياً، يتراسل مع ذلك الكناية في قوله
    (معزف غير شادي)؛ إذ يقوم السياق القولي بنية كنائية توحي بالعجز وما ينتج عنه من أسى وألم وحزن.
    وعلى كلّ حال” فإن استقراء آلية” الكناية” والبحث عن معنى المعنى والقبض على المدلولات الكامنة وراء الظاهر لا بد له من قراءات أولية تستحضر:الشاعر والظرف والنص العام والبنية الإفرادية والتركيبية للنص واستحضار الموقف الفكري والبعد النفسي، ثم تأتي القراءة الثانية القائمة على الاستبطان والاستكشاف لمختلف الطبقات الدلالية البعيدة والقريبة لبنية الكناية، إلا أن ذلك لا يمنع من الوقوف أولاً على الدلالات المعجمية المباشرة الأولى (للصورة الكنائية) ففي قوله في قصيدة (صنعاء في طائرة) ومثلي؛ أنا صرتُ عبد العبيد وأنت لكل الجواري وصيفة
    يقوم المقول النصي(صرتُ عبد العبيد) بإنتاج دلالة كنائية عبر علاقة السببية تتمثل في المهانة والذل والخضوع، ويسهم السياق الذي يتموضع فيه التعبير الكنائي بتكثيف الدلالة الإيحائية/، فنجد الدلالة المعجمية للفظة (عبد)المتلازمة ومعنى الخضوع والاستسلام والذل، يكثفها إضافتها إلى الاسم المعرف الجمعي(العبيد)، ويوحي فعل الصيرورة بالانشطار الزمني والتحول المعنوي بين زمنين، ماضٍ يغيّبه النص، ويستوحى منه إشراقه وزهوره، وحاضر متبدّل متغير تفقد فيه الذات حريتها وتُصادر كرامتها، وتُمتهن عزّتها، ما يّولد لديها الأسى ، ويُعمق الشعور بالذل والهوان، والألم النفسي الحاد؛ جراء الانتقال من الحرية إلى العبودية، بل وعبودية العبيد، وينهض- إلى جانب ذلك- التشاكل الصوتي؛ الناتج عن الترابط التماسي بين المضاف (عبد) والمضاف إليه (العبيد)، ليقوم بتوسيع دائرة العبودية حتى لتكاد تشمل جميع العناصر الواقعة تحتها. ومثلها الكناية في عجز البيت (وأنت لكل الجواري وصيفة).
    وإذا تجلى النظام الكنائي في الأمثلة السابقة، وأمثالها في الديوان، بسيطاً يومي الدال فيه إلى مدلوله إيماءً مباشراً دون الحاجة إلى وسائط تتناقل الدلالة محيلة الذهن إلى الدلالة النهائية في البنية العميقة، فإنه في مظان أخرى، في الديوان، يبدو معقداً، مركباً، تحيل فيه العلامة إلى مدلول يصبح بدوره علامةً أخرى تحيل إلى مدلول آخر… وهكذا فتنتقل الدلالة الإيحائية عبر قراءات علاميّة، متتابعة إلى الموضوع المحال إليه في البنية العميقة.
    مثل ذلك يمكن أنُ يُلمح في قوله كناية عن الشقاء: ” أمُّه من سورة المسد”؛ إذ تستدعي العلامة الكنائية، عبر بنية التناص، من القرآن الكريم (سورة المسد)، وبواسطة الدال (أمّه) يخصص الاستدعاء في الآيات التي ذكرت المرأة والتي هي (وامرأته حمالة الحطب، في جيدها حبلٌ من مسد) ، ويؤخذ من الأولى (حمل الحطب) ومن الأخرى (حبل المسد) الذي هو” الحبل المضفور المحكم الفتل”، ما يحيل إلى الشقاء والعذاب، بكل ما فيهما من إيحاءات دلاليّة ونفسية، فتتلاقح الدلالات ، وتتعدد الإحالات، ما يمكن تشكيله على نحو من الشكل التجريدي الآتي:
    علامة / (أمّة من سورة المسد) ” وأمرأته حمالة الحطب/ في جيدها حبلٌ من مسد ”

    موضوع / حمل الحطب حبل المسد في جيدها
    (الشقاء – العذاب) (بنية عميقة)
    وكذلك هي في قوله:
    التابعون بلا رؤوس والملوك بلا رعيّة. ففي البيت كنايتين مركبتين لا يحيل الدال فيهما على مدلوله مباشرة، بل تتعدد الوسائط، وتتجاور الدلالات، وينتفي التساوي بين المدلول المرجعي في البنية السطحية، والمدلول الإيحائي في البنية العميقة.في الشطر الأول تقوم المقولة اللغوية (التابعون بلا رؤوس) علامة سيميائية، تنظفر فيها الدوال وتتضام في إنتاج الدلالات؛ إذ تنطلق الدلالة من دخول عنصر النفي التحويلي (بلا) على الاسم الجمعيّ المنكر(رؤوس)، الرامز عرفيّاً إلى (الأدمغة) (العقول) – التي هي علامةٌ على التفكير، والتفكير بدوره علامة على إنسانيّة الكائن الحيّ؛ إذ يقوم- العنصر التحويلي (بلا) بهدم كل تلك الدلالات، مما يمنح دلالات مغايرة يؤدي إليها ذلك الهدم، من مثل: الحيوانيّة، والصنميّة، المجاورة لدلالات الغباء وسهولة الانقياد مجازيّاً، وينهض بدوره علامة على التبعية العمياء والعبودية والخضوع سبباً ، وهو مؤشر علاميّ على بقاء الحال، واستقراره، على ما هو عليه، وانعدام الأمل في التغيير،على هيئة من الشكل الآتي:
    دال (التابعون بلا رؤوس)
    مد 1 تعطلتْ عقولهم
    مد 2 لا يفكرون
    مد 3 الحيوانية- الصنميّة انعدام الأمل في التغيير وبقاء الحال على ما هو عليه
    مد 4 الغباء
    مد 5 سهولة الانقياد
    مد 6 استمرار التبعية – العبودية

    يتراسل مع ذلك البنية الكنائية في الشطر الثاني من البيت: (الملوك بلا رعيّة)؛ إذ تنطلق الدلالة من بنية التناقض في السياق- أو التضاد على الأحرى- بين دلالة الملوك الأصلية،ودلالتها السياقية فالملوك في الأصل، حكامٌ على شعوب، ومسؤولون عن رعيّة، وانتفاءُ الرعيّة عنهم، ما يؤديه عنصر النفي التحويلي يعني الانفصال، والانفصام بين متلازمين (الملوك والرعيّة)، وما دام ” الحاكم راع، ومسئول عن رعيته “، فانفصاله، وتفرده يعني التخلي عن مسئوليته، ما يوحي بالتمزق والشتات فانفصاله، وتفرده يعني التخلي عن مسئوليته، ما يوحي بالتمزق، والشتات والضعف من ناحية، والظلم المؤدي إلى تثبيت الوضع على طبعيته تلك من ناحية ثانية، ويمكن تمثيل ذلك بالشكل الآتي:
    الدل (المستوى سطحي) مد 1 مد 2 مد3 ” مستوى عميق ”
    التمزق – الشتات- التيه –الضعف – الظلم – الدكتاورية – ثبات الموضع

    (الملوك بلا رعيّة العزلة ” الانفصال) تخلي الحاكم عن مسؤوليته
    بين الحاكم والمحكوم
    فالناتج الدلالي الكنائي يمر بمراحل متتالية قبل أن يصل إلى البنية العميقة، عبر علاقات التجاور والتداعي، والملاحظ أن البنية الكنائية، هنا لا تحيل على بنية دلالية ثابته متمركزة في مدلول محدد ، بل تنفرط عن عقد التمركز، وينزلق الدال إلى مدلول غير محدد، فتنفتح الدلالات وتتعدد القراءات وفق ثقافة ورؤية القارئ.
    وتظهر مركبة متجاورة الدلالات في قوله:
    غزاةٌ لا أشاهدهم وسيف الغزو في صدري
    فالسياق الكنائي يُنتج مدلولاً هو الإحساس بالألم دون معرفة المصدر، ليصبح علامة تشير إلى دلالات متجاورةهي ، خفاؤهم وعدم ظهورهم ما يحيل إلى صعوبة التعرف عليهم والإمساك بهم وبالتالي صعوبة القضاء عليهم، ما يعني انتشارهم واستفحال خطرهم وقوتهم ما يشير إلى خطورتهم البالغة فالبنية الكنائية تتجاوز حدود المدلول المرجعي ، لتوغل في مزيج من العلامات المؤشرة إلى دلالات متجاورة مترابطة مع بعضها بعلاقات الاستدعاء والتجاور. وقد يتجلى النظام الكنائي متداخلاً، متراكباً، يشكله دلالياً، مزيج من العلامات والمؤشرات الرمزية التي تحيل، بكل ما تحمله من شحنات وطاقات دلالية إيحائية، إلى (السيمة) (الوحدة الدلالية الكبرى) في المستوى العميق. من ذلك ما يوحي به قوله:
    وتقل براميلاً تسطو تحت الأضواء ولا تُسجن.
    تتحرك الدلالة الكنائية من الدال (براميلاً) باعتباره مؤشراً رامزاً يشير إلى كل ذات فارغة من المبادئ والقيم الإنسانية، ما يجعلها خواءً قابلاً للامتلاء بأي شيء، بل ساعياً إليه بنهم لا يحد، وعبر السياق الاستعاري يرتبط الكيان السابق، بكيان كنائي آخر يتمحور في قوله (تسطو تحت الأضواء) الذي يُنتج مدلولاًمرجعيّاً على مستوى الكتابة، هو الشهرة والظهور، ويقوم الدال
    (تحت الأضواء) بؤرة دلالية في إنتاجه، وعبر علاقة الأثرية – (من حيث علاقة الدال بالمدلول)، يتحول منه إلى المدلول الإيحائي المتمثل في اللامبالاة، وعدم الخوف المتعالق مع دلالة هيبة الآخرين، وضعفهم عن عمل أي شيء، بما يشبه المُقدمة والنتيجة، إذ عدم الخوف نتيجة لمقدمة هي هيبة الآخر وضعفه، وهو بدوره ، نتيجة لسلطة (البراميل) ونفوذهم، يجاور ذلك على المستوى الأفقي كتابياً، ما ينتجه التضاد، على المستوى الخطي، بين الكيان الكنائي (تسطو تحت الأضواء) المقدمة، والكيان (لا تُسجن) النتيجة؛ فهو يحيل إلى غياب القانون، وضعفه، الأمر المؤدي لا نتشار الظلم، ونقل المجتمع من (الكون الإنساني) إلى (الكون الحيواني)، ليتواشج كل ذلك مع بعضه مكوناً علامة توحي بالطبقية في المجتمع. ويمكن توضيح ذلك بالترسيمة الآتية:
    علامة/ (براميلا) (تسطو تحت الأضوء) ولا (تسجن)
    (أثر)
    طبقة نهمة فارغة عدم الخوف/ اللامبالاة (أثر)
    من المبادئ والقيم هيبة الآخر غياب القانون (سبب)
    موضوع (بنية عميقة.

    أثر نفوذهم وسلطتهم الظلم (الطبقية)
    ومنها ما يسهم في إنتاجه السياق التركيبي اللغوي للدوال، وإيحاءاتها سياقياً ما يمكن ملاحظته في مثل قوله:
    فهنا إقطاعيٌ دسم وهنا إقطاعيٌ أسمن
    فالتشاكل والتخالف على المستوى المورفولوجي والتركيبي في البيتين بؤرة تنتج عنها، وتتكثف، المدلولات الكنائية، متجاوزة حدود المداليل المرجعيّة، فالتشاكل في الصفة (إقطاعيٌ)، والاختلاف مورفولوجياً في الصفتين (دسمٌ) و(أسمن)؛ إذ جاءتْ الأولى على صيغة (فَعِلٌ)الإفراد، والثانية على صيغة (أفعل) التفضيل والتكثير ، وكلاهما تحيلان إلى الغنى والثراء، لكن التمايز اللفظي في الصيغة، معنوياً أنتج تمايزاً آخر في الثراء ونسبته بينهما ما يوحي بالتدرج العمودي كالتالي: أسمن أثرى

    دسم ثري
    وعبر مبدأ النقيض، يوحي السياق بتمايز آخر يتمثل في (فقير (أفقر) ليصبح التدرج كالآتي:ك
    أثرى

    ثري

    فقير

    أفقر
    ما يحيل إلى فكرة الطبقية، بكل ما تحمله من شحنات تعبيرية ودلاليّة. وقس عليه السياق الكنائي في قوله في قصيدة (ابن فلانه) على لسان الذات المتكلمة في النص:
    وإذا لاحظوا قميصي جديداً رددوا: فوق ركبتيها خزانة.
    فالمقول اللغوي(فوق ركبتيها خزانة) ينهض علامة كنائية سيميائية تتشكل من الترابط التماسي بين الدوال الرمزيّة المنضوية تحت المقول النصي الكنائي الكلي، إذ يقوم الدال (خزانة) علامة كنائية تشير عبر علاقة الاحتواء إلى مدلول أول هو الأموال لكنها لا تقف عنده؛ إذ يصبح هو الآخر مؤشراً رامزاً للثراء، عبر علاقة التجاور والتداعي، ويقوم الدال (ركبتيها) مؤشراً رامزاً إلى البغاء، لتتآزر كلها وتتواشج لتصبح المداليل السابقة دالاً واحداً ينتج دلالات متجاورة هي الثراء والتكسب عن طريق البغاء، ليقوم السياق كاملاً بإنتاج بنية تعريضية تنتج دلالات الاحتقار والازدراء، وهو مايمكن تشكيله على نحو من الآتي:
    رددوا: فوق ركبتيها خزانة

    تجاور احتواء
    المال
    (البغاء) (الثراء)
    التكسب والثراء عن طريق البغاء
    تعريض
    الاحتقار والازدراء
    فالتركيب في النظام الكنائي، ناتجٌ عن ذلك التداخل والتقاطع والتعامد بين كيانات علاميّة مترابطة في السياق القولي للنص الكنائي، وهو ما يقوم بتكثيف الدلالات الكنائية، ويعطيها حركيّة دائمة تُبعد البنية الكنائية عن النمطية والنمذجة،؛ مايجعلها ترتفع في سلم الشعرية درجات؛ إذ ” إن جمالية النظام اللغوي في النص الشعري يعتمد على مبدأ الخرق الدائم لقواعد النظام اللغوي المعياري المألوف “.
    لأن البنية الكنائية- بوصفها علامة سيميائية – لا قيمة لها في ذاتها، بل بارتباطها بغيرها من العلامات داخل السياق الواردة فيه؛ فدراستها تقتضي تتبع البنى المشكلة للدلالة في السياق النصي فيها داخلياً، وعلاقتها بغيرها من العلاقات خارجياً، ومن ذلك يمكن تتبع كيفية تشكل الدلالة في النظام الكنائي من خلال السياق الكلي المتموضعة فيه. والنظام الكنائي في الديوان (موضع الدرس) يقوم على أساس من الارتباطات والتواشجات الدلالية بين البنى المختلفة القائمة في كثير من الأحيان، على النقض الدائم للتمركز الدلالي، ما يعطي لفكرة الاعتباطية أساساً،يجعل المتغير ينفتح على دلالات مختلفة، ما نجده في مثل قوله:
    عرفت من أنت يا عمي: تلال (بنا) عيبان أثقله غابٌ من البرد
    فالدلالة الكنائية هنا تنهض عبر اندغام عدة عناصر أسلوبية تقوم بوصفها علامات سيميائية، بتكثيف الدلالات الإيحائية للمدلول في النظام؛ إذ يسهم تواشجها، وتعالقها بإحداث فجوات دلالية بين الدال والمدلول تعطيه شعريته وجمالياته.
    تتحرك الدلالة على مستوى الكتابة في النص من الدال (عيبان) الرامز وفق السياق العرفي إلى دلالات متجاورة منها: الشموخ والعزة والقوة والصمود والثبات، ما يولدها الموقع المكاني الجبلي الشامخ المتجذر في عمق الأرض من ناحية ، وارتباطه تاريخياً بالحدث العظيم
    (الثورة)، لكن السياق يسهم في نقض مركزيته تلك بسلبه تلك الصفات من خلال إسناده إلى جملة تتموضع في إطار الاستعارة المكنية التي تنقله من دلالته الحسية على الجماد الذي من مقوماته
    بمنحه مقومات عرضية تخص (الكائن الحي) التي منها ثم يقوم المستعار الفعلي (أثقل)المتعدي ، بسلب فاعليته، وقدرته على الفعل، الأمر الذي يَسِمُه بالضعف والإنهاك، ومما يزيد في تكثيف كل ذلك إسناد الفاعلية للدال (الغاب) الذي يحيله السياق الاستعاري(بكل ما يحمله من طاقات تعبيرية تدل على الكثافة والتشابك والكثرة)، شيئاً مادياً يُجمع فيحمله(عيبان) ويثقله. وإذا كان من دلالات الغاب الخير والنماء،لارتباطها بالأشجار، فإنه يقوم بنقضها ، بجعلها (من البرد) التي ترمز للجمود والبرودة والجدب، بارتباطها بالشتاء، وإلى جانب ذلك يقف الجانب اللغوي في إنتاج الدلالة وتكثيفها، فتقوم الجملة الفعلية ذات الفعل الماضي (أثقله) بمنح دلالة الجمود والثبات والسكون، إضافة إلى الإيحاء المعنوي، في الفعل (أثقل) بالتعب والإنهاك والضعف والإعياء، وعدم القدرة على الثبات، وتعطل الحركة، يتراسل معه الدال (الغاب)، الذي جاء في بنية القول بصيغة جمع التكسير موروفولوجياً، إذ يوحي بدلالات الكثرة، والكثافة والضياع، والوحشة، ناهيك عن أنها وطنٌ للحيوانات المفترسة والمؤذية للإنسان، ومعه تتواشج دلالات (البرد) على الجفاف والجمود، وانقطاع التواصل، ومما يعمق دلالات التعب وعدم القدرة على الحركة، (من ناحية أخرى) حركية الدوال العمودية من أعلى إلى الأسفل، فالفعل(أثقل) تتحرك فاعليته دلالياً من أعلى لأسفل، ما يدل على السقوط، ومثله (الغاب) في علوه وارتفاعه وكثافته، وتجذره في الأرض، فالغابة: (الأجمة ذات الشجر الكثير المتكاثف) يتراسل معه (الَبَرد) في حركته الرأسية كذلك ، وكل ذلك ينضفر، ويندغم مع دلالات السقوط، والتعب والإعياء والانهزام، والضعف، وانعدام القدرة. ما يشف عن أن الدلالة الكنائية لا تنتج ذاتياً، بل بارتباطها بالسياق النصي، ولأن المدلول يتجاوز حدود فرادة الدلالة، والارتباط الكسول بالدال، فقد يُذهب إلى أبعد من تلكلم الدلالات المتجاورة؛ إذ يقوم ارتباط (عيبان) بالثورة بالإحالة سياقياً إلى جمودها وسقوطها، وعدم قدرتها على التغيير، وينتج دلالة بقاء الأحوال على ما هي عليه، واستواء الزمنين: السابق واللاحق لها ، ما يؤدي إلى سوداويّة الواقع، وثبات المأساة.
    التمركز / اللاتمركز:
    مثل النظام الكنائي في الدرس التنظيري بنية ثابتة، يرتبط فيها الدال بمدلولين كلاهما تستهدفه القصدية، أولهما، وهو المدلول المرجعي، يتعالق تعالقاً مباشراً مع الدال، فالعلاقة بينهما علاقة
    (مطابقة) وثانيهما المدلول الإيحائي المُتحوّل إليه من الأول ، ويرتبط عبر الأول مع الدال بعلاقة (لزوم) ” فالكناية إحالةٌ في نظام (البنية) وارتباطٌ بمغزى آخر، عندما تقول الكلمات شيئاً وتبغي شيئاً آخر، يختفي وراءه..” فسياج النظام الكنائي، بنية ثابتة لوجود ملموس، وحوادث معاشة لعمليّة خلق الفكرة، إنه بنية مستقرة ونمطٌ ثفافيٌ أو اجتماعي – بيئي – محدد يفرض علينا أعرافاً لغوية تتحوّل بدورها- رغم تغيرات بنيات المجتمع – إلى تعابير جاهزة محددة في قيمتها المضمونية وفق أوجه انبثاقها إلى وجود ملموس “ على ذلك تبدو فكرة التمركز الدلالي واضحة جلية؛ إذ تصبح العلاقة بين الدوال ومدلولاتها، علاقة وثقى لا انفصام لها، فما إن يُذكر الدال حتى يتداعى للذهن المدلول الإيحائي، عبر التوصيفات الدلالية بينهما، والمناطة قسراً بالدال، فمدلول الكرم في النظام الثقافي العربي بنية ثابتة، يحيل إليها، عبر التوصيفات المعروفة، الدال(كثير الرماد)، أو دال (بسط الكف) أيقونياً، فبقيت على ذلك دوالاً ثابتة الإحالات، متمركزة المدلولات.
    ومن تلك البنى الثابتة: الندم والحسرة التي تنتج عبر التماس الدلالي بين دالي (عض اليدين)، فهي كناية مشهورة متوارثة، ونجدها بذاتها في الديوان في قصيدة” من بلادي عليها” في قوله:
    قل لها قبل أن (تعض يديها) هل غرام الذئاب يحلو لديها
    فالترابط التماسي بين فعل العض والمفعول (اليدين) يحيل إلى مدلول الندم والحسرة، بنية عميقة عبر حركة (عض اليدين) علامة أيقونية (تصويرية) على مستوى البنية السطحية.
    كذلك الحال في الشطر الثاني من البيت ، ففيه تشكل كنائي يسير عبر بنية التناص الكنائي الرمزي ، في خط دلالي واحد مع المورث الثقافي في البنية الكنائية، ما يسهم في بلورتها تحت دلالة ثابتة يقوم الدال بالإحالة إليها سلفاً، فالذئب في النظام العرفي مؤشر رمزي لمجموعة من السمات والصفات، التي هي في الأصل مقوماتٌ عرَضيّة ” ناشئة بحكم الاعتقاد والعرف، مثل:
    ، ، ، .”.
    فأصبحت بنيات ثابتة مرتبطة لزومياً بالدال (الذئب).
    والنظرة التأمليّة في ديوان البردوني: (السفر إلى الأيام الخضر)، بإمكانها أنْ تكشف عن أنّ الكثير من الرموز الكنائية- – الورادة فيه، لها أصولٌ وجذور في الاستخدام التراثي، العام أو الخاص، من مثل: الرمز بالجبهة أو الجبين للشموخ والعزة، والرمز إلى العلوّ والشموخ والتجذر والقوة بالأشجار، والكناية عن البغي بشهرة بيتها… إلى آخر ما هنالك من ذلك. لكن الحقيقة الأخرى، التي يلاحظ المتأمل المتمعن في تشكيل الدلالة في الديوان، كامنةٌ في أن الشاعر ينأى بتشكيله لدلالات كل ذلك، وتوظيفها في النص، عن أن تنسرب في النمطية والنمذجة التي تجعل من العلامة خائرة القوى، فاقدة القدرة على الإشعاع الإيحائي، نتيجة الإلف الناتج عن التكرار؛ إذ يقوم بغرسها في سياق تتآلف وتتآزر وتتداخل وتتعامد بناه وعلاماته في إنتاج الدلالة، فتكتسب قدرة، وبريقاً إيحائيين، باكتسابها رصيداً جديداً من الدلالات الناتجة عن التداخل العلاميّ، والتكثيف الإيحائي المنبعث من السياق النصي، إنْ لم تنزلق أصلاً عن دلالاتها الوضعيّة، إلى دلالات أخرى عرفيّة مستقطبة من السياق.
    ولعل مثل ذلك يلمح في قوله:
    وبعتِ أخيراً لحى (تبعٍ) وأهداب (أروى)، وثغر (الشريفة)
    فالدال (تُبّع) مؤشّر رمزيّ يحيل، عبر بنية التناص، عرفياً إلى دلالات الحضارة، والمجد والشموخ والعزة، والقوة، يزيده كثافة إيحائيّة إضافة جمع التكسير(لحى) إليه، وفي ذلك كسرٌ للنسق الأصل معنوياً، إذ على الأصل في الوضع أن يقال (لحية تبّع)، الأمر الذي أحدث فجوةً دلاليّة أسهمتْ في إقصاء المعنى الأصلي لتغوص في دلالات إيحائية عميقة، واللحى إحدى المقومات في الرجولة، وفي الرجولة دلالات القوة والبأس، كما أنها ترتبط بالوجه إذ هي: ” شعر الخدين والذقن)، وفي الوجه دلالات العزة والنصاعة والسمات الإنسانية، مما يكثف الدلالات الإيحائية ويثري الأبعاد العميقة في الرمز التاريخي(تبع)، وذات الأمر في (أهداب أروى) و(ثغر الشريفة) إذ تحيل الأولى، بدلالة إضافة الأهداب إليها، إلى النظارة والجمال والعزة، والثانية إلى الفصاحة والتجذر العربي والعزة، عرفياً، لكنّ السياق الكلي، في البيت يقوم بتهديم كل تلك الدلالات، وينقلها من دائرة الإيجاب إلى دائرة السلب، بتسليط الفعل (باع) المسند إلى تاء التأنيث المحيلة إلى (صنعاء)، عليها فهي في بنية القول مفعولات للفعل مسلوبة الدلالات المتعارف عليها فيها لتصبح جميعها في المقولة اللغوية علامة سيمائية، (كنائية) تشير إلى دلالات التغير والتبدل، وتلاشي الحضارة ، وانهدام معاني العروبة الأصيلة، والقيم والعادات، والانبتات عن الجذور والأصول، ما يوحي بالعجز والسقوط والزيف والضعف ، ويشير كل ذلك سياقياً إلى تمكن الاستعمار.
    وقد يقوم النظام الكنائي في سياقات أخرى، على كسر النسق الدلالي المتعارف عليه؛ إذ يوهم السياق الكنائي بانزلاق الدال إلى مدلولات جديدة، مفارقاً للدلالات الأصول المرتبطة به عرفياً،
    (وضعياً)، لكن التأمل في السياق النصي الكلي المتموضع فيه يبين عن خيوط دلالية تكشف عن بقاء الدلالات الوضعية، إلى جانب المحدثة، في البنية العميقة، ما يمنح النظام الكنائي بُعداً جمالياً ودلالياً يجعله يبارح درجة الصفر ليوغل في الشعرية درجات. من ذلك على سبيل المثال قوله: وثبوا كالسيل كالسيل انثنوا تحت أمطار اللظى احمرّوا، ورفوا
    الأصل في (المطر) أنه رمز للخير والخصب والنماء، والتطهير، لكن الظاهر في السياق فقدانه لتلك الدلالات من خلال السياق الاستعاري المتشكل من إضافة(الأمطار) إلى (اللظى)، الرامز إلى الموت والفناء والجدب، ومجيئ دال (الأمطار) ، مورفولوجياً بصيغة جمع التكسير يضفي دلالات الكثرة والكثافة والقوة، فهو رمزللموت والدمار القادم من أعلى، من بطون الطائرات، لا من بطون السماء. لكن المتأمّل في السياق الكلي يلحظ أن علامة (أمطاراللظى) تبارح الدلالات الطارئة تلك، إلى دلالات عرفية، ذات علاقة بالوضع العرفي، هي: البعث ، والنماء؛ إذ لم تكن سوى مقدمة على الرغم من كل الدلالات السابقة، نتيجتها (احمرار المناظلين) وارتفاعهم للأعلى ، ويقوم التدرج اللوني بإنتاج دلالة كنائية متمثلة بالاشتعال والثورة والانبعاث، وفيها صعود وعلو، كما في الفعل (رفّ) من دلالات الانطلاق إلى الأعلى والشموخ، ليصبح كل ذلك علامة (بنية كنائية) تحيل إلى دلالات التحدي والصمود والإصرار.
    ومثله في المقولة الكنائية في قوله في قصيدة ” أحزان.. وإصرار “،
    وانزرعنا تحت أمطار الفناء شجراً ملء المدى أعيا الزوال.
    إذ ينزلق الدال (أمطار) عن دلالات النماء والتجدد والخصب، إلى دلالة الفناء والجدب، بإضافته استعارياً إلى دال (الفناء) على أساس من بنية التضايف اللغوي الاستعاري. لكن الدال
    (شجراً) الرامز عرفياً إلى الشموخ والعزة والقوة، والمقولة المتمحور فيها شرطة نتيجة للمقول السابق، ما يمنح كيان(أمطار الفناء) دلالات البعث ليصبح النص الكنائي كاملاً ذا دلالة إيحائية كلية تتمثل في الإصرار والتحدي والصمود.. الخ.
    مثل ذلك دلالة الأمطار في قصيدة ” لص تحت الأمطار”؛ إذ ترمز الأمطار فيها للمعوقات والأخطار التي أحاطت بالذات المتكلمة في النص (اللص)، وإعاقته عما كان يرمي إليه، والنظر في البنية الكلية للنص يفصح عن بقاء دلالة(المطر) وإيحائه بالتطهير؛إذ أسهم بتطهير (اللص) من دنايا نفسه وعفونتها بإعاقته عن عمله المشين، ومما يثبت ذلك قوله:
    حسناً كف المطر الهامي وبدأت كدربي أتعفن
    فالإحساس بالعفونة لم يكن سوى بعد انقطاع المطر عن هميانه، وهو ما كان مقدمةً تبعتها التوبة والعودة:
    سيهل غدٌ ، وله طرقٌ أنقى، ومتاعبه أهون
    فكأن الأمطار عملت على غسله، وتطهيره، من أدرانه، فبدأ يستشعر خطأه ويُثني خُطاه إلى مستقبل آخر.
    فهو يعطي النظام الكنائي صورة جديدة، تقوم على بناء نظام جديد ” وجعل بؤرة جديدة فيه، تكون أو تحدد مصدراً رئيساً لإنهاض القصيدة من سباتها إلى حيويتها وقيمتها الجمالية، من خلال إكساب الملفوظ(الكنائي) قيمة جديدة غير محددة بالقراءة السابقة، وإنما هي علاماتٌ جديدة متفتّحة، لا تأصيل فيها لنماذج محددة “. فالبردوني يعتمد في بناء صوره على (اللاتمركز)، بإقامة فجوة بين الدوال ومدلولاتها، من خلال التكثيف الصوري والتداخل العلامي، منطلقاً من ذلك إلى إنتاج دلالات جديدة لم يألفها الذهن العربي في بنيته الثقافية الكنائية. ولك أن تأخذ على ذلك مثالاً أخر: الرمز إلى التخلخل في نظام المجتمع، من خلال الرمز إلى ترقي (الديّوث) في المناصب، أو ما يمكن تسميته بـ
    (النخاسة التكنولوجية “الحديثة”) كما في قوله: عنده نعجة فأمسى مديراً نهد أنثى مؤهل غير عادي.
    الحليب الذي يسمى جلوداً طازجاتٍ أمسى سرير ابن هادي
    فبتحاور البنى الكنائية مع غيرها، منتقلاً عبر بنيات الترميز والاستعارة إلى المدلول الكنائي العميق، وهو المرأة التي تصبح أداة لبلوغ المآرب، والارتقاء في المناصب، ما يحيل بدوره إلى الفساد الأخلاقي والقيمي في مجتمع امتهن نفسه وغيره، وضاعت رجله في الوحل.
    ومن ذلك استخدام التناص العكسي لإطلاق دلالات كنائية جديدة تقوم على نقض التمركز الدلالي، كما في الرمز ب(حيكان) إلى الجدب والعقم، مع أنه في العرف رمز للخصب والنماء، في قوله: صباحَ قالوا: سعودٌ قبل خطبتها حبلى، و(حيكان) لم يحيل ولم يلد
    ومن ذلك الكناية في قوله: عرفته يمنياً.. في تلفته خوفٌ، وعيناه تاريخٌ من الرمد
    إذ يقوم التركيب اللغوي علامةً كنائية تشير عبر علاقات التجاور والتداعي إلى دلالات متجاورة منها ديمومة الأوجاع والأسقام، واستقرار الأسى والألم، والانتشار، والكثافة.. إلخ. و(الرمد) معجميّاً: ” وجع العين وانتفاخها”، كما أن مادته اللغوية تشير، إلى جانب ذلك، إلى دلالات أخرى كالهلاك والفناء والغبرة المشوبة بالكدرة ارتباطاً بالرماد، الدال على التلاشي، ناهيك عن أن الرمد مرضٌ قد يصيب العين بالعمى، والإصابة بالعمى تؤدي إلى انعدام الرؤية، المؤدي إلى سيطرة الظلام، وارتباطها سياقياً بالتاريخ يمنحها صفة الكثافة، وطول الأمد ويقوم حرف الجر معنويّاً بملء الفراغ الزمني، في دال (التاريخ) بالرمد بكل ما يحمله من دلالات إيحائية، لتتماس مع دال (العينين)، وتنبثق عبر الترابطات التماسية بين الدوال علامات إشارية تصورية، تتراءى من خلالها دلالات الشحوب والذبول والأسى والألم. بالرجوع إلى السياق النصي والثقافي الموازي، تتراءى مدلولات متجاورةهي: الحروب الهلاك الفناء.
    فهو يستخدم أسلوباً جديداً في التشكيل والصياغة الدلالية، أسلوباً ” ليس فيه إحالة إلى مدلول جديد – (…) وإنما ينقل إليك (مداليل) وهيئات جديدة، تختلف باختلاف قرائها، وكأن معنى النص ، وإنما هو في حقيقته المعنى الذي قصده المتلقي وأسقطه بافتراض وجوده في وعي (المؤلف “ ففي قوله في قصيدة أغنية من خشب مثلاً: لأن أبا لهبٍ لم يمت وكل الذي مات ضوء اللهب
    فقام الدخان مكان الضياء له ألف رأس وألفا ذنب
    إذ تتزاحم عليك دلالات، وإحالات عدة وأنت تقرأ هذه الأبيات، فتتدافع إشارات وومضات دلالية تصويرية متتابعة على بنية المستوى السطحي، فتظهر صورة مصدر من مصادر اللهب
    (شعلةٌ) مثلاً ينطفئ لهبها (لهبه)، ولأن المادة الأصل المشكلة له ما زالت قائمة، فمكان الضياء المنطفي يقوم الدخان ليرسل أشباحه في الفضاء، ولكن إشارات سابقة تُستحضر قبل هذه الإشارات يطلقها النص متجلية على مستوى المقولة اللغوية فيه، مشيرة تاريخياً إلى شخصية تاريخية، تتمثل في ، الذي يحيل بدوره إلى جملة من الصفات التي تلازمه، منها (الغطرسة)
    و (العجرفة) و(محاربة الحق) ، و(الظلم) و(الجهل)… الخ، وبالمماثلة بين الدلالتين السابقتين يتبين أن الصفات التي شكلت (أبا لهب) توازي المادة الأصل التي ينطلق منها اللهب وهو ما أثبته النص، ويقوم الإنسان المتصف بتلك الصفات المتلازم بها موازياً لضوء اللهب في الشمعة، وهما اللذان تحقق، وجودياً، انظفاؤهما ويوازي أولئك المتصفين بهذه الصفات المنحدرين المتشعبين عن الأصل، الدخان الذي قام مكان الضياء المتشعب عن الأصل كذلك. وقد نلمح إشارة رامزة إلى علامات أسطورية تشير إلى التنين في المستوى العميق، ما يضاعف من الدلالات، ويشحنها بشحنات تعبيرية متفرعة متشعبة، ولربما استطاع المتلقي،استناداً إلى السياق العرفي الاجتماعي – السياسي – الخارج نصي – التلميح والإشارة إلى (الإمام) بكل ما يحمله من دلالات وطاقات إيحائية متشاكلة مع (أبي لهب) كالظلم والطغيان… إلخ ، وذاته على مستوى الوجود المادي، إذ كلاهما تلاشى وجودياً بالموت، ما يحيل إليه (ضوء اللهب)، لكن وجود المادة الأصل حال دون هذا التلاشي، بل أسهم في تكثيفه، ،وإن ظهر من خلف الكواليس، فموت الإمام لم يكن سوى إيذاناً بميلاد أئمة ، وإن تغيرت الوجوه والمسميات. ” وبذلك يكون للتضمين أوما يسميه النقد المعاصر ب (التناص) دورٌ كبير في بناء النص الحداثي والتضخيم من الفضاء الدلالي لعلاماته الإشارية بحيث تتشبع كل علامة بفيض هائل من الإيحاءات المستمدة من تفريعات متباينة منها الأسطوري والثقافي والاجتماعي إلى غير ذلك.. “

    وختاماً
    مما سبق يمكن الخلوص إلى الآتي:
    1. يتشكل النظام الكنائي في ديوان ” السفر إلى الأيام الخضر” للشاعر البردوني على أسس عدة، تقوم في مجملها على التكثيف الإيحائي الناتج عن التداخل والتراسل والتواشج بين علامات النص الكنائي وغيرها من العلامات في النص الكلي، والتواشج داخل السياق القولي الكنائي ذاته بين مستوياته، التركيبية،والمورفولوجية، والفونولوجية والعلامات غير اللغوية ، والعلامات خارج نصية ، ليتراسل كل ذلك في إنتاج الدلالة الكنائية وتكثيفها.
    2. تتجلى البنية الكنائية بسيطة التركيب، قليلة الوسائط، والانتقالات والإحالات الدلالية بين الكيان الكنائي ومدلوله الإيحائي، كما تتجلى في مظان أخرى من الديوان، مركبة متداخلة وتركيبها قد يكون عن طريق تعدد الوسائط والإحالات الدلالية، بحيث نكون أمام شبكة متناهية من
    (الإحالات العلامية، وقد ينضاف إلى ذلك أن تصبح مجموعة من الكنايات والمؤشرات الرامزة التي تجتمع في النهاية، بكل ما تحمله من طاقات إيحائية وتعبيرية رامزة، لتكون بمجموعها علامة كنائية سيميائية.
    3. قد يستخدم الديوان نماذج كنائية، متعارف عليها في النظام الثقافي الكنائي العربي، لكنه قليلاً ما يستخدمه استخداماً أيقونياً، ثابت البنية متمركز الدلالة، بحيث يستمد دلالاته من البنية المعرفيّة في الذهن العربي، عبر بنية التناص (التطابقي)؛ إذ ينأى – في كثير من الأحيان – عن ذلك التطابق الكسول بين الدوال ومدلولاتها،المحددة سلفاً، بإعادة صياغتها وتشكيلها وفق سياق جديد يكسبها دلالات متغيرة، متحررة من عقال التمركز، منطلقة في فضاء دلالي واسع.
    وعلى كل حال فالشاعر بما هو صانع ماهر، استطاع أن يُلبس القديم حلّة جديدة، تقوم على مبدأ الخرق الدائم لنظام اللغة، ما يقيم مسافة توتر بين العلامات وما تشير إليه، متحرر بذلك من سلطة النظام الموروث.
    كما استطاع أن يخلق بنيات جديدة لم يألفها النظام الثقافي، والمعرفي العربي، ما أكسب النص حيوية، وبريقاً إيحائياً دلالياً وجمالياً…
    هذا والله ولي الهداية والتوفيق.
    ” المصادر والمراجع ”
    1) ابن الأثير، ضياء الدين: المثل السائر، ج3، ت: الحوفي، وبدوي طبانة، نهضة مصر. و،ط/ت.
    2) ابن جعفر، قدامة: نقد الشعر، ت: محمد خفاجي، مكتبة الكليات الأزهرية: القاهرة 1978- ط1.
    3) ابن منظور،: لسان العرب، مج3، دار صادر: بيروت، ط3، 1994م.
    4) البار، د/ عبد الله حسين: محاضرات في علم البيان، ملزمة لطلاب م3، عام 2002/2003م، كلية الآداب- جامعة صنعاء، قسم اللغة العربية(غير منشور).
    5) البردوني، عبد الله: ديوان ” السفر إلى الأيام الخضر” دار الحداثة: بيروت، ط7.
    6) بليث، هنريش: البلاغة والأسلوبية، ت. محمد العمري، إفريقيا الشرق: الدار البيضاء.
    7) تاور بريت، بشير: السيميائية في الخطاب النقدي المعاصر، مجلة علامات في النقد، ج54، م 4 ، ديسمبر 2004م.
    8) الجرجاني، عبد القاهر: دلائل الإعجاز، ت: محمود شاكر، مكتبة خفنجي: القاهرة 1992، ط 3.
    9) السكاكي، يوسف: مفتاح العلوم، ت: نعيم زرزور، دار الكتب العلمية: بيروت، ط1.
    10) الصائغ، عبد الإله: الخطاب الشعري الحداثوي والصورة الفنية، المركز الثقافي العربي: بيروت ، الدار البيضاء، ط1، 1999م.
    11) طبانة، د/ بدوي: علم البيان، مكتبة الأنجلو المصرية، ط3، 1977.
    12) عبدالمطلب، د/محمد: البلاغة العربية، قراءة أخرى، مكتبة لبنان، ط1، 1997م.
    13) عبو، أ.عبد القاهر: شعرية الحداثة، مقاربة سيميائية، مجلة الموقف الأدبي ع 392، كانون الأول 2003م.
    14) العلوي، يحيى بن حمزة: الطراز، ج1، دار الكتب العلمية: بيروت، 1982م.
    15) غاليم، محمد: التوليد الدلالي في البلاغة والمعجم، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء: المغرب، ط1، 1987.
    16) فاخوري، عادل: حول إشكالية السيمولوجيا، عالم الفكر مج 24، ع 5، يناير،مارس 1996م.
    17) فضل، د/ صلاح: إنتاج الدلالة الأدبية، مركز الحضارة العربية، د- ط/ت: مناهج النقد المعاصر، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2002م.
    18) الفهيد، جاسم سليمان: بنية الكناية: دراسة في شبكة العلاقات الدلالية، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، ع88، سنة 22، خريف 2004م، مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت.
    19) مختار، ملاس: دلالة الأشياء في الشعر العربي الحديث، البردوني – نموذجاً – دائرة الثقافة والإعلام: الشارقة، ط1، 1992م.
    20) المراغي، أحمد مصطفى: علوم البلاغة، دار إحياء التراث الإسلامي، مكة المكرمة، ط10، 1992م.
    21) مفتاح، محمد: تحليل الخطاب الشعري، استراتيجية التناص، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1985م.
    22) نعاس، وليد شاكر: دراسة سيميائية في شعر أبي تمام، رسالة دكتوراة مقدمة إلى مجلس كلية التربية الأولى / جامعة بغداد، عام 1997م، بإشراف أ.د/ سمير علي سمير.
    23) نور الدين، صبّار، قراءة في المستوى الدلالي لنص قديم، الكنائية – نموذجاً – مجلة الموقف الأدبي، ع 381، كانون الثاني 2003م.
    24) المعجم الوسيط، إخراج د/ إبراهيم أنيس، د/ عبد الحليم منتصر، وصاحبيهما، دار الحديث للطبع والنشر، بيروت، ط2.

    الهوامش:
    السيميائية في الخطاب النقدي المعاصر: علامات في النقد: ص 190.
    شعرية الحداثة – مقاربة سيميائية: ص 2 ، الموقف الأدبي.
    مناهج النقد المعاصر: ص 103.
    نقد الشعر ص 157.
    نفسه ص 1
    دلائل الإعجازص 66.
    مفتاح العلوم ص 402.
    الطراز، ج 1 ص 373.
    محاضرات في علم البيان د. البار ص 31 – (غير منشور).
    علم البيان: بدوي طبانة – ص 237.
    ينظر: البلاغة العربية قراءة أخرى –ص 193.
    علم البيان – طبانة- ص 258.
    ينظر مثلاً، علم البيان – طبانة- ص 258،علوم البلاغة المراغي- ص 283.
    مذكور، بتعدد وسائطه في الحديث عن كناية الصفة.
    دراسة سيميائية في شعر أبي تمام – ص 99.
    البلاغة العربية – قراءة أخرى: ص 87.
    نفسه ص 193 بتصرف.
    نفسه ص 194.
    نفسه.
    الخطاب الشعري الحداثوي- الصور العتيّة ص 101.
    بنية الكناية
    البلاغة والأسلوبية: ص 66 وما بعدها.
    نفسه ص 88.
    نفسه ص 119.
    التوليد الدلالي في البلاغة والمعجم: ص 52.
    تحليل الخطاب الشعري ،استراتيجية التناص ص 115.
    ينظر نفس المرجع: ص115، 116.
    حول إشكاليات السيمولوجيا- عالم الفكر ص 185.
    إنتاج الدلالة الأدبية: ص 24.
    دراسة سيسيائية في شعر أبي تمام.
    الديوان: ص 26.
    نفسه: ص 72.
    قراءة في المستوى الدلالي لنص قديم- الكناية نموذجاً ص4.
    الديوان: ص77؟
    الديوان: ص100.
    سورة المسد الأيتين (4.5)
    المعجم الوسيط ” باب الضاد ص 868.
    الديوان: ص 62.
    الديوان ص 13.
    الديوان ص 17.
    الديوان ص 109.
    شعرية الحداثة- مقاربة سيميائية: ص 2.
    الديوان ص 102.
    المعجم الوسيط، باب الغين.
    دراسة سيميائية في شعر أبي تمام: ص 97.
    الديوان، ص 31.
    استراتيجية التناص: ص 92.
    الديوان: ص 81.
    المعجم الوسيط باب اللام: ص820.
    الديوان ص 136.
    نفسه ص 35.
    الديوان ص 11.
    دراسة سيميائية في شعر أبي تمام ص 104.
    الديوان ص 143.
    الديوان ص 104.
    نفسه ص 101.
    لسان العرب مج: باب الدال، فصل الراء، مادة: رمد.
    دراسة سيميائية في شعر أبي تمام: ص 107. عن المعنى الأدبي – وليم راي.
    الديوان: ص 25.
    دلالة الأشياء في الشعر العربي الحديث، عبد الله البردوني نموذجاً: ص57.

  • 431 انفتاح الشكل العمودي.. تجربة الشاعر عبدالله البردوني.. الأستاذ صلاح بوسريف (المغرب)

    >  انفتاح الشكل العمودي.. تجربة الشاعر عبدالله البردوني.. الأستاذ صلاح بوسريف (المغرب)

    1- برحيل البردوني تتوقف دورة تجربة شعرية زاوجت، في شكلها ونمط كتابتها بين زمنين، وتصورين في الكتابة – أعني في الشعر تحديدا – أثناء حديثي عن تجربة الجواهري باعتباره أحد قمم القصيدة العمودية، كما تسمى في العرف العام، أشرت إلى عبدالله البردوني باعتباره، هو الآخر، أحد آخر هذه القمم المتبقية، وباعتباره أحد الشعراء النادرين الذين حفروا في مجرى القصيدة العمودية، أفقا فرديا يتميز بفرادة تلك الاضافات التي ميزتتجربة البردوني، كما ميزت تجربة الجواهري قبله.
    فالشعر المعاصر لم يكن ثورة على الشعر المعمودي باعتباره شكلا، بل ثورة على هذا الشعر باعتباره تصورا ورؤية تقوم في جوهرها على التقليد، وعلى الاتباع، ولم يعد مسموحا في سياقها، بإبداع، أو فتح أي أفق للمغايرة، والاختلاف أعني لفتح النص على مسارب الحداثة، وعلى دم جديد ورؤى مختلفة. وهذا ما جعل من هذا الشعر، في بعض التصورات النظرية التي واكبته، يعتبر القصيدة العمودية نمطا متجاوزا ومنتهيا، لأنه يقوم على الاستعادة واجترار ما سبق. وهذا التصور كان يستثني تلك الأعمال الخلاقة، التي حاولت من داخل الشكل العمودي أن تعيد ترتيب أوضاعها بإعادة وضع اللغة، أو بوضعها، بالأحرى، على محك شعرية تتيح للمعنى أو الدالة أن تتخذ أوضاعا مغايرة، ناقلة النص من أفق المعنى إلى أفق الدلالة أو انفتاحها بالأحرى.
    في ضوء هذا الاستثناء الذي ينخرط فيه شعراء أمثال المتنبي وأبو تمام وأبو نواس، وغيرهم، ممن أدركوا خطورة التقليد وعماءه، كان الجواهري، يعيد ترتيب انتسابات لغته وإيقاعاتها، ويسعى، بما يملك من معرفة عميقة بشعر غيره، إلى توقيع الشكل العمودي بذاته هو كشاعر وبصوته وفرادته لا أن يكون مجرد مستعيد أو مردد لأصوات غيره ولأشكال وأنماط كتاباتهم، بما فيها من معان وأفكار وجزئيات شتى.
    في هذا الاتجاه، كان عبدالله البردوني، يحفر مجرى تجربته لا باتخاذ الشكل الجديد، شكلا لكتابته، ولا باتباع السائد والسير على خطي من سبقا أو من جاءوا بعده، فهو كان يسعي لتوقيع نصه بخصوصيته، وبما يطبع عصره وزمنه من أحداث وقضايا ، سيظل مرتبطا بها في كل كتاباته. فالشكل العمودي، لم يكن عائقا في وجه الجواهري، كما لم يكن عائقا في وجه البردوني، مع فرق التجربة واختلافات سياقاتها وخصوصيات لغتها وإيقاعاتها، وهذا ما جعل البردوني يحول الشكل العمودي من شكل مغلق دائري مفكك، إلى شكل خطي مفتوح مترابط، أو إلى نسيج متواصل سائر لا يرتد على ذاته وفق ما يمكن أن نسميه هنا بالبناء المرآتي أو التقابلي الذي ظل يميز الشكل العمودي للقصيدة العربية ويطبعها بأوضاع ثقافية، ستنعكس على بناء القصيدة وتجعلها صدى لبيئة سيرفض أبو نواس اعتبارها نموذجا له، لأنه أدرك فرق الإقامة، فاختار كما سيختار الجواهري وعبدالله البردوني، الإقامة في عصره وفي زمنه، وهي إقامة شعرية بامتياز.
    2 – تميزت تجربة البردوني بإصراره على كتابة قصيدته بنفس واحد، فهو لا يترك البيت معلقا بين هواءين، فهو كان يلحم أجزاء النص، يكتبا دفعة واحدة، أو يضعه في نسق متسق لاغيا بذلك فكرة البيت باعتباره بيتا من الأبنية أو هو نسيج وحدة، كما يقول ابن خلدون ولأن قضية البردوني الشعرية بالدرجة الأولى، ثم الفكرية؟ لم تكن لتأتي مفككة ناتئة، لذلك كان يدفع بالقصيدة في اتجاه النص، أو ما سيصطلح عليه بالوحدة العضوية، ووحدة الموضوع.
    ليس هذا ما يجعل من تجربة البردوني تحظى باهتمام القراء والباحثين، لأن هذا العنصر كان سابقا عليه، لدى مدرسة الديوان وغيرها، وحتى في بعض النماذج الشعرية السابقة فالبردوني، حتى لا يبقى أسير تبعات شكل شعري مثقل بأثار العابرين، سيتجه، كما يؤكد ذلك الأكور عبدالعزيز المقالح، وكما تؤكده تجربة البردوني الشعرية، إلى تحويل أو تحميل الكلمات والألفاظ والصور دلالات تنجو باللفظ من واحدية المعنى، وتعتني باللفظ باعتبارها جزءا من السياق العام للجملة أو النص، ولعل هذا ما سيجعل من البردوني يستعين بالألفاظ العامية، وبالتراكيب اللغوية البسيطة أو القريبة، بالأحرى، من الفهم العام. فلا داعي للسير خلف تداعيات الشكل، والسير وراء ما يستدعيه من تعابير وصور مثقلة بتاريخ يرى فيه البردوني تاريخ أناس مروا وأشادوا بزمنهم إن سلبا أو إيجابا فقصيدة البردوني تتقاطع فيها كل هذه المستويات، ومن خلالها كان ينسج أفق كتابة ترتبط بزمنها، وتسير في سياقه أو تتجاوزه.
    فالأفق الدلالي الذي كانت تفتحه تجربة البردوني، هو ما سيتيح لقصيدته أن تخرج عن سياق الكتابات العمودية التي ظلت تستدعي السياقات المباشرة والتعابير التي يسهل على القارئ العارف بجغرافية الشعر القديم، أن يحدد انتماءها، وعند البردوني تصبح الأراضي ملتبسة، من الصعب تحديد مرجعياتها ولو أنه يعتبر من بين المتأثرين بأبي تمام بشكل خاص واستثنائي.
    وفي النموذج التالي يظهر بوضوح فرق الهواء الذي يفصل بين تجربة البردوني، وبين من اختاروا الشكل العمودي كشكل تاريخي وليس شكلا شعريا. يقول البردوني:
    مثلما تعصر نهديها السحابة
    تمطر الجدران صمتا وكآبة
    يسقط الظل على الظل كما
    ترتمي فوق القامات الذبابة
    يمضع السقف واحداق الكوى
    لغطا ميتا وأصداء مصابة
    مزقا من ذكريات وهوى
    وكؤوسا من جراحات مذابة
    تبحث الأحزان في الأحزان عن
    وتر باك وعن حلق ربابة
    عن نعاس يملك الأحلام عن
    شجن أعمق من تيه الصبابة
    يشعل الأشجار، تحسو ظلها
    تجمد الساعات من برد الرتابة
    في هذا النموذج وفي غيره ، تصبح اللغة ذات أبعاد، وانشراحات، رغم ما قد يبدو لنا فيها من حصر، لا حد له فهي تتعود وتفتح مساري لتخيلات تصبح اللفظة المعزولة فيها لا معنى لها، شأنها مبنية في سياق خاص ،وهذا ما يجعل الجملة تركيبا نسقيا له ما به يبرر ورود رمزيته (إذا شئنا أن نبسط الصورة) أو انفتاح معانيه حينما يتعلق الأمر بإجتراح معان جديدة وتعبيرات مغايرة.
    وتعود بي الذاكرة في هذا السياق إلى قول البردوني التالي. وهو قول مشحون بكثافة دلالية ملبدة بإيحاءات عميقة، وبإحساس فاجع بالزمن،
    هرب الزمان من الزمان
    خوت ثوانيه الغبية
    من وجهه الحجري
    يفسر إلى شناعته الخفية
    حتى الزمان بلا زمان
    والمكان بلا قضية
    فهل زمان البردوني هنا هو الزمان الكونولوجي المعروف، وهو ما يمكن أن يقال عن المكان.. فالبردوني يحول كل شيء ويجعله يلبس ثوبا جديدا ملبدا بما يعتمل في رؤية الشاعر من تداعيات وتخاييل باهرة.
    -3-
    توقف عدد من الدارسين لشعر البردوني عند أحدى أبرز الخصائص المميزة لتجربته، وهي السخرية. والمتأمل في شعر البردوني سيدرك لا محالة قصدية البردوني في من ، شعره بالسخرية أو بالفخاخ التي تجعل من القارئ يحذر شراكها، خصوصا حين. يعلم أن البردوني لا يهجو بل يصور ويشحن صوره بما يجرنا في أحايين كثيرة إلى استعادة نموذج ابن الرومي، ولا أعنيه حرفيا حتى لا يضيع الفرق. فالبردوني ساخر وليس هجاء، وهو ما يجلوه بوضوح قوله في قصيدته الشهيرة، حين يجره الحديث عن اليمن، وشجون اليمن:
    ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي
    مليحة عاشقاها السل والجرب
    ماتت بصندوق وضاح بلا ثمن
    ولم يمت في حشاها الحب والطرب
    كانت تراقب صبح البعث فانبعثت
    في الحلم ثم ارتمت تغفو وترتقب
    ولن استمر في سرد النماذج. التي يرد فيها مثل هذا النوم من السخرية السوداء، المرة التي كان فيها البردوني قاسيا على ذاته قبل أن يقسو على غيره. فلماذا الكذب والتدليس حينما يتعلق الأمر بالشعر، أو بواقع يقدم نفسه هكذا، فالشاعر حين يلتقط الواقع، فهو يلتقطه بتلك المرارة التي تضيع منه حين يكون تعبيرنا خاليا من النفس الشعري المتسم بإيحائيته وبانشراحات معانيه وقوة تصويره.
    فالبردوني حين يعمد إلى توظيف السخرية للتعبير عن تدمره وصراراته المتوالية، وهو الذي عاني السجن والاعتقال، فهو يقصد من وراء ذلك إلى تفجير ما يحفل به الواقع من تناقضات قبل أن يسعي لتفجير اللغة وإعادة تنسبيها، وهذا في نظرنا ما يجعل من السخرية عند البردوني، ترتبط في بعض أوضاعها بما أصبح ساريا في تجارب بعض شعراء الحداثة من هذا النوع من الكتابة أو أساليب الكتابة بالأحرى.
    -4-
    لن أقف عند البناء الحكائي لقصائد البردوني ولا عند الأبعاد الدرامية التي طبع بها كتابته. فقد عمت دراسات سابقة على كشف أبعاد ذلك في تجربة الشاعر ساكتفي هنا فقط بالإشارة إلى هذه المستويات، في كتابة البردوني باعتبارها من أشكال سعيه لفتح الشكل العمودي واجتناب السقوط في البناء العمودي الذي طبع القصيدة في أعتى مفاهيمها، باعتبارها بنا مفككا، وباعتبارها مسورة بعناصر بنائية تحد من طاقة تفجير الشكل وتجعله أبديا أو تعمل بالأحرى، على تأبيده.
    البردوني إلى جانب الجواهري، باعتبارهما أخر الأسلاف، عملا معا، كل من زاويته، على تحيين الشكل العمودي، وإخراجه من حرفية التقليد، وحرفية البناء، بخلاف أولئك الذين اختاروا البنية التقليدية للقصيدة بعلاقاتها التاريخية وبخصائصها المباشرة. وقد جرتهم، يقول عبدالعزيز المقال، تلك المحافظة، عن قصد أو غير قصد، إلى استرجاع المضامين القديمة والأشكال التقليدية، ولذلك جاء نظمهم اجترارا، ودفعهم الاستخدام الروتيني للقوالب المتوارثة إلى الأسالب الفنية المسبوقة.
    -5-
    لن أتحدث عن الجانب الثوري في تجربة البردوني، أيضا، سأكتفي فقط بإيراد نموذج له، لعله، كما أراه، يكفي للكشف عن ميل هذا الشاعر إلى تسخير تجربته في قول الأشياء كما تتبدى له دون قيد ولا شرط. وهذا ما عرف عنه، أو ما أعرفه عنه، وما تقربنا كتاباته منه.
    يقول من تجربته في السجن:
    هدني السجن وأدمى القيد ساقي
    فتعاييت بجرحي ووثاقي
    وأضعت الخطو في شوك الدجى
    والعمى والقيد والجرح رفاقي
    في سبيل الفجر ما لا قيت في
    رحلة التيه وما سوف ألقي
    سوف يفنى كل قيد وقوى كل
    سفاح وعطر الجرح باقى
    -6-
    وأريد في نهاية هذه الورقة، أن أشير إلى كون البردوني لم يكن شاعرا فقط، بمعنى أنه لم يكن شاعر يكتفي بكتابة الشعر، فهو كان ينخرط فيه نظريا ونقديا. وقد كرس جزاء من جهده النظري والنقدي لإضاة تجربة الشعر اليمني.. وهذا في نظرنا يعكس بوضوح وعي البردوني الشعري. فالشعر لديه ممارسة في الكتابة بمساريه النصي والنقدي أو النظري، أعني أن البردوني كان واعيا بالمسار الذي كان يجترح شعريته في أفقه. ولعل في هذا الظاهرة ما يخفي ربما، تصور البردوني للحداثة، أو انخراطه فيها، رغم ما قد يبدر في موقفه إزاء الشعر المعاصر أو الشكل المعاصر للكتابة الشعرية من تذبذب أو التباس بالأحرى.

  • 432 ترجمة رملية لأعراس الغبار قراءة خاصة… الدكتور محمد جمال صقر

    >  ترجمة رملية لأعراس الغبار قراءة خاصة… الدكتور محمد جمال صقر

    1- للبردوني – رحمه الله ! – بضع عشرة مجموعة شعرية ، بدأت رحلة صدورها سنة إحدى وستين وتسعمائة وألف للميلاد ، وحالت وفاته في سنة تسع وتسعين وتسعمائة وألف دون غايتها. من ثم أعتمد في رؤيته على سابق قراءتي للتسع الأولى منها التي حصلت لي ، ثم على النظر الحاضر في مجموعته الثامنة ” ترجمة رملية لأعراس الغبار ” الصادرة سنة ثلاث وثمانين ، بعد أربع سنوات من المجموعة السابقة لها ، وقبل ست عشرة من وفاته ، أي في زمان فورة نهجه الجديد وأوج اضطرامه.
    رسائل البردوني:
    يبث البردوني في شعره ثلاث رسائل متداخلة: القومية ، والوطنية ، والاشتراكية ، بادي التعصب في الأولى والثانية ، والسخط في الأخرى ، دون أن يخرج في أي من ذلك عن العُرْف إلى النُّكْر.
    2- حينما يقرأ لأمته الكف يعجب:
    ” هل هذا الجاري مفهوم يبدو مجهولا معلوم…
    أدري أني محتل وأرى فوقي خيل الروم
    أدري لكن ما الجدوى من علمي إني موصوم
    هل يبنيني إدراكي أني من أصلي مهدوم
    هل يشفي من أزماتي ترديدي إني مأزوم ” (ص157، 169)
    وحينما يسرد علامات العالم المستحيل يقول:
    ” قيل تنشق بذرة عنه يوما قيل تدمي البروق عنه السحابا
    ربما كان تحت حزن الدوالي وقريبا يجتاز ذاك الحجابا ” (ص187)
    إنه يرى في كف أمته تهاويل لا تصدق ، وهي قائمة واقعة بها ، يعلمها كل من ينتمي إليها ، كما يعلم أن علمها وحده غير مجد شيئا. وربما حمله على استعمال ذلك القالب في بناء قصيدته ، ما يبدو عليه ابن هذه الأمة العالم بواقعها الحزين ، من عدم مبالاة به ، وكأنه يتوهمه ولا يراه ، غير أن الشاعر لا يملك إلا أن يطمح إلى واقع سعيد وإن بدا مستحيلا.
    3- وحينما يسمر مع أم ميمون بحكايا مفاخر اليمن يقول:
    ” آباؤكم كانوا أعز على ذهب المعز وكل ما يغوي
    ماذا أقص اليوم كم سقطوا والموت لا يغفو ولا يثوي
    كان الصباح كأنف أمسية كان الدجى كالملعب الجوي
    والآن هل ألقى معازفه زمن الأسى كي يبتدي شدوي
    وتنحنحت كي تبتدي خبرا فبكت فغاص أمر ما تحوي
    حدث الذي والدمع يسبقها ويقول عنها غير ما تطوي “. (ص228- 229)
    إنه يمجد زمان البطولات العزيز السالف ، ويريد أن ينعم بعاقبته الواقعة غير أنه لا يستطيع أن يخدع نفسه ، فالواقع اليمني كالواقع العربي ، حزين.
    4- وحينما يتفقد حوادث هذا الواقع اليمني العربي ، ويتسمع إلى صخب دعوات أبواقه المزيفة وشعاراته الطارئة الجوفاء ، يراها أعراس غبار لا أصل لها ، رحى تطحن قرونا- كما قال المعري في مثلها- فيقول:
    “يا ريح هل تعطين غير قش من أين تاريخ الركام بعلي
    غدا تراني أستهل عهدا لأنني ضيعت مستهلي
    في القلب شيء يا زمان أقوى لا تنعطف من أجله وأجلي
    أحب ما تولين من عطايا يا هذه الأيام أن تولي “. (ص 30)
    فليس ثم عطاء إلا الوهم ، ولا اشتراك إلا في العدم بالغنى وبالفقر جميعا ، إذ لا قيمة لغنًى مُبْطِر ولا لفقر مُقْعِد.
    5- ولقد كان من آثار عصبيته القومية كثرة استعمال مفردات الثقافة العربية ، أحداثا وشخوصا وعلوما وفنونا ، فهي متغلغلة في قصائد المجموعة التي تنوب عن المجموعات الأخرى أحسن نيابة ، حتى إن الشاعر يخص ذلك أحيانا بالقصيدة حين تصلح المفردة الثقافية العربية ، رمزا خالدا لقضاياه الثلاث السابقات ، كما فعل في قصيدتيه ” وردة من دم المتنبي “، و” تحولات يزيد بن مفرغ الحميري “، يقول في الأولى:
    ” شاخ في نعله الطريق وتبدو كل شيخوخة صبىً مدلهما
    كلما انهار قاتل قام أخزى كان يستخلف الذميم الأذما
    هل طغاة الورى يموتون زعما يا منايا كما يعيشون زعما
    أين حتمية الزمان لماذا لا يرى للتحول اليوم حتما
    هل يجاري وفي حناياه نفس أنفت أن تحل طينا محمى…
    التعاريف تجتليه وتغضي ألتناكير عنه ترتد كلمى
    كلهم يأكلونه وهو طاو كلهم يشربونه وهو أظما
    كلهم لا يرونه وهو لفح تحت أجفانهم من الجمر أحمى
    حاولوا حصره فأذكوا حصارا في حناياهم يدمي ويدمى
    جرب الموت محوه ذات يوم وإلى اليوم يقتل الموت فهما “. (ص56،60-61)
    يبرز المتنبي في القصيدة فارسا متحققا بمعنى الفروسية ، عالي الهمة ، طامح الأمل ، شديد الأنفة ، يريد الجليل الأسمى لأمته ووطنه ونفسه ، ويضيق بالحقير الأدنى ، المستولي على أمته ووطنه ونفسه ، فيشذ عن الخضوع له غير عابئ بما يصيبه من تضييع وتقتيل ، فيضيِّع هو نفسُه تضييعَه ويهتدي ، ويقتِّل هو نفسُه تقتيلَه ويعيش !
    ومن عصبيته القومية وقوفه في شعره عند العمودي ، فلم يتجاوزه إلا في قصيدتين من سبع وثلاثين ، استعمل المشطر في الأولى – وهو نمط من التجديد العروضي قديم – وتعديد القافية في الأخرى ، ثم استعمل عشرة بحور ، لبعضها عنده أكثر من صورة ، ثم استعمل في روي القافية واحدا وعشرين حرفا من حروف المعجم بين المعروف بكثرة الوقوع رويا كالراء والميم واللام والنون ، والمعروف بقلته كالكاف والشين والواو والهاء ، والمعروف بندرته كالطاء والغين والثاء والذال. وأنا لا أخلي ذلك من أثر عماه.
    لقد انقسم الشعراء منذ قديم طوائف أغرت العلماء بالنظر إليهم من جهتها ، عسى أن يكون لها في شعرهم من أثرٍ وجَّههم إلى ما اتجهوا فيه إليه ، فدرس لويس شيخو شعراء النصرانية ، ودرس بعض أصحابنا شعراء الدعوة الإسلامية ، ودرس الدكتور عبده بدوي الشعراء السود ، ودرس الدكتوران عبدالحليم حفني ويوسف خليف كل على حدة ، الشعراء الصعاليك ، ودرس آخرون الشعراء اللصوص ، ولا تقل طائفة العميان عن تلك أهمية ، بل ربما زادت عليها ، إذ الصورة التي أصابها عماهم ، موطنُ عبقرية الشعراء. والحق أن للجاحظ رسالة طريفة في البرصان والعرجان والعميان والحولان ، ربما استطرد فيها إلى ما يفيد في ذلك.
    لقد أستطيع أن أقول معتمدا على سابق اطلاعي على شعر الأعشَيْن وبشار والعكوّك والمعري والحبسي العماني والبردوني اليمني ، وعلى شعر بعض زملائي من العميان ، إن هذه الطائفة أشد تمسكا بالعمودي ومبالغة في الأخذ به ، على رغم أن التجديد حولهم من قديم وقد اطلعوا عليه ، ولا ريب في أن لعماهم أثرا ؛ إذ يستوفز سمعهم ويتعلق بما ألفه.
    6- ولقد كان من آثار عصبية البردوني الوطنية كثرة استعمال مفردات الثقافة اليمنية ، أحداثاً وشخوصا وعلوما وفنونا متغلغلة في قصائد المجموعة على النحو السالف في آثار العصبية القومية ، نفسه ، فالرسائل متداخلة كما سبق أن ذكرت ، غير أن الأمر هنا أشد وضوحا لشدة حضور الوطن الخاص والأهل ، بالقياس إلى الوطن العام والأمة. وليكف دليلا أن البردوني حينما تحدث عن قصائده في قصيدته ” الصديقات “، قال:
    ” هن أنى ذهبن وجه بلادي جئن عنه وجئن منه اختصارا
    أي أسمائهن أشذى نثيثا أي أوصافهن أشهى ابتكارا
    قد أرى هذه تعزا وتبدو تلك صنعا هاتيك تبدو ذمارا
    تلك تبدو بيحان هاتيك إبا تلك لحجا هذي تلوح ظفارا
    قد أسمي هذا سعادا وأدعو هذه وردة وهذي النوارا
    هن ما شئت من أسام وإني كيفما شئن لي أموت اختيارا “. (ص12 -13)
    إنه يرى في قصائده معالم اليمن ، لأنه يرى في معالم اليمن قصائده ، تخرج القصيدة مبنى كالمبنى أو طريقا كالطريق أو جبلا كالجبل أو مدينة كالمدينة أو فتاة كالفتاة ، عفوا لا قصدا وقصدا لا عفوا لأن غايته اليمن ولأن اليمن غايته ، في نمط فريد من الحلول أو الاتحاد بين الشعر والوطن. ويتصل بذلك عشقه الأمكنة الطبيعية وكرهه الأمكنة الصناعية ، وكأنه يرى الأولى خالصة لليمن والأخرى مشوبة بغيره:
    ” فتموت صنعا وهي توقد فوق نهديها النيون
    ويقال تولم للردى وتصوغ من دمها الصحون “. (ص16)
    7- ولقد كان من آثار سخطه الاشتراكي ، أن أنكر على الفقير قعوده عن حقه ، كما أنكر على الغني بطره ، وأن أنكر على المحكوم استكانته ، كما أنكر على الحاكم طغيانه ، يقول في قصيدته ” زامر الأحجار “:
    “موطني أدعوك من تحت الخناجرْ والى زنديك من موتي أسافرْ
    موطني هل أكشف الغور أما يوجز البرقُ المصابيح السواهر
    يرتقي العهر على العهر إلى آخر المرقى لأن السوق عاهر
    ولأن الشارع الشعبي على زحمة الأهل لغير الأهل شاغر
    هذه الموضات أعراس بلا أي عرس هكذا الموت المعاصر
    أيها الأسواق من ذا ها هنا إنها ملأى ولكن من أحاور
    ذلك الدكان يعطي غير ما عنده هذا بلا حق يناور
    ذاك ماخور بلا واجهة ذاك ذو وجهين ودّيّ ونافر
    كل شيء رائج منتعش هل سوى الإنسان معروض وبائر
    تلك أصوات أناس لا أعي أي حرف أصبح الإسمنت هادر
    يا فتى يا ذلك الآتي إلى غيره يرنو صباح الخير صابر
    سنة تبحث عن بيت سدى أتعب التفتيشَ مسعود وشاكر
    إن هداك البحث عن بيت إلى مقعد في أي مقهى لست خاسر”. (ص137، 140، 142-144)
    صباح الخير شاكر ، وصباح الشر ثائر ، فيا أيها الفتى الوطن الصابر على عهر سوق هذا الزمن ، إن عثرت بموضع لرجليك في أي مكان مبتذل ، فافرح به بيتا عظيم المأوى ، ولا تَشَكَّ خسران الصفقة ؛ فقد رضيت أن يُمنع من الحق أهله ، وأن تُعشي العيونَ أضواءُ الزيف ، وأن يُميَّز بعض الناس من بعض بغير حق ، وأن يصير الرياء دينا ، والإنسان سلعة يطغى على صوته الحي ، صوت المال والجاه الإسمنتي. ­
    وسائل البردوني:
    اتخذ البردوني لرسائله المتداخلة ، ثلاث وسائل متداخلة مثلها ، متفاوتة الأداء هي: السخرية ، والحوار ، والتصوير.
    8- أما السخرية فشرْط الأدب فيما أرى ، لابد من أن يشتمل شاديه على مقدار منها في طبيعته ، فإن منزلته تكون عند منتهى سخريته. وما ذلك إلا لما تتسرب إليه السخرية من مفارقات في الحياة ، هي أعمق ما يطمح الأدب إلى تناوله.
    لقد فُطر البردوني على السخرية ، وأشعلها لديه ضيق حاله وهو المبدع الموهوب ، وسعة حال غيره من المترفين الغُلف – كما قال في مقدمة أعماله الكاملة- ، وهي أول ما اطلع عليه من مفارقات ، ثم زادها اشتعالا غرامه بالاطلاع على تراث الهجاء ، يتعزى به – كما قال – عن الحرمان.
    لقد سخر من قومه مُرّ السخرية ، في قصيدته ” من حماسيات يعرب الغازاتي “، فقال:
    ” نحن أحفاد عنتره.. نحن أولاد حيدره
    كلنا نسل خالد والسيوف المشهره
    يعربيون إنما أمنا اليوم لندره
    أمراء وفوقنا عين ريجنْ مؤمره
    وسكاكيننا على أعين الشعب مخبِره
    نحن للمعتدي يد وعلى الشعب مجزره
    كلنا سادة الرماح* والفتوح المعطره
    كل ثقب لنا به خبرة الديك بالذره
    في الملاهي لنا الأمام* في الحروب المؤخره
    حين صهيون يعتدي يصبح الكل مقبره”. (ص230 – 231)
    * هكذا ، وقد انكسر منه ، ولو قال: (سادة الشرى ، لنا الذرى) مثلا ، لانجبر.
    وسخر من وطنه مر السخرية ، في قصيدته ” ترجمة رملية لأعراس الغبار “، فقال:
    ” أيا التي سميتها بلادي بلاد من يا زيف لا تقل لي
    بلاد من يا عاقرا وأما ويا شظايا تصطلي وتُصْلي
    يا ظبية في عصمة ابن آوى يا ثعلبا تحت قميص مِشْلي
    يا طفلة في أسرها تغني ويا عجوزا في الدجى تفلي
    يا حلوة دودية التشهي يا بهرجا من أشنع التحلي
    همست للقواد هاك صدري وقلت للسكين هاك طفلي
    وللغراب البس فمي وكفي وللجراد اسكن جذور حقلي
    فهل تبقى الآن منك مني شيء سوى لعلّها لعلي “. (ص25 – 26)
    وسخر من علاقة الفقراء بالأغنياء والرعية بالأمراء ، مر السخرية ، في قصيدته ” بنوك وديوك “، فقال:
    ” لنا بطون ولديكم بنوكْ هذي المآسي نصبتكم ملوكْ
    يا ضعفنا تبدو لهم سافرا يا ضعفهم هيهات أن يدركوك
    لكم سجون ولنا عنكم تجادل مثل نقار الديوك
    عنا تلوكون اللغات التي نعني سواها أي همس نلوك
    ظنونكم عنا يقينية يقيننا عنكم كخوف الشكوك
    لنا مناقير حمامية لكم مدى عطشى وجبن سَفوك “. (ص150، 152)
    بل قد سخر من نفسه مر السخرية ، في قصيدته ” لعينيك يا موطني “، فقال:
    ” لأني رضيع بيان وصرفْ أجوع لحرف وأقتات حرفْ
    لأني ولدت بباب النحاة أظل أواصل هرفا بهرف
    أنوء بوجه كأخبار كان بجنبين من حرف جر وظرف
    أعندي لعينيك يا موطني سوى الحرف أعطيه سكبا وغرف “. (ص7)
    فبعد أن سخر من الجعجعة العربية بالقوة والجرأة والنخوة ، والمجعجعون جميعا أسرى الضعف والجبن والذل ، وسخر من الجعجعة اليمنية بالأمن والحماية والرَّغَد ، وما ثم إلا الخوف والأسر والخراب ، وسخر من بطر الأغنياء وضعف الفقراء وطغيان الأمراء واستكانة الرعية – تفكر في نفسه وما يفعله لتغيير الواقع الحزين إلى أفضل منه ، فلم يجد نفسه تجاوز الكلام ، فسخر من صنعته المحدودة مهما حاول سكب الهرف بغرف الحرف.
    ويبدو لي أن من سخريته ، عزوفه عن العشق والغزل والتشبيب والنسيب ، ولسان حاله يقول: أنى لي وأنا السجين الحزين المسكين ، أن أتطلع إلى خواطر الطلقاء السعداء ونزغات المترفين !
    ومن سخريته الوثيقة الصلة بعماه ، إنطاقه الجوامد والمجردات ، بالفلسفة الملائمة ، وكأنه يستأنس بها وهي التي تشاركه دون غيرها ، حله وترحاله ، وصحوه ونومه ، في حين أن الناس مهما جالسوه ، منفضون عنه – لا محالة – في وقت ما.
    إنه متى اقترنت بعماه وحدته ، سلط عقله على ما حوله ، وتلبسه ، ثم جعل يتكلم عنه ، فتجد عندئذ للجبل فلسفة (جبليَّة) ، وللرصيف فلسفة (رصيفيَّة) ، وللجدار فلسفة (جداريَّة) ، ولليل فلسفة (ليليَّة) !
    قال في قصيدته (حوارية الجدران والسجين):
    ” هيا يا جدران الغرفة قولي شيئا خبرا طرفه
    تاريخا منسيا حلما ميعادا ذكرى عن صدفه
    أشعارا سجعا فلسفة بغبار الدهشة ملتفه
    في قلبي ألسنة الدنيا لكن لفمي عنها عفه
    الصمت حوار محتمل والهجس أدل من الزفه
    إطلاق الأحرف حرفتكم اخترت الصمت أنا حرفه
    أو قل ما اخترت ولا اخترتم طبعتنا العادة والألفه
    حسنا ألديك سوى هذا إجهادي من طول الوقفه
    من صف ركامي لا يدري أني أوجاع مصطفه “. (ص103/ 107- 108)
    كأنه في أول كلامه يُدل بقدرته السحرية على إنطاق الجوامد بالفلسفة الملائمة ، فتنطق الجدران بأنها تشتمل على أسئلة الدنيا وتعف عنها معتمدة بلاغة الصمت ، ثم تبدو لها دعواها أعرض مما ينبغي ، فترى الصمت طبيعتها والنطق طبيعة غيرها ، فيستحسن الشاعر السجين بينها منطقها ، فيستزيدها ، فتبوح بتعبها من طول الوقفة ، وبأن إضافة اللبنة إلى اللبنة فيها ، كانت منذ البدء إضافة الوجع إلى الوجع.
    وينبغي لي أن أذكر أنه خطر لي كلام للدكتور إبراهيم السامرائي سمعته منه في مجلس أستاذي أبي فهر محمود شاكر في مبتدأ التسعينيات ، يصف فيه شعر البردوني بالركاكة ، فرغبت هنا في بيان أنه ربما تعمد ذلك عفة منه عن دلالة الجزالة ، وخشية لتهمتها ، وأن ذلك من تمام سخريته التي لن تؤديها له على أقسى ما تكون ، إلا تعابير صحفية أو لهجية دارجة ، فارقا بين هذه اللغة وبين العروض الذي تمسك بعموديه ، لتستمر في كل قصيدة المفارقة التي هي مبعث السخرية ، ثم أقبلت أفتش المجموعة المختارة ذهابا وإيابا ، عن شواهد لتلك الفكرة الخاطرة ، فما وجدت لها شيئا ، إلا أن أتكلف الحديث عن الأسماء اللهجية والأعجمية ، أو الاقتباسات من الأغاني أو العبارات الخاصة اللهجية ، وهو ما لا مغمز فيه ولا مؤاخذة به.
    بل ازداد عجبي من البردوني ، حينما عثرت بقصيدته ” زَوّار الطواشي ” أي زوار الحي الصنعاني القديم ذي الحمام التركي الشهير ، واستبشرت أن تشهد للركاكة شهادة عليا ، لفكرتها التي ينبغي أن تجر الشاعر الساخر إلى الركاكة ، فما شهدَتْ. يقول فيها:
    ” كان يرتاد الطواشي راكبا بغلا وماشي
    تارة يلبس طمرا تارة أزهى التواشي
    كان يخشى من يراه كل راء منه خاش
    لي هنا حام كأهلي وحمى يبغي انتهاشي
    ما لهم يكسون جذعي أعينا تحسو مشاشي
    هل دروا أوطار قلبي من ضموري وانتفاشي
    ألفوا الدهشة مني وأنا طال اندهاشي
    جاوزوا دور التوقي كيف أجتاز انكماشي”. (ص208 – 209)
    وهكذا يستمر فيها بالجزالة لا الركاكة ، غير أن سهولة كلامه وتحدره وتدفقه قريبا من المتلقي ممتزجا به ، يوهم من لم يطلع على حقيقة الجزالة في الكلام العربي ، بركاكته.
    9- أما الحوار فباب البردوني إلى أنس الحرية ، الذي هرب به من وحشة أسر العمى والحزن والوحدة ، باب انفتح له بمفتاح الموروث القليل ، وبمفتاح حب التقرب من الناس ، فلما انتبه إليه أولع به ، حتى هدم الجدران كلها ليدخل إلى قصائده الحوار من كل جهة.
    لقد كان الحوار وما زال لدى غيره ، وسيلة عارضة لبناء القصيدة العمودية ، فصار لديه كالسخرية ، أساس كل قصيدة. وكان وما زال لدى غيره تقليديا ساذجا بقال فلان وتقول فلانة ، فصار لديه عجيبا غريبا خفيا متقنا لا يدرك أحيانا إلا بفضل تفكير ، حتى إنه ليرحم المتلقي عنه فينبهه إليه بالترقيم أو التحديد الصريح ، ولو لم يفعل لكان أوقع وأشد تأثيرا وإعجابا. وكان وما زال لدى غيره حوارا لمن يستطيعه أو كأنه يستطيعه ، فصار لديه حوارا لكل شيء مُدْرَك بأية حاسة من الحواس مادية أو معنوية ، وفيما سبق نماذج صالحة لحواره لنفسه ولغيره من الناس ، وللجدران ، وللريح ولموطنه ، غير أن في قوله في قصيدته ” وردة من دم المتنبي “:
    ” البراكين أمه صار أما للبراكين للإرادات عزما
    كم إلى كم تفنى الجيوش افتداء لقرود يفنون لثما وضما
    ما اسم هذا الغلام يا ابن معاذ إسمه لا من أين هذا المسمى
    إنه أخطر الصعاليك طرا إنه يعشق الخطورات جما “. (ص48 – 49)
    نموذجا ، لمدى خصب الحوار لديه وعظم طاقته فيه واقتداره عليه في القصيدة العمودية ؛ إذ تكثر الأصوات ليختلط في هذا المضيق ، صوت البردوني وصوت المتنبي وصوت راعي المتنبي وصوت صاحب راعي المتنبي.
    10- أما التصوير الذي أصابه عمى البردوني في مقتله ، فصار عنده ممتحنه الذي يجتهد له ويستنفر كل ما تسرب إليه من علم وما وُهب من فن – وكل ذي عاهة جبار – ليصنع منه ما يعلو به على غيره من المبصرين ، فإذا كان التصوير وما زال لدى غيره وسيلة من وسائل بناء القصيدة أو وسيلة الوسائل التي يمكن أن تُترك إلى غيرها ، فقد صار لديه مع السخرية والحوار ، أساس كل قصيدة ، وصار أعظم توفيقه فيه ، حين يجمع بينه وبين السخرية والحوار في وقت واحد معا – وهو الاجتماع الذي يجلو الوسائل الثلاث ويرتفع بها إلى سماء الإبداع – فإذا ما فرق بينه وبينهما ، صار إلى نمط من التشبيه أو الاستعارة أو المجاز ، لا يخلو من طرافة ، غير أنه لا يخلو أيضا من تكلفٍ مقصور.
    أما النمط الموفق فقد سبقت نماذج صالحة له ، وأما النمط الآخر فكما في مثل قوله في قصيدته ” غير كل هذا “:
    ” مثلما تهرم في الصلب الأجنه تأسن الأمطار في جوف الدُّجُنَّه
    يحبل الرعد ويحسو حمله ثم يستمني غبارا وأسنه
    تمطر الأعماق نفطا ودما يحلم الغيث بأرض مطمئنه
    يعشب الرمل رمالا وحصى يستحيل الغيم بيدا مرجحنه
    ينطوي البرق على إيماضه كتغاضي عمة عن طيش كَنَّ
    ينشد الحلم البكارات التي لا يعي النخاس من ذا باعهنه
    تأكل العفة من أثدائها يغتدي القتل على المقتول منه “. (ص179 – 180)
    لقد أراد أن يعبر عن فساد العالم الواقع وطموحه إلى غيره ، فاحتطب بعض الظواهر ، وتكلف لها بعض الصور الطريفة المقصورة العاجزة ، فتمنينا أن لو فعل (غير كل هذا) !
    رحم الله سيدنا عبدالله بن صالح البردوني ، أبا بصير اليمني ، الذي كان نسيج وحده في هذا الزمان العربي الإسلامي المتهرِّئ ، وتجاوز عن سيئاته ، ولم يحرمنا أجره ، ولم يفتنا بعده. آمين !
    الثلاثاء 01 أبريل 2003

  • 433 البردوني واليمن.. وطن يؤلّفه الكلام.. الأستاذ/ هشام علي بن علي

    >  البردوني واليمن.. وطن يؤلّفه الكلام.. الأستاذ/ هشام علي بن علي

    يقول غوته في “الديوان الشرقي” “من يود فهم شاعر ، فليذهب إلى بلاد الشاعر”.
    ولكن كيف يمكننا فهم شاعر، إذا كان هذا الشاعر متوحداً مع بلاده، لاتراه إلاّ منغرساً في طين الأرض متشحاً برائحة حقولها وأوديتها، بل انك لاترى اليمن إلاّ ووجه الشاعر عبدالله البردوني حاضر أمام عينيك، كأن مرآة اليمن لاتحمل سوى وجه البردوني. كيف نفصل بين الشاعر وبلاده، كيف نفك هذا التوحد والاتصال عند شاعر استثنى مثل هذا الفصل حين، جعل عنوان إحدى قصائده: “إلآ أنا وبلادي”..
    هل يمكن أن نخترق هذه الوحدة، وأن نبحث عن الشاعر، الصانع، الكاتب، المؤلف لهذا الوطن، شعراً وكتابة وحلما. الشاعر ينشئ الوجود أو يكتبه إنشاداً، أو أنه يصغي لأصوات الطبيعة ويعيد ترديدها شعراً. أهو الإيحاء الشعري، أم أصوات الجن في وادي عبقر، أم أنها غواية الشعر وسحره، توقظ في النفس حنينا لعنف البدايات والإبداع والتأسيس حينها تختلط الدهشة بالكلام فيسيل الشعر مثل الماء. الشعر تأسيس للوجود بالكلمات الدهشة والتأسيس هماما يجمع الشعر والفلسفة. لهذا طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته؟
    قد يبدو هذا التقديم مفرقاً في البعد عن الموضوع فنحن لا نبحث في قضايا الشعر المطلق، وعلاقات الشعر بالوجود أو الفلسفة أو الكينونة والتاريخ. ولكن تعمدت،اختيار هذا المدخل للولوج إلى العالم الشعري للبردوني، أو لتحقيق مقارنة عامة للبردوني تحرر القراءة، من حصار النقد الذي فرض حدوداً ضيقة لفضائه الشعري، أصبحت يوماً إثر آخر، قيداً يعيقنا عن تحقيق قراءة ديناميكية متحررة من عصا الأعمى، الذي تحول من أفق رحب محتمل إلى كومة ضيقة ضئيلة مضيئة في وسط الظلام، لقد حاصرنا البردوني بقيود الطبيعة، ثم اضفنا قيداً إلى قيد، العمى الأيديولوجي أو العشى السياسي الذي لا يملك سوى رؤية أحادية البعد، حرمتنا من لذة القراءة الشاملة لشعر البردوني، القراءة المتحررة من العمى البصري والعمى الايديولوجي أو السياسي..لقد ضاق البردوني بهذا الحصار المفروض عليه، لم يضق بالعمى الذي قدر له، بل ضاق بمحاصرته والنظر المحدود له كشاعر: أعمى، حتى أنه كان يرفض مقارنته بشعراء عظماء مثل أبي العلاء المعري، يرفض أن يكون العمى اساساً للمقارنة. فالشعر أو الإبداع بشكل عام هو اقتحام المجهول بالرؤيا والتجلي، لا بالرؤية، والإبصار. يولد الشعر في لحظة لقاء تحجب الوجود وانكشافه، في لحظة إشراق وتوهج.
    كان البردوني متصالحاً مع العمى، لم يكن يعاني منه، اعتاد عليه وتعود على العيش يحس بوجود الأشياء ولا يراها لقد سئل ذات يوم: أيهما تختار البصر أم الشعر؟
    سؤال غريب بدون شك، فالبردوني لم يكن مخيراً بين الأمرين لقد اقتحم الشعر حياته كقدر لا يرد، مثلما كان العمى مصيبة داهمته في الصغر، حتى أنه كان يسمع أباه يجمع دائماً بين مصيبتين، عمى ابنه عبدالله ومرض الجمل الوحيد الذي كان يملكه واضطر إلى نحره! ورغم هذه الذكرى المؤلمة، لم يصبح العمى عقدة أو جداراً يصده عن مساره. بل على العكس، لم يعد البردوني يقبل أن يقايض الشعر بالبصر، رغم إيمانه بنعمة البصر.
    “أنا لا أفضل شعري على رؤية البصر، ولكنني قد ألفت العمى، حتى أصبحت أخاف الإبصار، ولا أظن أنني أعاني العمى لأنني أحس التعويض (بالشعر) هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الحواس ليست قيماً بشرية، فالفأر أقوى حاسة شم من الإنسان، والغراب احد بصراً من الإنسان، لأن الحواس والغرائز مشتركة (بين الإنسان والحيوان) كما أن العاهات مشتركة بين الناس والحيوانات، وربما نتذكر أن عبقرية الرؤية جعلت مني فيلسوفاً، كما أن عاهة الصمم جعلت من بتهوفن فن موسيقياً عظيماً، كما أن عاهة العمى هي التي أنبتت في المعري مئات العيون الداخلية، لأن السماع بالأذان تقليدي، والرؤية بالعيون الجارحة اعتيادي، أما الرؤية بمواطن القلب، ومواهب العقل فهو اجتياز للموروث والمعتاد، فهذا العمى قد أصبح صديقاً، وجعل من الشعر اكثر التصاقاً بنفسي(1).
    والعمى لم يمنح البردوني الحكمة وحدها، لقد أعطاه القدرة على الصبر والتآلف واعتياد الأشياء فمثلما العمى وألفه اصبحت لديه القدرة على التألق مع كثير من الأمور التي يعجز كثير من الناس على اعتيادها. ففي قصيدة “اعتيادات” نكتشف كيف اعتاد الحب واعتاد النسيان.

    لم أكن (شهريار) لكن تمادت
    عشرة صورتك لي (شهرزادا)
    كان حبي لك اعتياداً وإلفا
    وسأنساك إلفةً واعتيادا
    ليس في هذا الاعتياد أي نقصان في درجات الحب، بل أن الحب يكون في منتهى درجاته حين يغدو إلفة واعتياداً. وكذا يكون النسيان اختياراً صعباً وقاسياً، لكن الإرادة القوية تجعله أمراً مألوفاً.
    وهنا ندرك عمق الرفض عند الشاعر عبدالله البردوني فهو لا يرفض لمجرد الرفض، بل أن الرفض يكون خياراً أخيراً بعد أن تنقطع جميع أسباب التآلف والتصالح. وربما نكتشف أهمية هذه الصفة حين نقرأ قصائده السياسية والاجتماعية.
    بل أن هذا الرفض المحمول على جناح الصبر والتأني والتآلف، كان يجعل البردوني في ضيق من التأويل الأيديولوجي والسياسي المتعجل لقصائده، حيث أخذوا يحملونها معاني وإشارات لا تحتملها. وميزة الرفض في شعر البردوني الوضوح والمباشرة فالقصيدة السياسية عنده رسالة واضحة، ولعل هذا ما كان يأخذه عليه كثير من النقاد. إلا أن البردوني لم يكن يبني عالماً شعرياً بالكلمات، بل كان يؤلف وطناً، أراده شعرياً جميلاً، وشاءت قوى الطغيان والهيمنة والصراع وميراث العصور أن يكون قاسياً، منشوراً مشطزا مع ذلك، كان البردوني مسكوناً بالأمل كان يصغي دائماً، رغم الفوضى العارمة والخراب المدمر لطرقات الأمل الذي يقرع باب اليمن!

    وطن يؤلفه الكلام!
    ربما يكون ثمة وهج عبقري أو أنها لحظة إشراق وتجلٍ، كانت كامنة في مخيلة ذلك الفنان الشاب الذي عبَّر في لوحة واحدة، عن تلك الصورة المرآوية التي وحدت اليمن وشاعرها، أصبح وجهه وجه اليمن، وأصبحت صورتها هي صورة الشاعر. فقد رسم في لحظة تداخل مرآوي مدينة صنعاء يفصلها بابها السحري الشهير، باب اليمن، ووجه البردوني الذي يظهر واقفاً خارج الباب، كأنه يحرس وجود المدينة. أو كأنه الوجه الآخر للمدينة داخل المرآة.
    قد تكون هذه اللوحة التشكيلية، قراءة بصرية عميقة لشعر البردوني. فصنعاء تتشكل في قصائده واليمن تولد في كل كلمة من كلمات شعره ليس سوى الشعر ما يهب للوطن هذا ما يصرح به البردوني في قصيدة قصيرة بعنوان “لعينيك يا موطني”.

    لأني رضيع بيان وصرف
    أجوع لحرفٍ، وأقتات حرف
    لأني ولدت بباب النحاة
    أظل أواصل هرفاً بهرف
    أنوء بوجه، كأخبار كان
    بجنبين من حرف جر وظرف

    > > >
    أعندي لعينيك يا موطني
    سوى الحرف أعطيه سكباً وغرف
    أتسألني: كيف اعطيك شعراً
    وأنت تؤمَّل، دوراً وجرف
    افصل للياء وجهاً بهيجاً
    وللميم جيداً، وللنون ظرف
    أصوغ قوامك من كل حسن
    وأكسوك ضوءاً ولوناً وعرف
    يفتتح الشاعر علاقة جديدة بالوطن، أو لنقل إن شعره يصير لحمة هذا الوطن وسداه.. إن التأليف الشعري لا يقتصر على الوصف والتعبير، انه ينشئ إنشاداً؟ ليس كلاماً بل وجهاً وجيداً وجسداً، ثم يكسو هذا الجسد ويضمخه بالعطر والضوء. الكلام يؤلف الوطن ينشئ الشاعر علاقة بين الكلمات والأشياء. في حوار الفرجياس.. يضع افلاطون الكلام مقابل العنف، الفيلسوف مقابل الطاغية هذا هو الشاعر عبدالله البردوني الواقف في وجه حكم الأئمة والحادي لمسار الثورة والتغيير والحرية. إنّ زمن الحرية لا يأتي بزمن معين. الحرية فضاء مفتوح، قلم التاريخ وتؤسسه بل تعيد تشكيله في كل آوان والبردوني الذي يعيد تكوين الوطن كان يعلم علم اليقين أن الرهان الأساس هو رهان الحرية لكي نعيد بناء الوطن والحفاظ على ثورية الثورة، ينبغي أن نكون احراراً هذا هو الصبح المبين، وهذه هي البشارة:
    أفقنا على فجر يوم صبي
    فيا ضحوات المُنى: اطربي
    أتدرين يا شمس ماذا جرى؟
    سلبنا الدجى فجرنا المختبي
    لكن هذا الفجر الذي انتزعناه من فم الدجى ليس نهاية الطريق، انه البداية. وقد بقى البردوني يرقب هذا المولود بعين ناقدة حريصة وتتكرر وقفاته مع الثورة، لا احياءً للمناسبة، بل تأصيلاً لجذوة نار الثورة، واستمرارها. ففي قصيدة تقرير إلى عام 71 “حيث كنا” يكتشف البردوني أن ذلك الفجر ما يزال صبياً، وأن تسعة أعوام من عمر الثورة مرت مثل عام.
    غير أنا وبعد تسع طوال
    حيث كنا كأنما مر عام
    في هذه القصيدة يبين البردوني أن القوى المضادة للثورة، في الداخل والخارج، كانت أقوى من عزائم الثوار، أو أن هؤلاء الذين قاموا بالثورة “قعدوا قبل أن يروا كيف قاموا” لقد اشرنا سابقاً أن الشاعر يدرك أن الحرية ليس لها حدود، ومشكلة ثوار سبتمبر أنهم وقفوا عند حدود اسقاط الحكم الإمامي.
    ليس فعل الثورة وحده ما يؤلف الوطن لقد قلنا إن هذا الوطن يؤلفه الشاعر، يعيد تكوينه حرفاً فحرف. وهنا الكلام لا يعكس الواقع وحسب، بل يعيد تشكيل الوطن، يتقمص محنة الشعب، يحكي للعالم مأساته. ولا يبدو الشاعر واقفاً خارج باب اليمن، يصف ما يجري من بعيد، إنه منغرس في رحم الأرض، متوحد معها.
    نحن هذي الأرض.. فيها نلتظي
    وهي فينا عنفوان واقتتال
    من روابي لحمنا هذي الربى
    من رُبى أعظمنا هذي الجبال
    ولا يكتفي الشاعر بهذا التوحد الجسدي بالأرض، انه يستعيد تجربة التكوين والتغيير والثورة، يفقأ عينيه لكي يرى:
    لكي يستهل الصبح من آخر السُّرى
    يحن إلى الأسنى ويعمى لكي يرى
    يبحث الشاعر عن اليمن، يحمل وطنه معه في الغربة، يعيش تجربة السفر دون وداع ودون شوق إلى الرجوع ألم نقل ان الشاعر لا ينفصل عن وطنه، ليس ثمة مسافة فاصلة بين الأرض والجسد يرحل الشاعر ووطنه معاً:
    حان أن يقلع الجناحان.. طرنا
    حفنة من حصن على صدر قلعه
    مقعدي كان وشوشات بلادي
    وجه أرضي في أدمعي الف شمعه
    ووصلنا.. قطرات مأساة أهلي
    من دم القلب دمعة بعد دمعه
    يرحل البردوني حاملاً حجارة البلاد ووشوشات الأهالي ودموعهم. جناحا الطائرة يحملان وطناً كاملاً اجتمع في ذات الشاعر:
    صرت للموطن المقيم بعيداً
    وطناً راحلاً، أفي الأمر بدعه!؟
    احتسي موطني لظى، يحتسيني
    من فم النار جرعة إثر جرعه
    في هواه العظيم أفني وأفنى
    والعذاب الكبير اكبر متعه
    كل شيء في شعر البردوني مغمور بواقعيته. الكلام هو الوجود والإنشاء. تأليف القصيدة وتأليف الوطن. هذا هو التكوين الشعري ليس ثمة استعارية ولا تشبيه كلمة الوطن هي الوطن ان لفظ “كأن” غير موجود في شعر البردوني فهو يسمي الأشياء، دون أن يراها لا لأنه أعمى ولكن لأن هذا هو الشعر دون لماذا؟ فالوردة تزهر لأنها تزهر هكذا قال هيدجر حسبنا أن ننطق بأشياء الواقع حتى نمسك بها. نعرفها ونتعرف عليها والكلمات ليست صوراً للأشياء، انها جسور للعبور والوصول تحس وجود الأشياء، وليس شرطاً أن تراها أو لنقل انها تراها برؤية القلب، لا رؤية البصر.
    لا غرابة اذاً، ان يبحث صنعاني عن صنعاء. رغم هذه البنايات والأسواق والأصوات والبضائع، لا يجد الشاعر مدينته التي فارقها. لا يحس وجودها، لا يراها!
    هذي العمارات العوالي ضيعن تجوالي.. مجالي
    حولي كأضرحة مزورة بألوان اللآلي
    يلمحنني بنواظر الإسمنت. من خلف التعالي
    هذي العمارات الكبار الخرس ملأى كالخوالي
    أدنو ولا يعرفنني أبكي ولا يسألن:
    مالي وأقول من أين الطريق؟ وهن أغبى من سؤالي.
    هناك شيء ضائع في المدينة لقد فقدت قلبها. أصبحت صنعاء مدينة بلا قلب. انها لا تعرف ابنها العائد ولا تهتم لبكائه. ضاع الحب من المدينة. غابت عنها العلاقات التي تؤلف بين الناس وتجمعهم. أحقاً أن المدينة القديمة لم تتغير، من حيث بيوتها وشوارعها وأسواقها. لكن الذي تغير هو قلب المدينة وجوهرها تغير الناس وتغيرت العادات والعلاقات الدافئة بينهم. لم يكن الشاعر يسأل عن اسماء الشوارع أو عن الطريق اليها، كان يسأل عن تلك الاشياء الخفية التي تحتجب وراء ظاهر العمران. عن هذا الصمت الذي يحسّه رغم ما يزدحم في الشوارع من فوضى، عن هذا الخلاء الذي يراه في البيوت رغم أنها ملأى. يطوف الشاعر في شوارع المدينة بقلب عاشق، يرى كثيرين ولا يرى أحداً!
    هل هذه صنعاء..؟ مضت
    صنعاء سوى كسر بوالي
    خمس من السنوات أحبلت
    وجهها الحر “الأزالي”.

    من أين يا اسمنت امشي؟
    ضاعت الدنيا حيالي
    بيت ابن اختي في (معمر)
    في الفليحي بيت خالي
    أين الطريق إلى (معمر)؟ يا بناتي يا عيالي
    وإلى (الفليحي) يا زحام.. ولا يعي أو يبالي
    بالله يا أماه دليني ورقت لابتهالي
    قالت إلى (النهرين)،
    قدّامي وامضي عن شمالي والى (القزالي)
    ثم استهدي بصومعة قبالي
    من يعرف (النهرين)!.. من أين الطريق إلى (القزالي)
    من ذا هناك؟ مسافر مثلي يعاني مثل حالي
    حشد من العجلات يلهث في السباق وفي التوالي
    وهناك (نصرانية) كحصان (مسعود الهلالي)
    وهناك مرتزق بلا وجه.. على كتفيه (آلي)
    لقد أنكر الشاعر مدينته، رغم معرفته لها بيتاً بيتاً.
    انها ساكنة في الذاكرة لا تبرحها. أهو النسيان؟ لعل المشكلة أنه عاد ولم ينس شيئاً. كأنما التقط لها صورة وحفرها في الذاكرة، لم تكن صورة فوتوغرافية، إنها صورة بابعاد أربعة، البعد الرابع هو الحياة الاجتماعية المليئة بالألفة والحب، لقد كان الجميع عائلة واحدة، وحين عاد إلى المدينة بعد أعوام، كان أهالي صنعاء قد خرجوا منها..ليس هذا وحسب، لقد جاء الغرباء، ودخلت معهم عادات جديدة وغريبة. هل كان البردوني يبحث عن صنعاء المخزونة في الذاكرة، في نوع من الحنين إلى ذلك الماضي والتوق إلى عودته. ليس هذا ما يقصده، إنه يبحث عن روح المدينة، يفتش عن علاقاتها المتمزقة، يعجب لوجود المرتزقة المسلحين في شوارعها، للأجانب الذين لا نعرفهم. لا يعبر الشاعر هنا عن رفض الآخر، لكنه يقلق من وجوده لكثرة ما ارتبط وجود الغرباء بالمؤامرات والدسائس.
    اليوم (صنعاء) وهي متخمة الديار بلا أهالي
    يحتلها السمسار، والغازي، ونصف الرأسمالي
    والسائح المشبوه، والداعي وأصناف الجوالي
    من ذا هنا؟ (صنعاء) مضت واحتلها كل انحلالي.

    إن الشاعر يرفض هذه العلاقات الجديدة التي تتشكل في المدينة، مدينة مليئة بالبشر، لكن بلا أهالي هذه الكلمة أهالي تحيلنا إلى الأهل، إلى القرابات التي تتكون في المدينة، ليس قرابات عائلية بالضرورة، ولكنها قرابات تنشأ بالحب والتآلف والاجتماع. مدينة صنعاء في رأي البردوني ليس مكاناً يجتمع فيه مجموعة من الناس وهم مضطرون لذلك الاجتماع انها مدينة تأسست على عقد اجتماعي اساسه الحب والايلاف والطمأنينة. اذا غاب هذا العقد، تفقد المدينة ركنها المؤسس، تصبح مكاناً قاسياً، جدراناً صماء لا حياة فيها.. ومدينة مثل هذه ينبغي أن تثور على ساكنيها، وتنتفض على غزاتها:
    أمي! أتلقين الغزاة بوجه مضياف مثالي؟
    لم لا تعادين العداء..؟ من لا يعادي لا يوالي.
    ورغم هذا لا يعود الشاعر من حيث أتى. فالبردوني مسكون بالألم وبالأمل.
    من أين أرجع.. أو أمرُّ..؟ هنا سأبحث عن مجالي
    ستجد أيام بلا منفى وتشمس يا نضالي!
    وأحب فجر ما يهل عليك من أدجى الليالي.
    ولكن كيف يمكن للشعر أن يؤلف الوطن، وسط هذا الركام الهائل من الذكريات. هل نتذكر الوطن أم نبنيه؟
    هل يتجه الشاعر نحو الماضي أم نحو المستقبل؟
    ان الماضي ليس بيت الشاعر الذي يحن اليه، ولا هو الجنة الضائعة التي يفتش عنها. لقد لاحظنا في قصيدة “صنعاني يبحث عن صنعاء” أن ذلك البحث هو بحث عن الهوية، الهوية الوطنية بكل امتلاكها التاريخي والحضاري ليست النوستالوجيا ما يحرك الشاعر، ولكن الاستمرار والتواصل، استمرار الهوية التي تجمع وتوحد وتعيد تكوين العلاقة بين الانسان والمكان، وتمنع تحول المدينة إلى غابة من الأسمنت.
    إعادة ترتيب الذاكرة ومقاومة النسيان والبحث عن زمن ضائع أو عالم ضائع، هذه أشكال متقاربة لإعادة التأليف والتكوين..وقد كان الحلم هو صبح الشاعر الذي يتداخل مع الذاكرة..حتى حين يفتح الشاعر كتاب التاريخ، يكون المستقبل هو الباعث والدافع لمراجعة التاريخ وقراءته.

    الشعر والتاريخ:
    يقول أرسطو في “فن الشعر”: إن الشعر اكثر نزوعاً فلسفياً من التاريخ، أي أن الشاعر في رؤيته لأحداث التاريخ ووقائعه أكثر عمقاً من المؤرخ الذي يفرق في علم التاريخ وكتابة حوادثه.
    يستكنه الشاعر ما وراء الحوادث، يعيشها ويعبر عنها بمعاناة ومكابرة، يصبح ضمير أمته ولسان قومه.
    والكلام ليس عن الشاعر على الإطلاق، ولكن عن ذلك الشاعر المتوحد في هموم شعبه وقضايا مجتمعه البردوني ينتمي إلى هذه الجماعة من الشعراء الذين يعيشون التاريخ وتحدياته، ولا يكتفون بالتأمل والوقوف من بعيد. البردوني هو الضمير الجمعي لليمن، حسب وصف الباحث قادري حيدر الذي يرى أن البردوني “عاش حياته بالطول والعرض حاملاً مشعل الحرية مواجهاً لكل أشكال الطغيان والاستبداد والقمع بكل صنوفها وألوانها حتى آخر لحظة في حياته المليئة بصخب الحياة وعنفها.
    عاشها كما لم يعش أحد غيره عاشها ملتحماً بأدق تفاصيل حياة الناس البسطاء، عاش حقائقها ووقائعها كلها، إنه سيرة حياة الوطن وتاريخ شعب، وفي اسمه وكفاحه، شعره وأدبه وفكره يمكننا اختزال تاريخ أمة، إنه التاريخ الحي للوطن.
    يبين الأستاذ قادري شرط العلاقة بين الشاعر والتاريخ، هذا الشرط حين يتحقق، يصبح بالإمكان بعده أن نقول أن الشاعر لا يسجل شهادته للتاريخ أو عن التاريخ، ولكنه يحمل ذلك التاريخ على ظهره، أي أنه يحمل مسؤولية ويعبر عن موقف، يكون الحاضر والمستقبل هما الدافع للتفتيش في أوراق التاريخ وتقليبها، وتكون العبرة والاستفادة من دروس التاريخ هي الهدف.!
    كان سؤال التاريخ ملازماً للبردوني، انه سؤال الوجود والهوية والكينونة.
    وأشعار البردوني التي تمتلئ بأسماء الأماكن والمدن والقرى، تمتلئ ايضاً بذكر الوقائع التاريخية والحوادث والأزمنة. فالبردوني يرسم أطلس البلاد أو جغرافيتها، ويجعل التاريخ بعداً ثالثاً لأحداثيات المكان.. ففي قصيدة (مسافرة بلا مهمة) يظهر وجه البلاد وقد تزيّ بلباس التاريخ، ولا اقول تزين بلباس التاريخ، على نحو ما يقول الفيلسوف هيغل الذي يرى أن الفن هو أعلى أشكال الحياة، لكنه ليس هو الحياة، انه إطار تزييني للتاريخ.
    كسر البردوني الإطار التزييني للتاريخ، رمى زجاج القمرية الملون بحجر، رافضاً تلويناتها ونمنماتها التاريخية، فتح نوافذ شعره لضوء الشمس الساطع حتى يصل إلى أقبية التاريخ وسراديبه المجهولة.
    وحين جاءت ورقة من التاريخ لتسافر في ارض اليمن. رحل الشاعر قبلها ليدلها على خطوط الزمن، التي رسمت ملامحها على الأرض وعلى وجوه الرجال. تبدأ الرحلة مع تلك العروس التي.. امتطت هدهداً وطارت آسيرة، بداية غرائبية للتاريخ، وصورة معكوسة الدلالة. الطيران رمز للحرية، لكن هذه العروس اليمنية تطير لتصبح أسيرة. هذه مأساة اليمن، الداخل والخارج، السد أو المنفى. اجتراح العيش والصبر على المقام أو الهجرة في المنافي. وتمضي القصيدة في سرد للتاريخ يتجاذبه الداخل والخارج. ان تاريخ اليمن لا ينحصر في داخلها، ولكنه يمتد إلى الخارج أو أن الخارج يمتد إلى الداخل.
    ومن تغريبة الأوطان ومنافيها وحتى جحيم الغزو الذي صار رماداً في نجران، قارة، وجعل صحراء اليمن متاهة لجيوش الاسكندر تارة أخرى، وارض الموت والهلاك لجنود الأتراك، وبين هذه المصائر لا ينسى البردوني مصير الشاعر وضاح في قصر أم البنين، حيث مات حلم الشاعر ومات الشاعر بلا ثمن، في صندوق مقفل مليء بالأسرار.
    طاف الشاعر تاريخ اليمن، ملاحقاً تلك الورقة المسافرة من أول قصة الهدهد إلى أخر قصة البلاد التي غيّرت اسماءها وطوال رحلة السرد يبدو الألم سيد الأحاسيس وأميرها.
    حتى أن حكمة البردوني التي قالها في حضرة ابي تمام “إن طريق الراحة التعب”، هذه الحكمة ليست صحيحة، لكثرة ما توالى علينا من تعب، ونخشى أن يصبح هذا التعب اعتيادياً.
    ولئن كان التاريخ غالباً على هذه القصيدة، لكننا نجد البردوني يجاهد للإمساك باللحظة الشعرية، ليس لحظة الابداع وحسب، ولكن لحظة الامساك بالعالم وامتلاك التاريخ. وهذا ما يميز كتابته الشعرية عن كتاباته النثرية. فهذه الكتابات على الرغم من اهميتها، إلا أنها لا تحمل جرأة الشعر وقوة اسئلته انها كتابات مقيدة بتوجيه العقل، على ما فيها من صراحة وشفافية ونقد، وعلى ما تثيره من إزعاج للكثيرين، ممن لا يحبون فتح أعشاش الدبابير التي تملأ تاريخنا. ان البردوني الشاعر، يتحرر من قيود العقل وشروط المنطق، حين يجوس في ظلام الوجود باحثاً في ليل المعنى عن جوهر التاريخ وهذا هو سر الشعرية، حرية حرة كما قال رامبو.
    حرية الكشف والاكتشاف. ربما أن هذه الحرية لا تجعل الشاعر مؤرخاً بالمعنى المعروف، لكنها تجعله يحس احساساً عميقاً باتجاهات التاريخ، تجعله تاريخانياً، اذا أمكن القول.
    لقد بين اوكتافيو باث “أن كل قصيدة هي محاولة للمصالحة بين التاريخ والشعر لصالح الشعر. ذلك أن الشاعر، حتى عندما يندمج في المجتمع الذي يعيش فيه وعندما يشارك في ما يسمى مجرى العصر، ينشد دوماً، التملص من طغيان التاريخ”.
    والذي يظهر من قراءة قصائد البردوني التاريخية، أو بالأحرى التي تجنح لقراءة التاريخ وليس سرده، أن الحلم يفيض على الواقع فالشاعر يقدم قراءة أخرى للتاريخ، ليس القراءة الرسمية التي كتبها المؤرخون وتناولوا فيها سير الحكام واعمالهم. البردوني يقدم سيرة الشعب تاريخ الناس والبلاد. ان اهتمامه بالثقافة الشعبية وألوانها الأدبية هو بحث عن التاريخ الغائب، تاريخ الناس الذين دوّنوا تاريخهم حكمة أو شعراً عامياً أو حكايات. أصغى البردوني لأصوات اولئك العابرين السرّيين في التاريخ اليمني، الذين لم يكونوا صامتين ابداً، وكان خطابهم شفاهياً متداولاً بين الناس، هؤلاء العابرون لم تتضمن خطاباتهم الكتابات التاريخية الرسمية كتابات كاتب الدولة أو كاتب السلطان استعاد البردوني ذلك الخطاب المنغرس في ذاكرة التاريخ، والذي يتداوله الناس إلى اليوم رغم انه لم يحفظ بين دفتي كتاب، بل حفظه الناس في القلوب والسلوك. ولذلك يعود البردوني لمحاورة علي بن زايد باحثاً عن صنعاء الرؤية ووضوح الفكر، عن الحكمة الطالعة من أقواله وعن الشوق إلى رجعة ذلك الحكيم والحنين إلى زمنه، ذلك الزمن الجميل أو الزمن الذي نتخيله جميلاً:
    هل كنتُ في عصر بلا دولة
    فوضاه أرقى من نظام المدى
    كان يؤدي ما عليه بلا
    أمر، ويصبيه تمام الأدا
    ولا يصلي، إنما يبتني
    من قلبه في قلبه المسجدا
    يبدو الشاعر مثالياً في تخيله لذلك الزمن المثالي. كأن الحكمة في نظره لا تأتي في الزمن الصعب. ولذا يظل القلق والتوق إلى المستحيل في تجليه وجماله هاجس الشاعر، حتى وهو يرقب تحقق حلمه وحلم اليمنيين في إعادة وحدة الوطن.
    عن وحدة الشطرين ماذا ، وهل
    أفقت من سكرين، كي اشهدا؟
    أين أنا، نصفي انطوى في الذي
    هنا، ونصفي في الذي زغردا
    وربما أصحو على غير من
    أماتني سكراً، وما عنقدا
    لأنني كنت أُغني، فما
    دريتُ من ذا ناح، من غرَّدا
    ولا من اهتاج، وقال: التقوا
    لكي يقوي الفاسد الأفسدا
    أو من أجاب: اثنان من واحد
    أقوى، ومن ثنَّى الصدى والندى
    من صاح: عرسي وحدتي، من نعى؟
    من قال: كنا قبلها أوحدا؟
    يقال إن للشعر عالماً ضائعاً وراءه، نظام كان متضمنا فيه لا يمكن الوصول اليه حتى عند عبور الأحلام. يأخذ الشاعر هذا العالم المستحيل على عاتقه، يدرك أنه لا يمكن أن يعود من جديد، ومع ذلك يفكر فيه باعتباره مستقبلاً. إن تحقق الأحلام
    يقتطع منها اكتمالها ومثالها، حتى حين عبد اليمانيون القمر، ضاع شيء من نوره وسناه:

    وعن (معبد القمر) استخبرت
    فقيل أضاع السنا من عبد
    وحين يتجسد الحلم أو المثال في شخص حقيقي، يصطفيه الشاعر بصفات تفوق صفات البشر، يجعله متحداً وكل خوارق الطبيعة والأشياء الجميلة فيها:
    كفجأة الغيب تهمي
    وكالبراكين تزحف
    تنثال عيداً، ربيعاً
    تمتد مشتى ومصيف
    نسغا بي كل جذر
    نبضاً إلى كل معزف
    ولكن “مصطفى” يحمل ايضاً صفات بشرية، ولكنها صفات نادرة يصعب الامساك بها في هذا الزمان. انها صفات قادمة من ممالك الحلم، حيث الاشياء والكلمات واحد لا يتجزأ، وللحق لسان مبين لا يقبل المساومة أو التنازل:

    أحرجت من قال: غالي
    ومن يقول: تطرف
    إن التوسط موتٌ
    أقسى، وسموه: ألطف
    لأنهم بالتلهي
    أرض وللزيف أوصف
    وعندك الجبن جبنٌ
    ما فيه أجفى وأظرف
    وعندك العار أزرى وجها، إذا لاح أطرف
    يكسب “مصطفى” صفات خالدة، لا ينكسر ولا يضعف ولا يموت:

    قد يقتلونك، تأتي
    من آخر القتل أعصف
    لأن جذرك أنمى
    لأن مجراك أريف
    لأن موتك أحيا
    من عمر مليون مترف
    يصبح “مصطفى” بما يحمل من صفات، تجمع الكل في واحد، وتسمو فوق الأطماع والشرور، يصبح المهدي المنتظر الذي يحقق العدل ويبلغ المثال:

    يا “مصطفى”. يا كتاباً
    من كل قلب تألف
    ويا زماناً سيأتي
    يمحو الزمان المزيف
    إن قراءة البردوني للتاريخ اليمني تحاول دائماً أن تخلق توازناً بين المؤرخ والشاعر، لكنه رغم ما في شخصيته من واقعية، يظل مفتوناً بالحلم، تواقاً إلى الفجر الآتي، مسكوناً بالأمل.

    خاتمة:
    كتب البردوني في دراسة عن “عمارة اليمني” قائلاً:
    “لعل من المفيد التنويه أن الإجادة وحدها -مهما بلغت- لا تحقق شهرة مترامية. فلابد أن يصدر عن هذه الإجادة الفنية إثارة اجتماعية ومشاغل فكرية ذات خطورة”.
    إن البردوني في حديثه عن عمارة يتحدث عن مشاغله ومشاغل شعره وحياته، كان البردوني يحمل اليمن ويحلم بها في آن.
    كان يعلن حضوره الدائم في كل تاريخها وآمال ابنائها. كانت قصائده تملأ ذاكرتنا وتخترق وجودنا وتشكل وعينا وثقافتنا.
    لقد جعل البردوني الوحدة اليمنية مسألة هوية للإنسان اليمني حين حوّلها من شأن سياسي آني إلى مسألة وجود وامتداد في الزمان وفي المكان. ولهذا الانغراس العميق بالوطن والتاريخ، أصبحت هذه القصيدة “الغزو من الداخل” منشوراً سرياً حمله اليمانيون في منافي الأوطان.

    يمانيون في المنفى
    ومنفيون في اليمن
    جنوبيون في (صنعاء)
    شماليون في (عدن)
    > > >
    يمانيون يا (أروى)
    ويا (سيف بن ذي يزن)
    ولكنا بزعمكما
    بلا يُمن بلا يمن
    بلا ماضٍ بلا آتٍ
    بلا سر بلا علن
    تحولت قضية الوحدة في هذه العقيدة، من هدف سياسي إلى شرط هوية ووجود. لأن هذا الوجه المشطر للإنسان اليمني كان يحمل غربته وعوامل نفيه اينما يتوجه في أرض اليمن وخارجها.
    كشف البردوني بوهج الشاعر وتجلي الشعر هذه الحقيقة. جعلنا نبصر كم نحن مشوهون ومغتربون عن أنفسنا. هذه الرؤية/ الرؤيا كونت الوطن، أعادت تأليفه، وحدتنا شمالاً وجنوباً، يساراً ويميناً، نبهت الأذهان إلى أن التجزئة هي حصان طرواده الذي يتسلل من خلاله الغزاة إلى الداخل.
    قبل الختام، أستعيد ما كتبه الشاعر محمد مهدي الجواهري واصفاً أبا العلاء المعري:

    أحللت فيك من الميزات خالدةً
    حرية الفكر والحرمان والغضبا
    “مجموعةً” قد وجدناهن مفردة
    لدى سواك فما أغنيننا إربا
    لا أظن الأمر يختلف إذا حوّلنا هذين البيتين لتصبحا وصفاً للشاعر عبدالله البردوني، بل لا أظن الشاعر الجواهري يعارض ولو قدر لنا أن نسأله. فالمشترك بين المعري والبردوني ليس العمى، وهو ما يركز عليه كثيرون، ولكن تلك البصيرة التي نورت بنور العقل وحرية التفكير وقوة النضال، سيرة الرجلين وفكرهما.
    ان اجتماع صفات المفكر الحر العقلاني، والمناضل السياسي والفيلسوف الشاعر الذي اقتحم باصرار جمهورية افلاطون، والمثقف -المؤسسة أو المثقف العضوي الذي تفوق على جميع الأحزاب وسما فوق كل الرتب، هذه الصفات مجموعة، تجعلنا ندرك اليوم، كم كنا منشغلين عنه، مقصرين تجاهه، كم كنا أبناء عاقين لا نصغي كغاية لهذا الحكيم الذي حاول أن يقودنا إلى يقين الحق وأنوار الفكر، ربما أننا كنا نصغي لصوته الشعري والغنائي، نترنم ونفرح أو نحزن بتلك الايقاعات المنبعثة من أعماق التاريخ، إلا أننا كنا نرجئ تذكره ونؤجل قراءته بطريقة حوارية. لماذا؟
    هل كنا مطمئنين لحضوره بيننا. أم أنا كنا نخاف اقتحام محاورة هذا العملاق الواقف في مجرى النهر، نخشى أسئلته وألغازه التي تمنع عبورنا اذا عجزنا عن حل تلك الأسئلة.
    (هذا ما كنت أحسه دائماً وأنا أقرأ أسئلة المسابقات الرمضانية التي كان يعدها لصحيفة الثورة في السنوات الأخيرة من حياته!).
    كان البردوني في كتاباته وأشعاره، يحفز فينا فكر الاختلاف، يثير في وجوهنا أسئلة الواقع وتعقيدات الفكر لكننا كنا مستسلمين لراحة البال التي تفرز تنابلة كسالى، لا مثقفين فاعلين في المجتمع. ولعلنا اكتشفنا كم كان البردوني غائباً عن وعينا وفكرنا، بعد أن رحل عنا، وتركنا نعاني حرقة الاسئلة ومشقة الحضور الواعي في العصر.
    ويمثل البردوني ظاهرة فريدة ونوعية في الثقافة اليمنية، أو في الثقافة العربية بشكل عام اذا جاز لنا القول. ليس لأن شعره كان يشق مساراً استثنائىاً ومتميزاً، جمع عمود الشعر العربي القديم وأعمدة الحداثة الشعرية والفلسفية والمجتمعية، ولا لأن لغته الشعرية التي تستعيد جذور العربية دون تعقيد، وتمتلئ ببلاغة الاستعارة ووضوح العبارة، يقرأها كل الناس لأنها جمعت فصاحة القول وشعبية المعاني. فكان ذلك الشاعر الذي يغني للشعب بعمود الشعر، بعد أن جعل الفصحى لساناً يعبر عن قضايا الانسان العادي وليست برجاً للتعالي والتحذلق.
    واللغة وحدها ليست عنوان فرادة البردوني، ثمة مسألة أخرى. لقد استطاع البردوني أن يعوض بالشعر، بالكلام أدواراً عديدة، كانت للأحزاب والمؤسسات والأيديولوجيات. فاليمن عاشت عقوداً من انعدام الاستقرار والفوضى والحروب كانت المؤسسات، رسمية ومدنية، شبه غائبة، وكانت الأحزاب محظورة أو منظورة في الحزب الواحد الحاكم، وكانت الأيديولوجيا تتأرجح بين الحدود القصوى. وفي هذا المناخ المعقد أو الخانق، كان شعر البردوني وفكره قنديل هداية وسفينة نجاة، كان الكلام يعيد النظام لهذه الفوضي، كان الشعر يؤلف الوطن.
    كيف نكرم الشاعر عبدالله البردوني؟
    سؤال أضعه في ختام هذه الورقة، محاولاً أن ادفع هذه الندوة في اتجاه ابعد من الاحتفالية الواسعة أو الأكاديمية الضيقة، سؤال ليس بجديد، فهو يتكرر في كل عام، في ذكرى وفاة الشاعر، تتعدد الأفكار والاقتراحات، وتتدافع الاتهامات بالإهمال والإلغاء ويبوح كل منا بما يتمناه لتخليد ذكرى هذا الشاعر الذي حمل اليمن في قلبه، عبر عنها وامتزج بها وجداناً وشعراً، اصبح شعره قاموس اليمن، ومفتاحاً للدخول إلى بابها الشهير.
    اتمنى أن نخرج من هذه الندوة بتوصيات عملية تتوخى إمكان التطبيق ولا تشطح إلى حدود المستحيل، وهي الحدود الوحيدة التي تليق به.
    أما التكريم الحق فقد ناله البردوني في حياته، ليس تكريماً من سلطة أو حزب أو منظمة، ولكنه تكريم من الشعب.
    لقد عاش البردوني في قلوب الناس، وهو يسكن اليوم في ذاكرتهم أستعيد بهذه المناسبة ما قاله الشاعر الراحل محمد سعيد جرادة، حين دعاني مرة لشرب الشاي في مقهى صغير في شارع جانبي في التواهي، فحين اخبرته بأن هنالك مقاهي أخرى اجمل من هذا المقهى، أجاب باعتزاز يكفي أنه يحمل اسم البردوني.
    انني اشعر انني اشرب الشاي بصحبته في هذا المكان.

    مراجع:
    1) وليد مشوح… الصورة الشعرية عند البردوني ص129
    2) لوحة فنان شاب فازت بجائزة رئيس الجمهوية لإبداع الشباب في العام 1999م، قبل وفاة البردوني ببضعة أشهر.
    3) قادري أحمد حيدر البردوني (المثقف المؤسسة) ساخراً ص60
    4) عبدالله البردوني (عمارة اليمني وأسباب شهرته) مجلة الثقافية يونيو 1997م.

    – وكيل وزارة الثقافة
    – من البحوث المقدمة لمهرجان البردوني بجامعة ذمار

  • 313 يوم انفجارها الغضبان

    رجعة الحكيم بن زائد >  يوم انفجارها الغضبان

    لوس أنجلوس، لوس أنجلوس
    موت يزفه عرس

    حرائق وأعين
    يقبرن وضعاً مندرس

    يجدن لحمهن في
    جلود كل مختلس

    * * *
    لوس أنجلوس كل المدى
    بكل ومضٍ تنجنس

    وادٍ على غمامةٍ
    بحر على تل ملس

    صبيحة كي تنتقي
    شمسين عادت تغتلس

    فجاءةٌ نصت على
    باب القياس لا تقس

    * * *
    زمان وصلٍ عنده
    كل البقاع الأندلس

    ينصب أحضاناً إلى
    قعر الطيوب تنغمس

    وقبلةً فأربعاً
    ترن حتى تنهمس

    * * *
    من ذا ابتدت؟ تكاد من
    عنف الوضوح تلتبس

    لوس أنجلس تشع من
    خلف مرايا (الكنقرس)

    كأنها نبوءة
    تتلو كتاباً منطمس

    * * *
    تحصي ضلوعها: متى
    وأين ضيعت الخمس؟

    تعد كم (ددشي) هنا
    وكم هناك (توفلس)؟

    ما لي ك(روبسبير لا
    جمهور باريس الحمس

    ماذا أرى نظافةً؟
    هنا الذي لا ينكنس

    من أبأسوا واطناً
    يزهون، لا من يبتئس

    لهم محفةٌ تقي
    وأكلب عطشى تعس

    تهر حولهم وفي
    أبراجهن تلتحس

    * * *
    من يا (سبرت).. قال لا
    إلاك والكل خرس

    قالوا: عصى عبدالعصا
    من ثور الطين النجس

    يساط شهراً بعده
    يشريه أقوى مبتخس

    * * *
    لكن لماذا ما ذوى
    ولا انحنى ولا يئس؟

    كيف استطال هل درى
    نخاسه من ينتخس؟

    ما أهون الفلوس في
    شرائه يا: (ميكلس)

    أمن أتاك ثائراً
    كمن أتاك يفتلس

    * * *
    كل الولاة واحدٌ
    (فيكتوريا) أو تحتمس)

    تسقيه سكرة العلى
    غرور شيطان خنس

    من قال لا، قيل إلى..
    كي لا يشم ينتهس

    ويخنق (الديك) الذي
    يستوفز الفجر النعس

    ويبتغي حجب الضحى
    عن رؤية الشعب التعس

    * * *
    من قال غير (أحمدٍ)
    أحصة الأم السدس؟

    وما اتقى رئاسةً
    لأنه لا يرتئس

    * * *
    وحدي أشب غضبتي
    غيري له أن يحترس

    من لا يرى لونيةً
    ورأس مالٍ مفترس

    بول الحمير أبيضٌ
    وهو الخبيث ابن الدنس

    لا الأبيض اسم بيتها
    قالت: بعيداً ينفقس

    لأنه يرعى دماً
    ويبتني دماً يبس
    بلا نهى مدججٌ
    ينوب عن أعلى القسس

    لكل ذا خلعته
    من قرنه حتى الأسس

    له قوىً بعكسها
    تلهو إلى أن تنعكس

    * * *
    خلعت عسكريتي
    خلع الصباح ما لبس

    قالوا: أتت كما أتى
    من غيبه الروح القدس

    من كان أمس خصمها
    غدت تحس ما يحس

    لأن قلبها لها
    بكل قلبٍ يأتنس

    لا فرق إن قادت وإن
    أعطت قيادها السلس

    * * *
    تحن كالمعنى إلى
    شعريةٍ كي تنبجس

    كسحرةٍ تدني ضحىً
    بالياسمين مترس

    * * *
    ماذا ينث جيمها
    وأي لاميها يهس

    وأي سينيها الذي
    يروض المعنى الشرس

    * * *
    ذا يومها صف أمسها
    هل فيه غيب ينحدس؟
    كان يرمد الندى
    يحاصر القلب الهجس

    وكل برقٍ ينتوي
    وكل عصفورٍ ينس

    ألهته شهوة القوى
    عن أن يراه ينتكس

    * * *
    لوس أنجلوس متى محت
    هذا، صحت كي يرتكس

    قالت لرمسها انفلق
    لابن الأساطيل ارتمس

    * * *
    قل أي كبتٍ فجرت؟
    قل أين كان منحبس؟

    جاءت لهيباً يمتطي
    ناراً، وأخرى تقتبس

    كلجةٍ تدس في
    صبر الشطوط ما تدس

    طفولة من حبها
    تحب كسر ما تجس

    * * *
    من جمرها تبرعمت
    أجنت ولما تنغرس

    تعطي وتدني لكي
    يرقى إليها الملتمس

    أغسطس 1992م

  • 314 اليوم.. قبل الأخير

    رجعة الحكيم بن زائد >  اليوم.. قبل الأخير

    كما تبغت البشرى سرى أخضر الخطى
    على منكبي شوقٍ له أعين القطا

    تليه روابٍ من نبوءات بارقٍ
    كما ماج صيف بالخزامى تحوطا

    من العكس حتى العكس يجتاز ذاته
    إلى ذاته الأعلى، يدين التوسطا

    * * *

    يصافي كما يفضي الربيع بسره
    يعادي كما تعيي الحمامات أرقطا

    يغني نثيثاً واحتمالاً مشرداً
    من القلب ينسى أي دقاته امتطى
    * * *

    على شوقه يشوى ليرقى غمائماً
    وينصب للأطيار والنحل مهبطا

    وحيناً يرى عكس الأماني، وتارةً
    كما تعشق الشمطا الغلام المقرطا

    * * *

    وشت ليلة حيرى بدقات قلبه
    إلى البدء واستأنى يروض المخططا

    وقال انتظر يا قلب، أختار مطلعاً
    ألم كتاباً شاخ حتى تفرطا

    وأوغل في مرمى الشتات ململماً
    معيداً إلى أرقامه ما تلقطا

    وخط عليه، سوف أكسر بيضتي
    كما أنضجتني، سوف أطهو التورطا

    على أفصح الضحوات، أغدو وأنثني
    وفي الظلمة الأغشى أضيء التخبطا

    * * *

    فترنو الثواني من شروخ انتظارها
    ترى القرب ما أبداه، لا البعد أقنطا

    هل انهار ذاك الباب يا ريح؟ ربما
    نأى أو نأيتم، لا أرى الآن أشحطا

    وكان (السرى) يتلو مظن انبثاقه
    كتاباً سيحكي عنه أرضى وأسخطا

    * * *

    فقال (السهى): يا (مشتري) هل عرفته؟
    دعوه (خزاعياً) أبوه تنبطا

    وقال الفتى النجام: أسماؤه كما
    تراها، ودع للسرك أعلى وأضبطا

    فتفضيله أدعى إلى قتله به
    فتنشق عنه، ثم تدعوه أحبطا

    وقص كتاباً غامضاً عن ختانه
    وأخبار يوم اعتم حتى تسمطا

    * * *

    ومن أين تستدنيه؟ من بدء بدئه
    إليه،وماذا عنه من يوم أنفطا؟

    عليك تقحم ذلك الشوط مكرهاً
    لكي تمتطيه بعد عامين منشطا

    تسقط معي أخباره يا أخي السهى
    إليه ترفع، فهو ما اعتاد مسقطا

    ولا خاطه كالطين شيء إلى الثرى
    ومن قبله أعيا الثرى والمخيطا

    وما شأنه إن مر يستنبح الحصى
    عليه، ويستعوي الغبار المغلطا

    * * *

    ومن ذلك الساري؟ يلوح ثلاثةً:
    يغني، يجيب الصمت، يهجو المثبطا

    ومن غير باب القصد يأتيه مضحكاً
    أعرني كتاباً، لاجليداً منقطاً

    وهذا الذي ألفته نصف معربٍ
    يريد لساناً، كي ينادي ويلغطا

    * * *

    وأنت لكان واسمها تشحذ المدى
    وعند جواب الشرط تستل مشرطا

    إذا كنت تعنى بالألى أنت بعضهم
    فألف عروبياً فصيحاً مبسطا

    كهذا، وماهذا، متى كان كاتباً؟
    عرفناه أمياً إلى أن تسلطا

    صدقت، فما لاحظته مرةً على
    محيا كتابٍ مسرحياً منمطا

    * * *

    وأما الذي يذكي دم الحرف نبضه
    عليه يلاقي رهط (ياجوج) أرهطا

    ويرتاب ما للذئب لا يرتع الكلا
    ويلقى الظلام الرابط الجأش أربطا!

    يريه جهاز الجلد عشرين ناقراً
    أتدعوه يا تفصيل أقرى وأسوطا!!

    أما قال هذا عنك يا (مشتري)، متى
    رأى لي صوباً من تراثية الخطا!

    * * *

    أمن فجر عهد النفط تغدو مؤرخاً؟
    أراني بذاك العهد أحوى وأحوطا

    سأشتق منذ الآن حبراً وكاغداً
    من النفط يبدو واقعياً ممغنطا

    بمن سوف تستهدي؟ بمنطوق حكمةٍ
    توازن، وزن لا مفرطاً لا مفرطا

    * * *

    أأنت على عراف (ذيبان) منطوٍ؟
    لبست وإياه من المهد مقمطا

    أعنونت فصلاً؟ بت أستل عرقه
    من القحط، كي لا ينجب الآن أقحطا

    * * *

    سأجلوه من ظلي أبيه وأمه
    كصبحٍ شتائيٍ رأى الجو أشبطا

    وأشتف من يوم الختان زواجه
    وكم زار معتماً ولاقى ممشطا

    * * *

    هل استوقف التاريخ مشط وعمةٌ؟
    إلى الأغمض الأقصى تخطى المحنطا

    إلى الجوهر الأخفى توغل مكاشفاً
    أعصر الشظايا فوقها استنعم الوطا؟

    أفي ساحة (القصرين) صلى (ابن حوشبٍ)
    لأن (الجنابي) باسم (مرزا) تقرمطا

    أقال عن (ابن الفضل) بت العرى به
    وأي جوادٍ ليس يحتاج مربطا!!

    وهل بايعوا ذاك اختياراً كما أدعى
    وهذا اشترى العكسين، قل كيف خلطا؟!

    وما سر (فيدل) مثل ما كان ينتمي
    إلى الشعب يأبى أن يذل ويغمطا؟

    وهل قاد تيار الجماهير ثائرٌ
    لهم، لا له يجتاز سهلاً ومئقطا(6)

    وهل (هنت) بيزنطا التي لا يرونها؟
    وكم (ذي القروح) اليوم؟ دع أسفل الغطا

    * * *

    أذاك رسول الفجر؟ ما قال يا سهى؟
    لميمون وعد أن يهنى ويغبطا

    أتصغي؟ دعا (المريخ) هل ذر نجمه
    كما استخبر الأنسام ماذا تأبطا

    أجابت: أرى (المهدي) وإياه واحداً
    و(زرقاء) في عينيه تهواه أشمطا

    أكان العطا يعدو ثلاثة أحرفٍ
    ولاح، فأوحى وجهه سورة العطا

  • 315 تلك التي..

    رجعة الحكيم بن زائد >  تلك التي..

    كل يوم تأتين، ما جئت يوما
    كيف تدنينني وتنأين دوما؟

    وتقولين لي: ضعفت لماذا
    لا الحمى اعتز فيك، لا عز قوما؟

    من رآهم هانوا، وهانوا على من
    حين قالوا علو، أقالوا علوما

    * * *
    لا تخافي، بنار عينيك أقوى
    يوم ضميت (زين) من ضم (توما)؟

    من أدارت على الكباب نبيذاً
    غير من أغرقت رغيفك (زوما)

    أبداً يقتل الرغيف ويحيي
    من أطار (البونق) أو قاد (كوما)

    * * *
    من تراني في غور عينيك هر
    شم أولى هريرةٍ فتموما

    أهي أنت التي، أنا قبل عامٍ
    رجمت بي (طلحامة) (نجد ذوما)؟

    هل تطلقت مرةً، ثم أخرى
    وثلاثاً إن فاض كيس (ابن جوما)؟

    من تزوجت أنت؟ عمات (إنا)
    أخت (كانا) وقنزعاً وشلوما(3)

    لست أنتِ التي، أنا من كلانا
    خلفته أقوامه فتقوما(4)

    قلت لي نلتقي عشية أمسٍ
    مت شوقاً وبت ألقاك نوما

    أي سارٍ كالسحر هوم رأسي
    قيل شاب السهاد وانحل (هوما)

    قلت أين التي زقت باب قلبي؟
    قيل تلهو، تومي إلى غير مومى

    * * *
    وهتفت الصباح: أي خريفٍ
    أمطر الأمس كدت أغليه لوما

    أي حينٍ تفضل اليوم؟ يبدو
    ماطراً مثل أمس آتيك عوما

    ومعاً سوف (ندرج المتن) هيا
    ما ترومينه أفديه روما

    * * *
    ولماذا ما جئت والصحو أصحى
    من تسومين بعت وابتعت سوما

    بعد يومين رن صوتك: عفواً
    جئت وثباً تخيلياً وحوما

    هل حكت أي كرمةٍ عن هزارٍ
    مات في جلوة العناقيد صوما؟

    أي شكل تحب مني، زواقي
    أم أنا إذ أبيع (ورساً) و(دوما)؟

    1992م

  • 316 حلقات.. إلى فصول الحاء

    رجعة الحكيم بن زائد >  حلقات.. إلى فصول الحاء

    أغطوا عورة البنكين
    ومن سلبوهما الجلدين

    من اعتصروا عظامهما
    ولاكوا قشرة القدمين

    أتعرفهم؟ نعم وأنا
    وسل خمساً إلى خمسين

    * * *

    حسوا أخفى قروحهما
    نضاراً، من صحون لجين

    ومن غوريهما طلعوا
    حبالى وارتموا كالحين(1)

    إلى حلق الحمى أغزى
    وأرأى من غراب البين

    أحط من الذباب، وإن
    رقوا سقطوا على الفلسين

    على لمعان جنبيةٍ
    لها نسب إلى (ابن هرين)

    على كنز العجوز، على
    حلاها المقتنى والهين

    لأن القبح داخلهم
    فأحلى ما يرون الشين

    أغطوا عورة فيهم؟
    أليسوا عورة الوضعين؟!

    ومسؤولين موطنهم
    من الشدقين للفرجين

    أترجوهم وهم ألهى
    بهم من ربة النحيين

    * * *

    زمان القحط زعمهم
    لكي يدعى أبا القحطين

    وكي تعتم صلعته
    بقرني ثور ذي القرنين

    فشادوا دولة الأفعى
    ومأمورية السطوين

    ورسمياً بدوا غزواً
    ومن ياجوج ياجوجين

    * * *

    وبالوهمية انتفخوا
    فغاص الطول في العرضين

    تراءوا من كانوا
    وجاؤوا ما دروا من اين

    أجاؤوا أم تحملهم
    على سهوٍ، بساط لين؟

    غدوا أثرى من المبغى
    وهم أولاد (خف حنين)

    وحكاماً لهم، وعلى
    أبٍ يدعى حفيد (رعين)

    * * *

    لأعلى روسهم رأس
    له تاج على الفخذين

    وذيل فوق هامته كلوح
    الغول ذو فرعين

    يولي دار ثروته
    هوىً يبتاعه نصفين

    ومن كعب الغنى يصبو
    إلى الأغنى على الحالين

    ومن حب الغنى غنى
    وقبل البا تهى الغين

    يمد إلى من استعدى
    على دمه فماً ويدين

    * * *

    من استعطى ومن أعطى
    من استغشى به حربين

    من استعدى كما تحكي
    من استجداه مذ يومين

    * * *

    نفى ذا ما أدعى هذا
    وبات يجيش الردين

    لأن النفي تغطية
    تلف الوجه بالرجلين

    * * *

    (مجلي) عنده خبرٌ
    كخفق القلب، نجوى العين

    أصيخوا لحظة، تعروا
    كتيس يقتضي تيسين

    وكي يصغوا شدا أعلى
    “مراكش فين وتونس فين”

    * * *

    إليكم خير تهنية..
    نجا (المهدي) من الموتين

    أشاعوا مات في (الخفجي)
    ب(صبيا) وهو في البحرين

    وكنا هاهنا سمراً
    فأمسى حولنا شبرين

    أمات؟ وأين؟ كيف وما؟
    أتم صياغة الشرقين

    ولا أرسى الذي يرجو
    وجوداً من سنا الفجرين

    لأن هواه ضوئي
    لأن بقلبه قلبين

    وكنا في الذي يحكي
    ويوصي أول الحرفين

    يقوينا على الأقوى
    ويكفيهن ما يلقين

    رثاها (المرتضى) أرقاً
    و(طه) جاد بالبيتين

    وأضنت كل منحدرٍ
    ربى يصفعن بالسفحين

    وصاغ الدمع (ذو يزنٍ)
    قصيداً، عبقر العصرين

    ونادت أم ذي الوادي
    تلوح يداه كالبرقين

    أشم خطاه من فج..
    وفوج ضحاه من فجين

    (عدينة) باسمه اتعزت
    ومن عرقيه رف (عدين)

    فأومى فجأةً نبأ..
    كأول حمرة الشفتين

    رأى (المهدي) بأشتورا
    عليه ومض مهديين

    أذاع الأمس في (دلهي)
    بياناً في (الرباط) اثنين

    فزفت وضعها الخضرا
    من المبكى إلى العرسين

    وماذا؟ والتوى الراوي
    كطيفٍ هارب الجفنين

    * * *

    لماذا (المرتضى استخفى
    قبيل تكشف الخيطين؟

    بأقصى قلبه لهب
    يقاتل دونه الشفتين

    أما (يحيى) به أدرى
    وأخشى من بنات (القين)(2)

    يخفن البيت من فمه
    يرعن الجار بالجارين

    لهن مرتب أعلى..
    وأخفى من دجى القصرين

    * * *

    سألت الصبح عمته
    بكت واستبكت الأختين

    وكاد البيت يطفر من
    كواه يشعل الحيين

    ويذكي (كربلا) أخرى
    على من عسكر الشمرين

    ويرمي ب (الحفا) (البطحا)
    بشم (الحيمة) (النهدين)

    * * *

    أضاف (العون) يبدو لي
    أبوه أتعب الخطرين

    صباح الأمس كاشفني
    أتدري كيف مات (حسين)؟

    دعاه الأمن مشتبهاً
    وأسلمه إلى الكلبين

    * * *

    نعم، جبنا الضحى عنه
    وبحر الليل والشطين

    فأوحى الليل ما أوحى
    وأزجى الصبح برهانين

    وقال الراصد: استوفوا
    بهذا، ثلث مليونين

    لهذا زارني جاري
    وأركبني إلى بابين

    يرائي ذاك يدخلني
    وذا يفضي إلى قبوين

    * * *

    هنا باب الأفندم (خا)
    هنالك نائب الركنين

    أهذا جارنا الأجفى
    هنا يحتل كرسيين

    أصحت تهمة اللسنا
    به وشهادة الأمين

    لهجن، رمى بزوجته
    ليعطي بنته زوجين

    لهذا رأسوه على
    رئيسيه، بلا راسين

    بدون كفاءةٍ، لكن
    بشرطٍ، يحتوي شرطين

    * * *

    رمى عينيه بين فمي
    وبين سكوته شطرين

    تكلم من (حسين) من
    دعاه من أشاع المين؟؟

    سل الكلبين عن ولدي
    وعنك (جهينةً) و(جهين)؟؟

    أتقتله وتمنحني..
    بضم جحيمكم قتلين؟؟

    متى (فندمتمو) كلباً..
    يقود الليل شرطيين؟

    تعشي الكلب إنساناً
    أتستكفي بإنسانين!

    فقال: اكتب لنا قسماً
    بدفن السر في لحدين

    وكانت زوجة الوالي
    ترى السجان من ثقبين

    فنادت: يا فلان أضف
    وللنسوان أن يبكين

    * * *

    كثير منك هذا يا..
    وما أغلى حنان الزين

    أنا فيهم بأمر أبي
    ومنهم يوم نقضي الدين

    شكا في غور لهجتها
    فطيم فاقد الأبوين

    ضحايا كلنا يا.. يا..
    وقال سكوتها أمرين

    ضحايا كلكم، أما
    أنا، فضحية الثديين

    وسلت مديةً حزت
    وألقت خلفها النهدين

    * * *

    فنادق المدلج الحادي
    إلى يائية الحاءين

    يحيي عندم المنهى
    على حشدية البدأين

    يحني الحرب كي تفضي
    إلى حرية الحبين

    1994م

  • 317 مرقسيات النفط اليماني

    رجعة الحكيم بن زائد >  مرقسيات النفط اليماني

    يقال: قبيل ختان (الإمام)
    رأوك عياناً، ورؤيا منام

    وقال الألى: سمعوا شاهدوك
    ب(نيعان) ليلاً، ضحى في (شبام)

    وقال الألى: شاهدوا ما رأوا
    محياك، لكن رووا عن (حذام)

    * * *

    وقيل: أضأت الدجى فاهتدى
    إلى حصن (كحلان) من في (عرام)

    وكنت تفسر غيب المنى
    وتغدو الهوينا، وتسري اقتحام

    * * *

    وكان عليك اصفرار النضار
    بياض الصلاة، اسوداد الغمام

    وودية التين تحت الندى
    وورسية الطفل بعد الفطام

    * * *

    وقيل: بلا أي لونٍ، وقيل:
    له حمرة كاحتراق الظلام

    وذو لثغةٍ ما لغاها صبي
    وشيخوخة غير شيب الأنام

    * * *

    يكر ويعيا فيبدو كمن
    أتى وحده الآن من عهد (سام)

    له من قروح (امرىء القيس) ثوب
    وكوفية من غيوم الشآم)

    بأردانه طيف (سقط اللوى)
    ومن (شعب دمون) عرف (البشام)

    لأهدابه خفق عصفورةٍ
    رأت رازقيا بوادي (رجام)

    * * *

    وأول من كاشفته عجوز
    ب ماذا تبشرنا يا (عصام)؟

    توالي الزيارات ليلاً وما
    تلم بنا الصبح إلا لمام

    تمرقست ضوءاً، ودفئاً لكم
    فهل ذاب تبراً قبيلي همام؟

    * * *

    وقيل: خيالات بؤس هوت ورؤيا
    جراحٍ تريد التئام

    وقيل: يشق التضاريس من
    حشاها، ويعلن بدء القيام

    * * *

    من القعر يرقى عليه لثام
    فينشق نجمين ذاك اللثام

    ويمتد كالجدول الملتوي
    إلى الخلف، وهو يؤم الأمام

    * * *

    على نبض عينيه يحبو المساء
    كحس العذارى ببدء الغرام

    ويطفو على منكبيه كما
    على مرشف الكأس- تطفو المدام

    * * *

    أمن (قاع شرعة) أو مأت أم
    تصاعدت من شرق (غيل السنام)

    أفاجأت (صعفان) بعد العشاء
    وأخبرت (ضوران) قبل (الحيام)

    أأبرقت من (قاع ذي ماجدٍ)
    فدل البريق عليك الأوام

    * * *

    وعنك حكى سفر (خولان) جيماً
    فزادت (ذمار) على الجيم لام

    فأوصى الفقيه اللواتي إلى
    سواقيك يسرين بالاحتشام

    وألا يقطقطن مثل القطا
    وأن يجتنبن احتكاك الزحام

    * * *

    فباح بمن ضاع فانوسه
    بمن خلفت في المغار الحزام

    بمثرٍ سرى راكباً وانثنى
    كليلاً بكفيه ربع الخطام

    بمن عرجت والتوى فارتدت
    جذيعاً رأوه انحنى واستقام

    * * *

    “قفا نبك، أو نحك لا منزل”
    تخيم كل قطامٍ قطام

    ألي خبر كعشايا (القرود)
    أوردي كيوم انقضاء الصيام؟

    بذا بشر الرايح المغتدي
    ومن عاد أفضى إلى من أقام

    * * *

    وأخبر عنك الرداعي(تعزاً)
    فقالت: ب(صنعا) يباع الكلام

    فقال: رأته يريمية
    يزاقي مسافرةً من (مرام)

    وقالت: إذا ارتاع، فيه اختفى
    ثوان، ولاح كحدى الإكام

    وبالأمس جام الأواعي هنا
    هناك سقى الريح مليون جام

    وقال لسرب الرواعي: سلام
    وعنهن رد الغموض السلام

    ولما أتته ابنة (الدودحي (
    حكى ما حكى، فاستهامت، وهام

    وبات يباكي الربى كالتي
    تفتش عن ناهديها الركام

    * * *

    ومن ذا رأى حاملات الجرار
    عليك يفدن كأظمى الحمام

    يجئن خليطاً فلاذي، وذا
    ولا من حلال، ولا من حرام

    * * *

    ويرجعن يهمسن سراً كما
    توشوش بنت الثمان الغلام

    يقلن ويسكتن، يندى السكوت
    كلمع البكا من خلال ابتسام

    * * *

    أمن شهدوا حرضاً) شاهدوك
    فكيف انطفى في العروق الضرام؟

    أأسكرت عشراً، ولما أفقن
    قليلاً شأى المستهل الختام

    * * *

    فمن عام خمسين لا حس عنك
    حوى حس عامين قتل (الإمام)

    بتلك الدياجي دجا شاربي
    فقلن: متى بلغ الإحتلام؟

    وقيل: متى جئت عفواً وأين
    وقيل: أذاعتك (برمنغهام)

    وقيل: رآك الألى نقبوا
    رماد نجوم علاه (الجثام)

    (تمارا) نفت أي نفطٍ، وهل
    تجلت من البدء وجه التمام؟

    سمعت المدام التي ترجمت
    وكنت أود احتضان المدام

    توسمتها ثقبت خامتي
    فقال سكوتي: وهل أنت خام؟

    * * *

    لو أني عقرت لها ناقتي
    حباني (امرؤ القيس) أعلى وسام

    وقال (المراقس) في كل عصرٍ
    ولجت الحمى و(امرؤ القيس) حام

    قل اليوم: خمر وخمر غداً
    ودع للرياح الغضى والثمام

    * * *

    أكنت كما قيل: مني امتطيت
    إلى عام تسعين سبعين عام

    وكيف سبقت (أرمكو) إليك؟
    متى رف قبل البروق (الخزام)

    * * *

    إذا كنت أمس اخترقت النظام
    فهل أحرق اليوم هذا النظام؟

    “إذا نام أسمو سمو الحباب”
    إليه أريه وصال الحمام

    وأني وإن كنت أهمي سناً
    ودفئاً، على الحرق أقوى التهام

    * * *

    رماني إلى حيث أأبى المتاه
    وبيني وبيني أهاج الخصام

    لماذا لغير بيوتي أضأت
    وأطفأت أشواق أهلي الكرام

    أتدري عليهم عقدت الفؤاد
    بيوتاً، قبوراً، شراعاً، خيام

    أجس ضلوعي فذا (خارف)
    وذا (الوهط) هذا (زبيد) و(يام)

    أوهمتهم بي، وما زرتهم
    غداة وصولي، ولا الوهم دام

    أهذا هو الخير، قالوا وقلت
    كما ينفث الغمد عنه الحسام

    * * *

    أيمت داراً برغم الديار؟
    أما قلت لا وفمي في الرغام؟

    وكانت سكاكينهم لا تجف
    وكانت بنادقهم لا تنام

    ولا من يقول: مساء الردى
    ولا من يعزي (هدى) أو (سهام)

    * * *

    كأهلي ستدمغني بالسقوط؟
    وليت الذي يدعون اتهام

    رأوني وخلوا زماني فضعت
    بآبار من في يديه الزمام

    أليس الذي استاقهم مر بي
    ومني احتواني، إليه اغتنام

    ف ماذا تسمي كهذا النظام؟
    لكل أوانٍ وجوه وهام

    أهذا الأوان له أوجه
    وهام، ثوانيه، صخر عقام؟

    ذوي الأمر، من ثلة القادرين..
    أما القادرون خلاف العظام؟

    فأم العناقيد محنية
    وغير الجواني طوال القوام

    * * *

    بني وطني من درى أينا
    أحر انتماءً وأرقى التزام؟

    تنامون، أمسي لمن أمروا
    أغني وأطهو أمير الطعام

    أزف إليه ومنه أرى
    دمي ذهباً في أكف اللئام

    أنحي كؤوساً وأدني كؤوساً
    فأظمى، وأحسو شظايا الحطام

    * * *

    لكلبته كل يومٍ قطيع
    وتقتات ذقن أبيها (اليمام)

    أنا نفط أهلي، لماذا لهم
    دخاني، وضوئي لذاك المقام

    فبراير1992م

  • 318 عراف المغارتين

    رجعة الحكيم بن زائد >  عراف المغارتين

    انتخب من شئت أو لا تنتخب
    ما الذي تعطي،وماذا تكتسب؟

    من جلا من يرتجى حتى أختفى
    والذي لم ينسحب كالمنسحب

    * * *
    صوتك الأرخص من بيض الدبا

    ينتقي أو هى من (البكر) الجرب

    حزم العملات ما أقتلها
    قبل أن يدعونني قالت أجب

    عرفت قبلي سقوطي وأنا
    أدني من ميتةٍ كي أحتلب

    يا التي، بولي على رأس الذي
    منك أدناني ولي بيت سغب

    * * *
    عبثاً تعطي وتستعطي أخاً
    وعلى رأسيكما من ينتهب

    من يسمي (مارباً) بستانه
    ويرى زوجته أم (كرب)

    * * *
    في الزمان الخلو من معناه، لا
    يبغض البغض، ولا الحب يحب

    لا تسلي عادة التلفاز، لا
    يسكر السكر، ولا الطب يطب

    يلبس الخريج أميته..
    كالعجوز الهم، في الطفل يشب

    * * *
    الحصى والشهب سيان، فلا
    هذه تسري، ولاتلك تدب

    البساتين الفيافي واحد
    عنه يستفتي، وفيه يغترب

    الدوالي والسواقي والربى
    مثلما ينهزم الجيش اللجب

    كيف يا عراف أجتاز إلى
    حلم قصدي، صخرة الوضع الكلب؟

    هذه الصخرة أقوى، تدعي
    هاك من أنيابها الناب الذرب

    جئتها من صوتها ما شعرت
    هل يغني فمها.. أو يختطب

    كيف طالت ركباتها رأسها
    صار ذا قرنين، من ذا يقترب؟

    ونفذت الآن من أحنائها
    حاملاً سراً عليه تنتقب

    أقدرتها فلتة أن تشتري
    بالحمى زمراً عليه مستتب

    * * *
    ربما اختلت قليلاً، إنها
    من جدارٍ خربٍ فوق خرب

    هل تسمي رعشها رقصاً؟ أما
    ذاك أحلى في فمي، من تضطرب؟

    أي تلٍ ما نفى نسبتها
    هل تراها ربع سفحٍ منتسب؟

    * * *
    إنها كانت حصاةً من دمٍ
    فنمت ثم نمت، كي تنشعب

    لا أرى فيها انشعاباً، بل ولا
    أي شرخٍ، قل لماذا تصطخب؟

    ليس بالتصويت ينعاها اسمها
    بل على ما فات منها تنتحب

    لا يعي الوضع تداعيه، كما
    لا تقول الريح من أين تهب
    * * *
    كل ما يدعى انتخاباً خدعة
    تضع المسلوب مرقى المستلب

    والتي تدعى ديمقراطية
    باسمها يحمر، يصفر الكذب
    * * *
    خانت الألوان يا (ميمون)، ما
    كنت لونياً، تجاوزت اللعب

    قال (بدا) انظر المبنى وسر
    وأذب عينيك في المعنى أذب

    هل تشاكي عائداً أو آتياً؟
    سوف يجري ما جرى أو ينسكب

    ما الذي ينصب، هل فيه دم؟
    فر من أعواده الماء السرب

    * * *
    قل يشظي قدميه، وإلى
    أنفه من أخمصيه يلتهب

    يحتذي أسفله ذروته
    وعليه منه يدمى ويثب

    لوله رأي لبشرت ارتأى
    قبل أن يفنى عليه ينقلب

    هل سيفنى ويليه عكسه؟
    ربما يمتد أطغى في العقب

    وبذا يزداد طولاً فوق ما
    زاد، يا تطويل من ذا يقتضب؟

    * * *
    فعلى ماذا افترقنا، وعلى
    ما التقينا، أكلانا لم يصب؟

    قل لكي نقوى على حرب العدا
    تنبري منا، علينا نحترب

    كيف تحيا جرأة الحي إذا
    لم يغالب ضارباً، أو منضرب

    * * *
    ما اسم من إخترت، مر الشهر ما
    لاح مختار، ومن ذا ترتقب؟

    من ينحي خلفه ما يشتهي
    غائباً عن كله -فيما- يجب

    فإذا استعصى فيكفي (يحصباً)
    أن يرى في حبله من يحتطب

    من ينادي يا بن (ميسون) انتسب؟
    عم أمي خال (عبدالمطلب)

    من يعي عن رعد (همدان) إلى
    حلق (إرياط) انتحى سيل (العلب)؟

    عد على لوحيك مسحوباً كما
    جئت محمولاً على من تصطحب

    * * *
    هذه دائرة مثل التي..
    هذه الأخرى ترجي تكتئب

    تلك أخوى ويدلي حزنها
    مقلتيه في محياها الترب

    * * *
    قال جوال: رأت ديارها

    يشتري فوجاً، وفوجاً يغتصب
    رد صوت لا تزر دائرةً

    ما الذي يجي، إلى الدار انجذب؟

    عدت منها وجيوبي مصرف

    والتي أهت يدي كم تحتقب

    منحتني داره مثل الذي

    عنده دار لها باب طنب

    اعطها صوتاً فتعي مبلغاً

    بحوالي نصفه تبتاع (إب)

    * * *
    كلما تقوى به لا يشترى

    من يحوك الفهم من ذا يجتلب

    أين سوق الحدس تشري سلةً
    ذات لمحٍ يجتلي ما يحتجب؟

    منتهى ما ينبغي تفعله

    محتوى ما ينبغي إن يجتنب

    هل لها رأي يريها المبتدا

    وإلى أي المناحي تشرئب؟
    * * *

    من يقي (ميمون) من (ميمون)، يا
    (ذي جدن)، يا حصن (صرواح) الأشب

    هان ذب المعتدي والمنتوي
    من يذب الشعب منه من يذب؟

    1993م

  • 319 الحكيم البلدي

    رجعة الحكيم بن زائد >  الحكيم البلدي

    لا من يداويه، ولامن قتل
    لا ذا ولاهذا، دنا أو رحل

    لا للثواني الصفر، فصل يلي
    ولا طيوف من رماد الجذل

    ولا لوقع القتل طعم، ومن
    نجا قليلاً يحتسي ما تفل

    * * *

    عن ثالثٍ ما يأتلي باحثاً
    عن مستحيل سوف يحكي أطل

    وعن غمام للثرى كله
    ما مر بالظمآن، إلا هطل

    وعن أخٍ أقدره، هل له
    أخ يقويه على ما حمل؟

    * * *

    يا سؤل حتى الموت لما غدا
    سؤلاً، أبى، وافى الذي ما سأل

    إلى كتابي عنده وصفة
    أشفى، عليه واصف منتخل

    من ذا دعاني؟ قل أجاب الدعا
    يا سؤل لباك الحكيم الأجل

    هل ذا اسمه؟ سل عنك في بيته
    كيف احتفى إذ جئته واحتفل

    * * *

    كعهده ما تنثني ثلة
    عن ساحه إلا توالت ثلل

    هاتيك ما تبغي؟ وليداً بلا
    موت، تولي، وهو لما يزل

    قالت: وليدي مات في شهره
    وجد زوجي صخرة فوق تل

    * * *

    وهل له خبر بدرء الردى؟
    قالت: تلا يوماً فأحيا الجمل

    سل هذه الألواح عما اختفى؟
    كم دب في التاريخ حتى وصل؟

    الشهب في يسراه كراسة
    والبحر في يمناه إحدى القلل

    * * *

    إن قاس ضغط الليل نحاه عن
    ليلين: ذا يهذي، وهذا سعل

    أصبى إلى الأخفى، وأسرى إلى
    أقصى التناهي، بل إلى لا محل

    * * *

    يصغي بلا سماعةٍ كي يعي
    معنى التشاكي، سر خطف القبل

    شوق الروابي لو سرت أنجماً
    توق الحصى، لو طار مثل (الحجل)

    يجس نبض البرق، حدس الذي
    يأتي، وفحوى ما أجاد الأول
    * * *

    إليك من أم الندى (صعتراً)
    ومثله (يرني) وكأساً عسل

    ومد (إسطرلابه) كالذي
    يتلو كتاباً عله ما نزل

    هاك (الذفيرا) ينبغي طبخها
    بال(هيل) واشرب كل يومٍ أقل

    * * *

    أكلتها نياً وطبخاً، وكم
    قبلي حسا هذا، ومثلي أكل

    في غور عينيك اعتراض على
    عجز المداوي واقتدار العلل

    أكل موتي سريع إلى
    مرماه، والمنشود يحبو المهل

    * * *

    (إن كنت داويت الهوى بالهوى)
    فاسقي الخليلي بعض خل الزجل

    فقه الترجي من حروفٍ فخذ
    عسى بكوراً، وعشياً لعل

    عاقر عصير الثوم بعد العشا
    واستشرح النوم غموض المقل

    لأن رؤيا النوم غيب يلي
    غيباً سواقيه حريق الغلل

    * * *

    وإن أرقت الليل فارجع إلى
    أنت صبياً لا تراه اكتهل

    ينشق نصفين، وثلثين لا
    يدري لماذا انشق أين اتصل

    * * *

    كيف استحال المنحنى زورقاً
    يجتاز بحراً، كان مثوى طلل؟

    ماذا يدوي، طلقة، عاصف
    تنهدت مقبرة من وجل؟

    منذ ذا يشظي دورةً أذأبت
    ساعاتها، فالكل شاة حمل

    * * *

    وكي ترد العين عنك اجتنب
    إهراق بعض الكحل فوق الكحل

    واختر حزاماً من جلود الظبا
    كون حواشيه بلون البصل

    وذر فوق الجمر هذا إذا
    ولى (سهيل) أو تبدى (زحل)

    * * *

    كيف تراك اليوم يا (مرتضى)
    أقوى فماً من ظامئات الأسل

    أريد آتي الدهر من خلفه
    أعيد ذاك المنتهى مستهل

    أغزو ك(ذي القرنين) أرضاً بلا
    أهلٍ، وأحدو أنجماً من حول

    * * *

    قل أي مستشفى شفى واحداً
    وأينا أدرى ب ماذا اشتغل!

    يا سادة الدالات هل خلتمو
    عرفان سر السر، فن الدجل؟

    لو أنكم أجدى وأشفى يداً
    لما أمتطى الوجعى إلينا العجل

    تلك التي تدعونها حقنةً
    مكوى صغير جمره ما اشتعل

    * * *

    لا نحن، لا أنتم كما ينبغي
    فأينا أغبى وأذكى حيل؟

    أما المهارات التي ما أتت
    فندعي حتى يمل الملل

    * * *

    في كل شيءٍ خلل صايح
    من ذاهنا يجتث أصل الخلل؟

    نفخت يا دكتور (صور) المنى
    أججت خفقاً لا انجلى، لا أفل

    * * *

    أمسى وأضحى بيتهم، بيتنا
    أمسى وأمسى، ذاك جد الهزل

    من ذا رأى من أين وافى متى؟؟
    وافى على من حين طال اتكل

    قيل طوى المعتقل المزدري
    ثم انطوى في قلبه المعتقل

    * * *

    هل يشتري (ميمون) عن شعبه
    أذكى؟ أيطهو ثانياً مرتجل؟

    (ميمون) ماذا تنتوي قبل أن
    تختار ذا أو ذاك، قل ما العمل؟

    * * *

    أوغلت بعداً يا (حكيم) التفت
    ألست من هذا القطيع الأشل؟

    ما فيك شيطان، يقولون بي
    قبيل أسبوعين عنك انتقل

    لست الذي أخرجت شيطانه
    لأن شيطاني عوى إذ دخل

    أقول ما بي -ياحكيم-، اقترب
    وقل، فما عند المداوي خجل

    دخلت مستشفى (سبأ) مدةً
    فمت عشقاً بين (هيلا) و(هل)

    هذي شوتني في قميصي، وذي
    بين محياها وقلبي جدل

    وقيل لي: هذي حمينية
    وتلك فصحى من عروض الرمل

    هذي كما قالوا (شيوعية)
    وتلك حزب -وحدها- من أمل

    في قلب تلك (اليمن المدعي
    هذي مرايا (اليمن) المحتمل

    * * *

    إفتح كتاب الحي، قل لي متى
    أراهما في قبضتي؟ لا تسل

    إن كتاب الحب لا يصطفي
    للعشق إلا شاعراً أو بطل

    وأنت من تدعى؟ نبياً بلا
    قومٍ، وإعجازي سقوط الدول

    فإن نفى دعواك فاهمس له
    يبدو نبياً وجهه ما اكتمل

    ودس هذا الرقم في جيبه
    وعد بضعفيه، أشم الفشل

    * * *

    تعال يوم السبت أو بعده
    غداً: ومن يرشو أمير الكسل؟

    صدقت (فرض الفتح) أخرته
    إليك هذا المبلغ المختزل

    صار الغد اليوم، ويبقى غد
    يرجى ويخشى منذ فجر الأزل

    * * *

    إليك هذا، ما تبقى يلي
    ففيك شاهدت الضياء الأدل

    لو قال ممن أنت، قل والدي
    ذو الحصن، أخوالي وعول الجبل

    لو قال ما اسم الأم سل أمها
    بحارة ما نال منها البلل

    * * *

    اطرح هنا خمسين ألفاً وغب
    يومين واحضر كي نرى ما فعل

    ماذا تراه صانعاً؟ ربما
    ألهى (الثريا) بالثرى واعتدل

    * * *

    أتيت في الميعاد، ماذا أرتأى؟
    رأى مكان الرأس عرش (الكفل)

    العالم المقلوب ما خاله
    -كما تبدى اليوم- وحل الوحل

    * * *

    أبديت فيما أنت، قال انتقى
    هذا النبي الخام أين اغتسل؟

    ماذا؟ أيلهو باثنتين، ارتجى
    هما معاً، هل مثل هذا حصل؟

    قل كل بابٍ ضاع مفتاحه
    أتاح للنجار صنع البدل

    ماذا تبوبي، هات ألفين خذ
    نولي عن الرقمين رقماً (دبل)

    * * *

    غداً أو اليوم، ابتهج واحتفل
    بالنصر، والبس جبةً من غزل

    واخرج من الباب الموارى وخذ
    عقداً وفصاً من جحيم القبل

    1993م

  • 320 مناظرة.. في حوامة العيد

    رجعة الحكيم بن زائد >  مناظرة.. في حوامة العيد

    إن كنت العيد، فأين العيد
    اليوم المبتكر الغريد؟

    وصبايا اللحظات الملأى
    كربيعٍ كحله التسهيد

    الشمس الثانية الأصبى
    الليل الجعد بلا تجعيد

    الأفراح العليا اللاتي
    أعطت ثدييها كاس (هبيد)

    * * *

    يا عيد الآن مضت عشر
    شهدتك معاداً غير معيد

    منشقاً عما كنت كما
    ينشق من الأنس التهديد

    منفياً من فلك الذكرى
    من أودية الأحلام شريد

    * * *

    من يفضي عنك، أجئت على
    كتفي وعدٍ أو ظهر وعيد؟

    أصعدت على قرني فلقٍ
    وعلى قدميك سقطت جهيد؟

    ككتاب وافى مطبعةً
    يلج الميلاد فعاد شهيد

    وكحبلى تخرج من فمها
    ويحل عباءتها عربيد

    ك(حسينٍ) ثانٍ يحمله
    رمح أخفى من رمح (يزيد)

    من ينبي عنك أحس يدي
    تجتاح إلى الورد التوريد

    * * *

    أشلاء العام عليك كما
    يقع الرعديد على الرعديد

    الرأس على اللوحين على
    قطع الساقين شظايا الجيد

    وبرغم مآتمك الشتى
    سترى عيداً حسب التقليد

    * * *

    فستحييك الطلقات كما
    عهدت، ويقال رجعت حميد

    وتحس بيوت الشعب كما
    كانت خربى والقصر مشيد

    والنفط لقبرٍ مملكة وعلى أهليه دم وحديد
    * * *

    وتهانينا لجلالتكم
    لفخامتكم والعمر مديد

    ولأمتكم بقيادتكم
    آت إن شاء الله رغيد

    * * *

    وسيبتاع السوق الأثرى
    ويرد خفيف الجيب طريد

    وتعين المطفلة الأخرى
    وتعزي الثكلى أم قعيد

    كان المرحوم يحل إذا
    عظمت أو يستبق التعقيد

    كالبرق يمني ثم يفي
    ويريد ويدري كيف يريد

    وتجر المبكية الأبكى
    والسوق أصم عن التنهيد

    * * *

    ويقول الألف لصاحبه
    أصبحنا لا نسوى التبديد

    انظر سقطت منها مئة
    مرت ما افتقدت أي فقيد

    * * *

    يا سوق (علي عبدالمغني)
    تبدو مثلي، بلى عبد عبيد

    هذا البنك الأمي سله
    هل يدري القصد من التقصيد؟

    حسب التوجيهات الأعلى
    لا فيك ولا فيهن رشيد

    وعلى الأغنى منه يسخو
    لا تعليمات لا تشديد

    غذوا بخزيمة نشأته
    فامتد بليداً فوق بليد

    ومرور النفط به أوحى
    أن يعتبر الإفلاس رصيد

    * * *

    هذا والقصر هناك هنا
    أسواق تبتاع التأييد

    ينوي تحديد السعر غداً
    وله أن يخترق التحديد

    * * *

    فيعز (القات) على الأسعى
    والقوت عن العانين يحيد

    ويسمي اللاغون الأطغى
    والأغنى الميمون الصنديد

    ويسمي القواد الجربا
    والمسلولات أبض الغيد

    * * *

    لا أنت العيد ولا بيد
    إلا خبر وفتات نشيد

    في قلبي أغنية أخرى
    قلها صمتاً إن كنت مجيد

    أحصرت أعرني قافيةً
    فوقي أقفية من قرميد

    من أفردني عن قافلتي؟
    عن سرب ذويك رماك وحيد

    * * *

    من ذا تستهدي؟ ما أشقى
    مردوداً يستهديه رديد

    من ذا يعطيك فتعطيني
    من أستعطيه يريد مزيد

    أرجو قرشاً يعطي كرشاً
    ما دمت ترجي أنت سعيد

    أسعيد يستسقي حجراً
    ويبوح إلى أشباح البيد

    عفواً، هل أنت العيد كما
    وصفوا، أو أنت لذاك حفيد؟!

    أعلى زندي قمرٍ تأتي
    وتعود على صندوق بريد

    أرأيت على النعمى (سبأ)
    وعرفت لماذا بات بديد!!

    ما كان أكيداً ذاك ولا
    تبدو لي أنت الآن أكيد

    * * *

    أحملت عن (الحمدي) خبراً
    وكتاباً عن تأريخ (أشيد)

    أو ما شميت (عصيفرةً)
    وعبرت إلى (شمسان) (زبيد)

    حرب (الصومال) أطفت بها
    عن (مهدي) قالوا عن (عيديد)؟

    خبر (الأفغان)، له خبر
    أخبار (الصرب) لها تأكيد

    * * *

    هل بثت عن (بكرٍ) (صنعا)
    أو أفضت عن (لوركا) (مدريد)

    أأنا صحفي دهري
    أبكل خريفٍ أنت وليد

    لا من خلفي أقبلت إلى
    قدامي، لا حومت بعيد

    اليوم استثنى رحلته
    ورحلت فريداً غير فريد

    فلماذا جئت الأمس فتىً
    واليوم على عكاز (لبيد)

    * * *

    أيشيخ العيد؟ وكيف صبا؟
    إن كان يشيخ فكيف يبيد؟

    كل الأعياد أتت يوماً
    ومضت وأتى عنها التعييد

    والعيد الوطني هل يمضي؟
    يغدو وطناً ويبيت (عقيد)

    ما كان يظل؟ يكون متى
    لاقيت أنا أو أنت جديد

    1992م

  • 321 ثلاثة رؤوس.. على رأس رمح

    رجعة الحكيم بن زائد >  ثلاثة رؤوس.. على رأس رمح

    إليك، بلا أي وعدٍ أهل
    مفاجأة فوق ما أحتمل

    على أي أرمدتي أنثني؟
    وأي صباً باكراً أقتبل؟

    * * *

    وما اعتدت طارقةً كالتي
    تقولني غير ما لم أقل

    تهامسني بالذي يغتلي
    بقلبي، وفي قلبها يعتمل

    * * *

    قميصي من الطل والزعفران
    ومن ركض مستقبل يكتمل

    ومن شوق صبحٍ وعصفورةٍ
    ومن هجس دالية تنهدل

    * * *

    ألا تقرأ اللمس؟ طوف يديك
    كفيف اليدين، عليك انسدل

    فأبدي مذاقك إن كنت شاياً
    وإن كنت من ذهبٍ تنصقل

    * * *

    بودي أموت قليلاً على
    أراجيح هذا الصباح الغزل

    أما قال بستان هذا الشروق
    إليك أنا، شم وارشف وكل!

    لماذا انكسرت كمرعى الخريف
    كطفل قبيل الصبا يكتهل؟

    زعمت اقترابي حناناً عليك
    حنيناً إليك، هوىً يشتعل

    فما لي وراء إليه أعوذ..
    ولي فيك بيت إليه أصل

    سكت لماذا؟ حروف السكوت
    على باب معجزةٍ تقتتل

    هنا اندفعت ربة، قل نأت
    أحتى الربى مثلنا ترتحل؟

    رحلت عروساً إلى (ذي السفال)،
    وكنت لمن أزدري أشتغل

    يصافي -كما قيل- من يصطفي
    ولكن يعادي ككلب ختل

    تقاضيه مدحي أذىً يا هجا
    أتتفله؟ ما لساني بلل

    * * *

    تغربت عشرين فلت يدي
    ومافي يدي أي شيءٍ يفل

    ترملت شهر احتفالي أنا
    رجعت يمضيعتي أحتفل

    * * *

    على رأس رمحٍ محيا التي
    وأجفان ثكلى، ووجه ثكل

    بقلبي سؤال، أبى ينطوي
    إذا طال؟ أرجوك لا تستطل

    أقيل: لماذا ارتأت عمتي
    إلى القبر عن زوجها تنفصل؟

    أما ذا طلاق بلا رجعةٍ
    لو ان الزواج ارعوى ما حبل

    وقيل: ثوت جذع رمانةٍ
    أمالت صباه، وقالت: أمل..

    أعنها تقول بلا حرقةٍ؟
    وكنت إذا ذكرت تختبل؟

    أأنت مذيع تصب الذي
    يبولون ترقى إلى المنسفل؟

    * * *

    تذكرت ما اسمي كما يستفيق
    قتيل على خصمه يندمل

    سل السفح ذا كيف اركبتني
    إلى (ذات لوحين) ظهر (الوعل

    وقلت: دموع الفتى عاهة
    ودمع الفتاة ضحىً ينهمل

    * * *

    ترى تلك بلدتنا ربما
    أتلحظها كالعجوز الثمل؟

    فلا من يحيى ولا من يرد
    ولا مستغل يرى المستغل

    جموعاً يروحون أو يغتدون
    وكل يأوجاعه مستقل

    * * *

    يخافون سلخين فوق الذي..
    ومن يتقي بعد أن ينقتل

    أقطع الرؤوس انتهى؟ ما لهم
    رؤوس عليها سيوف تصل

    نمر ولا من يحيي، ولا
    يرينا بشاشاً، ولو يفتعل

    ننادي؟ وما اسم المنادى؟ أما
    هنا من نحبهم من نجل؟

    نغني، أقلت اعتزلت الغناء؟
    سلى خيره: أينا المعتزل

    أذب جمرة الدمع أدمت حشاك؟
    دعيه بنيرانه يغتسل

    أبيتي هناك؟ هنا بين من
    أبيت الصبا والمنى يضمحل؟

    أما كنت حول كواه رؤىً
    وبين يديه (هزار) زجل؟

    تنقر عن عمتي كل صخرٍ
    وتسأل من أي ثقب تطل؟

    وكان يهر عليك الكلاب
    غلامان من سطح (بيت العجل)

    * * *

    فتغدوا إلى بئرنا تستقي
    تشم التراب الذي تنتعل

    فتخبر أغنامك السارحات:
    هناك تغني وتقفو الإبل

    ب ماذا استدلت عليها خطاك؟
    حنين إليها، بها يستدل

    أتلمح لفتتها من بعيدٍ
    كسانحةٍ لاقت المهتبل

    تكاد لرقتها تحتسى
    ومن منقى نضجها (تأتكل)

    وكيف عرفتن فن الجمال؟
    إليها فتفصيل هذا ممل

    * * *

    تلوحين أخرى، برؤيا الكرى
    لأن الرؤى تدعي، تنتحل

    أجئت كغيري، أغيري أتت
    أراني الكرى طيف ما يشتمل

    أتتلو قميصي؟ ألم الذي
    تماهى اسمه في حروف السجل

    أقشرتني؟خلت هذا، تمس
    بكلتى يديها النطاق الخجل

    وماذا بدا؟ قلت ما ينبغي
    لماذا علينا بنا ننقفل؟

    تقشر معي في الضحى كي نرى
    حقيقتنا كلها، نبتذل

    لو أنا انقشرنا ف ماذا نكون؟
    سوى قشرةٍ ما لها منتشل

    أتذكر لماد استغرنا أباك
    وبيت أبينا بنا ينتضل

    يكر على قتل أمي تفر
    فيعدو كسرحان وادي (حمل)

    ويرمي به صوبها تلتوي
    وتنسل من قبل أن ينفتل

    ومن مدخل السطح أبرقتما
    وصاح أبوك: أفق يا نغل

    وأتبعت صيحته طلقةً
    فأقعى يرى كل شيءٍ وجل

    * * *

    وقال أبوك: على من وهى
    بمعقله طرح ما يعتقل

    سلام على (بنت قحم الخلا)
    أكلتك عنها، ولما تكل

    ولو أذعنت رتعوا عرضنا
    وغنى بنا كل راعٍ قمل

    فمن ذا استحل بهذا الحمى
    دماء الجنيبات كي تستحل

    * * *

    إليها بكسوتها يا غزال
    وليت اللحى كلها تنغزل

    سأحدو إلى أهلها رحلها..
    أجئت تعقدها أن تحل؟

    أمن خلفها خمسة واثنتان
    تلوذ ومافي بنيها وكل

    فأومأت: قم يا أبي: ما الذي
    أقل عليه اللواحي أقل

    بكى عرقاً حارقاً من رجا
    من الدمع نصرته ينخذل

    * * *

    وكنت تطول أخي قامةً
    وتدعوا أبي (مهدوياً) جدل

    ترى (مرهباً) كاذباً خائباً
    يعد انتصاراته، إن فشل

    * * *

    وتندس من تحت إبط الغموض
    إلى أي طيفٍ بها يكتحل

    وكنت بهذا وهذي أشي
    أطيل التفاصيل، أو أختزل

    فتسأل: من زارنا قاصداً
    إليها، على غفلةٍ ينتقل؟

    فأبدي على بيتنا غيرةً
    وتأسى كمعترفٍ يهتبل

    وتهمس لما طغى حسنها
    نما زائرو (بيت عيسى) الخطل

    * * *

    وتسألني: أهي تبكي إذا
    تغنت، وإن أخبرت تنفعل؟

    تغني فتىً وتعيد اسمه
    فأعيا، وكي تشتفي أرتجل

    أكاشفت عندي جموح الطفور
    وميلاً إلى تهمة المعتدل؟

    فأهويتني وقميصي ذراع
    وقلت: بأي صحيحٍ نخل؟!

    وأخبرتني: أن بنت الضحى
    تقد قميص الدجى من قبل

    وقلت: اطعمي سحر قد القميص
    أحب الصبايا التي تمتثل

    فقيل: (جعيد) بأصبي البنات
    يسلي تصابيه نخشى يسل

    فقال (ابن يحيى): دعوا لغوكم
    (جعيد) كقلب الغمام الهطل

    وقالت (لمي): من رآه صبا
    إذا زل يوماً فما يستزل

    * * *

    لعمتها البنت قالوا، فهل
    يداويه مجلى (هنا) أو يعل

    أتنسيه عمتها من رنا
    إلى الغصن شم الربيع الخضل

    وهاتيك أرض ربيعية
    هنا يجتني، هاهنا يستظل

    * * *

    وذات مساءٍ رآها تزف
    إلى بيت من لقبوه (الودل)

    أهذي (نقا) يا مصابيح، يا
    صراصير، يا منحنى، يا سبل؟

    ويبكي ويسري الدجى لا يصيخ
    ولاصحت: يا ديك (بيت العذل)

    أبوك صديق أبي قبلنا
    أسل دمعةً يا صديقي أسل

    * * *

    وقال (صلاح) -ويدعى الحكيم-
    له حالة تحتها يشمعل

    أيذوي كما خلته يا (سلى)
    وأغنامه كل يومٍ تقل

    يخال على سفرٍ حيث لا
    يرى مستعزاً، ولا مستذل

    ولما خلا الحي منك انطفا
    وشاخ وليداً صباي الجذل

    وقالت (ندى) بنت (يسعى) وما
    طوت سبعها إن هوت تنتخل

    وغنوا (جعيد) فتىً يرتوي
    وأين يرى منهلاً ينتهل

    1993م

  • 322 انتحاريون

    رجعة الحكيم بن زائد >  انتحاريون

    لم يبق في الكأس إلا الكأس يا (عمر)
    عزز بأخرى لأن الصحب ما سكروا

    كالأنجم انتظموا عقدين من فرحٍ
    يعمرون المنى، يعلون ما عمروا

    لأنهم فوق ما شادوا وما بلغوا
    وخلف ما أومأ (السعدان) وانتصروا

    على شفاه الندى كالنرجس انفتحوا
    وكالروابي على ريح الشتا كبروا

    من أخمص الوطن الأغلى، إلى فمه
    ينحون، لا غادروا، ألووا بمن غدروا

    * * *
    اللحظة انضاف عقد من حنين غدٍ
    ومن طيوف المحبين الألى غبروا

    كأنهم من قناديل المحال، ومن
    حلم البداية قبل الأعصر انهمروا

    * * *
    على شذاك يحيون الكؤوس بلا
    لمس، إلى أن تقول الحكمة ابتدروا

    على سنا وجهها تطفو عيونهموا
    يخبرن كم دوحةٍ في قلبها انعصروا

    وكم رياض كرومٍ طلن في سعةٍ
    أوموا إليهن بالجرات فاختصروا

    فأصبحت كل حدبا من تهدلها
    خوابياً، تهصر الحاسين تنهصر

    لأن أجنى الدوالي أمهاتهمو
    سادوا، فما أمروا يوماً، ولا أمروا

    ملوك أحنى قلوبٍ ما حكوا: لبست
    مصفرها (يمن) أو حمرها (مضر) (1)

    * * *
    عند اختتام الهزيع الأول ابتدأوا
    يحسون، يستخبر الوراد من صدروا

    وكنت إذ ذاك في ثاني الهزيع، على
    حالين: ذا ينطوي ثانيه ينتشر

    هذا يقول: اعتذر واخرج، وذاك يرى:
    صمم سوى (عمرٍ) يعيا فيعتذر

    ذا سائل: كيف أنت الآن؟ كيف ترى؟
    أحس بعضي ببعضي بات يأتمر

    * * *
    هنا دنا منك (نجم) مبدياً جلداً
    كي لا يرى الشهب فوق الصحب تنكدر

    إليكها، يا يدي تدرين أين فمي
    إليك عنك، تقوم الكأس والوتر

    كي يسكروا ويغيبوا عنك غنهمو
    لكي تمر، ولا يدرون ما نظروا

    * * *
    وقلت عني: أدر للصحب أشربةً
    غير التي اختبرتهم قبل واختبروا

    لا تبق بيضاً ولا حمراً منقشةً
    ولا الجرار اللواتي كنت أدخر

    وقل: وداعاً فمالي عندهن هوىً
    ولا لهن بهذا المنطفي وطر

    * * *
    من زف يا (نجم) هذي الكاعبات لنا
    نحسو فنصحوا، ونظمى حيث ننغمر

    من ذا رأى (عمراً)؟ أغفى بمقعده
    يا (زيد) شاهدت؟ حدق أنت يا (زفر)

    سرى إلى الحجرة الأخرى، أجاب هوىً
    ما اعتاد هذا، ضمير الفعل مستتر

    قل لي متى انفك عنا أي أمسية؟
    الآن أصبحت، ماذا أخبر السحر؟

    * * *
    تعال يا (نجم)، لا تطفوا سجائركم
    في البهو تسأل كأسي: من هو القدر؟

    ما لونه؟ أهو زوج؟ هل له لغة؟
    وكم تشظى ذقوناً باسمه اتزروا؟

    عنها وعنك أجابت: عندنا قدر
    نسقيه يغلي، يسقينا فنستعر

    * * *
    هل ذا أجد كتابٍ صاغه (عمر)؟
    نعم، أيوصي تعلم كيف تنتحر؟

    هل طبق الليلة العنوان؟ تسألني
    بدون أي كتابٍ طبق البشر

    * * *
    عليك يا (نجم) عبء كنت أقربنا
    منه، وأذكى الذين إن نووا قدروا

    ماذا أسر بعيد الكأس؟ قال له:
    من أطول الليل يا قلبي أو السهر؟؟

    من يقرع الباب؟ قل من ذا هناك؟ أجب
    (لميا) إلى البيت قالت: هاتف خطر

    قال (الرضا): من شروخ النوم خلتكما
    عليك يرمي قواماً كاد ينبتر

    أعرته نصف زندي خطوتين، وفي
    مدرج الباب لاقاه فتىً نضر

    * * *
    واراه باب شأى علم النبات، وما
    أومى إلى غرسه، لا باح من نجروا

    هذي طقوس اختطافٍ، مذ أجاب إلى
    هذي الدقيقة، لا عين ولا أثر

    كم مر وقت؟ تولت ساعة وتلت
    أخرى،وماذا يلي، قد تنقضي أخر؟!

    * * *
    يا (نجم) في الغرفة اليمنى مهامسة
    تدنو وتنأى، وما عن همسه خبر

    يخال نبساً أنوثياً تداخله
    هشاشة مثلما يستأنث الذكر

    أحسها صوته يمتد منحنياً
    كآخر اليوم، يعلو وهو ينحدر

    * * *
    هل نقرع الباب؟ نستقي مخارمه
    نريد ندري، ونخشى هتك ما ستروا

    هذا الغموض الذي يومي بغير يدٍ
    يكاد من وجع الكتمان ينفجر

    إلى القناني لكي يروى انتظار غدٍ
    أو ينجلي عالم بالرعب مختمر

    هل تسمعون أنيناً؟ قال (منتصر):
    يفاوض الريح هذي اللية المطر

    أظنه (عمراً) يطوي مواجعه
    السمع يكذب -يا (هزاع)- والبصر

    والخمر أكذب، لو عشرون خابيةً
    يملكن سكراً، لأنسانا اسمنا العشر

    لو جاءها صاحياً شعبان أو رجب
    لقال: خالي جمادي، عمتي صفر (2)

    * * *
    قال السقطري: جدار بيننا، وله
    نصغي كما يشرئب الطائر الحذر

    العزل أدناه منا، لا تغيبه
    عنا الكؤوس، كأنا فيه نحتضر

    وكان (سيلان) طول الوقت منطوياً
    وفجأة قال: ماذا نحن ننتظر

    غداً سنطويه، ننساه ونذكره
    ومن مدى صورتيه، تكثر الصور

    اليوم يصبح أمساً بعد أمسيةٍ
    ما أسأم العمر لو لم تحدث الغير

    * * *
    ماذا إذا مات من ثانيه يا (حسن)؟
    أحصيتهم لا بدا فرد ولانفر(3)

    قبل العصافير يخضل الربيع لمن
    أتى، لمن سوف يأتي يطلع الثمر

    وقال ذو الرأس: كنا زمرة زمناً
    بأمر أي الرياح التمت الزمر؟

    هل التقينا لكي تمتد كثرتنا؟
    أمثالنا قلة شلًى وإن كثروا

    * * *
    يا (نجم) ماذا تبدى؟ خلت زائرةً
    وزائراً، نم عنها السلم العطر

    وأعلن المدخل الغربي أهبته
    والمدلجون على أعتابه انكسروا

    ماذا زقا؟ صوت من؟ قالت شقيقيته:
    أهلوه قبل تنحي صحبه حضروا

    * * *
    وهاكمو خبراً في غير قالبه
    (:ما ألين الموت لو أن الفتى حجر)

    لا حن، لا أنً عند النزع، قل عدم
    يرج منبته من قلعه الشجر

    * * *
    سمعتها تسأل الدكتور، قال لها:
    مات انطفاءً كما يتثاءب القمر

    من مات يا..، لا تقل أخرى سنمنعه
    لا ترتحل، قم، أذبنا فيه يا سفر؟

    سلوا السكاكين غابت في مقاتلهم
    ماتوا وما شعروا، من عنف ما شعروا

    1993م

  • 323 عشرون مهدياً

    رجعة الحكيم بن زائد >  عشرون مهدياً

    باطلاً خلت وجدكم بعض وجدي
    واعتياداً دعوتكم أهل ودي

    ألأني بلا أنا في انفرادي
    كان أنتم وهن إجماع فردي

    أهربوا أهربوا، أخاف عليكم
    ولماذا لا تحتمي؟ ذاك وكدي

    * * *

    هل أغني لكم، وأبكي عليكم؟
    أم أؤدي ما ينبغي أن أؤدي؟

    في انتظاري غرابة، هل أريكم
    عن خلاف الذي أواريه أبدي؟

    * * *

    يا رفاقي برغم علمي بأني
    أغتلي عنكم، وأرمد وحدي

    من حطامي أرقى على الرعب يعيا
    هل أشوي جبينه أم أندي؟

    غير خاشٍ بأي نارٍ سأرمى
    وعلى أي تربةٍ سوف أودي!

    كل نارٍ أحر، بالنضج أسخى
    كل صقعٍ في الأرض أهلي ومهدي

    كل قبر نزلت، أصبى احتضاني
    يا قبوري متى سأبلغ رشدي؟

    * * *

    هاك يا حامل الصواريخ صدري
    عارياً كالرصيف طلق التحدي

    أي شيء تهذي، أصالحت مثلي؟
    ما أنا مثله، ولا أنت ندي

    في يدي غصن وديوان شعرٍ
    في يديك الردى وعنوان لحدي

    * * *

    أنت من دولةٍ على كل ندبٍ
    تلتظي كاحتراق تابوت هندي

    كل حكمٍ له أصول وحد
    وهي قالت: تجاوز الحد حدي

    أي عهد ترعين؟ قالت ومرت:
    قتل من شذ عن يدي عهد عهدي

    * * *

    أنت منها ترمي ب (شيراز) (دلهي)
    كل سنديةٍ بأي ابن سندي

    ترتعي (كندةً) تموراً، ويرعى
    في موانيك شلوه كل كندي

    ولهذا تقد أكتاف أهلي
    فتعشي مشايخي أو تغدي

    وتبث المدى يلوحن حولي
    والزوايا الأخفى يحاولن شدي

    فلتعسكر عليَّ أحجار بيتي
    ولتبولس نومي، سأشدو لسهدي

    * * *

    فانحنى سائلاً: أهذا وحيد
    أم ألوف؟ إن الغرابات تعدي

    غره من رأى له نصف قلبي
    مرقسي الهوى، ونصفاً معدي

    فدعا الترجمان: قل لي فصيحاً
    ألشيء يدعون هذا التصدي؟

    محرق، مورق، يقول سكوتاً:
    قف إلى أين تجتدي غير مجدي؟

    * * *

    من رأني أرديت يوماً قطاةً
    فلماذا يخافني كل مردي؟

    ألأني عجنت في جوف أمي
    بالجراحات، أعشق الموت وردي

    أو لأن الرصاص حين يحني
    بدمي، أهتدي إليَّ، وأهدي

    أو لأني أذب عند عدوي
    مصرعاً كالذي أعاصيه عندي

    أو لأني لا أكره الخصم شخصاً
    بل أعادي فيه صفات التعدي

    أو لأني أصيح: يا شيخ (هنري)
    أكرث الكارثات ما سوف تسدي

    * * *

    أنت أدهى ، تشق بعضي ببعضي
    وعلى مخنقي تشد بزندي

    في مدب النعاس تسري لتطوي
    بين نهدي مخدتي عض خدي

    حين تدنو تخيف صمتي بصوتي
    حين تنأى إليك تقتاد بعدي

    واجداً في ديارك الأمن مني
    في دياري تغشى أفاعيك جلدي

    * * *

    فلماذا عني إليك ارتحالي؟
    ولماذا إليك مني مردي؟

    كيف تخفى هناك عني وتبدو
    لي هنا، حيث أنتخي وأفدي؟
    * * *

    وبرغمي تبيت جاري وترمي
    بجراد الفلا بساتين جدي

    ألأن الألى أحبوا قصيدي
    قعديون لا يحبون قصدي

    أم لأن الذي يسمى نظامي
    سيفك المنتضى عليَّ وغمدي؟

    * * *

    حالة تلك، لا تطيق بقاءً
    لا ذهاباً، لكن تجيد التردي

    فاذا ما سألتها: وإلى كم
    اءلت، من ترى تسد مسدي؟

    هل تسدين يا ابنة القحط شيئاً؟
    والمنى في انتظار عشرين مهدي

    كيف قبلي تحيا انتظاري وأخشى
    شهوة الانتظار تجفوك بعدي

    1992م

  • 324 مقتل فصة

    رجعة الحكيم بن زائد >  مقتل فصة

    أأنفث من عتمة الغور قصة
    وكيف وفي الحلق عشرون غصة؟

    وبي (عدن) تجلس القرفصا
    و(صنعا) على ساقها مقرفصة

    * * *

    أريد أنادي ويعلو الصدى
    يعيد من المبتدا قتل (فصة)

    وكانت لموطنها موطناً
    تفدي الذي حوله شد حرصة

    * * *

    على ذكرها خلت أختاً لها
    ب(شيراز) لاقيت أخرى ب (قفصة)

    ويوماً تسمعتها إذ دعت
    مصيفة طفلها وسط (بحصة)

    ويوماً قرأت ب(موسكو) يداً
    كإحدى يديها حنوناً ورخصة

    * * *

    أأخبرها: أنكروا قتلها
    أعان (اليرابيع) أولاد (قنصة)

    وقالوا: وشت بافتراس الوحوش
    ظفيرتها ونثير المخصة(1)

    وقالوا: لأخبارها باطن
    وإلا فأين اختفى شيخ (ورصة)؟

    * * *

    أأبكي، أقوم خطيباً، وأين
    بقلبي عليه، ومني المنصة

    بكاء الفتى عورة، هل هنا
    مكن يواري؟ ولا مثل (فحصة)(2)

    لأن الزحام يكظ جمالاً
    بسلمى، يلف (سعيداً) ب (حفصة)

    * * *

    جموع كفردٍ يغم الضحى
    يلون فوق الجراحات قمصة

    يمرون، لا أي فردٍٍ يحس
    بثانٍ، ولايعرف الشخص شخصة

    عيون مبعثرة في الظهور
    كذكرى بصيصٍ كترميد بصة

    كزغب الحمام الظوامي على
    سواقٍ من الزغب أظمى لمصة

    * * *

    أتصبي يداً قرصة ذات شوقٍ؟
    وفي أي ثوب مكان لقرصة؟

    يضاهون مقتلةً لا ترى
    عدواً وتنساق كالمستقصة

    * * *

    أهذا الوجود على رحبه
    لكلٍ، ومالي أنا فيه حصة

    تئن الحصى والشظايا وما
    لشعب بقلبي إلى النطق فرصة

    * * *

    وحولي الرماد يغني الدخان
    ويدعو صهيل السراويل رقصة

    و(بق بن) تموسق أنيابها
    هنا دار كل ختولٍ ولصة

    لتمزيق أنقى صلات الشعوب
    تزوج كل مقص مقصة

    على نونها ترتخي أنة
    وتضفي على آخر الصد وصة

    * * *

    تشظي حنايا ديار (الحسين)
    خلايا (الملاوي) كأخبار برصة

    ك(باريس) تخفي خراب النفوس
    وتبدي شوارعها ذات رصة

    يحس ادعاء الكمال الكمال
    أكيداً ولايدرك النقص نقصة

    * * *

    لذا يبتغي (بوش) أن لا تدور
    على العالم الشمس إلا برخصة

    أكل المباني له والعراص؟
    أما للتصدي حصاة بعرصة؟

    أمات غريباً حنين التراب؟
    أتحت ضلوع الربى أي مغصة؟

    * * *

    لهذه المآسي خصوصية
    وما للأسى أعين مستخصة

    فأي مكان هنا أو هناك
    وليس عليه ألوف ك (فصة)

  • 325 محشر المقتضين

    رجعة الحكيم بن زائد >  محشر المقتضين

    ماتوا كما قيل أزماناً فأرمانا
    من ذا حدا يا ليالي ركب (غمدانا)

    وقال: شع (معين) وانجلى (سبأ)
    (ريدان) ألقى عليه الفجر أردانا

    أطل يعتم قرناً نصفه جمل
    ونصفه مرتع ما راع غزلانا

    يصبو ويصبي إليه كل خرعبةٍ
    يقيم بين الهوى والحسن ميزانا

    ويمنح العشق قلباً ثالثاً ليفي
    إن ذا على ذاك وارى السر أوهانا

    * * *

    قال امتطى (ذو رعينٍ) عاصفاً لبقاً
    وطار يدني من (السعدين) (كيوانا)

    وعاد يغزل وعد الرعد أوديةً
    كما يدلي رماد البرق مرجانا

    وعنه يحكي بأن (الدلو) طالعه
    فيلبس الدار يوم السبت قمصانا

    وقال (غمدان): من أقصى القرون أتى
    تهدي مسارجه (برما) و(هرانا)

    يذوي إذا جف بستان ومحبرة
    يبكي على غصن بانٍ، فارق البانا

    وإن رأى كرمة شاكته ظامئةً
    أحسه -لو يعب النيل- ظمآنا

    يخاف تربو على المرعى زرائبه
    وما ربت أمهات السحب أمزانا

    إيهٍ،وماذا؟ سجا الرواي وهاج كما
    تناوحت طلقة في سمع سكرانا

    * * *

    أبلى الجدود البلى يا أنت؟ بل رجعوا
    فوضى، كما تلمح الأغنام ذؤبانا

    من غير العالم الثاني؟ أتاح لهم
    إجازة يلتقون الصبح صبيانا

    * * *

    وقيل: كانوا هنا يرمون ملبسهم
    طيفاً، ويغشون غاباً كان شيطانا

    وقيل: كانوا بني بيتٍ تجاذبه
    أهلان، فانشق أعداء وإخوانا

    قال ابن جعدان: حامت فوق أقبرهم
    عمائهم كالقطا أمطرن ألبانا

    فأسرعوا ينظرون الأرض: كيف زهت
    كيف ارتقى حنضل الأغوال رمانا!!

    * * *

    وقيل يبدون أطفالاً بدون أبق
    وقيل: يدعون من أحفاد غسانا

    مروا فما قال (سوق الملح) من عبروا
    لا (الشيخ عثمان) يوم المحشر أزدانا

    فغردوا هم لهم، أمسوا فماً وصدىً
    ورنةً هيجت تسعين رنانا

    فكل ثانيةٍ زغرودتان، يلي
    شدو، كما هازج الفنان فنانا

    * * *

    فصاح كل طريق: من يخبئني
    من الرفات اللواتي عدن أبدانا

    (لو كنت من مازنٍ) لم ينتعل وجعي
    بنو المقابر من أجداد (عطانا)

    أسكت، لكل فتىً من خطوه طرق
    ألا تراهم يرون البحر فنجانا؟

    كانوا جدود جدودٍ، أصبحوا وطناً
    كانوا له منذ كان الحب أوطانا

    جاؤوا البيوت التي، منها أتوا ومضوا
    شوقاً إليها، وعادوا اليوم تحنانا

    * * *

    يستنسبون بلاداً لا يبش بها
    وجه، ولا أي جذرٍ قام جذلانا

    لأن بيتهم المعهود مذلبسوا
    عنه البلى، بات أبياتاً وجيرانا

    يا حميريون يستغشون كاظمةً
    يا مكرميات يستغشين (ضورانا)

    * * *

    لأي موتين جئنا، ذاك أطلقنا
    منا، وهذا إلينا انشد سجانا

    من بيت موتى أتينا فارهين، هنا
    نأتي من السجن مشلولين عميانا

    * * *

    قال أبن جعدان: صارت جرن (مقولةٍ)
    صنعا)، فأين يرى (شمسان) شمسانا؟

    فما يلاقي (معيناً) من بنيه فتىً
    ولا يلبي بنو (كهلان)، كهلانا

    ينابذ الأهل أهليهم بموطنهم
    هل أصبح اليمن الميمون، أيمانا؟

    تأبى السعيدة يا صنعاء أن ترثي
    بكراً، فتدعى (تعز) العز ذبيانا
    * * *

    يا ذلك الربع كنت الأمس منبتنا
    نهوى، وأنت بما نختار أعنانا

    أخشاب سقفك من أغراسنا، أوما
    يذكرن إذ كن أعشاشاً وأفنانا؟

    أيام كن يلاقين الأحن هوىً
    دعجاً يرقصن أردافاً وأحضانا

    * * *

    أما تنث الزوايا عن مسامرنا
    رؤىً يحلن قناديلاً وديوانا

    مؤقتاً عنك غبنا ذارئين صباً
    هل خلته جاوز الإيناع أودانى

    * * *

    هذي السهول، أما نمت سنابلها
    عنا، وقصت أساطيراً وألحانا!

    هنا رعت (زبنة) مليون ثاغيةٍ
    وما نرى إبلاً ترعى ولا ضانا

    هذا الحمى تؤنس الأحزان وحشته
    وكالورى تنجب الأحزان أحزانا

    * * *

    يا أهلنا نجتديكم نصف ثروتنا
    ندني بها (مالكاً) منا و(رضوانا)

    هاتوا أسانيدكم أنساب أولكم
    إليكمو نحن أنساباً وبرهانا

    تدرون من ورثوا (سعداً) و(حلزةً)
    و(يثعمر) و(شرحبيل بن عفانا)

    * * *

    هذي أسامي علاجات معلبةٍ
    متى وصلتم هنا من سوق (تيوانا)؟

    هاتوا الجوازات، جرن الواديين إلى
    (همدان زيدٍ)، إلى (همدان همدانا)

    * * *

    فقال (عمرو بن معدٍ): هل لنا لغة
    أخرى تزلزل في (عيبان) عيبانا؟

    من ذا بأشباحنا العزلى رمى وطناً
    يحتث كل ذراعٍ فيه بركانا؟

    إستن محشرنا -ياغر- (صعصة)
    كي نقتضي الدين، أو نوليه ديانا

    ما قال (ذو الراس) نغزوا من نمر به
    لكن نغازي الداءً وأقرانا

    * * *

    لو شم عشرون قرناً بدء نضجكمو
    ما ثناكم إلى الأرحام فتيانا

    لو أمكم أكلتكم يوم مولدكم
    وأبقت (الديك) كان اليوم سلطانا

    * * *

    قال ابن جعدان: لو أرجعت عهد أبي
    لضاع (جعدان) فيه وابن جعدانا

    يا من تنادون، ما يبكي عليه مضى
    ما سوف نبي عليه قبل يلقانا

    من يا رواعي رأت منكن (عبهلةً)
    أمن هنا مر (صوحان) بن كيسانا؟

    أما هناك ممر، هل أجاب؟ هنا
    لاقى السؤال مكاناً قل: وإمكانا

    لعلكم بعض أهل الكهف، قيل كذا
    وقيل إنا بنو (أخدود نجرانا)

    وكيف ما استرخت الألواح خلفكمو
    ولا ضربتم على الأقدام أذقانا

    لأننا ما جبلنا حجم قامتنا
    ولا اقترحنا على اللوان ألوانا

    لذا اشبتم قذال الموت كي تثبوا
    كنا رماد ربيعٍ عاد نيرانا

    * * *

    راعتك يا (عمرو)، من (قس بن ساعدةٍ)
    أهدى وأخطب من عشرين (سحبانا)

    فقال (همدان): مهلاً لا الرجال كما
    كانوا رجالاً، ولا النسوان نسوانا

    أعادني لاعباً صبا، صبا امرأةٍ
    تبكي، أما خلق الإنسان حنانا؟

    * * *

    ما اسم (الصمحمح) هذي، هل أقول (شذى)؟
    ويا (خدلج) من تدعين (أشجانا)؟

    (شذى) و(أشجان) معنى صار تسميةً
    في سن (أشجان) ماتت بنت زبانا
    وغص فابتدر الحادي ليقلعه
    من دمعه، فبكى صمتاً وكتمانا

    وغمغمت مقلتاها: آه يا أبتي
    من ذا يلاقي على الأشواق أعوانا؟

    * * *

    أين الثلاث اللواتي كن سربكما؟
    هربن خيلنكم (سعداً) و(سلمانا)

    يبدو تزوجن، طلقن الثلاث معاً
    خليفة، وامبراطوراً، وخاقانا

    سبحان من أفقر الأغنى، وعلقنا
    بين ابن (حادي الفيافي)، وابن (كنعانا)

    * * *

    من ذا تريدون نرتاد المعاد على
    بنات نعشٍ) إلى (حي بن يقظانا)

    يجيب عما سألناه، ونسأله
    أكل منفى يحيل الشك إيمانا؟

    هل يذكر الظبيات المرضعات، وهل
    من مرضعات صباه أم ظبيانا؟؟

    هل أصل تسمية الماضين معرفة
    أقال (سسان) من سماه ساسانا؟

    وأين شاهد (درمان) ارتبى وزكاً
    لكي ترى من أبوها (أم درمانا)

    قالت (شذى): لو (أبو درمان) كنيتها
    قالوا: لسن (عمان) صرف (عمانا)

    فذاك أحوط للإعراب قاعدةً
    وقيل أنجى لأقصانا وأدنانا

    قالت: وهل عصم الحاءآن أي دمٍ
    من حب (عشتار) حتى حرب (لبنانا)

    * * *

    (أشجان)، قالت: هنا حطوا حمائلكم
    ينسي الأصيل دجاه، صبح لقيانا

    إليكمو ما احتلبنا اليوم وأنتخبوا
    عشاءكم سبعةً سخلاً وخرفانا

    * * *

    (شذى)، متى روح الرعيان؟ لا أحد
    نادى الرواح، لأن الركب ألهانا

    هذي صديقاتنا الأغنام جئن
    على شميمنا دون راعٍ، هن أرعانا

    يردن يخلطن كلتينا كوالدةٍ
    وكل واحدةٍ أحنى كإحدانا

    نادي الرواح، وسوقيهن راوحةً
    وأنبري أجمع الأشتات قطعانا

    * * *

    قال (ابن بدا): لماذا جادتا؟ عجباً
    لو زادتانا إلى الخرفات أسنانا

    كم ترعيان ألوفاً؟ تسعة عدداً
    هذا المزيد الذي يحتاج نقصانا

    فقال (غمدان): من يغنى يكد إلى
    أغنى وأكثر أغناماً ورعيانا

    * * *

    (شذى)، اقتربن، لماذا أنت خائفة؟
    أحسهم أخبروا أمي و(حسانا)

    عماتنا يتخذن الزوج من (كسلا)
    ويتخذن من (الأهواز) خلانا

    هل خلت أضيافنا الأشياخ ذا خطرٍ
    منا ومن ذكر الأطياف أنسانا؟؟

    * * *

    من ذا دنا، لحظة، هل شمتما نفراً
    يمشون شيباً وأنصافاً وشبانا؟

    نعم، رأينا دماً غطته شاحنة
    وما رأينا لشيءٍ غيرها شانا

    قالوا: هم الأرض والأهل الأصول أتوا
    كما أتى (سبأ) داعي (سليمانا)

    واليوم يدعون عرافين، ما عرفوا
    أمثالهم يقرؤون الغيب تبيانا

    يرتبون تواريخ الطيور كما
    يصنفون الربى جنا وكهانا

    يقال: كانوا من الأموات فانبعثوا
    سرا وحالوا أعاصيراً وكثبانا

    * * *

    (أشجان)، بعد هجوع الأهل نقصدهم
    -سيسقط السر لو ينبت إعلانا

    أواخر الليل أدجى يا (شذى) اتئدي
    أموت ألفاً لكي أزداد عرفانا

    ماذا إذا أرجفوا، بتنا بمضربهم
    إلى ابنة (الدودحي) ينضاف صيتانا

    لو يسألون الذي تطهوك جمرته
    أندى، وأغزو (أثينا) من (خراسانا)

    كيف اصطفونا وأفضوا، قال مطلع
    : فروا وكان أبو الأجداث وسنانا

    وأرهق البحث عنهم كل مشتبهٍ
    وقيل: شقوا عصافيراً وجرذانا

    فأعلن الحظر والي كل مقبرةٍ
    واستوفدوا قبر (نابليون) دفانا

    وأرسل ال (توت عانخامون) مفرزةً
    من الأفاعي ومن أشباح (هامانا)

    * * *

    هل تلك آثار خطوٍ؟ كان يتبعها
    أبي من (الوهط) حتى باب (عمرانا)

    أقدامهم فوق سبرٍ، بل تزيدعلى
    شبرين، فهي إذن أقدام (باذانا)

    طريقنا الصاعد الملوي سيخبرنا
    جئناه لاهس، لا كالأمس حيانا

    يا تل يا تل، قولي: مات منتحراً
    بل مات مرتشياً، بالأمر جافانا

    أفديكما من رأت مليونه بيدي
    وقال: مما حباه الله أعطانا

    وزاد: شرح لنا من مر من خطرت
    وأينا أكد الرعيان أحلانا

    قالت ثريا: علينا انقض حارسه
    فاحتازنا، وإلى مولاه أهدانا

    هل صرت يا قمري الهام؟ صرت لمن؟
    لآكل الناس طحاناً وعجانا

    * * *

    الآن أين الذين ها هنا سمروا؟
    أطارهم هاتف سموه (نبهانا)

    ناموا عليه جذوعاً أورقت فصبا
    مروا كما اعتمت الأشجار غدرانا

    وكان يتلو الندى مرعى السفوح كما
    تتلو السما، في فم الصوفي قرآنا

    متى سروا؟ هل حكوا يا شهب؟ حن فتىً
    وباثنين كحقل (الخوخ) أوصان

    باتوا يقدون للأحجار ذاكرةً
    وللربى أعيناً للسهل أذهانا

    الآن أخبارهم من كل ثانية
    تهمي كما تنفش الأنسام ريحانا

    جاؤوا يموتون أو يحيون ثانيةً
    لميتةٍ تدفع العمرين أثمانا

    ما اسم الكتاب الذي منهم بكل يدٍ؟
    قالوا: وصايا (حمورابي) و(لقمانا)

    وخلته (الجفر) من مغزى دوائره
    من نقش (حاميم)، من إعجام (حرانا)

    (شذى)، أتدرين فحواه؟ لمحت به
    سيف بدون كتابٍ سوط (غيلانا)

    * * *

    يقال لما اغتنت بالموت خبرتهم
    أتوا يحامون، أو يشرون أكفانا

    وقيل: يستأصلون القتل أجمعه
    فتمتطي أي شاةٍ ظهر (سرحانا)

    أو يسألون عن الإبحار أولهم
    من ذا اعتلى الفلك، من ذا اجتاز طوفانا

    فيفقهون شروط البحر من فمه
    يدرون: من تنتقي الأمواج ربانا

    قد يعقدون إلى (الإسكندر بن جلا)
    أو يحملون إلى (بيبرس) تيجانا

    * * *

    كانوا يصوغون من جمر العيون غداً
    ينأى ويبعث عنه البرق هتانا

    ولي الزمانان قالوا: حان بعدهما
    ما اسم الذي حان؟ أعلنا اسمه (حانا)

    * * *

    وقيل: مذ دخلوه مثقلين به
    أمسوا بلا اسمٍ واخباراً بلا كانا

    ونثَّ هذا لذا، كنا نرى (عدناً)
    أخرى، ب ماذا تفوق اليوم (سيانا)

    داراً بدارٍ، وبستاناً بمزرعةٍ
    حتى التي والتي، كيلاً وأوزانا!!

    * * *

    قال ابن جعدان: من (زنوبيا) اقتربوا
    وزوجوا بنت (إخناتوت) (قحطانا)

    عنهم كتاب دعاه البحر منهجهم
    وناول الغاب، كي يشتق عنوانا

    ويطبع الخاتم السري على فمه
    كي لا يفدي به (يحيى بن حيانا)(6)

    واليوم، مثنى، ثلاثاً ينزفون على
    (أيار) كي يبحثوا عن أصل (نيسانا)

    عن احمرار (سهيلٍ)، هل له عدة
    عن (الحقيني) يرى كم سن (ردفانا)(7)

    وعن (سمارة هل قالت: أرى شجراً
    يعدو عليكم يلف العود عيدانا؟

    هل تنفرون إليه قبل سطوته
    أو تركبون إلى الربان غربانا؟

    قال ابن جعدان: ماذا خلت يا وطني؟
    خلطاً كما تكحل الأحلام أجفانا

    خذ موعد الزمن الكذاب تسليةً
    واشحذ لما سوف يأتي بعد حسبانا

    * * *

    تم اختيار الذي أبدى الوضوح ومن
    وضوحه صار أخفى، قل: متى بانا

    إلتمت الأرؤس الأشتات جمجمةً
    كطوبةٍ فرعت قصراً ودكانا

    قالوا أعادوا لكم هذا وذاك لنا
    تشكلوا هم، لهم سقفاً وأركانا

    وتيرخوا، تيجروا، هذي وتلك غدت
    دار التواريخ للتقتيل، غيرانا

    وتلك زادت إلى القربى تحملها
    ورميها ببنيها النار قربانا

    روت أشد اغتيالٍ، وهي دافقة
    حتى ارتخى أشهراً، شبعان ريانا

    هل تلك حكمتها، أو عجزها سألوا؟
    هل دللت قبل هذا الغدر عدوانا؟

    وكيف ما انتقمت وهي الأمد يداً؟
    سبحان من يعلم النيات سبحانا

    * * *

    لو السياسة قتل يا (أبا رجبٍ)
    أضحى (ابن لولوةٍ) سلطان) (أفغانا)

    القتل جبن، وقتل القتل مطلب
    أردى زعانفةً، أو غال فرسانا

    قالت (منى): يمعن التقتيل محتمياً
    ولا يزيد قتال القتل إمعانا

    يمزقون ببعض الشعب أكثره
    فأينا يا طبيب القلب أغبانا؟

    قال الطبيب: من اغتالوا؟ هدى، مطراً،
    يحيى الرجا، مدرماً، دبوان، سفيانا

    فيمن ترى مغمزاً لو كنت مدعياً
    فيمن ترى مطعناً لو كنت طعانا؟

    * * *

    ماذا ترى يا (حسام) انطق، نطقت دماً
    ومامحا قتل (سامي) خطف (نشوانا)

    من عام سبعين لا تسعين ما نعست
    أم الشظايا، ولا من بات نعسانا

    * * *

    من ذا يصفون؟ من تدري الأهم ومن
    يضفي على كل ما يجريه إتقانا؟

    وأي شهمٍ نفي من كفاءته
    رقى، لكي يرفعوا أفعى وديدانا

    ومن يقول بلادي فوق حاكمها
    برغمه من يرى الطغيان طغيانا

    * * *

    من عام تسعين خصوا من يلي (عدنا)
    بما هرين يرون الوحل شطآنا

    يردون في السوق (طربوشاً)، بمنزله
    سيفاً، لكي يزعوا (ملهي) ب (دحانا (

    * * *

    كم من أبق كر من أشواق صبيته
    لشغله، عاد شيئاً كان إنسانا

    كم عاشقين صبايا الداليات إلى
    جذورهن ارتموا كالورد عرسانا

    يهدي الذين انطفوا بالأمس فوج غدٍ
    كما يحث المنادون (ابن علوانا)

    لأن من قال: هيا، صار باب إلى
    ومن على من يحيل الحبل ثعبانا

    لذاك يغدون من حنا الزفاف إلى
    حيث الربى تنبت الأعشاب شجعانا

    لأن هذا الثرى الميمون لقنهم
    من لم يمت عنه قتلاً، مات مجانا

    * * *

    قال ابن جعدان: هذي الخمس عشرة من
    عمري أشبن غرابيباً وأعكانا

    أخشى على الشعب منهم، إذ أخاف على
    (سنحان) من نفسه من بعض سنحانا

    * * *

    يريد ما قام، يستفتي مشكله
    من ذا يقيم على البركان بنيانا؟

    مقاتلون أجابوا قاتلين إلى
    ضيافةٍ صار فيها القتل إدمانا
    يقال: ما تركوا للموت ثانيةً
    ولالأم الطيور الزغب أغصانا

    * * *

    قالوا لحادي (بني جعفٍ): وقعت هنا
    فاتبع إذا شئت، أو مت، لست خوانا

    وهل قلعت جداراً كان يحجزني
    عن الروابي لكي أختار جدرانا

    فقال أزعمهم: هل كنت عاشرنا
    يوم استبقت وحيداً صلح (دعانا)

    وأين كنت غداة استحسن (ابن سبا)
    رحلاً ل (حيدرةٍ) أعطاه (مروانا)

    يوم اشتريت (ماتليدا) من حلى (كندا)
    عقداً ل(بيجن) وقالت: هبه (جيهانا

    * * *

    عليك تقتاد (إباً) مغلقاً فمه
    محملاً (باب موسى) متن (بيحانا)

    * * *

    إن كنت إخترت لي عني (مسيلمةً)
    فابعث (سجاحاً) ليلقى الذنب غفرانا

    * * *

    قال (ابن جعدان): أوهى السوط حامله
    ومات من قبل الإذعان إذعانا

    من ذا يبيع ذكاءً لابن من يمنٍ
    يعطيه بالومض (قحطاناً) و(عدنانا)

    * * *

    شكت إلى أمها أم، أرى (حسناً)
    يعود حيناً، وينسى البيت أحيانا

    أخاف تزويجه يا أم ثانيةً
    خافي إذا زوجوه الجب عريانا

    أخوك (مران) كم قلنا: يعود غداً
    وبعد عشرين شهراً، عاد جثمانا

    لأن من أم (صنعا) حاملاً قبساً
    حسته واستمطرت للأهل سلونا

    * * *

    بالأمس أردى أبو (هيلكس) أربعةً
    ألقوا عليهم، وفر المجرم الآنا

    رأوه يبتاع قاتاً حسب عادته
    ويشتري خنجراً من إرث (عثمانا)

    * * *

    هذي البلاد التي تصفر متخمةً
    بالرمل والقش، هل تبتاع سكانا

    يقال: ترجو الذين من مغايبهم
    جاؤوا كما يدفع البستان بستانا

    من ذا ستعطي غداً منهم سفينتها؟
    من كان قبل احتلام البحر سفانا

    وأين ذاك الذي، يا أنت أين أنا؟
    والآن يا أين، ما بعد الذي آنا؟؟!

    صيف 1992م

  • 326 قافلة النقاء

    رجعة الحكيم بن زائد >  قافلة النقاء

    أم المرجى، وهذي الصحبة الفطنا
    غمامة زوجت فيها الدم اللبنا

    نارية أينعت، ثم انثنت زاهراً
    مائية لا تحابي جوف أي إنا

    تلقي الشوادي على الوادي ملاحنها
    كما تناغي صبايا الضحوة الغصنا

    يحس أخبارها ذوق الرياح، كما
    يذوق شيخ الطريق الوجد والحزنا

    * * *

    تألفت من رؤى قبل الديار ومن
    شوق الديار إلى من فات أو ظعنا

    كانون (أيلول) فيها شوق أجنحة
    فيها أساميهموا تعلو ضمير أنا

    لأن يخضورها من نجمتين رأى
    عرافةً قرأته وانحنت فحنى

    دلته رعدية النهدية، أوديةً
    تزكو وتربو، ويستغشي الذي كمنا

    * * *

    منهم بهم صعدت، قالوا كما ارتحلت
    منى) إلى (شميرا) من تحت جلد (منى

    قال القياس: عيون اليم بعض حصىً
    فمن أجال حصاةً، قيل عنه: رنا

    يقيس بالصحبة الأتقى نقيض نقاً
    أما اجتلى سرهم؟ هل ميز العلنا؟

    من ذا لة أعين أخرى ترى شفقاً
    من فجر ظاهرهم يوحي بما اختزنا

    أعطوا جنين الخضيري قبل مولده
    وصف المرجى، فمن يدعى إذا ختنا؟

    توامضوا فوق أحزاب الإمام رقوا
    من تحت عشرين سجناً تطبخ السجنا

    الكل للكل فيهم قبل كم؟ ومتى؟
    وإن بدوا نصف أهل الكهف، أو قرنا

    * * *

    أفضى (هنا) ل (سنا) من أمر والدها
    كان (الأنوق) يخاف (الرخ) إن سكنا

    وقال: بيضته ذات اللمى انكسرت
    فأشرقت من ستدعى بعد أم (سنا)

    لو خال هذا أبو زوجي لصاح به
    أصهرت من بيضةٍ أوضحت ما بطنا

    أصبحت أول (ديكٍ) يكتسي ولدي
    أنا جنيت عليه، أم عليّ جنى”؟

    يا (سندباد): متى كان (الأنوق) أباً؟
    وكان أما وغلاباً سبى وزنى

    قال الثنى: سكن (اليونان) واحدةً
    من بيضه فدنت منه السما ودنا

    أم الجنين استثارت: من رآه، ومن
    سماه قبل الأسامي، وانتقى الخشنا؟!

    * * *

    (هنا) ادعى: جدتي قبل (الأنوق) جرت
    بل كانت البحر والملاح والسفنا

    قالت للقمان: خذ من جانحي (لبداً)
    ويا (كليب): إلى كم ترتع الدمنا؟

    أم الجنين استعادت صوت (عبهلةٍ)
    كما رواه (سهيل) عن رعاة (بنا)

    وكان عم (سهيلٍ) بالفؤاد يرى
    ريح العشية روحاً تجتدي بدنا

    * * *

    عزا إلى أم جدي: أنها عشقت
    (ريا) وقالت: أنا ويحي عشقت أنا

    وأنها صافحت في باب (أنقرةٍ)
    (سيف بن ذي يزنٍ) مسترجعاً يزنا

    يا (سيف) من تبتغي؟ نصراً خلقت له
    وقبل أن أشتريه، أشتري الثمنا

    لي في (سمر قند) ركن لو ألوذ به
    أحال كل شجاع أجبن الجبنا

    وكاد ينشق من إغضائها، فرأى
    في خدها دمعةً حيرى عنت وعنى

    * * *

    وأغسقت تقتل المجهول معرفةً
    قبيل حمل الثرى المحراب والوثنا

    كانت تقول لأمي: حققي وصفي
    من يجهل القبح لا يستحسن الحسنا

    لذاك مدت من المجهول نصف يدٍ
    إلى ظفيرة (صنعا) علقت (عدنا)

    * * *

    قانت ثنىً وفرداى طولت شبحاً
    من الحصى ذا أسام جمةٍ وكنى

    عهد الموازين ما استدعى له خلفاً
    أولم تقم قامة، تدري من اتزنا

    * * *

    هل ذاك الجذع (بشر)؟ كان والده
    يحسو ويحسو، إلى أن يلبس الوسنا

    يرتاد ديوان (يشعى) لا يفارقه
    إلا وقد أغلق الخمار ما ارتهنا

    هناك يحصي حصى هذا الممر، وذا
    مردداً: “أم دفرٍ بنت أم خنا”

    ويا (أمانة صنعا): من يؤمنني؟
    قالت: متى عهد هذي الدور بالأمنا؟

    * * *

    هل هذه دار (بشر) يا هنا؟ سنةً
    وحال عصفورة كسلى كبنت غنا

    هاتيك؟ أو هذه؟ تلك التي لبست
    رمانةً، شم قلبي ذلك الفننا
    * * *

    قال (الثنى) آية أم الجنين ترى
    فريدةً، وهي إذ تمشي تلوح ثنا

    هل آن أن تضعيه؟ من أضاف ترىً
    يلقى الوليد به، مهداً محتضنا

    * * *

    يا بنت من ضيعت في القفر واحدها
    وأرضعت طفل أخرى، فامتطى الزمنا

    هذا الجنين الذي تطوين، شاب وما
    ناغى صباه، وشبنا في انتظار هنا

    أريد إنضاجه عامين، أربعةً
    ألا ترون الشظايا، تعصر اللدنا

    لكل نضج أوان، إن تجاوزه
    فيه انطوى ميتاً، واستخلف العفنا

    قال الجنين: اقبريني فيك وانتطقي
    كي لا يفيق الذي في نصفه اندفنا

    * * *

    الساعة الآن كم؟ مليون جمجمةٍ
    كالأنجم اقتضموها: هاهنا، وهنا

    من ذا دنا؟ وردة في كف أمنيةٍ
    تضنى إليها، إلينا تستزيد ضنى

    يبدو وصلنا، أصيخوا: من يهامسنا؟
    لا تنطقوا قبل أن تستنطقوا الشجنا

    قلتم كثيراً، وما قلتم، أكاشفكم
    لا يعرف الله من لم يعشق الوطنا

    1993م

  • 327 قبل متى

    ديوان جواب العصور >  قبل متى

    قيل الأُلى تكامنوا
    قبل متى تهادنوا

    هل غبّرت وجوههم
    مطّالةٌ وضامِنُ؟

    أو جاوزوْا أزمانهم
    أو أنهم ما زامنوا

    الآن عن أسبوعهم
    ينوب يومٌ ثامنُ

    لأنهم تزوَّجوا
    أمَّ اللواتي لاعنوا

    وفجأةً تآمنوا
    مِن طول ما تخاونوا

    * * *
    اليوم يحكون كما
    تثّاءب المدافنُ

    لكي يقال: إنهم
    غير الأولى تلاسنوا

    * * *
    يمشون مثل غابةٍ
    غاصت بها البراثنُ

    مثل الحصى يفشي الذي
    يخشى الجدارُ الطاعنُ

    كما يعيد الصمتُ ما
    قال الحديد الساخنُ

    * * *
    كأنَّ ما ضجّوا، ولا
    عجّوا، ولا تشاحنوا

    لا أهَّبوا حرباً، ولا
    وَشَتْ بها المداخنُ

    لا أحرقوا (حَميدةً)
    حُبلى لتسْلى (فاتنُ)

    كأنهم ما أحزنوا
    شعباً، له تحازنوا

    ولا انتوْوا، ولا على
    كل جوادٍ راهنوا

    * * *
    أضحى كرؤيا نوَّم
    ما أضمروا، أو عالنوا

    وما اسمهُ، تعايشٌ
    وما اسمهُ، توازنُ

    قيل هناك عانقوا
    قيل هنا تحاضنوا

    قل هل تخاصَوْا، جائزٌ
    وجائزٌ، تخاتنوا

    كيف تهانَوْا، مَن درى
    لعلهم تآبنوا

    لا زغزدت (ميمونة)ٌ
    ولا نَعت (محاسنُ)

    * * *
    قيل التقوا على هوىً
    قيل ادّعوا وداجنوا

    توافقوا بدءاً، على
    مَن يبتدي تضاغنوا

    قيل مَحَوْا ما أثبتوا
    قيل وغاص الكامنُ

    قل ربما تعاقلوا
    لا فرق، أو تماجَنوا

    قيل نفَوا واستبدلوا
    قيل وكان الكائنُ

    * * *
    تنازلوا بغيرهم
    لأنهم تحاصَنوا

    وأصبحوا كلاًّ، ولو
    هانوا لما تهاونوا

    همُ الكتاب واسُمهُ
    والأهل والمساكنُ

    همُ المدار والفضا
    والبيعُ والزبائنُ

    كيف التقوا مِن بعدما
    قل لي متى تباينوا..؟

    * * *
    تظاهروا حتى انحنتْ
    ظهورهم تباطنوا

    قرون رأسٍ واحدٍ
    وصنَّفوا وقارنوا

    يوم اغتَدوا كي يطحنوا
    (برلين) هل تطاحنوا؟

    معاً تعشَّوْا واحتسَوْا
    معاً هناك واطَنوا

    أتوْا إليهم، مثلما
    لاقى الطحينً العاجنُ

    مَنْ قال ذاك عكس ذا
    هل تكذب المعادنُ؟

    * * *
    تكاثروا واستكثروا
    فيسَّروا ويامنوا

    وشرَّقوا وغرّبوا
    واستلينوا ولاينوا

    وأفرقوا، فرافقوا
    (افريقيا) وقاطنوا

    ناءتْ بهم كما مشى
    بالتلِّ غصنٌ واهنُ

    فاسودَّ بيتٌ أبيضٌ
    وابيَضَّ بيتٌ داكنُ

    هل كان في انتظارهم
    ذاك الشحوب الراينُ

    * * *

    تناصفوا في (القدس) في
    كمبوديا) تغابنوا

    وأهْنَدوا وأرْيَنوا
    فأصهروا وساكنوا

    * * *
    وأنجدوا، فاستعربوا
    واخشوشنوا وخاشنوا

    حيَّوْا رسوم (خولةٍ)
    واستخبروا وعاينوا

    * * *
    هنا ثَغتْ زرائبٌ
    هنا رغَتْ (معاطنُ

    هنا امّحت أوثانهم
    وقام عنها الواثنُ

    * * *
    وفي الرمال أبحروا
    كي تلحق السفائنُ

    واستقرؤوا غيب الفلا
    فباحت القرائنُ

    واستحلبوها فارتخت
    كما يدرُّ الحاقنُ

    فسمّنوا أشباحها
    وقايضوا وداينوا

    * * *
    مِن أين يرقى نابهٌ
    إذا ترقّى الخامنُ

    للدّافنين يا ثرى
    أفاقت الدفائنُ

    هل فيك أخفى؟ ما الذي
    يا غور أنت طابنُ؟

    لمن أتَوا فقه اللغى
    وإن حكوْا تلاحنوا

    جاؤوا وفي جيوبهم
    لكل أمرٍ وازنُ

    * * *
    فأرَّخوا (قُضاعة)
    وكي يرقوا داهنوا

    أَرَوْا حفيد (مازنٍ)
    مِن أين جاءت (مازنُ)

    وَمنْ أبو (تُبالةٍ)
    وكم غزت (هوازنُ)

    وأسمعوا (عنيزةًٌ)
    ما شمِّت الكواهنُ

    وكيف كانت ترتعي
    مثل (الظبا) المآذنُ

    كيف رأوْا ما لا يرَى
    مودِّعً أو ظاعنُ

    لهم رؤىً إذا رنت
    فكل ناءٍ حائنُ

    لأن كلَّ بقعةٍ
    لهم طريقٌ آمنُ

    لهم هناك قارةٌ
    لها هنا مدائنُ

    ودار كل ثروةٍ
    لدُورهم خزائنُ

    * * *
    إلى متى، حتى يلي
    أقوى، ويجري الآسنُ

    كم حرَّكوا وسكَّنوا
    وما الزمان ساكنُ

    مَن يشرح المتْن الذي
    يدنو وينأى الماتنُ

    1991م

  • 328 ابن ناقيه

    ديوان جواب العصور >  ابن ناقيه

    لأنَّ له بُغيهً راقيَهْ
    تناديه: كن غيثَ إبْراقِيَهْ

    لأني لمحتُ عذارى مُناكَ
    وريّاكَ أوَّل طُرَّاقِيهْ

    * * *
    فيهتف: يا كل شوق الرحيل
    إليها، ولاتلتمسْ واقِيَهْ

    إليها، ويا نفس لا تحفلي
    بما أنتِ في وصلها لاقيَهْ

    إلى كم أُقاوي إليها الحنين
    !وأكتبُ للرّيح أوراقِيَهْ؟

    * * *
    فيعدو على النار، يبدو كمن
    يُغسِّلُ رجليه في ساقِيَهْ

    فتستغرب النار: هذا احتذى
    غروري، وهمَّ بإغراقِيَهْ

    وقال: ادخليني لكي تُورقي
    وتذكي مشاريع إبراقيَهْ

    أما الحرق، بَدءُ الرمادِ
    فلوذي بأفلاك إشراقِيَهْ

    * * **
    أأنشدُ فجر ربيعي هناك
    وأبكي هنا فَقْدَ إحراقِيَهْ؟

    لهذا الفتى وطَرٌ لا يشيخُ
    وقلبٌ كأيام إغداقِيَهْ

    بعينيه ماضي غصوني، يُعيد
    حطامي إلى نبض أعراقِيَهْ

    * * **
    أمِن ألْفِ ألْفٍ هداني إلى
    صبايَ، وأعلنَ إطلاقِيَهْ؟

    أكادُ أَميسُ على ساعديه
    أُراقي عصافيريَ الزّاقِيَهْ

    * * **
    إليه انتهيتُ، ومني ابتدا
    أأشواقهُ بعض أشواقِيَهْ؟

    أساطيرُ تهيامه مولدي
    من الموت، إعجاز انطاقيَهْ

    أذا منبتي؟ أم إليه انتمى؟
    !وعنّي يُغنّي لآفاقيه

    * * **
    تذكرته، كان يهوى الرباب
    وكان اسم بكرته (ذاقيه)

    وكان يقولُ: أموت قتالاً
    وقتلاً، لتسْلَمَ أخلاقِيَهْ

    * * **
    يمرُّ فيرمي الطريقُ السكونَ
    وتحكي الربى: مَدَ أعناقيهْ

    وتُومي الثريّا: أغتصب مَقْطَفي
    سأدعوك: أجملَ سُرّاقيه

    * * **
    وكان اسمه (العنبري)في العدين
    ب(ضوران يكنى (أبا حاقية)

    ويدعونهُ (الخِضْرَ) في (دار سعد)
    فيهمس: جاوزتُ أطواقيهٍ) ْ

    * * **
    أنا ابن الفقيرةِ وابن الغريب
    مِن الصخر استلُّ أرزاقيهْ

    على الأهل أُشفقُ مِن ظنّهم
    بمثلي، وأعيا بإشفاقيهْ

    * * **
    وكانت تُهنّي الصبايا التي
    ستخطبها لابنها (ماقيَه)

    ويخشينْ أن يكتريه الخليجُ
    فُيثري، وتغويه (بولاقيهْ)

    * * **
    فحال كروماً وورداً وقمحاً
    وقال: أتَّحدْتُ بعشّاقيَهْ

    تشبَّثَ حتى غدا موطناً
    وقال: اتّسقتُ بأنساقيهْ

    * * **
    وقيل: تشكِّلَ في كل غصنٍ
    وقال: هنا سِفْرُ مصداقيَهْ

    وقيل: رقى وانتقى بغيةً
    أشارت إلى قلبه (ناقيَهْ)

    يراهاً ألَذَّ اكتشاف الحنين
    وأبقى مِن الحكمة الباقيَهْ

    لهذا يُعنّي إليها العَنا
    ويُشقي المغامرةَ الشاقيَهْ

    1990

  • 329 أقاليم ذلك الجبين

    ديوان جواب العصور >  أقاليم ذلك الجبين

    هذا الأوانُ الأخطبوطْ
    كوجوم أقبية القنوطْ

    كمحنّطٍ لأمَ الحطامَ
    وقام ينتظر الحنوطْ

    كسفينةٍ تجترُّ بحراً
    أبحرتْ فيه الشطوطْ

    كولوغ فيران المهامه
    في أنابيب النُّفوطْ

    * * **
    لغموضه وكران في
    إبطيه آلافُ الأُبوط

    فمه كباب جهنمٍ
    ويداه مِن شتى الخيوطْ

    * * **
    يا خابط الفوضى مَن
    المخبطُ فيك مَن الخَبوطْ؟

    في أيّكَ الأغلوطةُ الكبرى،
    وأيُّكما الغَلوطْ؟

    * * **
    يا كلَّ مغموطٍ لماذا
    أنت بعض قوى الغَموطْ؟

    يا، يا، وأعيا، ما اسم مَنْ
    أدعوه: قل يا عَظْرفوطْ

    أتريدُ (إفلاطون) بلْ
    إيماضةً مِن (مَنفلوط)

    تروي لك الهمساتُ عن
    قلب (السَّيوطي) عن سَيوطْ

    * * **
    يا ضجّةٌ عصريةٌ
    كقتال أعراب وقوطْ

    ذا القحط يُحسبُ واحداً
    وعليه تَشْتبك القُحوطْ

    يعوي كقول (تنومةٍ)
    ويضر كالنسر اللقوط

    يعدو وينزف وَهْوَ لا
    يدري أيخبرُ أم يغوطْ

    * * **
    يمتد حيناً عارياً
    حيناً غريقاً في المُروطْ

    آناً كنوقِ (فزارة)
    آناً كنسوةِ قوم لوطْ

    * * **
    طوراً يُحلِّق عالياً
    طوراً على دمه حَطوطْ

    قلْ تارةً رهطُ الجراد
    وتارةً جثثُ الرهوطْ

    وبمقتضى نزواته
    يبدو قَبوضاً أو بَسوطْ

    * * **
    بيديه يختطُّ المدى
    وبرجله يمحو الخطوطْ

    يُدمي بقرنيه السَّنا
    ويذيله النَّوويْ يسوطْ

    يرقى فَيُعدي المرتقى
    ما فيه مِن طين الهبوطْ

    * * **
    عيناهُ مِن أرق السُّهى
    قدماهُ مِن وحَلِ الثبوطْ

    قِلقُ الجبين وقلبهُ
    في عشب سرَّته غَطوطْ

    * * **
    يعتَمُّ عورته ويقتادُ
    السقوط إلى السقوطْ

    فيمرِّغ الأمل الذي
    بعرى تَحَوُّلهِ منوطْ

    لا يستدرُّ شجى المرَثِّي
    لا التفاتات الغَبوطْ

    ويُعدُّ ولاّجاً وخرّاجاً
    وحلاّلاً ربوطْ

    * * *
    يلهو وأوردة الشعوب
    عليه تخفق كالقروطْ

    ويحوط أخبثَ ما يرى
    وعليه يسطو ما يحوطْ

    يحيا بلاشرط الحياة
    كما يموت بلا شروطْ

  • 330 رفاق..الليلة الأخرى

    ديوان جواب العصور >  رفاق..الليلة الأخرى

    أدلَجوا يهوَوْن ما تهوى
    هذه الأمسةُ السَّجْوى

    أشْبَهتهم في الهوى وسمَتْ
    مثلهمْ عن ذلِّة الشكوى

    مثلهمْ يقتادها وطنٌ
    مِن وراء الريح والأجوا

    فاستوى العكسان مِن بَشَرٍ
    وزمان جلَّ مَن سوَّى

    * * *
    إن أشارت، بالسنى ائتلقوا
    يوقدون الأفق بالعدوى

    وإذا ما غامت اقتبسوا
    مِن بروق الغيمة الشدوا

    * * *
    تهتدي إن (أتْعزتْ) وإذا
    جانَبَتْها تَخْبطُ العشوا

    إن سَرَتْ كالغاب (مُتْهمةً)
    ذكَّرْتهم ذلك (الغزوا)

    * * *
    إن تبدّى (المَهْجَمُ) اصْطَرختْ
    أيُّ يومٍ مِن هنا دوّى؟

    إن بكت نجماً هوى ثكَلوا
    مَن هوى مذ أنجبت (حَوّا)

    وإذا حاذت بهم جبلاً
    ساءلوا (عيبال) عن (فدوى)

    وإذا طافت بهم (حَرَضَاً)
    قبّلوا (دَبْوانَ) عن (علوى)

    إن شكت صمتاً رأوْا ورووْا
    حزنها المحروقَ والشجوى

    إن أتت (حَزْوى) دعَوْا
    خبراً عن (تمام الحجِّ) يا (حزوى)
    * * *
    إن أرَتْهمْ كرمةً سكروا
    من بزوغ الأغْصن الجلوى

    مِن كؤوسٍ – سوف تملؤها-
    تغتذي التَّقبيلَ والحسْوا

    * * *
    يحملون البِيدَ تحملهمْ
    لحظةٌ غيبيّةٌ نشوى

    جاوزوا ظن الظُّنون وما
    غادروا (المحْويت) و(الصِّلْوا)

    * * *
    ما اسْمُ هذا النجم؟ أحسبهُ
    نجمةً علَّ اسمها (سلوى)

    تحتوي قلباً، لذا ألِفتْ
    أن تمنّي العاشق النُّضوى

    تسرد الأزمانَ مُحْصِيةً
    كم سَخَتْ، كم ألوتً اللأوى

    ساءلتْ مرعى ثمود متى
    كذّبت هاتيك بالطّغوى؟

    * * *
    علَّ مَنْ – يا عمرو – أنّثها
    ذكّر (الميزانَ) و(الدَّلوا)

    ما اسْمُ المُحْمَرِّ؟ أزْعُمهُ
    بَدوياً ينشد البدوا

    يرتدي وجه (السُّلَيْكِ) سوى
    أنَّه ما جرَّب السطوا

    * * *
    ذلك المغرورُ رأَسَهُ
    منزلٌ ما اختاره عضوا

    وبه يشدون، داخلهُ
    كلبةٌ تَسْتنتج (الجروا)

    إن نوى التغييرَ مُسْتبقاً
    غيَّر (الطربوشَ) والفروا

    * * *
    كلُّ نجمٍ – يا (حسين) – له
    زوجٌة مِن زوجها أقوى

    كيف يا (مسعودُ) ليلتُنا؟
    مثلُنا جَوْعى بلا مأوى

    علَّقتنا يا (حَمُودُ) كما
    علَّقوا للهرِّة الشِّلوا

    لو تدير الشُّهْبَ أرغفةً
    قُلْ: وأطباقاً من الحلوى

    سوف تُدعى خير خابزةٍ
    ونُسمَّى خيرَ مَنْ قهوى

    قلْ: لو (المفتاحُ) علَّمنا
    كيف نطهو الفقه والنحوا

    مَن يعي فحوى النجوم؟ على
    وجهها تسري بلا فحوى

    كالحصى ما عندها خيرٌ
    لا لها خفْقٌ ولا نجوى

    إن طوى الأدجى إشارتَهُ
    نثَّ ما في قلبه الأضوى

    * * *
    ذاك من يدعو، أُجيب كما
    يستعيد الألكْن الوأوا

    إن حكى، قال السعالُ: صهِ
    تَطْعَمُ الشيخوخةُ الربوا

    * * *
    هل تشبُّ الحرب يا (زُحَلٌ)؟
    عند (سعد الذّابح) الفتوى

    قيل: لا يُبدي نبوءتَهُ
    قبل بدء الغارة الشَّعْوا

    راقبوها طالما انتبهتْ
    تنبري مِن قبل أن تُنوى

    والسكارى خلفها تَبَع
    يقتدي الغاوون بالأغوى

    ترتئي في الكيِّ عافيةً
    قلْ: متى في صلبها تكُوى؟

    تنطوي عشطى فإن بدأتْ
    رشفةً لا ترتضي الصحوا

    كم أتتْ مِن نبتةٍ صرخَتْ
    ترتعُ المخضرَّ و(الأحوى)

    تحتذي (صيدا) إلى (رفَحٍ)
    ترتدي أكتافها (رُضوى)

    كهُف (إسرائيل) أعينُها
    (كَمْبُ ديفدْ) كلبها الأعوى

    هل أُسمَّى يا بني (يمنٍ)
    راوياً عن أمِّكمْ (أروى)؟

    مالقت هولاً، – ومِن عجَبٍ –
    أرضعَت أعقابها التقوى

    * * *
    يا (مثنّى) مَن نؤمُّ وهلْ
    كاشفتْ أهواؤنا المهوى؟

    وإلى كم نكتسي غسقاً
    يشتوينا، وهْو لا يُشوى؟

    هل تركنا قبل صُحبتهِ
    صحبةً أرضتْكَ أو مثوى؟

    لا أرى – يا (زيدُ) – شقوتنا
    غِرّةً تُشقي بنا الصفوا

    إن خوى مِنّا النهار، فهل
    نَعْمرُ الأمسيّةَ الأخوى؟

    * * *
    يا رفاقي لستُ أمْسِيَةً
    كالأماسي شئتكمْ لهوا

    ما امتطيتم منكبي ترَفاً
    لا ولا حُمِّلتكم سهوا

    عندكم أعلى الهموم، أنا
    ليلةٌ أخرى بلا دعوى

    * * *
    لا أرابي بالنعاس ولا
    حبركُمْ يستنطق اللغوا

    لا يرى (الفستانَ) مرتعشاً
    مادحاً يستنعِبُ الهجوا

    لا يَغرُّ المُستَعِزَّ ولا…
    يجتدي الأعذارَ والعفوا

    سِرُّنا الأخفى قدرتِ على
    نَشْرهِ مِن قبل أن نُطوى

    – كلُّ (أيّوبٍ) يساهرني
    يجتني النُّعمى مِن البلوى

    * * *
    يا رفاقي سوف أُوْدعكم
    بابَ تلك الغاية القصوى

    حيث للأشواقِ وجُ ضحىً
    ولأحلامِ الكرى جدوى

    ديسمبر 199م

  • 331 لأنك موطني

    ديوان جواب العصور >  لأنك موطني

    يُقالُ عيونُك النّعسى
    لأول نجمةٍ مرسى

    لأمِّ الشمس مُضطجعٌ
    إليه تَنسُبُ المشمسا

    لشوق الحرف محبرةٌ
    تعير المأتمَ العرسا

    وعاصمةٌ لها طربٌ
    وكلُّ مدينةٍ خرْسا

    لأنكَ حسب ما زعموا
    سبقتَ الروم والفُرسا

    أأنت أبو(سبرتاكوسَ)
    أُمُّ شرارة (الأحسا)

    بريقُ حسام (عنترةٍ)
    وسرُّ فصاحة (الخنسا)

    لهذا عنك يا وطني
    نعبُّ الأخطرَ الأقسى

    إليكَ ومنك غايتُنا
    أقصراً كنتَ أم رمْسا

    أكنتَ عشيّةَ الماضي
    أم الأمسَ الذي أمسى

    قلوبُ القلب أنتَ ودع
    أيُمناً كنتَ أم نَحْسا

    وما التاريخ كيف هذى
    وخطّ حجاركَ الملْسا؟

    ووشّى دودَ مقبرةٍ
    وعنها استقبل الدرْسا

    فسمّى (أسعد) الأسبى
    ولقَّب (مَذْحجاً) (عنْسا)

    ويروي ما روى سلَفاً
    وينسى أنه ينسى

    لأنك موطني أفنى
    حريقاً فيك لا يغسى

    ولا أدعو مجازفةً
    ضياعي فيك أو أَأْسى

    ألستَ المفتدى الأغلى
    بلا سبئيَّةٍ قعسا؟

    بلا (ذُبيان) مُنتسبي
    وعن (ذُبيانَ) سلْ (عبسا)

    لأنك قلت لي بَشرٌ
    ودع مَن صنّفوا الجنسا

    لأنك بيت متّقدي
    أُجَمِّرُ باسمك الحسَّا

    وأحمل أنفساً شتّى
    أُلمُّ شَتاتها نفسا

    أحبكَ ناقداً خطِراٌ
    مغنّي البلدة التّعْسا

    عيوفاً ما حسا عسلاً
    أتى مِن شُبهة المحسى

    نبيّاً إن رأى شبحاً
    رمى ب(سُمارةَ) (الرَسّا)

    وقيل استلَّ (وائلة) ً
    وقيل تأبّط (الكِبْسا)

    وطمَّ ب(كربلا) (صفَدا”
    وب(المهديّة) (القدسا)

    ونادى: يا (مذيحرة)ٌُ
    أتنسى الشعلةُ القَبْسا؟

    أياأخذ جزيةً ملكٌ
    ويقبض باسمكَ المكْسا؟

    ويشري (مريماً) ب(لمى)
    كما يستبدل اللبسا

    رضعتَ الطهر يا وطني
    فدعْ مَنْ يَغتذي الرِّجسا

    أحسُّك في شذى المرعى
    غناءً، فيالندى هَجْسا

    أضمُّك خضرةً كحلى
    أشمُّك فكرةً لعْسا

    وشوقاً حادساً ومُنىً
    وودعاً يسبق الحدْسا

    جمالاً لا يطيق فمي
    أمام جلاله النَّبْسا

    أُحُّبكَ هامةً صَلْعا
    فتىً مِن صره أجْسى

    ومِن أجوائه أصفى
    ومن أجباله أرسى

    يعي السرّا، يُرى أقوى
    على البأسا مِن البأسا

    وأهواك ابنةً وأباً
    يرى ما لا يُرى لمسا

    وكبرى تحسب الصغرى
    تبيع سريرها بخسا

    أُحِبُّكَ ثائراً أبداً
    غصوناً تنهمي أُنْسا

    عصافيرا وأودية
    كتاباً غابةً مَيْسا

    ومحراباً ومدرسةً
    وبيتاً، ملعباً، حبسا

    وجوّاباً على أمل
    وسُوقاً يسكن الفِلسا

    وإنصاتاً، وأغنيةً
    وهمساً يحتسي الهمسا

    ونافذةً ترى (حَسنا) ً
    يغازل تحتها (حَسَّا)

    أحبُّكَ غير مُحتجبٍ
    لأنك عارياً أكسى

    صريحاً، ما ارتدى أحداً
    ولا في غيره اندسّا

    أتبغي عطر (هولندا)
    أعنك تشكِّل العكسا؟

    وهل (فُرويد) أيُّ فتىً
    يجاري (موظة) (النمسا)

    أُريدُك تلبس (الكاذي)
    وترعى (الخَمْطَ) و(الوَرْسا)

    وتسري مِن (جعار) إلى
    دوالي (صعدة) خمسا

    أواناً راكباً (جَملاً)
    وحيناً (ناقةً) وَعْسا

    وطوراً حافياً يصبوا
    ربو كلما جّسا

    أليس براءةُ المرْبى
    تنقّي البذرَ والغرسا

    1991م

  • 332 القطاة.. والصقر العجوز

    ديوان جواب العصور >  القطاة.. والصقر العجوز

    مَنْ أعادتْ إليك منكَ الرضيعا
    مثلَ سرٍّ خفى وأضحى المُشيعا

    أيَّ شيء رأتك ذكرى طيورٍ
    وادياً كان قبل عامٍ ينيعا؟

    ربما أطْلَعَتك منك نبيا
    وغدتْ وحدها النصيرَ التَّبيعا ً..

    علَّموني أعي وصايا (وكيع) ٍ
    أتراني غداً سأوصي (وكيعا)

    ***
    ما تخيّلتَ أنَّ أصبى قطاةٍ
    سوف تُصبي صقراً إلى الموت بيعا

    وعلى ساعديه سوف تغنيّ
    ويغنيِّ لها شجياً مُطيعا

    وعليها الطراوةُ البكرُ تطفو
    وله الحيةُ تَشُوكُ الضَّجيعا

    ***
    مثلُ بنتِ ابنهِ، وعنه أزاحت
    نصفَ قرنٍ، فكيف نالَ المنيعا؟

    بيدٍ وهّجتْ مَصِيفَ صياهُ
    وبأخرى حنّتْ هناك الصّقيعا

    لا أتته خديعةً، لا تَلَقّى
    هذه الفُجأة الألوفَ حديعا

    ***
    أي إلف من الغرابات هذا
    فيه معنى يثني السؤال صديعا؟

    كيف لاقى حلاوة ما ارتجاها
    أهي راعته، من درى كيف ريعا؟

    ***
    أنصت فاقتنصت جئت وجاءت
    أهي نادتك أم أجبت سميعا؟

    واضح ما اتزرت حسناء يوماً
    هل إلى هذه انتخب الشفيعا؟

    أتراني أصبت؟ كلا، لماذا؟
    إن كنه الوضوح يعي الضليعا

    ***
    أي سكرين تحتسي؟ أي أم
    ضعت فيها مخافة أن تضيعا؟

    بعد ستين ما نسيت ارتضاعاَ
    أحليباً طعمته، أم تجيعا؟

    لست تدري كان الزمان مكاناً
    يشتهي في قميصها أن يميعا

    ***
    طفلة أطفلتك، أهي استطاعت
    وحدها، أم أردت أن تستطيعا

    لست تدري، ما زلت سكران تنأى
    عنك، لن تستفيق إلا صريعا

    ***
    هل أحالت فيك الشتاء ربيعاً
    ذا امتلاء، أم ألبستك الربيعا؟

    ربما رقعت حواشي شبابي
    ثم نحت ذاك القميص الرقيعا

    وسقتني من غصنها فإذا بي
    روضة تحتوي الغصون جميعا

    خلت غرسي يميد تحت جناه
    كزمان يلغي الزمان المجيعا

    للعصافير بالعناقيد يومي
    ويلاقي إلى الدروب القطيعا

    وإلى الجائعين يزجي حصاداً
    وإلى العانسات عطراً مذيعا

    وإلى الثائرين عزماً بصيراً
    وإلى القامعين محقاً سريعا

    وإلى اللاجئين منهم دياراً
    من قلوب، للرعب حرقاً فظيعا

    وإلى كل فاجر ذي نفود
    – تشتري المعدمات- بؤساً شنيعا

    وإلى ذي الطموح يهدي كتاباً
    بالعوافي يدنو يلف الوجيعا

    وإلى كل نبتة مد نبضاً
    مطراً هانئاً وسهلاً مريعا

    وإلى ما كان واقعاً قبل يوم؟
    غير الوقع، أم أجد الوقيعا؟

    قيل لاقت من تصطفي فأجادت
    آية الحسن أن يجيد الصنيعا

    ***
    منذ غذت هاتيك أعراق غرسي
    صغت حتى الخراب فنا رفيعا

    واكتشفت الدميم غير دميم
    وخليع الأمير ليس خليعا

    ودخلتُ النهار أجلو مناهُ
    وقميصَ الدجى هزيعاً هزيعا

    مِن أفانينها ابتدأتُ انتصافي
    فانثنى أوّلي طليقاً وديعا

    كان سرّي قصيدةً لم أقلها
    قلتها الآن فابتدعتُ البديعا

    ***
    1991

  • 333 المحتربون

    ديوان جواب العصور >  المحتربون

    بلا أي داع، أو بداع تناهشوا فلا
    الميت في الموتى، ولا الحي عائش

    لأن المدمي باحث عنه في الدما
    وكل قتيل عنه في الرمل رافش

    إذا اعتل ماء الجسم واحتث نازفاً
    فما قيمة الرامي إذا انقض خامش؟

    ***
    كمالية حرب الخليج وغيرها
    وحول الضروريات كاو وكامش

    هنا قبل تشع كان إن شع(يفرس)
    نضا (السر)(وادي ظهر)واغبر(عافش)

    تلتها حروب مالغا باسمها فم
    ولا دق مرش الكر والفر مارش

    أفتشت عن وجه لهذا؟ لو أنه
    – كما خلت- ذو وجه لما اهتم فاتش

    أكل ربيع خالف النهج، لا الندى
    يندي، ولا لمس النسيمات راعش

    ولا تشتكي هذي البساتين عريها
    ولا تنتوي حمل النهود العرائش

    ألا تلحظ التفاح في الطين ينطوي
    وتنزو كأسراب الجراد المشامش

    وما بين أحزان المواسم والربى
    تشاك، ولا بين المراعي وشاوش

    ولا للمسمى النصر وجه من الضحى
    ولا ظهر من تدعى الهزيمة غاطش

    إذا ما نجا القتال، حال قتيله
    بباطنه نعساً يناديه ناعش

    لأن القوى بالضعف أغرى أذالها
    مرسا فأعيا طيشها منه طائش

    لماذا الأنام اثنان نفي كل بقعة
    على الأرض مبطوش به ثم باطش؟

    لأن الزمان اثنان: حرب وهدنة
    وسر الوفاق اثنان: ماح وراقش

    وما هذه الأثداء إلا مشاجب
    ولا هذه الأذقان إلا حشائش

    وتلك التي تحمر تصفر دور من؟
    تحاول أن تنفض عنها الزراكش

    ***
    نثير الحصى أمسى ضجيع قنابل
    ولا قر مفروش ولا احتاز فارش

    فلا فرق بين الحرب والحب لا اللقا
    يسلي- كما قالوا- ولا البعد واحش

    لأن التعادي اليوم حمال أوجه
    إذا نام فيه فاحش قام فاحش

    إذا اصفر من رضته أنياب طلقة
    تنحى الذي ما مس كفيه خادش

    ***
    فمن ذا يسمي الأرض أنثى بسيطة
    وما فوقها إلا الجيوش الجوائش؟

    ضجيج الصواريخ المبينات نطقهم
    وعنهم تغني القاذفات العواطش

    إذا شق جنزير فما، شق مدفع
    فما، والثرى المنبوش عن فيه نابش

    ***
    وبين الروامي والروامي تنابح
    وبين الضحايا والضحايا تناقش

    وبين الشظايا والمنايا تسابق
    وبين الثواني والثواني تناوش

    لأن (السلوقيات) في كل معتد
    على عهدها حمر المآقي هوارش

    أيا ناقشاً أخبار (كهلان) في الصفا
    قوى العصر (بالنابلم) فينا نواقش

    ويا غاز كل الساح عندك مقتل
    وفيك إذا قصرت عام وعامش

    من القصف حتى القصف تعدو خرائب
    وتستاق أخرى العاصفات النوافش

    أهذا الرماد المقشعر كتائب
    بيوت، أذاك الفحم (سعدى) و(طارش)؟

    أهذا الحصى المحمر أطفال روضة؟
    أهذا الرصيف الرطب (عفرا)و(داحش)

    ومن ذلك الدخان المشرئب قوافل
    من الحقد يرعاها دم الريح (طاهش)

    ومن ذلك المصلوب ساقاه (جدة)
    و(صنعا) وأعلى منكبيه (مراكش)؟

    عروق (الذفيرى) يا (إبقراط) أحرقت
    وحالت سموماً- يا (بن سينا)- (الجوارش)

    إذا أدام الثاني رأى بالكون مدهشاً
    فمن أي شيء آدم الالف داهش؟

    ترى أي عش – يا رصاص- بمأمن؟
    وأي عروش للردى أنت عارش؟

    ويا زوجة الشطرين ذبت على العصا
    وما ذاب في تجميش خديك جامش

    ويا زاحمين الأرض والجو بالقوى
    أما للقلوب الأدميات هامش؟

    ففي أي ركن يهدأ العشب والندى؟
    وفي أي غصن تطمئن الروائش؟

    وفي أي ثقب يجهش الحب باكياً؟
    وهل يسكت الفولاذ والطين جاهش؟

    ألا لا رأت يوماً ككانون (دجلة)
    ولا أصبحت يوماً تطير (الدشادش)

    مارس 1991م

  • 334 توابيت الهزيع الثالث

    ديوان جواب العصور >  توابيت الهزيع الثالث

    هناك رأوْهُ (نقيل يَسْلِحْ)
    طريحاً مِن وراء الصمت يُفصِحْ

    يكاد يقوم يحتضن المحيِّي
    ويخترق الكوابح والمكبِّحْ

    ويطلع كرمةً مِن كل صخرٍ
    تضاحكها النسائم أو تؤرجْح

    يقول ولايقول، يشي ويُشجي
    يصرِّح بالأهمِّ، ولايُصرِّحْ

    * * **
    يَنُثُّ تهاجسُ الأعشاب عنهُ
    ويخفق مثل أخيلةٍ تلِّوحْ

    تُحدِّثُ عنه رابيةُ نسيماً
    مَشَمُّ الورد أزكى إذ يصوِّحْ

    أريدُ أطيرُ أخْبرُ عنهُ مَن ذا
    يريِّش قامتي أو مَن يُجنحْ

    * * **
    تمدُّ إليه أمُّ الصبحِ كفّاً
    لتقرأ كفَّه ويداً توشِّحْ

    تسرَّح فيه عينيها وتغضي
    فيهتف قلبها فيمن تسرِّحْ

    * * **
    تغوص كناقد يتلو كتاباً
    ربيعيًّ المؤلِّف والمنقِّحْ

    وتسأل: يا أنا أأرى فلاناً
    قتيلاً، لا تبتُّ ولا ترجِّحْ

    ومَن هذان حوليه أقتْلى
    ثلاثتهم؟ لماذا؟ مَن يوضِّحْ؟

    لهم أرًجٌ كأفراح الصبايا
    وسرٌّ ربما يُعيي المشرِّحْ

    * * **
    تكلم يا غموضُ، هنا رَموْهُمْ
    وعادوا قبل حَوْقلةِ المُسَبِّحْ

    لهم أيدٍ كأدغال البغايا
    وجوهٌ مثل مزبلةٍ تفُوِّحْ

    توابيتٌ لها شبقٌ، تأنّى
    بها النّجار وانخدع المُصَفِّحْ

    ضحايا غيرهمْ يسطون عنهُ
    فكيف يحسُّ مذبوح يذِّبحْ؟

    * * **
    ترى غطَّوْا ملامحه ليخفى؟
    فكيف إلى أكُفِّهُمُ يُلِّمحْ

    أظنّوا الخنق لا تلطيخ فيه
    فمن يمحو الجريمة أو يُمسِّحْ؟

    فقال بلا فمٍ، أدراجُ قلبي
    خوافٍ أيَّ أغْلَفَها أفتِّحْ

    وحكَّ جبينه ودنا ليفضي
    فهدَّج خمسَه الوجعُ المُبَرِّحْ

    * * **
    أيا (وِعْلانُ) قلْ أمسوْا بصنعا؟
    أمَنْ يمسي بصنعا ليس يُصبحْ

    أتوا من قبل أسبوع أمامي
    كحقل سفرجلٍ يُشذي ويُفْرِحْ

    فقال صدىً أحطَّ القتل وجهاً
    وكفّاً مقتلُ السِّرب المروِّحْ

    أنادي يا (خِدارُ) يجيب عنها
    نواحٌ صامتٌ وشجىً يُنوِّحْ

    أأشهد كل أمسيةٍ طريحاً
    بلا روح، ولاأضعُ المُطَرِّحْ؟

    * * **
    أما انتهت الحروب تقول هذا
    مؤامرة المزعَّم والمسَلِّحْ؟

    بغير يديه داعي السِّلم يردي
    ويدعو مَنْ أناب أجلَّ مُصْلحْ

    رأى الثوراتِ غلطةَ كلِّ شعبٍ
    فنصَّب كل قتّالٍ يصحِّحْ

    إذا سكتوا زَقا الإسكات عنهمْ
    وإن نبحوا فقلْ أَمَرَ المنَبّحْ

    * * **
    يصوغ المسرحيَّةً كل يومٍ
    ويبدو شاهداً وهو المسرِحْ

    يرى اليوم التعدُّدَ بدء شوطٍ
    فهل سوقُ التَّفرُّدِ غيرُ مُرْبِحْ

    ويدعو الانتخابَ الحرَّ أراضي
    ويعطي الأغلبية مَن يرشِّحْ

    أليس هو المثلَّثُ والمثنِّي
    وملعبهُ المشِّلُ والمنجِّحْ

    لهذا ينثني الأنقى هزيماً
    ومتَّسخُ اليدين عليه يُفلحْ

    وأنت عليك أن ترضاه حُراً
    وإلا لست حُرَّاً أن تصيِّحْ

    لأن أبا القوى يختار حكْماً
    يُطَبِّقُ لا يحسِّن أو يُقَبِّحْ

    * * **
    أخَمَّنُ بعد هذا الوقت وقتاً
    أرومُ قياده يأبى ويُسمِحْ

    تعلَّلْ لست وحدك كم تلاقي
    قريحاً لا يكُفُّ يدَ المقرِّحْ؟

    ومَن ذا يقتدي بالعجز لِم لا
    أزحزحُ منه عني ما أزحزِحْ؟

    أعِنِّي أو أشحْ عني أيأبي
    كسيحُ النفسِ إلاّ أن يكسِّحْ

    حماقةُ ذو القوى أقوى عليهِ
    وأقْتلُ للتبجُّحِ والمُبجِّحْ

    ترى ما في بلادي في سواها
    أترضى الجرح إن عَظُمَ المجرِّحْ؟

    أيجدي الشعبَ أنَّ له شبيهاً
    وأن هناك مثلُ (نقيل يَسْلِحْ)

  • 335 بين القلب والقلب

    ديوان جواب العصور >  بين القلب والقلب

    ما لونُ صوتِ الصلبِ حين يخفقُ؟
    وهل يشمُّ الوردُ ماذا يَعْبِقُ؟

    حروف نجوى القلب ماست قبلهُ
    قبل الذين إن حكوا تَحَذْلَقوا

    لِلْيا قوامُ الشوقِ، للميمِ هوىً
    أصبى، لوجه النْون وجهٌ أنْزقُ

    السِّين بنيٌّ ولِلْبا حمرٌة
    الرّا كما يدعو الفَرَاشَ الزنبقُ

    واليوم للقلب لُغىً فوق التي
    وأعينٌ مثل (القطا) تُشَقْشقُ

    مدائنٌ مِن الحنين يمتري
    أقاطنوها الجنُّ أم تسوَّقوا؟

    كأنما الموتى إليه أطفلوا
    وغُيَّبُ الأصلاب فيه أشرقوا

    * * **
    طقوسُ هذا القلب أطفالاٌ بلا
    أهلٍ، وأهلوهُ كرامٌ أمْلقوا

    مواعدٌ تكاد تفجأ المنى
    وتنثني هذا بذاك يُمْذَقُ

    * * **
    حيناً يحول واحةً، وتارةً
    جَوْعى على شريحةٍ تحلَّقوا

    آناً فتىً يلهو، عجوزاً ينكفي
    يلمُّ أطياف الصِبا وينشَقُ

    * * **
    ينوي كما يَفْتَرُ طفلٌ حالمٌ
    الصحو في عينيه فَرْحٌ موثَقُ

    أو مثل رؤيا نائمين خُيِّلتْ
    لهم حريقاً حوله تَشَقّقوا

    * * **
    دقّاتُ قانيهِ، رؤى مخضرِّه
    أشواقُ خلاّقين لمّا يُخلقوا

    ديمومةُ الشوق الذي يذيبهُ
    في عين عينيه هو التّألُّقُ

    يكنُّ هذا القلبُ عالَماً كما
    ينوح سربٌ ريشهُ مُموْسَقُ

    يشاهق الريح فتنسى حولهُ
    هبوبها، وكيف كانت تَشْهقُ

    * * **
    في ذلك المأوى يغنّى وحدهُ
    ووحدَهُ منه عليه يقلقُ

    كعانسٍ في يوم عرس أختها
    كعاشقٍ لم يدرِ مَن ذا يعشقُ

    * * **
    وبينهُ وبينهُ تجادلٌ
    فنصفهُ فِقهٌ، ونصفٌ منطقُ

    وبين نصفيه قلوبٌ تمتطي
    إيماضها، بالمستحيل تَعْلَقُ

    * * **
    إن قال نصفٌ ما ارتآه (مالكٌ)
    أجاب نصفٌ، جوَّدَ (الفرزدقُ

    إذا اقتفى (جبران) هذا، مالَ ذا
    إلى الذين قبله تزندقوا

    إذا أخٌ صاح: الفساد مطلقٌ
    لبّى أخٌ: وأيُّ شيءٍ مُطْلقُ

    * * **
    إذا ارتضي (مارِكْسَ) هذا، قال ذا
    أجاد (إخوان الصَّفا) وأغْدقوا

    لمّا اجتلَوْا أنَّ الولاةَ أفسدوا
    ما كان، أبدوا غيره وطبَّقوا

    * * **
    ألَّفت في أخلاقهم أطروحة
    فيها تساوى الخُلق والتَّخَلُّق

    وقلتَ مِن (زينون) كانوا نسخةً
    أخرى، أعادوا نسخها ونمَّقوا

    فدكتروكَ إذ رأيتَ ما رأوْا
    ولو بعينيك رنوْت، عَوّقوا

    * * **
    إذا بكى هذا (الحسين) قال ذا:
    أعشى مِن (الأعشى) هو (المحلِّقُ)

    يا صاحبي حتى التواريخ الألى
    سقُّوا غليل (كربلا) وما سُقوا

    يستغرب الإغرابُ كيف أوغلوا
    في البُعْدِ حتى أقْمروا وأبْرَقوا

    * * **
    إن قال ذا: ما أحسنَتْ (ولاّدة
    ٌ أشاد هذا بالألى تَعَشَّقوا

    أتزدري بنتُ الذين مَدْشقوا
    غرناطةً مِن بعد ما تَمَدْشقوا؟

    يقال: كانت كاثنتين إن مشت:
    بل إنها من (نفرتيتي) أرشق

    يرى: أخافت (آل جهور) بلا
    سيف.. ومن أسيافهم لا تفرق

    أسيافها أمضى، ولكنَّ الأسى
    أيام بَيْعِ الحِذْق منها أحْذقُ

    * * **
    إذا ادَّعى ثوريةً هذا، دعا
    ذاك (المماليكَ) ارقصوا وصفّقوا

    مَن امتطى منكم قَذالَ ثورةٍ
    وأيُّكم بالثورتين استْرزَقوا؟

    أما كتبتَ عن ولاةِ أمركمْ؟
    أحصيتَ كم تزوّجوا وطلّقوا

    إذا شدا هذا: أبي ضحّى هنا
    ناداه ذا: نبكي الألِى لم يُشْنقوا

    تمثالُ كلِّ ثائرٍ أهاجني
    يسرُّهم أن تَهْرِقوا ما أهْرَقوا

    لا تهدروا وحلَ البنوك باسمهمْ
    لأنهم مِن القلوب أنْفقوا

    وشاهَدوا ما بعدْ يومِ غيرهمْ
    فَقَرْمَطوهم تارةٍ وهَرْطقوا

    * * **
    الناسُ أمثال الدجاج إن رأت
    أختاً تبيض بَقْبَقَتْ وبَقْبَقوا

    أما يزالون على العهد إذا
    تطوَّر الأجدى تقوّى الموبِقُ

    * * **
    أنحن جئنا قبلَ، بعدَ وقتنا
    مَن بكّروا مثل الذين أعْسقوا

    كان (الدُّمٌسْتُق في (الإمام) وحدُه
    واليوم قالوا: جَمْهَرَ الدُّمُسْتُفُ

    * * **
    اليوم غير الأمس تلك سُنَّة
    قالوا: وكالقُوّال عنهم أخْفقوا

    ألله فردٌ والنبيُّ واحدٌ
    والحاكم (المهدي) أو (الموفَّقُ

    (لا غمد للسيفين) خذْ دبّابةً
    ها أنت يا هذا بها مُطَوّقُ

    إن ذاك غنّى (السُّليكِ) صاح ذا
    أفتى مِن (القَيْني) (عليُّ الزَّيْبَقُ)

    مَن صَعْلك (الشطّارَ)؟ قيل: كلُّهمْ
    بلون كثبان الفلا تأنَّقوا

    سل (عروة بن الورد) من أحفاده من
    أدلجوا وكالنجوم حلقوا؟

    واستأنسوا بالوحش وهْوَ كاسرٌ
    واستصحبوا العفريتَ وهو مُحْنَقُ

    * * **
    إن هشَّ هذا للغصون، قال ذا
    خيرُ امتحان العُود حين يُحرق

    أحسُّنا نخضرُّ باخضرارها
    وعندما تصفرُّ هل سنورقُ؟

    يا صاحبي كالشمس ضوء حُجّتي
    ما الشمس؟ لَوْحٌ في الهوا مُغَلَّقُ

    * * **
    إن ذاك قال البِكر أشهى،ردّ إذا
    للأربعينيات نُضْجٌ أفْسَقُ

    لكلِّ عِشْرينيّةٍ أحلى صبىً
    لكل خمسينيَّةٍ صباً مُعتٍُّ

    هل أنت أدرى مِن شيوخ بابلٍ؟
    هضمت ما شّموا وما تذوَّقوا

    * * **
    كم أشبقْتكَ – يا فقيهُ – أعينٌ
    يُشبقْنَ مَن أشغاله التشَبُّقُ؟

    يا منطقي ما كل (زنّارية)ٍ
    نطاقها بحسنها مُنَطَّقُ

    قلّ للتي شقَّتْكَ عنها استرجعي
    الأرضُ مما كنتِ فيه أضْيقُ

    كنتَ بلا ثانٍ، فجئتَ زائداً
    على الذين ثقَّبوا وعمّقوا

    مِن حفرةٍ تُرمي تسدُّ حفرةً
    وأنتَ بين الحفرتين خَنْدَقُ

    * * **
    يا خَفْقُ، هذا القلب وَهْوَ واحدٌ
    خصمان: ذا موجٌ، وهذا زورقُ

    لو قال ذاك: البحر سِرَّةُ الثرى
    لقال ذا: بل جرحَهُ المرَقرَقُ

    لو قال ذاك: انظر هنا (مُكَيْرسٌ)
    لقال هذا: بل هناك (المفْرَق)ُ

    أليس غَرْبُ القلب مثلُ شرقهِ
    في القلب غير قلبه يا أحمقُ

    ماذا ترى؟ أحسُّ كل نبتةٍ
    كانت يداً تومي ووجهاً يعْرَقُ

    هل هذه الأطلال كانت نسوةً؟
    لا، بل رجالاً كالجمال اسْتنوَقوا

    أمَا (الكُموناتُ) افتتاحُ عصرنا؟
    بل استهلَّ العالمَ (الخوَرْنَق)

    * * **
    هل نصفُ هذا القلب عكسُ أصفةِ؟
    ذا بالورى أحفى، وهذا أرْفَقُ

    كلُّ بقاع الأرض في حنينه
    هذي عناقيدٌ، وتلك فُسْتقُ

    بيوت أحبابٍ يفتِّق الندى
    أهدابَها، فيفرح التفتُّقُ

    لأنَّ هذا القلب رغم حجمهِ
    بسيطةٌ للكل، عنها يأرَقُ

    * * **
    مستخبرٌ عما مضى، وهل مضى
    عما سيتلوهُ، وهل سيلحق

    عن الذين غرّروا، هل غرّروا
    عن الذين حقّقوا، هل حقّقوا

    عن الذين يلبسون غيرهمْ
    فإن وهى بغيره تلفّقوا

    * * **
    عن الربيع الطّلق، أهْوَ واحدٌ؟
    أم أنّهُ في كل روضٍ فَيْلقُ؟

    عن النِّمال هل لجدِّ جدِّها
    – قُبيْلَ عادٍ – مركبٌ وبيرَقُ

    * * **
    عن الورى، مَن ذا وراء حشدهمْ؟
    إذا التقوْا ومَن إذا تفرَّقوا؟

    عن مُشْعلي حرب العدى إذا انتشوْا
    فإن رأوْا في الصحو حاءً أطْرقوا

    وإن دعا يوم الحمى تحجَّروا
    وإن أشار دِرْهَمٌ تدفَّقوا

    * * **
    أعن (أزالٍ) ما وقفتَ سائلاً؟
    ناديتَ أحياءً عسى أن يُرزْقُوا

    كيف انثنى الحُجاج؟ قالت لي صَهٍِ
    ما كل ساعٍ (شاهرٌ) أو (شَوْلَقُ)

    وأمْعن القلبُ يقلِّب الألى
    رقَوْا مِن الأبواب أو تسلَّقوا

    يروي البطولاتِ التي أنفاسُها
    كما يفوح الجوربُ الممزَّقُ

    * * **
    يُنهي السؤالَ بالسؤال، داخلاً
    غياهباً، سرادباً، لا تُطْرَقُ

    مُكاشفاً مِن تحت كلِّ زِينةٍ
    مقابراً، يزفُّها التَّزوُّقُ

    ملابساً أوصى بها الذي مضى
    لمن أتى وللذين نسّقوا

    كأنه مُوكّلٌ بما ثوى
    خلف الحُلى وزوّرَ التملُّقُ

    يشمُ ما سوف يلي هذا، كما
    يُقرمز المعنى الخيالُ الأبلقُ

    * * **
    مستنبئاً عن الذين أخفقوا
    هل أخفقوا لأنهم تفوّقوا؟

    عن الذين أُبعدوا لأنهم
    كما حكى الراوي – أبَوْا أن يسرقوا

    عن سيد الأمر الذي رأى بهم
    غرابةً تغزي، وأخرى تَصْعّقُ

    * * **
    عن السما كيف ارتقى ازرقاقُها
    وما تَرَقّى البحرُ وَهْوَ أزرقُ

    عن الذرى، هل تستحيل أنجماً؟
    هل يستقيم المنحنى ويَسمُقُ؟

    عن الذين وحدهم توحّدوا
    قبل الطريق باسمه تطرّقوا

    عن الذين أكْوَتوا مِن ههنا
    عن الذين مِن هناك أعرقوا

    * * **
    من يعربٍ، هل اسمهُ من نُطقهِ؟
    وهل روى الإغريقُ ماذا أغْرقوا؟

    عن التواريخ التي كانت لها
    نقاوةٌ، وللحروف رَوْنقُ

    * * **
    تساؤلٌ يرمي بنفسه إلى
    تساؤلٍ مِن مقلتيه يأْبَقُ

    يُراحل اليومَ إلى أن ينحني
    يُساجل الليلَ السُّرى ويسْبَقُ

    لأنَّ بدْءَ المبتدا ماذا يلي
    فآخر المسعى السؤال الأعْتقُ

    * * **
    هل اشتفى هذا وذا أو انطفا
    بَرْقُ المنادى، أم خبا التشوُّقُ؟

    لأنَّ (كَم) أرخى الحزام عن (متى)
    مِن أين يَسْتحكي، ولا مَن ينطُقُ؟

    * * **
    قُلْ أين عرّافوك يا (الأشمور) قل
    من ذا درى، هل غرَّبوا أو شرّفوا

    وأين (هل) كان أخي قيل لهُ
    هناك بستانٌ يليه فندقُ

    يا(هل) على (مِن أين) يعبر الذي
    أجْفَلْتَ عنه، أو ذووك أشفقوا

    ومرَّ (مِن أين) يحسُّ أنهُ
    إجابةٌ، مِن السؤال ألْبَقُ

    يرى الزحامَ في الزحام ينطوي
    سقفُ الغبار بالغبار يُخْنَقُ

    * * **
    يصيح: (يا ( ماذا ) أُريد نَبْأَةً
    تشي بأمرٍ، تفتري، أو تصْدقُ

    يَسْاَنْشِدُ العصفورَ، يعيا ينثني
    يلقى غراباً شايخاً لا ينْعَقُ

    * * **
    صَمتُ الضجيج ههنا، وههنا
    يا ريح قولي: يا حزانى حدِّقوا

    يصغي، ينادي، لا يظن أنهُ
    نادى، ولاأصغى السميعُ المُرْهَقُ

    لأنَّ بين الصوت والمصغي دماً
    بين القوى، وبينه تشدُّقُ

    * * **
    الساعة اصفرَّت على مُغْبَرَّها
    لأنَّ وجه الوقت بابُ مُغْلقُ

    يا قلبُ مَنْ يُفتي خفوقك الذي
    غموضهُ أدرى ب ماذا تخفُقُ

    1990م

  • 336 جلالة الفئران

    ديوان جواب العصور >  جلالة الفئران

    أيُها الكاتبُ مَن تعطي الكتابَهْ
    مديةُ الجزّار في أيدي الرَّقابَهْ

    تحسنُ القولَ لقصّابينَ ما
    حاولوا أنْ يحسنوا حتى القِصابَهْ

    تبعثُ البحثَ قويماً، ينثني
    فاقدَ الساقين محروق الذؤابَهْ

    دافعاً قرّاءَهُ أن يعرفوا
    موضع التقتيل فيه والإِصابَهْ

    ذلك الفن الذي تعمرهُ
    مِن حنايا القلب تلقاه خرابَهْ

    جئتَ مِن مطبعةٍ؟ قل صادقاً
    جئتُ مِن مسبعةٍ يا للغرابَهْ

    سايسوها ما لهم لبٌّ لذا
    يحسبون الشعبَ معدومَ اللّبابَهْ

    * * **
    أين منك الصوتُ؟ دسّوا مِن فمي
    غيرَ حلقي، حطَّموا تلك الرَّبابَهْ

    أين كفاك؟ أتدري ما شووْا
    إصبعاً إلا وظنّوها كبابَهْ؟

    أين خدّاك؟ نأى ماؤهما
    عنهمو، والتمَّ في قلبي سحابَهْ

    أين جنباكَ؟ تعشَّوْا واحداً
    واحداً أجروا له غَسْلَ الجنابَهْ

    كنتَ ذا رأسٍ نجوميِّ المدى
    حوَّلوهُ جرّةً نصف مُذابَهْ

    أين عيناكَ؟ رموا واحدةً
    قلعوا الأخرى وردُّوها مصابَه

    * * **
    سادةُ التحرير مَن حمَّلهمْ
    مهنةَ الحرفِ؟ وهم أضرى عصابَهْ

    قَضَموني مِن هنا مِن ههنا
    أيُّ فئرانٍ أرى؟ من أيِّ غابَهْ؟

    إنهم نعلُ الذي يعلوهُمُ
    وعلى مَن دونهم أبطالُ (بابَهْ)

    قال أعلاهُم مقاماً: هشَّموا
    أيَّ حرفٍ يحتوي أيَّ ثَقابَهْ

    وانحنى فوقَ الوريقات، كما
    تفتح الحلوى حشاها للذُّبابَهْ

    * * **
    هذه الزاوية الأولى بها
    نكهة أخرى، دعوا ذات الذَّرابَهْ

    تلك لا بأسَ، تُرى طيِّبةً
    عند من تدرون ليست مستطابَهْ

    قصةٌ ماذا حكت؟ غمغمةً
    لافتٌ عنوانُها (قتلُ شهابَهْ)

    * * **
    انظروا أيَّ مقالٍ جاءنا؟
    قال إنّا دودةٌ تجترُ (دابَهْ)

    وبأنّا نشرب النِّفط دماً
    ونبيع (الجوْفَ) كي نُشقي (رُصابَه)

    وادّعى أن الروابي أصبحت
    دورنا مِن (دمنةٍ) حتى (ثَوابه)

    بلِّغوا عنه، ولكن ما اسمهُ؟
    سوف يدي (القُحْطُمي) بيت الإِنابَهْ

    * * **
    اللقيطاتُ السّياسيّاتُ كم
    علَّمتْنا خِبرةً ذاتَ إثابَهْ

    فسبقنا الكلب في النهش عسى
    أن تُرى عَيّابةُ الوضْعِ المُعابَهْ

    شُغْلُنا وليغضب الكلُّ، فما
    بين هذا الشُّغْلِ والشعب قرابَهْ

    هكذا قالوا وحَدّوا نابَهم
    مستلذّين عَلى الفنِّ الكَلابَهْ

    * * **
    هذه الصفخةُ ما أخطرها
    شذِّبوا قامتها أخفى شِذابَهْ

    أنزلتْ فلسفةً الحكم إلى
    شارع الجوْعى وأعداء الرَّتابَهْ

    نزّلوا جبهتَها سرَّتَها
    وازرعوا في صُلْبها عقمَ الصَّلابَهْ

    * * **
    وضعُ هذا السين يُذكي أعيناً
    زحزحوه وضعوا جيمَ الإجابَهْ

    قلب ذاك الدال يُسني وجههُ
    رمِّدوا في لَمْحه نبضَ النَّجابَهْ

    واجموا الميم تروا داخلَهُ
    طلِّقوا مِن جَدِّه زوجَ الدَّعابَهْ

    ذلك الواو احذروا مِن مكرهِ
    إنّهُ كالموت غيبيُّ المَهابَهْ

    شارب الشين اصبغوهُ زُرقةً
    وإلى باقرِّبوا نونَ النِّيابَهْ

    * * **
    قطِّعوا شريان باب المبتدا
    واقتلوا في همزة الوصل الصَّبابَهْ

    حجّروا رؤيا نبيِّ الحرف في
    حَرْفهِ، واستقبلوهُ كالصَّحابَهْ

    وَأْسَفوا مِنْ غلطةِ الطَّبعِ لهُ
    وابحثوا الأوراق مبدين الكآبَهْ

    نفّذوا أمر الذي أمَّرهم
    والذي أرْكَبهم ظهرَ النَّقابَهْ

    فغدوا جيشاً مدادياً إلى
    فيلق الفوضى، وللغازي مثابَهْ

    يناير 1990

  • 337 اختطاف الشيخ عبدالكريم عبيد

    ديوان جواب العصور >  اختطاف الشيخ عبدالكريم عبيد

    ليلٌ وسربٌ مِن كلاب الجحيمْ ظامٍ

    حديدُّ الحشا والأديمْ

    يشوي تجاعيد الليالي التي
    يجري عليها يحتوي أو يُضيمْ

    أفَظ مِن فوضى سباع الغلا
    وَهْوَ يباهي بالنظام النظيمْ

    ومِن ذباب الصيف أظمى فماً
    إلى دم الجرحى وجَرح السَّليمْ

    للسلب أرأى مِن غرابٍ، وعن
    ذي الحق أعمى مِن ركام السِّديمْ

    * * **
    يكفي الحبالى الوضعَ مِن حَسْوهِ
    كلَّ جنينٍ قبلَ أكْل الفطيمْ

    بعتِّق الأضغان فيهِ كما
    تعتِّق الدودَ العظامُ الرَّميمْ

    * * **
    هذا القطيع النابح النارِ، يا
    (صيدا) يهيم الآن، فيم يهيمْ؟

    يقيم في نيَّته مأتماً
    في أي بيتٍ لا يعي ما يقيمْ

    يحمرُّ كالسَّفّود يسودُّ، ولا
    ينام فيه المعتدي لا يُنيمْ

    يقاسم الليل رؤاه، لا
    يرضى له في أي نعمى قسيمْ

    تقيَّأتْهُ خطةٌ مثلما
    يتقيأ الفيرانَ جبٌّ وخيمْ

    * * **
    تحتثُّه يا (صور) طيارةٌ
    كجدَّة الشيطان في شكلِ ريمْ

    تُموِّه التّنينَ فيها، تُرى
    زُرافةً حيناً وحيناً ظَليمْ

    تحوم تبغي (لَرْنكا) تارةً
    وتارةً ترتد صوب (القصيمْ)

    طيف دم الإنسان أنّا مضتْ
    لمقلتيها ويديها لزيمْ

    كأنها تحت مهماتها
    ساقٌ دقيق تحت جسمِ جسيمْ

    * * **
    ترتابُ مِن أين، أما حدَّدوا
    جدران بيت الشيخ عبدالكريم؟

    قُدّامُهُ مئذنةٌ، خلفهُ
    حديقةٌ جرحى، ومقهى قديمْ

    سفرجليٌ، ليس ذا لونُه
    مقوسٌّ كالجسر، ذا مستقيمْ

    كلُّ مكانٍ مشبهٌ جارَهُ
    أصحُّ قلباً، وهو يبدو سقيمْ

    * * **
    (عزرا) أهذا بيتهُ؟ مثلهُ
    (موشى) تأكَّدْ، أكَّدتْ (أورشليمْ)

    هل أخطأتْ خارطتي، أو أنا؟
    الرَّسمُ قُدَّامي خلافُ الرَّسيمْ

    (ناحوم) أَطلِقْ نصف ضوءٍ، سدىً
    سيختفي قبل الهبوط الغريمْ

    وربما تحرقهُ شعلةٌ
    أو يحرق الشيخُ الضياءَ الرجيم

    له كراماتٌ حكوا أنها
    تحوِّل (النّابلْمَ) بعضَ الهشيمْ

    دع عنك هذا نبتغي خطفهُ
    بالرِّفقِ، أو تحت العذاب الأليمْ

    * * **
    يا نجم هذا بيته أين مِن
    هذا المصلَّى دارُ ذاك الزعيمْ؟

    هذا (كدار الأرقم) انظر أما
    عنوانه باسم العزيز الرحيمْ؟

    على محيّا بابه همزةٌ
    وفي قَذال السّور حاءٌ وجيمْ

    * * **
    هل مرشد النجمُ الكلابَ التي
    تعوَّدتْ أن تهتدي بالشَّميمْ؟

    مَن ينتمي منكم بعرقٍ إلى
    قِطْمير أهل الكهف حامي الرَّقيمْ؟

    لا خير ما في الكلب فيكم ولا
    ما في ابن حوّا من نقاء الصَّميمْ

    أسكتْ أنا ما قلت هذا وشى
    بقبحكمْ هذا الرداءُ الوسيمْ

    فهل أُسمّي عضَّ أنيابكم
    مكرَ السياسي أو دهاءَ الحليمْ

    * * **
    يا تلُّ، بيت الشيخ هذا؟ أما
    دلّتْ عليه وشوشاتُ النسيمْ

    له هنا أو ها ههنا منزلٌ
    مِن طيب آيات الكتاب الحكيمْ

    خدّاهُ ذا يصبي مشيب (السُّهى)
    هذا بمنديل الثريا لَطيمْ

    * * **
    تريد قتل الشيخ يا ابن الخنا
    هل مقتل الأزكى ينجِّي الأثيمْ؟

    تودُّ أن تدعى عظيماً، متى
    عادى عظيمٌ أيَّ شيء عظيمْ؟

    * * **
    وفجأةً لفَّ الدخانُ القُرى
    وانصبَّ فوجٌ كالظلام البهيمْ

    مِن أين جاؤوا مثل مستنقعٍ
    يرمي بكفيه حشاه الكتيمْ؟

    يراطنون الليلَ يحشونهُ
    لغواً كما يهجو القبيحُ الدميمْ
    * * **
    مَن بلّغ الإظلامَ أوجَ الضحى؟
    مَن ذا هدى كلَّ عُتُلٍّ زنيمْ؟

    مَن دلَّهم، هل مثل (كعبٍ) هنا؟
    ومَن هنا مِن طينة (ابن الخطيمْ)؟

    * * **
    كوجه إسرائيل هذا الدجى
    كغدرها هذا الدُّخان الكظيمْ

    فلا سوى الأنقاض كأسٌ لها
    ولا لها غير الأفاعي نديمْ

    ولاسوى الأطفال أشهى إلى
    حلوقها، هذا لديها النعيمْ

    من دأبها قتلُ البراءات عن
    توارثٍ في طبعها مستديمْ

    لأنها أضرى خصوم النَّقا
    كان لها كلُّ نبيٍ خصيمْ

    * * **
    بالخطف أضحتْ دولةً، قل متى
    تدوَّلَ السرحانُ يا (بن العَديمْ)؟

    مَن ذا سيثنيها؟ حماةُ الحمى
    أدنى زنابير الزمان السَّئيمْ

    * * **
    يا(بن عبيدٍ) ما الذي ترتئي
    فوق احتمال الأرض نصرُ اللئيمْ

    كيف استباحوا بيتك ابن الهدى
    وأهدروا فيه جلالَ (الحَطيمْ)

    هل كنت إذ جاؤوا بلاأُهبةٍ؟
    مَن ذا ينام اليوم أو يستنيمْ؟

    وأين كان الغرُّ أهلُ التقى
    وسادةُ الرمي السَّديد الفهيمْ؟

    ما أهرقوا مِن واغل قطرةً
    ماذا أما في الحيِّ عينٌ تَشيمْ؟

    * * **
    لعلهم كانوا يخوضون في
    مَشْطِ اللحى أو تركها كالجميم

    أو في دم البِّق وجَلْدِ الزِّنى
    أو حَجْب مَن يدعونهنَّ الحريمْ

    ما بالُ مَن يُردي أخاه هنا
    يُرى أمام الغزو جَحْشاً لجيمْ

    ماذا غريبٌ، طفلُ شتّى القوى
    مِن كثرة الأحضان أغبى يتيمُ

    * * **
    هل كنتَ تخشى ما جرى؟ هكذا
    يلقى الأذى أهل الطريق القويمْ

    قيل لقوم الخطف أعلى العلى
    في العلم، هل يحتاج علمَ العليمُ

    هل تحمل الحدْأَةُ دكتورةً فيهِ
    أأعطى الذيبَ ملكاً فخيمْ؟

    دعهم يَروْهُ وهْمَ نَصْرٍ، فما
    أنت الذي في الأسْر تُعدى الهزيمْ

    * * **
    يا شَبَّرَ الثاني دعتْ (كربلا)
    أخرى (وشمْرٌ) غير ذاك الشتيمْ

    جئت الألى جاؤوك قل صائحاً
    يا (خيبر) الثاني ستمسي هديمْ

    نصفُ نبيٍ مِن وليٍّ أتى
    رقى مِن الترخيم داعٍ رخيمْ

    ستخطف الخطفَ على رغمهِ
    ورغمَ مَن أزروا بموسى الكليمْ

    ومَن تبنَّوْا (سيَبنوزا) ومَن
    عن وجهه أعطوه وجهاً ذميمْ

    * * *
    يا شيخْ أنت اليوم أبقى هنا
    يا راحلاً لبنانُ فيه مقيمْ

    يثني – كما تدري – وثوب الردى
    يقتاد مِن أعلى البروج العصيمْ
    * * **
    لبنان للحرية ابنٌ، لهُ
    منه زمان غير هذا العقيمْ

    لأنه يختار لا فوقهُ
    فرعونُ لا مشيخةٌ مِن تميمْ

    لو كان يعلوه نظام كما
    يعلو سواه بات قشّاً هضيم

    غامت – بلا برق – ديار الضحى
    ووجهُ لبنان الذي لا يغيمْ

    لأنه ذو الأمر في أمرهِ
    فهو المرجَّى والرجاءُ العميمْ

    هذا إلى الخلف انثنى، ذا انحنى
    لبنان عن نهج الفدا لا يريمْ

    أمام إسرائيل أعدى العدا
    للسِّلمِ عن نصرٍ صديقٌ حميمْ

    أغسطس 1989م

  • 338 عرّافة الكهف

    ديوان جواب العصور >  عرّافة الكهف

    يا آخرَ الليل، يا بَدْء الذي ياتي
    هل سوف تصحو التي، أم تهجع اللاتي؟

    أسْحَرتَ في منكبَي سهلٍ يُساكنني
    عظمي، أتُصغي إلى أسمار جدّاتي؟

    رفقاً بلمس حصاُه، إنها حُرَقي
    وتلك أعشابه الكحلى بُنَياتي

    أما بخديكَ من أنفاسه قُبَلٌ
    كنبْسِ أمّي، تحاكي بدءَ لثغاتي؟

    في غور عينيك بدءٌ لا ابتداء لهُ
    خذني أمُتْ فيه، بحثاً عن براءاتي

    عن ريشِ أولِ عصفورٍ هناك زقا
    وشمَّ منقارُه مولاةَ مولاتي

    عليكَ عِمّةُ قنّاتٍ تهشُّ بها
    وفي ردائك ضاحٍ غيرُ قنّاتِ
    ***
    هذا الهشيم الذي قيل اسمهُ شبحي
    تدري لماذا يمنِّيني بإنباتي؟

    وبامبلاج شروقي خالعاً زمني
    وتحت إبطي كتاب عن بداياتي

    ناديت صبحاً هنا وهنا….
    ظلتْ تُلبّى نداءاتي، نداءاتي

    يا آخرَ الليل لو ناديتُ مقبرةً
    قالت: هناكَ انتبذْ أقلقتَ أمواتي

    لأنَّ أحبائي يُقوِّلُني
    القحط يمتد مِن قوتي إلى قاتي

    هذي يدي أوشكتْ تنسى طريق فمي
    أصيحُ يصخبُ شيءٌ غيرُ أصواتي

    ***
    ألستَ يا الشفق الثاني تحسُّ معي
    طفولةَ ابن الندى، إحدى حبيباتي

    تلوح غير الذي بالأمس مرَّ وما
    قال السَّنى: مَرَّ صبحٌ أو دُجىً شاتي

    ***
    كان المكان زمانياً بلا زمن
    قال الفراغُ: هنا أهلي وأبياتي

    مَن ذا هنا يا (سهيلُ)؟ قال: أين أنا
    مَن يا ضحى؟ قال: من ذا احتاز مرآتي؟

    أما تلمَّحت حيناً ما لمستُ أنا؟
    بل ضعتُ بين التفاتاتي ولفّاتي

    ***
    هل أنتَ منك ستأتي؟ لو ملكتُ يدي
    لكي أصوغَ قُبَيلَ البدء ميقاتي

    أحلى الثواني التي تحدوك حمرتُها
    لها احمراري، وللأخرى صباباتي

    ***
    تَرى أيعييك مثلي حَمْلُ جمجمتي؟
    هل في طواياك نيّاتٌ كنيّاتي؟

    يقال: بيتاك في إبطي دجىً وضحىً
    بيتي الذي سوف أبني هادمٌ ذاتي

    وأين تبني؟ وهل في الأرض زاويةٌ
    إلاّ وأصبى خباياها صديقاتي

    ***
    ماذا تُغمغم كالنهر الجريح؟ متى
    ستنفث الكبتَ؟ كي أجتاز كٌباتي

    قلْ أيَّ شيءٍ، ولكن لا تقلْ كأبي:
    دعني فلا ناقتي فيها ولاشاتي:

    هل في لسانك أم في مسمعي حجرٌ
    أم تَرْجَمَ الصمتُ إنصاتي لإنصاتي؟

    كم قيل أفْصَحَ صبح وانجلتْ شُبَهٌ
    يكفيكَ عصيان قلبي أمْرَ إسكاتي

    ***
    عرّافةُ الكهف قالت: لي مفاجأةٌ
    قلتُ: اهبطي، وخذيني الآن أو هاتي

    على اسمها بتُّ أطهو نجمةً لغدي
    ماذا سأفعلُ لو أنهيتُ مأساتي؟

    ***
    اليوم يا ابْني تُوافي كلُّ ثانيةٍ
    بعكس ما بشَّرت قلبي نبوءاتي

    قبل التوقُّع ينصبُّ الوقوع، ولا
    تحسُّ أَهْوَ رذاذٌ أم لظًى عاتي؟

    يا أولَ الصبح، لي عند الضحى خبرٌ
    وأخرياتُ الدجى برهانُ إثباتي

    عرَّافةُ الكهف قالت: كلُّ آتيةُ
    تمضي، وتأتي ولا تمضي خرافاتي

    كالبحر يأتي إليه منه مُرتحلاً
    فيه،كذا تحمل السبّاح موجاتي

    والآنَ ماذا؟ تزوَّجْ أمَّ والدتي
    جدَّاتُ جدّاتِها الخمسون زوجاتي

    والآن يا يومُ، هأنت انتصفتَ فهلْ
    خَّمْنتَ مما مضى،مامطلعُ الآتي؟

    1991م

  • 339 فتوى إلى غير مالك

    ديوان جواب العصور >  فتوى إلى غير مالك

    لن ترحم الثّوار والهُتافا
    هلاّ رحمت السيفَ والسيّافا؟

    أوَمَا على المقدام يوم النصر أن
    يرعى الشجاع، ويرحم الخَوَّافا؟

    أيكون ما أحرزته نصراً، إذا
    قاتلت أجبنَ، أو قتلتَ ضعافا؟

    أسَمعتَ عن شرف العداوة، كي ترى
    لخضمِّ تقطيع الرؤوس ضفافا؟

    ***
    سأحثُّ أسئلتي إليك، وإنني
    أرمي بهنَّ وبي إليك جزافا

    هاك القصيدة والمُقصِّدَ سلهما
    إن تبتغي، أو دعهما استخفافا

    سأظل أسأل (أحمداً) لا (مالكاً)
    كيف استطبتَ بأهلك الإجحافا؟

    فدخلتَ (صنعا) فاتحاً، وقطوفُها
    أشهى إلى مَن جاءها مصطافا

    ***
    هل قال قَتْلُ أبيك: ترقى بعدهُ
    تُفني وتسجن بإسمه الآلافا؟

    أتَركْتَهُ بالأمس يلقى قتلهُ
    كي لا ترى للأمر فيك خلافا؟

    ***
    أسرفتَ في التقتيل، يهزمُ نصرَهُ
    مَن يستلذُّ القتلَ والإسرافا

    حتى قطعتَ مع الرؤوس ذيولها
    هل سوف تقطع بعدها الأردافا؟

    ماذا ستصنع حين تصعدُ أرؤساً
    تلك التي لمّا تزل أكتافا؟

    ***
    أضنى دمُ الأعناق سيفَكَ هل روى
    كيف اقشعرَّ مِن النجيع وخافا؟

    لو كنتَ لاستعطاف أيِّ مؤمِّلٍ
    أهلاً، لذاب حسامك استعطافا

    أُيقال: عفَّ ابنُ الحديد عن الدِّما
    وابن الأئمة لا يُطيق عفافا

    ويقال: أمسى (نافع) مستخبراً
    أأجعته كي يأكل الأضيافا؟
    ***
    أخْجلت عهد أبيك، والأسياد مِن
    أسلافه، وستُخرجُ الأخلافا

    لا يبلغ الأشراف، إلاّ مَن غدتْ
    أعمالهُ، كجدوده أشرافا

    ***
    سل وقع رميتك التي ما أخطأت
    أهدافها، كم أخطأت أهدافا؟

    هل وافت المرمى الذي نَفَرتْ لهُ
    أمْ ذلك المرمى، إليها وافى؟

    ***
    قالوا: شهرتَ على العِدى
    فاقعد وقل: للريح تُعَمِّمُ الإرجافا

    الآن لا حلمٌ هناك، ولا هنا
    يرنو، ولاطيفٌ يُرى طوّافا

    حاربتَ حتى ما تركتَ مُحارباً
    وأمَتَّ في أغمادها الأسيافا

    ***
    بلظى (الجرامل) و(السريع) أحلْتَ في
    (بيت الفقيه) وجوههم أظلافا

    ورؤوس (نجران) العواصي أينَعتْ
    لمّا رأتك القاطفَ الخظّافا

    واليوم أضحى (ابن الوزير) وحزبهُ
    خبراً، على أردانه رعّافا

    قَوّلْتَهُمْ هذا، فقالوا: أحْسَنوا
    طَرَبُ الملُقِّنِ يخدع العزّافا

    ***
    أنْصَفْتَ نفسك خالقاً مَن يبتغي
    لضميرهِ مِن نفسك الإنصافا

    أحدثْت ما لا يستشفُّ منجِّمٌ
    لترى غداً ما يفجأُ العرّافا

    قال المنجِّم: ما عليك خطورةٌ
    فعلامَ تخشى الحُلمَ والأطيافا؟

    أأقول عنه: عليك خصمٌ منك لا
    يغفو، ولو صافيْته ما صافى

    ***
    سنقول: مَن هذا اللعين يقول ما
    أخفي، أما سرٌّ عليه تخافي؟

    لا يستحق الذِّكْرَ مَن ألبسْتَهُ
    صفةَ اللعين ولا اتردى أوصافا

    عريان إلاّ من قميص وِلادهِ
    عانٍ، وقلب الشعر فيه معافى

    أعمى، و(زرقاء اليمامة) حيّةٌ
    فيه ترى من (سربةَ الأحقافا)

    ما قال: إلا ما اقترفتَ وما اجتلى
    مِن سرِّه ما يُعجز الكشّافا

    ما جاء بابكَ راجياً. لكن أتى
    عما سيأتي سائلاً ملحافا

    ديسمبر 1984م

  • 340 وريقة من كشكول الريح

    ديوان جواب العصور >  وريقة من كشكول الريح

    قيل عن (صدَامْ):(بوش) اليوم صرَحْ
    قال(غوربتشوف):(هلمت كول) وضَّحْ

    تاه (بيكر)، ما الذي يعملهُ
    مُستقَرُّ النفط يهتاج ويَرْمَحْ

    صَبَّحَتْهُ غزوةٌ ما نَفَثَتْ
    عطْسَةً واحدةً حتى ترنَّحْ

    سقط الوقتُ كسيحاً فوقهُ
    وهْو مِن قبل سقوط الوقت أكْسَحْ

    لا الذي مات هنا، أغفى ولا
    أصبح الغازي مِن المغزوِّ أنْجحْ

    ***
    لا يعي الهارب هل يرمي به
    مأمناً أو مَخْوَفاً أو أيَّ مَطْرحْ

    يدخل السوق حشاه مثلما
    يلبس المقتول جثمان المجرَّحْ

    فرّت الكثبان منها والحصى
    مِن حصاه لاذت البطحا بأَبْطحْ

    مات برميل بأولي سكتةٍ
    ونجا ثانٍ له قلبٌ مُصَفَّحْ

    فتحت كشْكولها الريحُ: اكتبي
    ما جرى، لا تنعتي أطْغى وأصْفَحْ

    دوّني الساعاتِ، لا تَسْتكحلي
    ربما تلقين بعد الآن أكْلَحْ

    في فمي حادثةٌ آبيَّةٌ
    ذقتها، لا ماع وصفي، لا تبجَّحْ

    ***
    قال (جفري هاو): تبدو صفقةً
    لَبِسَتْ حادثةً أوهى وأوقحْ

    وقعتْ، فاتت: ف ماذا بعدها؟
    لفحت جاراً: أتاليها سيلْفحْ؟

    قال (فهدٌ) تلك أدهى، واحتمى
    بالذي يدري متى يُرخي ويكْبحْ

    ***
    شبَّت الحادثةُ امتدَّتْ، غدتْ
    أمَّ أحداثٍ، لها ستون منكحْ

    ولها (كابن سَدوسٍ) عَشْرةٌ
    وثمانون فتىً مِن (آل أفلحْ)

    ***
    قيل (تَتْشَرْ) قرأت طالعها
    قبل أن يشتطَّ مغزاها وتَشْطَحْ

    قال (ميتران): ماذا تبتغي
    رأينا؟ أم ترتئي فينا وتَنْصَحْ؟

    أيَّ شيءٍ في الخليج استحدثت؟
    ما أطاحت فيه إلاّ بالمطوَّحْ

    صرّحوا، قاموا، أشاروا، وضّحوا
    أمراء القبح مِن مَرآهُ أقْبحْ

    ***
    فتحت (برلين) طرْفاً ثالثاً
    سكت (العتريف) و(التنّين) صيَّحْ

    كان بالعينين وجهي ناقصاً
    زُدْتُهُ ثالثةً فاختال أمْلحْ

    وإلي الريح أسرَّتْ خبراً
    كذَّبتْهُ عينها والسَّمع رّجحْ

    ***
    قال (هافل) راوياً عن خمسةٍ
    شاهدوا (لينين) يختطُّ ويشْرحْ

    يقرأ السوق، يغنّي، يحتسي
    كأسَ (بوشكين) وكالأطفال يمرحْ

    ***
    هل تجسَّسْتم عليه؟ سنةً
    ننثني إن عاد، نغدو حين يسرحْ

    لامْترى في أمرنا، لا قال: مِن
    أين أنتم، كل يوم كان أسْمحْ

    وعلى إرهاف حدّيهِ تشي
    مقلتاهُ، إنه ما اعتاد يجرحْ

    ***
    غير أنا ما استبنّا بيتهُ
    لا أرانا، لا اهتدينا كيف يجنحْ

    كيف ينسلُّ إلى منعطفٍ
    يحتويهِ، لا يرينا منح ملمحْ

    الحب الأرض يغفو تحتها
    وعليها ينحني، يجني ويفلحْ

    ***
    ما الذي يلبس؟ مثلي، إنما
    قلبهُ أذكى، ومن عينيه أطْمحْ

    قلتُ: هل أخلجتَ؟ كُتبي أخلَجتْ
    وعليها استنْبحوا ما ليس ينبحْ

    قلت: يا عمُّ أوصنا، قال: أما
    كثرة التغليف للأسرار أفضحْ!

    ***
    ما الذي نخبر عنه؟ إنهُ
    كضحى نيسان، بل أبهى وأنْفحْ

    عندهم عنهُ، سوى ما عندنا
    صَدَّقوا ما قيل، لمّا كان أرْوحْ

    ***
    كان ذاك الوقت في (كاظمةٍ)
    طلقةً تقتاد إعصاراً مسلَّحْ

    يُغرقون الآن (موسكو) لبناً
    (الكويت) الآن في نارين يسْبحْ

    امنحيهِ يا “تميمٌ” نجدةً
    مثلما كان – إذا استمنحتِ – يَمْنحْ

    قيل (موسكو) تشتهي مرضعةً
    مِن (أثينا) قيل بالألبان تَطفح

    قيل ماتت عطشاً، قيل فما
    بالها تستحلب الرمل فينْضَحْ

    ***
    كم تظن الوقت يا (ميخا)؟ أرى
    ضفَّةً تدنو، وعنها النهر يَنْزَحْ

    ارتوت (باريس)، (نّيورك) ابتدت
    كأسَها (صَدَّام) في (المرقاب) أصْبحْ

    في (براغ) الأزمة السّكرى صحَتْ
    (السليمانيةُ) اعتمَّت بمذبحْ

    في (بروكْسل) عقدوا مؤتمراً
    في (الشويخ) الصَّمتُ من (سَحْبانَ) أفْصَحْ

    في (ميوِنخْ) للثواني دهشةٌ
    فوق (حفر الباطن) الحشر المجنَّحْ

    ***
    أعلنت (بِغْبِنْ): تنادت جثثٌ
    في (حَوَلّي) أجمع الحيُّ المُقرَّحْ

    مِن هنا نسري، وكانت ترتدي
    دمها (الجهرا) وتحت القصف تَجْمحْ

    أسفْرتْ وقفتُها الأولى كما
    هتكتْ (ليلى) بهتك (ابن الملوَّحْ)

    ***
    قال (غمدان): (الكويت) ابن أبي
    مثل طفلٍ تحت خيل النار يرزحْ

    قالت (النقرة): يا عمُّ اطمئن
    هأنا والطارئُ الغاشي سيبرحْ

    يا ابنتي كلُّ بلادٍ تلتظي
    في حناياها بلادٌ سوف تفرحْ

    ***
    عربَبتْ (عمّانُ)، قال (الأحمدي):
    خنجر ابن العم لابن العمِّ أذْبحْ

    قالت الريح: كأهل الأرض يا
    (أحمد) لابد أن تهنا وتَتْرحْ

    لو ل(وَرْسو) ربع ما تملكهُ
    بادرتك الصبح، كي تبتاع مَشْلحْ

    قل: لماذا جانبتْ منتصَفاً
    نحو بدءٍ، صار مما كان أفدحْ

    ألديمقراطية اليوم بلا
    ثورةٍ كوميديا مَنْ غير مسرْحْ

    ***
    قبل عشرين ابتدا ما لم يكنْ
    أسنحَ الشعب الذي ما كان يَسْنَحْ

    ما الذي تسأل(واشنطن) أصخْ
    (الكويت) اليوم بالأمس أربحْ؟

    حسناً أرمي إليه قوةً
    أعلن الحرب وأدعو الصلح أصلحْ

    ***
    قالت الحرب: كثيراً ما انثنتْ
    أُهبتي سلماً، وبعض الجِدِّ أمْزحْ

    إنني ذاتُ وجوه بعضها
    عكسُ بعضٍ، ولذا أهجى وأُمدحْ

    هل لديك اليوم وجهٌ؟ سكتت
    قالت الريح: عروس الشرِّ ألْقحْ

    ***
    حاولت (روما) ترى الأمس غداً
    قبل أن يبتهل (البابا) تنحنحْ

    ونهى (الأزهر) عن حلق اللحى
    يوم (نابليون) في بابيه ينطحْ

    ***
    هل خليجُ اليوم مَن هذا وذا؟
    أعَلى مَن ردَّ بابيه يَفتحْ؟

    دخلتْ قامتهُ الريحُ التي
    يشتهي، ما تشتهي تندى فيسفحْ

    ***
    ليسَ للتغيير نهج واحدٌ
    قيل يستدعي ويستبقي ويمسَحْ

    راضهُ للدأب سبعون أباً
    علّمتهُ ألْفُ أمٍّ كيف يكْدَحْ

    كان قبل الشمس يستدفي به
    وإلى عينيه من إبطيه يلمحْ

    عن خليج اليوم قل لي، إنهُ
    مِن كتاب الأرض فصلٌ لم يُنقّحْ

    الخليج الأول انْهدَ، فهل
    يحمل الثاني علامات المرشَّحْ؟

    نوفمبر 1990م

  • 341 آخر السؤال

    ديوان جواب العصور >  آخر السؤال

    الليل ينحلُّ بَرْدا
    والطيف ينهلُّ وَرْدا

    وبين ذاك وهذا
    جمعٌ تلخَّص فردا

    يمتصُّ حبرَ دجاهُ
    يضني شظاياه زَرْدا

    يستقرئ الطيف عنها
    يَهمي حواراً وسَرْدا

    ***
    قالت: غدا الكلُّ جُوفاً
    مثل التوابيت جُرْدا

    ترى الزمان عجوزاً
    غِرّاً يضاحك قْرِدا

    لا فرق بالنار يلهو
    أو أن يلاعب نَرْدا

    قالت ويُدني صباها
    يُصبي الذي فيه أرْدى

    كالفجر جاءت توشّي
    حديثةً فيه غرْدا

    فينتشي كسؤالٍ
    مضنىً توهّج ردَّا

    ويسمع الرّيحَ تشدو
    وَهْيَ مِن السُّكْر دَرْدا

    يدعو النجومَ رفاقاً
    عُرْباً وروماً وكُرْدا

    تحولُ فيه الثواني
    غِيداً يغازلن مُرْدا

    1991م

  • 342 زفة الحرائق

    ديوان جواب العصور >  زفة الحرائق

    شوقُ (واشنطنْ) إلى (بَنَما)
    يستحثُّ (الإدْزَ) والصمَّما

    ويوصّي ما سينقدُها
    كيف يجني ربحَ ما غَرِما

    كيف يشويها على (وضَمٍ)
    ويذيب العظمَ والوضَما

    ***
    شمّها أشهى، أيتركها
    وهو أضرى مخلباً، وفما

    وبأغلى اللحم ذو ولعٍ
    مذ غَذتْهُ أمُّهُ القَرَما

    ***
    موّه السكّينَ داخلهُ
    مَنّ برى إحساسه (جَلَما)

    فهو ذبّاحان مفترقاً
    وهو مزّاقٌ إذا التأما

    ***
    (بَنَما): مَنْ أين يقضمها
    أيها ما غصَ مقتضِما

    هل (غرينادا) شبيهتها؟
    عمَّهتْ أوصافُها الكلما

    ما الذي يخفى عليه بها؟
    حزمُها لو شدّت الحُزما

    ربما تبدو مواجهةً
    غيرها أو عكْسَ ما زعما

    هل قواه الراكضات على
    صدرها لم تدر ما كظما؟

    ***
    مَنْ هنا، أو ثمَّ يقصفها
    غير مبدٍ وجه مَن هجما

    أو يماسيها مفاجأة
    مطعماً ساحاتها الحمما

    كإنساً فيها البيوت إلى
    حيث لا شعبٌ ولازُعما

    ***
    مِن يديه التفَّ معتكراً
    مِن حشاه انشقَّ ملتهما

    سوف يرمي الشهب عاويةً
    يحرق الأشجار مبتسماً

    وتمادى راسماً خططاً
    وبأقسى الفتك منسجما

    راكباً أدغال هامتهِ
    راكزاً عرقوبه عَلَما

    طالعاً مَنْ ساقه عنقاً
    نازلاً من أنفه قدما

    داخلاً مَنْ حلقه شبقاً
    خارجاً من ظهره سأما

    ***
    لا مجيباً سائليه ولا
    سائلاً ماذا انتواه وما

    يأكل الأثداء لا شعَرتْ
    يده لا شمَّ لا طَعِما

    ذاهلاً عما طهاهُ وعن
    نيىءٍ مَن لمسه انهضما

    ساحباً تاريخه جثثاً
    ناصباً دولاره صنما

    ***
    تارة مستهوناً خطراً
    تارةً مستسمناً ورَما

    دافناً كل حمّى
    باعثاً من دفنها الرِّمما

    ***
    قلبهُ جنزير كاسحةٍ
    وجههُ نفعيةُ اللؤما

    هجسهُ ترسانةٌ دمُه
    يُرضع الصاروخ والقلما

    كي يربيّ العلم مفترساً
    كالمواسي يرهف العُلَما

    ولكي يردي بلاسببٍ
    بالديمقراطيِّة التثما

    ***
    مقلتاه نبض حاسبةٍ
    يخطف الشرقين لمحهما

    يدخل الظلماء من يدها
    كي يقود الصبح متهما

    ***
    بيتُه مرمى قذيفته
    والشطايا أهله الوُسًما

    مِزَقُ الأنقاض زوجتهُ
    والسكرتيرات والنُّدَما

    ***
    كل صاروخ له وطنٌ
    (بَنَما) بعض الذي اغتنما

    كيف يغشي النائيات ومِن
    هذه ما جاوز اللَّما

    وهْي أدنى من يديه إلى
    فمه، لِمْ لا يغوصُ، لِمَا؟؟

    وإليها اقتاد، هبَّ، وكم
    هبَّ مجّاناً منتقما

    (بنما)، (واشنطن) اقتحمت
    – تلك في حلقي، مَنْ اقتحما

    ومتى غابت؟ وهل حسمَت
    غير تعقيد الذي انحسما؟

    وحضور الموت يفقدهُ
    رصْدَه إذ مات مُذْ قَدِما

    مَن أتتْ؟ نفسُ التي انزرعَت
    أيُها الأخرى؟ وأيُّهما؟

    ***
    إنها تُصْلي هنا وهنا
    تحجبُ الأضواء والظُّلَما

    تلبس الآفاقَ تخلعُها
    – كالمواشي – تسلخ الدِّيَما

    تحرق الساعات دائرةً
    حولها تستنشق الدّسَما

    سوف تُفْني كلَّ ما لمست
    – غير عزم الفتية العُظُما

    ***
    كم أحالت تلك عامرةً
    عدماً يستوطن العَدما

    سل (هروشيما) وصنوتها
    – صديقي – مَن أبادهما؟

    لو رآها سدُّكمْ لأبى
    أن يسمّي سيله العَرِما

    ناوشتْ (كوبا) لتأكلها
    فاستجاشتْ همّها همما

    و(الخليج) اليوم يذكرها
    ما الذي ألقت وكيف طمى

    في (غرينادا) همت لهباً
    يعرف الشيطان كيف هَمى

    هشمَتْ في (ليبيا) قمراً
    يحتذي مولى الذي هشما

    ولها في (كوريا) خبرٌ
    قلت: هل أرويكَ؟ فاحتشما!

    ***
    هذه أخبار مَسْبعةٍ
    لتهم الغربان والرَّخما

    كيف عني الآن أدفعها؟
    هل ترى إيضاحها انْبَهما؟

    ***
    السماء الآن قنبلةٌ
    ترتعي أرضاً بدون سما

    ترتمي، ترقى، يكسِّرها
    نصفُها الأعلى بما التقما

    مثلُ بحرٍ قام مجتمعاً
    يعصر الغيماتِ فانقسما

    تلك لا تَروى وإن جرعَت
    بالتهام المؤلم الألما

    تلحس الممسوحَ باذرةً
    في احتمال الصيحةِ البَكَما

    وتزفُّ الموتَ تعجمهُ
    تنتحي تستعرب العَجما

    ***
    ما الذي ينقضّ منتعلاً
    عالَماً انفصما

    كابن خمسٍ جدُّ جدَّتهِ
    فيه أصبى مقلةً ولّمى

    يمتطي إن قام لحيتَهُ
    يرتدي فخذيه إن جثما

    يلعن الأعلام، مَنْ غدروا
    باسمها الأخلاق والذِّمما

    والألى أثروا بما حرموا
    والذين استوهبوا النعما

    وتماثيل الألى ذهبوا
    ومجيء الصِّبية الحُلَما

    أَغشَمُ الآتين مَظْلَمةٌ
    مَن أطاعوا كلَّ مَن ظلما

    كل تنظيماتهم فقدت نهجها
    مذ أصبحت نُظُما

    ***
    يا طواحين الحريق متى
    يهجع القصف الذي بَشما؟

    الربى تنبو بأظهرها
    كخيولٍ تَعْلِكُ اللجما

    والحواري في اسمها غَرَبت
    بلدٌ مِن خَصره انقصما

    ***
    (بنما)، (واشنطن) امتشقت
    مَن قواها الأحدث النّهمِا

    – إنها بالقتل عالمةٌ
    إنما لا تعرف الندما

    (فَتْنمِي) كفَّيكِ تلك بنَتْ
    مِن شظايا هذه هَرَما

    ***
    انظري كيف اعتلت ودنت
    تطحن الأوهاد والقمما

    هاهنا تجتاح مَزْدَحَماً
    وهنا تجتثُّ مُزدحما

    تمضغ الجدران تنفثها
    خلفها ترمي بها قُدما

    ***
    ليس تدري ما الذي حَطَمَتْ
    ما الذي مَن عظمها انحطما؟

    ما الذي مَن تحتها هدمت
    ما الذي من فوقها انهدما؟

    هل رمت سوقيْنِ أم شبحاً؟
    هل رمت جيشاً وكيف رمى؟

    هل شوت تسعين مدرسةً؟
    أحم حَماماً لم تجد حَرما؟

    ما تسميه الذي رسمت
    ما الذي مِن عكسه ارتسما؟

    أهي جاءت تستبيح دماً؟
    قل وجاءت كي تصبَّ دما

    مثل كسر الطفل صيِنيَةً
    كَسّرتْ كي تسمع النغما

    (كيف تصبو دولةٌ نَصَفٌ
    خير نصفيها الذي انصرما)

    ذئبة ناريّضةٌ سترى
    أنها ما باغتت غنما

    ***
    حاربت للحرب عبَّأني
    وطني كي أحرس الشَّمما

    نبتغي داري وقُطر أبي
    وأنا أحمي أعزَّ حمى

    لبَّت الشيطان في دمها
    وأجبتُ البذلَ والقيما

    القوى في كفِّ زوبعةٍ
    غيرها في قبضة الفُهما

    ***
    قيل لي: غامرت، قال أبي:
    يغلب الأقوى من اعتزما

    مِن دمي غُصَّتْ بأفسده
    وأنا خفَّيت مُحْتجما

    ***
    قيل مَن كانوا هنا عسساً
    عندها أضحوا لها خُصَما

    هل تراها حاربت وطناً
    كي تقاضي خمسةً غُرَما

    ***
    مرَّ (أتْسوعٌ) وما لمحَتْ
    ما الذي ولّى وما نجما؟

    وقتُهما إسقاط حاميةٍ
    موقعٍ ما زال محتدما

    خَتْلُ حيٍّ لا وجومَ به
    مِن حشا الحيِّ الذي وجما

    مدفعٌ يهتاج أربعةً
    ورجيمٌ يسرد الرُّجُما

    ***
    كلُّ آنٍ خلفها مدَدٌ..
    خلفه ثانٍ إذا انثلما

    إن أشابت ذا الحِمام وذا
    زفَّت الموتَ الذي اغتلما

    أصبحت حرباً يُشيْطنها
    ماردٌ يعتاد ما اجترما

    خِلتُها تلويحَ ذي بصرٍ
    رؤيةُ الغازي أشدُّ عمى

    ***
    ليتني (عَوْجٌ) أحطُّ هنا
    (كَنِناً) يحميك أو (نُقُما)

    من هما؟ أعتى الجبال على
    كلِّ عاتٍ ذاك دأبهما

    لو رآكِ الأطلسي وأنا
    قال: حُلْ يا (جورج) بينهما

    مَن له قلبٌ فليس لهُ
    قدرةٌ ما أغرب الرُّحَما

    مَن تسمّى؟ عيدُ معركتي
    أن ألاقي الآن ملتزما

    ما تزال الأرض عامرةً
    بالرفاق الثُّقَّب الكرما

    ولماذا لا أشاهدهم
    أعظم الأخطار ما انكتما؟

    كل لاتينيَّةٍ جمعَتْ
    أمرها مِن أمرنا أَمَما

    ***
    بعد هذي الحرب ثالثةٌ
    قل: ورابعةٌ وزدْ رقما

    قيل لي: (واشنطن) اتِّحدتْ
    بالردى، شاخ اتحادهما

    قد أراها في هجوم غدٍ
    للردى الثاني غدتْ خَدَما

    فهي أرمى بالحتوف إلى
    كلِّ شعبٍ ثار أو حَلُما

    ما أنا الأولى بدفترها
    لا (مَنَجْوا) آخرُ القدما

    ***
    أيُّ قطرٍ فيه ما اضطرمَت
    أو بعدوى نارها اضطرما

    فإذا ما داهمت فلها
    مَن دهى عنها ومن دهما

    ***
    لو لها ماضٍ لشاهدها
    تستحلُّ الأشهرَ الحُرما

    والذي شاد (الخليل) ومَن
    طاف بالأركان واستلما

    لو رآها المُعْرقون لما
    شيّدوا (الأهرامَ) أو (إِرَما)

    فهْي تأتي اليوم قاتلةً
    ثم تأتي ضيف مَن سلما

    تثبت الأولى إدانتها
    ترتضي الأخرى بها حكَما

    تكتري زوجاً كشكل فتىً
    زوجةً لا تملك الرَّحِما

    ***
    سوف تلقاني أجَدَّ قوىً
    وألاقيها أحرَّ ظما

    لا انتهى غاذي مقاومتي
    لا ولا عدوانها اختتما

    ***
    قلْ لواشنطن متى اقتدرت
    أمَّةٌ أن تبلع الأمما

    إنها الأقوى بدون حِجىً
    ولها حُكْمٌ بلا حُكَما

    إن تبعْ باعتْ منىً بمنىً
    إن شرت تشري دُمىً بِدُمى

    إن رأتها بالقوى انتصرتْ
    هل رأت إنساني انهزما

    شذَّبتْ فوضى زوائده
    تحت نار الهجمة انتظما

    والذي أدمتْ ثراه به
    شمَّ حِنّا أرضه فنما

    إن أدارتْ فيه ملحمةً
    فعلى إصراره التحما

    ***
    عبثاً جاءت فما قتلتْ
    غير مقتولٍ بها اعتصما

    وانثنتْ مفنوخةً وأنا
    غيرَ مَن ظنّت أنا (بنما)

    1990م

  • 343 سباحة على ريشة البرق

    ديوان جواب العصور >  سباحة على ريشة البرق

    ليس لي فوق ما أضأْتَ زيادهْ
    كلُّ عيبٍ كاشفْتَ أضحى شهادَهْ

    وتراءى الذي رأيتَ، لماذا؟
    ماسها الموت أو أجاب الوسادَهْ

    ألهذا يجيء كل أوانٍ
    فاجئاً، وَهْوَ كالتحياتِ، عادَهْ

    ولماذا لا تملك الآن ردّاً
    يا وريث البيان يا ابن الإجادَهْ؟

    يا الذي دارت الثريا دواةً
    في يديه وألهمته النضادَهْ

    يا لعشيق الذي رأى مهد عادٍ
    غادةً في قميصها كلُّ غادَهْ

    * * *
    هل أقصُّ الذي جرى؟ أنت أدرى
    فليكن، ولأَقلْ حكايا معادَهْ

    بعدما غصتَ في حشى الأرض أمست
    بالربيع الذي بذرت جوادهْ

    لو تأنّيتَ شِمتَ ما خِلتَ يجري
    مودَعاً سيد الأوان السيّادَهْ

    * * *
    كنتَ في مقلتي (شباط) اشتياقاً
    في محيّا (آذار) ومض انتقادهْ

    شمسُ أيلولُ كنت نبضَ سناها
    والكتابَ الذي يقود القيادَهْ

    * * *
    ثورةٌ تلو ثورة بعد أخرى
    والمُرجى يلم شعثَ الإرادةْ

    كنت في هذه وتيك وتلك
    شوقَ آتٍ وخيرَ ما في المُبادهْ

    * * *
    هكذا دمتَ حاضراً من غيابٍ
    يا غياباً له حضورُ الفرادهْ

    يا حساماً من السيوف اللواتي
    لُحْنَ برقاً من قبل بدء الحدادهْ

    يا أخا الفقار جرّبت حرباً
    قبل أن تَعْرُكَ اليد المستجادهْ

    يا قريباً نأى وحال طيوفاً
    حُلْنَ في جيد كلِّ زاهٍ قلادَهْ
    * * *
    آخر الشوط يستهلُّ ابتداً
    غير ما يعهدون فوق العهادهْ

    من فم الطحن يصعد الحَبُّ خبزاً
    كيف يدمى في الورد نسغُ الوِرادَهْ

    هل أجاد التناسخُ الشكلَ حتى
    تبتدي يا (وريث) عمر الإعادهْ

    لو تنقّى الذي ستغدو عليهِ
    وافداً منك، هل سترضى الوفادَهْ

    ذاك أرقى مِنْ تربةٍ، مَنْ تسامى
    أهبطته منها إليها ازدرادَهْ

    * * *
    ما أرى تسعة وعشرين إلاّ
    كادّكار المسيح (يوم العمادَهْ)

    والأمَرَّ الأَمرَّ فقدانُ غصنٍ
    قامةَ الدَّوْح قبل فَقد الملادَهْ

    * * *
    الحياةُ التي عَبرْتَ كحلم
    ثم طالت عريضةً مستفادهْ

    عنك نابت رسولةً أنت منها
    وَهْيَ منك التفاتةٌ وامتدادهْ

    * * *
    إنَّ مَنْ لا يُحيي مَنْ العمر دهراً
    مَنْ معانٍ، لا يستحق الولادَهْ

    خير زُوّادِ كلِّ قومٍ عظيمٌ
    مات موت الندى لتبقى الرّيادَهْ

    إيه يا أحمد الوريث أتحكي
    كيف صافى الجموحُ فيك الزَّهادَهْ؟

    كنتَ تدعو إلى القنوت وتغزي
    باقتحام الردى وحرقَ الهوادَهْ

    وترى الخانعين بعض قبورٍ
    نصف يقظي والصمت حزم البلادَهْ

    وعلى القاعدين تنصبُّ لوماً
    وعلى الصاعدين تضفي الإشادَهْ

    منشداً (حيَّ في الربوع شباباً
    سُبَّقاً للعلى عن الحق ذادَهْ)

    بيدٍ تدفع (الإمامَ) أماماً
    وبأخرى تريه عام الرَّمادَهْ

    ساءلنهُ أيسكن الشحُّ داراً
    قيل عنها دار ابن شيخ الرفادَهْ

    * * *
    كنبي تتلو العيونَ قلوباً
    تلمح القلبَ ناظراً ذا سدادَهْ

    وتخوض الجدال صفواً وتثني
    لغطاً تمتطي هواه اللدادهْ

    فأواناً مفلِسفاً كابن سينا
    وأواناً محدِّثاً عن قتادهْ

    (وسماعاً أهل البصائر) ترقى
    بالمصلّى وترتقي كالعبادةْ

    * * *
    كنتَ في كلّما تخطُ وتملي
    سيداً في ضميره الشعب سادِهْ

    ولذا صنّفوك غير موال
    ولأهل الطُّفور سهل المقادهْ

    مَنْ يريهم للنابغين مزاداً
    بينهم جفوةٌ، رأَوْها مزادَهْ

    * * *
    يا أبا (الحكمة) البتول، بقلبي
    نفثةٌ ليس لي عليها جلادَه

    أتُراني في جانح البرق أسري
    ريشةً من هواك ذات اتقادَهْ

    وعلى جمرتي ترى وجه صنعا
    كي تؤدي زيارةً أو عيادَهْ

    خذ حريقي فكلُ ما في بلادي
    مَن بلادي حتى الأسى والنكادَهْ

    إنها لا تزال كالأمس تغد
    شبه صيّادةٍ وتمسي مُصادَهْ

    أينما سافرتْ تلاها لظاها
    لا هنا، لا هناك تلقى ابترادَهْ

    قل لدهريَّةِ الرحيل أضيفي
    خبرةَ السِّندباد، يا سندبادَهْ

    قل لها أين كان أحفاد (أروى)
    يوم صاغت لها الأقاليم قادَهْ

    * * *
    هل أعيد الذي عَلِمْتَ وأدري
    ربما نستشفُّ أشقى إفادَهْ

    خلتَ (يحيى) على العصافير صقراً
    فتلاه مَن صيرَّوهُ جرادَهْ

    لو ترى اليوم دُورهم صحتَ فوراً
    عِمْ مساءً يا فقرَ (دار السعادَهْ)

    * * *
    قل لصنعا ماذا تودّينَ؟ قولي
    توشك اليوم أن تفيد الوَدادَهْ

    هل أقول اقتضامُ أطراف ذاتي
    شبهةُ السِّلم أو غموضُ الإبادةْ

    أي أزواج أمِّيَ الآن عمي
    كم ستقضي يا ابْني ديون الحفادَهْ

    هل أعيدُ الذي يقول المغني؟
    عن تناجي (عز الهدى) و(زبادهْ)؟

    أو أغني قَتْلَ (اليدومي) ينادي
    وعلى بنته تنوح (القَعادَهْ)

    قلتُ جهراً (سلمان أدرى بسعدٍ
    َمثلاً من طرافهٍ وتلادهْ

    وأبتْ أن تزيد حرفاً، لماذا؟
    طمعاً في نقاوة الإستزادَهْ

    * * *
    سيدي رمتَ للحمى أمسِ رغْداً
    هل ترى اليوم للجميع الرغادَهْ؟

    كلُّ أمرٍ كما شهدت، ولكن
    ألبسوا بنطلونَ (إبسن) عُبادَهْ

    جمهروا ضحوة الخميس وبأتوا
    ليلة السبت بعض خصيان (بادَهْ)

    هل يسمِّي الفراغُ ما يرتديه
    موضةً – حسب ما أدّعوا – أوضِمادَهْ

    * * *
    ولماذا أبنتُ أيلول كادتْ
    كلَّ زوج أم اكتروها مُكادَهْ؟

    ما بنوا غير دُورهم، من سيبني
    كلَّ هذا الحمى قصوراً مُشادَهْ؟

  • 344 الديار الوافدة إليها

    ديوان جواب العصور >  الديار الوافدة إليها

    كما يقرأ الفجرُ الربيعَ المضمَّخا
    تجيء يارُ الحلم أسخى مَنْ السَّخا

    يقال مَنْ (الّلا أينَ) تستفتح المدى
    كما تَرْعَشُ الأنسامُ خِدْراً مُشرَّخا

    كما تصعد الحبّاتُ مَنْ وطْأة الرحى
    رغيفاً، زكتْ في القحط كي تَبْسط الرَّخا

    وأغربُ مَنْ أمِّ الأساطير وثبها
    إلى كلِّ بيتٍ فوق أبصار ميمِ خا

    بكل مكان تغزل الصخرَ أعيناً
    وتهمي لتخضرَّ الصحاري وتَنْضَخا

    توشّي بساتيناً، تطيلُ سنابلاً
    تغنّى الربى شعراً مَنْ الشعر أبْذخا

    وتتلو تواريخ الهشائم مذ صبتْ
    غصوناً وإذ صارت نثيراً مُشدَّخا

    ***
    تحييّ حقولاً يسردُ الفرنُ عَرفُها
    وتُصبي هزاراً للمراعي مؤرِّخا

    وتهتف يا ميمون هاأنت إنما
    تخيّرتَ أن تخفى قليلاً وترضخا

    ***
    يرى (البقع) فيها وجهه سرب أنجم
    وينسى (المخا) في ضوئها أنه المخا

    وتغضي لها (صنعا) كإشفاق طيِّعٍ
    تلقّى خطاباً مَنْ أبيه موبِّخا

    ويحسبها (هِران) ليلةَ قدرهِ
    و(ميدي) يُغني تلك جادت لأشمخا

    ***
    يقولُ أحلمٌ هبَّ ينفخ روحها
    أأبقى غرورُ الطين للحلم مَنْفخا

    أأبقتْ نعال الجند قبل انبلاجها
    لعين امرىءٍ مرأىً لشكواه مَصْرَخا

    ***
    سأخبرها ما دلَّها حلمُ حالمٍ
    لأنَّ الذي ما مات في عجزه ارتخى

    فكم سُلِّخَ الإنسانُ في كلِّ بقعةٍ
    ولا مَنْ رأى يوماً سليخاً ومَسْلخا

    ***
    أأنشر يا أمسي غسيِلكَ كلَّهُ
    لديها، ولاتبخل بما كان أوسخا

    سأشكرها إذْ أقبلتْ في أوانها
    وسوف ترى وجهي بخلفي مُلَطَّخا

    فتحنو كأمٍّ ثم تفصح أنها
    تسمِّي الذي يقوى على المسخ أمسخا

    وتسأل: مَنْ ذا اليوم يدعوك شاطئاً
    وقد صار هذا البحر كوزاً مُزَرْنَخا

    ***
    أجاءت تزفُّ الطهرَ من بدء بدئه
    على الأرض أم تمحو الركامَ المفخَّخا؟

    يقولون تجري كالسواقي لتنتمي
    إلى الأرض كي تبقى مَنْ الأرض أرسخا

    ويحكون أن النسغَ يتلو جبينها
    كتاباً لتأريخ الكواليس أنْسخا

    وأن لها من سادة الجنِّ حارساً
    يُسمى (هَبيدا) ً وهْي تدعوه كَرْبخا

    وأن لها زوجاً رزتْ فسخَ عقده
    فقال: لماذا تفسخين المفَسَّخا؟
    * * *
    على عكس مَنْ جاؤوا أتتْ مَنْ أمامها
    فما خلفها دهرٌ صبا ضم شيَّخا

    ولا في طواياها رمادُ أبوَّةٍ
    إذا لامستْهُ ريشةُ البارق انتخى

    لأنَّ اسمها ما دار في بال دفترٍ
    ولاقيل كم أعطى ولاكيف دوّخا

    ***
    تكرُّ إلى قُدّامها مَنْ قُدومها
    فتجتاز في نصف الدقيقة فرسخا

    وكي تبلغ الأفكارغايةَ نضجها
    ترى أن تشوّيها الرؤوسُ وتطبخا

    وكالصبح تغدو لا يرى الصبحُ بينها
    وبين إرادات الجماهير برزخا

    ***
    محباتُها لا القول كالتي
    دعوْها – اعتياداً – بالعلاقات والإخا

    فلا قبلها منها ولا البَعْدُ ناسبٌ
    إلى منتماها ما تتالى وأفرخا

    أكتوبر 1989م

  • 345 مراسيم الليلة الخامسة

    ديوان جواب العصور >  مراسيم الليلة الخامسة

    ماذا اعتراها فانبرت صاخبَهْ
    وهي الصَّموتُ الصلبةُ الصالبَهْ

    كم أَغضبَتْ ناسيةً مَنْ شوَتْ؟
    والآن تطفو وحدها غاضبَهْ

    أيُّ زمانٍ جرَّها خلفهُ
    وأيُّ عصرٍ خلفها ساحَبهْ؟

    أشباحها تنشقُّ عن ظلها
    أدغالها في ظلها ساربهْ

    تحسو جرار السهد مقلوبةً
    وتمتطي أكتافها قالَبهْ

    ***
    ما بال هذي الليلة استبحرت
    كأنها من وضعها هاربَهْ

    تدور في أسواق آباطها
    كمستغيث الغيمة الناضبَهْ

    كأنها تبتاع أكذبوةً
    تزيل عنها وصمة الكاذبَهْ

    ***
    تصيح: إظلامي أصولُ الثرى
    والضوء فيه حالةٌ غاربَهْ

    ما زال رغم النِّفطِ والكهربا
    أدجى حشاً مَنْ أمِّهِ الحاطبَهْ

    ***
    قررت أن أرفع سعر الكرى
    وأن أنيم الأنجم الثاقبَهْ

    أن تدفع الريح رسوماً على
    مرورها راحلةً آيبًهْ

    وأن تؤدي كلُّ إيماضهٍ
    ضريبةً للطلقةِ الضاربًهُ

    وأن تراعي كلُّ كُلِّيِّةٍ
    تَحًجُّبَ الأستاذ والطالبَهْ

    وأن يجول المنحنى لابساً
    عمامةً كالربوة اللاهبَهْ

    وأن تمر الساعةُ العشْرُ مَنْ
    وجه الضحى، كالخالة العاتبَهْ

    أن تخرج الأجداثُ تمشي غداً
    وتنثني بعد غدٍ راكبَهْ

    وأن يسمى شاحكٌ كَشْحةً
    وأن يسمى المَعْمَرْ الخاربَهْ

    ***
    تقول هذا ثم تصغي إلى
    أنفاسها الجوَّالة اللائبَهْ

    وترتخي سائلةً نفسها
    هل أنتِ مثلي هشّةٌ ناصبَهْ؟

    هل كان يحري كلُّ ما شئتهُ
    لولم تكن خَزّانتي واهبَهْ؟

    لو لم تكن لي عصبةٌ تحتذي
    جباهم كالغزوة الغاصبَهْ

    رقّعتُ بالعُمْلات أمري كمن
    يرقّع الأميَّ بالكاتبَهْ

    هذي الدنانير الزَّواني لها
    غوايةٌ طاعتها واجبَهْ

    تُمْري أكفُّ السوق أمعاءها
    وتنحني أفواهُها شاربَهْ

    أنَبْتُها عني فكانت على
    كلِّ أموري – كاسمها – نايبَهْ

    ***
    والآن يا ليّالُ ما قرَّرتْ؟
    أن تطبخ الصرّاف والحاسبَهْ

    أن تحفظ الأموال مَنْ بعدما
    أمست أواعي دورها ساغبَهْ

    ومنذ وقتٍ أصبحتْ وحدها
    حقائبُ الأتباعِ والحاقبَهْ

    ***
    كيف تراها بعد طول السرُّى؟
    صبيةً في كهلة راسبَهْ

    تصفرُّ حيناً مثل مغلوبةٍ
    وتارةً تحمرُّ كالغالبَهْ

    ***
    شرقيةٌ غربيةٌ أهْيَ مَنْ
    قُدّامها أم خلفها واثبَهْ؟

    عن الجهات الأربع استحدثت
    ريحاً كإيجابيَّةٍ سالبَهْ

    ***
    أليلةٌ هاتيك أم أَعْصُرٌ؟
    أظنها في مثلها واقبَهْ

    لشكلها زهو امبراطورةٍ
    لمحتواها فطرةُ الحالبَهْ

    ***
    تعدُّ أهداب مناها ترى
    أحلامها عن طيفها راغبَهْ

    بظهرها من وجهها تحتمي
    كما تشيخ الدولةُ الخائبَهْ

    لا كفها اليمنى بمأمونةٍ
    ولا اليد اليسرى لها صاحبَهْ

    ***
    تقول لو إخترتُ كفَّيَّ مَنْ
    بدايتي ما ساءت العاقبَهْ

    أحين أمسى خطئي سُلْطَةً
    فوقي رأيت الفكرةَ الصائبَهْ

    لاقيتُ مَنْ حولي سنىً شاحباً
    جانسْتهُ بالأعين الشاحبَهْ

    كان بودي أن أحيل الذُّرى
    غمائماً وسْميَّةً ساكبَهْ

    لا الليلُ أرضى كلَّ سارٍ ولا
    صافى الضحى أجواءه قاطبَهْ

    ***
    تظنُّ يا ليّال أخبارها؟
    ثقافةً مكسوبةً كاسبَهْ

    هل بالُها عمّا به غائبٌ
    أو أنها عن بالها غائبَهْ؟

    أفلاكُها ما نتخبتْ غيرها
    لأنها كانت هي الناخبَهْ

    والآن تستهوي كما تنثني
    إلى صباها المومس التائبَهْ

    تقول يا صبحُ اتَّئدْ ريثما
    ألقِّن البوَّابَ والحاجبَهْ

    ولا تقلْ شاهدتني أمتطي
    ولا إلى أين أنا ذاهبَهْ

    لأن من يطلبني زوجة
    يريد أن آتيه خاطبه

    لكي يسمى زوج كل النساء
    وما اقتفى في عشقه (والبه)

    ***
    عرفت يا ليال من زوجها
    لعلها المجلوبة الجالبه

    قالت أرادت طعم تذويبه
    فأصبحت في كفه الذائبه

    كيف أشابت كل زوج ولم
    تشب حميا كأسها شائبه

    الآن تحكي: من أنا ههنا
    أنا العروس الآن والنادبه

    وما ستحكي بعد؟ من مخبري؟
    ما سر هذي اللعبة الاعبه؟
    ***

  • 346 تميمية.. تبحث عن بني تميم

    ديوان جواب العصور >  تميمية.. تبحث عن بني تميم

    يا مُندّى، لي واحةٌ في (حولِّي)
    قل لها: ما الذي، وكيف؛ وقل لي

    لا تُنفِّضْ من ريح صنعا جناحاً
    فَهْيَ أحفى بكل طيب محلْي

    وإذا اسَنسَبتْك، قل خير قاتي
    يافعيٌ، وأفضل البُنِّ فضلي

    وإذا استغْمضتْكَ، قلْ هاكِ قلبي
    فهو جنسيّتي، وكُتْبي ورُسلي

    قلْ لمن أْنجبتكَ عني غلاماً
    في اكتهالي، خذي غلامي وكهلي

    * * *
    لستَ ضيفاً ريِّضْ جناحيك منها
    في ربيع يصبو، وصيفٍ يدَلِّي

    واتَّحدْ بالشذى، ورفرفْ كقلبي
    وتَلِّقطْ عنها التفاصيل مثلي

    * * *
    وإذا باهدتْكَ: لم جئتَ عني
    سائلاً، قل لها: لأنَّكِ سُؤْلي

    ولأني ضحيةٌ فالضحايا
    – أين كانت – شغلُ ارتحالي وحِلِّي

    * * *
    كلُّ قلبٍ في أي أرضٍ جوازي
    وبأدراج كل قسمٍ سِجلِّي

    أو تستكثرين هذا ارتياباً
    في احتمالي، أرجو؛ أن تستقليْ

    * * *
    هل تشِّمينَ سَحْرةَ ودَّعتني
    ونداها يَرشُّ ريشي ويُطْلي؟

    قلت إذ ذاك وشوشي يا خوافي
    باسمها يا قوادمي لا تكلْي

    * * *
    ما أحنَّ الذي رمى بكَ حزني
    يوم فصلُ العُرى حَدَا فجر وصْلي

    مَنْ تُسلِّيه؟ ميلهُ زئبقيٌ
    (شاهليٌ) يوماً، ويومين (جِبْلي)

    عن (هدى)، عن (منى) بأن هواهُ
    سنويٌ، وعن (سُميّةَ) فصْلي

    كان نقلي موّالهُ فوق جُهدي
    وأراني هنا بدأتُ أُمَوْلي

    * * *
    فإذا قالت اقترب، فهي قالت:
    الزوايا تخط ما سوف أُمْلي

    فارتعشْ يا هَزاز بين يديها
    كنبي ناداه سرُّ التجلِّي

    وتَلقّ المفاجآت صموتاً
    لامحاً ما تكنُّ مما ستُدلي

    مستزيداً مِنْ بوحها مستعيداً
    مبدياً ما يثير فيما يُسلِّي

    * * *
    قلْ لها: هل رأيت في أي يومٍ
    مثل هذا الذي طمى اليوم يَغلي

    يدفن السمعَ في الجنازير يُجْثي
    كلَّ سقفٍ في أخمصيه ويُُعلي

    يحرق النوم في العيون، ويطهو
    في الشظايا، مسرى النجوم ويقْلي

    * * *
    هل سمعت الصباحَ مثلي ينادي:
    يا(حَوَلِّي) أراكَ أصبحت قبلي

    قال: بكَّرت أنتَ طبت مساءً
    فرأى ما رأى وقال: لعلّي

    أيُّ ريحٍ مَنْ خِدْرِ أُمِّي رمتني
    وَنَفَتْني من انبلاجي وطلّي؟

    * * *
    وهنا سوف تستهلُّ وتشكو:
    ضاع في آخر الصّدى مُسْتَهلِّي

    بعد نصف الدجى أتوا، ولخوفي
    غاب خوفي وكنت أرهبُ ظِلِّي

    جاء مني – يا ذا الجناحين – غيري
    أو أنا جئتُ منهُ، في بعض شَكْلي

    حُلْتُ دبّابةً كإحدى اللواتي
    جْئن ليلاً يَقلَعْنَ داري وأهلي

    * * *
    قلتُ: لابدَّ أن أراهم، تبدّوا
    كابن عمي، كزوج أختي، كبعلي

    الأسامي طبقُ الأسامي: عليُّ
    ناصرٌ، خزعلٌ، سليمانُ عدلي

    كلهم ينطقون (ماكو) كنُطقي
    هل غُزاتي أنا، دمي ذوبُ نَصلي؟

    * * *
    قيلَ قِدماً: جارُ العزيز عزيزٌ
    أيُّ أمر أغرى العزيزَ بذُلِّي؟

    في يديه مُدرعاتٌ: لماذا
    لا يواري هذي البيوتَ ويُخلي؟

    ربما يبتني حواريك أرقى
    قل: يوشي بقمله حُسن قملي

    عنده تُخمةٌ وجوعٌ وعندي
    نَسلُهُ هذه المآسي ونسْلي

    * * *
    قلت: يا جيشَهُ إذا كان وضعي
    فاسداً، فَلأثُرْ أنا، لا تَثُرْ لي

    أيُّ شعبٍ ينوب عنهُ سواهُ
    فهو طيفٌ من الزمان المُولِّي

    إنْ تُرد موردي فسلْ هل سيرضى
    دجلهٌ غَمْسَ إصبعيهِ بضحْلي

    أنْ تكن فارساً ف(حيفا) تنادى
    لا يُسمَّى شجاعةً طحنُ سهْلي

    ألأني جًمام كفَّين ترمي
    بخضمِّ الحديد حفنةَ رملي

    لا ألاقيك بالقتال فهذا
    فوق حجمي، دون حجمكَ قتلي

    (إنما لن أقول للبيت ربٌ
    أنا بيتي وربُّ بيتي وإبْلي

    تملك الآن عجن أمري، ولكن
    سوف يُعييكَ آخرَ الأمر أكْلي

    * * *
    هل تراني أفحمتُهُ؟ كنت أذكى
    وَهوَ أعتى، يعتو فلن تضمحلِِّي

    لم تُذبِّل منك الصواريخ غصناً
    لا أمالت هذا القوامَ الهِرقْلي

    كيف تذوي ريحانةٌ من تميمٍ
    ذوَّبتْ كلما يُذيبُ ويُصلي

    * * *
    فانحنَتْ تشمَّ ريشي وقالت
    : أَهْوَ أزجاكَ لي فقلت استدلِّي

    تحت ريشي قصيدةٌ لم يقلها
    وشذاها يُنيكِ عن أن تُفَلِّي

    ولهذا عرفتُ روضكِ وحدي
    مثلُ عرفانِ رنجبيلي ونخلي

    * * *
    كمْ أشاعت هذي وذاك: تخلَّى
    أو تخلَّت، حتى تلاشى التّخلِّي

    إنه الآن مثل نسغ غصوني
    من قراري يرقى، ويدمى كفِّلِّي

    * * *
    يا مُنَدّى الجناح أسقيك ماذا
    جفَّ مائي في نار خالي وخِلّي

    قل لمن جئتَ عنه، أو فيك وافي
    صار كلُّ الكويت زوجي وطفلي

    ذات ذاتيّتي، أُحِسُّك تتلو
    وجهه في غموض لحظي وكُحلي

    * * *
    كان يُدعى (الشُّويخُ) (ودّان) قبلاً
    قيل كان المطار بالأمس (ذُهْلي)

    ههنا أوثقوا سُحَيْماً وقالوا:
    أيُّ ذُهليّةٍ بها أنتَ مَبْلي؟

    قال: عني اذهبوا، ويخطرْنَ دوني
    وانظروا أيّهنَّ تحتزُّ حبلي

    سوف تدرون يا أُتاتَ النواجي
    هل أنا شغلهنَّ أو هُنَّ شُغلي

    * * *
    أين دار (الفرزدق) الآن؟ أمستْ
    نصفَ ديوانِ مستشارٍ مَظلِّيم

    ستشارون عسكريُّون أغبى
    يوم غزو البلاد من ظِلْفِ بغلِ

    أين كانت قواذفي ودفاعي
    فجر يوم الخميس؟ كانت تُصلِّي

    لا تغالطْ قلْ: كان سُرّاقُ وجهي
    في مخابي الهوى يبيعون أصلي

    أين كان الذين يشرون عنهم
    أحدث الرادعاتِ، قلْ ضاع بذلي؟

    كنتُ أقوى إذْ كان سيفي بكفِّي
    وعلى ظهر (شَذْقَمٍ) كان رحلي

    كانت الشمس ساعتي وردائي
    وقميصي شميم ريحي وبقْلي
    * * *
    ألبس النفطُ قامتي غيرَ جلدي
    فامتطى الرأْسُمالُ رأسي ورجِلي

    أشتري (لَرْنَكا) و(دلهي) و(روما)
    أين مُلك الرشيد مَنْ رُبعْ دخلي

    ويريني النِّفاقُ نُبلي فأنسى
    أنني أشتري مَنْ السوق نُبلي

    * * *
    كنتِ تعطين باليدين جُزافاً
    ولأمرين رحتُ أُعطي بنعلي

    كيف هذا؟ أدوس كلَّ وجاءٍ
    وأمَنِّي ولايفي غيرُ مَطْلي

    لم أضعْ في مكانه أيَّ قرشٍ
    كان جُودي تآمرياً كبخْلي

    * * *
    قال خوفي: أريح ما لي، إذا بي
    لِسِمانِ القوى أُسَمِّن عجلي

    قل لمن يزعم النقودَ سلاحاً
    ولساناً باتت جَباني ونذلي

    فاستباح القريب رَبْعي ولبَّى
    كلُّ ناءٍ مَنْ أجلهِ، لا لأجْلِي

    * * *
    أيَّ الاثنين – يا أبا الرِّيش – أخشى
    الغريب المجيبَ، أم خالَ نجلي؟

    هزكَ الخوفُ، إنه آدميٌ
    وضمير المُخيف وحشٌ عُتُلِّي

    قعِّدي موقفاً مَنْ الشعب يرقى
    وعلى ذا وذاك منه أَطِلِّي

    * * *
    انتظرني إني أودِّع قَشّاً
    كان شملي وأنتقى اليوم شملي

    أخلع القاتل الذي يرتديني
    والقتيلَ الذي ينوءُ بحملي

    فليكنْ قاومي، ومُوتي وقومي
    واطعَمي كلما يجدُّ ويُبلي

    جرّبي أخطر الحوادث عنفاً
    كي تقولي: أجَدْنَ حَدْي وصَقْلي

    وادخلي اليوم مَنْ غدِ واستبيني
    آخرَ الأمسِ من زمان (الفَطَحْلي)

    * * *
    يا صديقي الهَزارُ سل ذاك عني
    كيف أضحى جنونُهُ عقلَ عقلي

    قل له: قالت المحبةُ أكسى
    بالتعري أعرى بكثر التِّحلِّي

    * * *
    خذْ إليه هذي الغصون – وقالت –
    هُنَّ بعضي أودعْتُ فيهنَّ كُلِّي

    وهنا أُبْتُ مثلَ سِرْب الصبايا
    في ضحى العيد مُنشداً يا (هزَلِّي)

    حسناً كان ذا، فما بعد هذا
    كيف أولي الحنين ما ليس تُولي

    عن (حَوَلِّي) عرفت ما كدتُ أدري
    مَنْ يريني ما زاد علمي بجهلي؟

    أغسطس 1990م

  • 347 على باب المهدي المنتظر

    ديوان جواب العصور >  على باب المهدي المنتظر

    مَنْ يدعو هل زمني أوْمضْ؟
    نهض (الدجّالُ)، سُدى تنهضْ

    روّضتُ الريحَ لأسبقهُ
    وغدا السبّاق، فما روّضْ

    أمِن اليوم اجتاز الماضي
    واحتاز الآتي، أو أجْهضْ؟

    ***
    نادتك (الكعبةُ) وانتظرت
    ودعاكَ (الأقصى)، بل حرِّضْ

    صحنا: يا مهدي يا وتراً
    قلبياً، أنتَ له المنبضْ

    كم قيل: ستملؤها رَغداً
    فامتدّ من الرمضا الأرمضْ

    ***
    عبثاً، أن تدعوَ يا ولدي
    مرضوضاً مثلي، أن أرْتضْ

    مَنْ سمّى عصري ذهبياً؟
    مَنْ ذهَّبه، مَنْ ذا فضّضْ

    ***
    مَنْ يعطي العانين (الجرضا)
    أملاً حتى أعنى، أجرضْ؟

    عُد وعداً غيبياً يدنو
    من قبض الكفِّ، ولا يُقبضْ

    كم لاذاَ مهيضٌ بالمهدي
    واليوم يلاقيهِ أمهضْ

    يكفي أن تمخَضَنَا نُصحاً
    مسعاكمْ أصدقُ مَنْ يمحضْ

    يا قانون التعويض أفقْ
    لا ردَّ الحُلم، ولا عوّضْ

    وإلى كم يعرض من ندعو
    مَنْ لا ندعوهُ، متى أعرضْ؟

    ما أقسى أن تبغي أمراً
    وترى ما لا تبغي يفُرضْ

    ***
    مَنْ وإلى (الدجّالَ) الأطغى؟
    مَنْ ذا يُثني الأقوى الأبغضْ؟

    تدري، حيّوهُ فانتفخت
    جبّتُهُ أشبقَ من (عَرهضْ)

    غنّوْهُ، قالوا الشمس به
    أسنى، والأرض به أرأضْ

    مخَضَ الفلكُ الأزمانَ لهُ
    فتجلّى، زُبدةَ ما مخّضّ

    والله لأمر قيّضهُ
    ذخراً، فتعالى مَنْ قيّضْ

    مثل المرحاض إذاعتهُ
    مَنْ قال: الحمد لمن مَرْحضْ؟

    ***
    قلْ: أغضي الفادي آنيًّا
    وتوقّى الرّاجي، أو فوّضْ

    واعتاد الشارع ما يَلقى
    لا قال: أمرّ، ولا أحمضْ

    فتوارى الهاجي في فمه
    ورقى من فمه مَنْ قرّضْ

    جمهور العيش، كعادته
    لا يبدي الرأي، ولايدحضْ

    ***
    أبذاك الشيطان احتفلوا
    ورأوا تشرين به أرْيضْ؟

    فطغى، وأرى الجبل الأعلى
    كيف اقتضم السَّلَ الأخفضْ

    ***
    أعَلَى كلّ الأرض استولى؟
    لم يُبْقِ سريراً، أو مربضْ

    لا يلقى موطِأةُ قَدَمٌ
    لا ابن (الجَيْدى) يجد المركضْ

    كانت غامضة قوّتُهُ
    والآن بدت أزرى أغمضْ

    حيناً (كالإدْزِ) وآونةً
    مَنْ طول الكون، وقُلْ أعرضْ؟
    أأطاع العالمُ قبضَتهُ
    بيديه أمسى كالمقبضْ

    حتى (موسكو) قالوا: أضحَتْ
    مَنْ بستان (البيت الأبيضْ)

    ***
    هل قام عياناً، أو هرَفَتْ
    أخبار المقهى والمعرضْ؟

    أمسيخاً يبدو؟ لا يدري
    ألسِّلمُ، أم الهيجا أحيضْ

    ألهُ عينان؟ جوارُحهُ
    مُقَلٌ شتًّى، لا تتبعّضْ

    لو نفّض عصفورٌ بللاً
    عنهُ، لدرى ماذا نفَّضْ

    وهنا وهناك مسامِره
    ينفضُّ الليل، ولا تَنْغَضْ

    فزَعٌ بملايين الأيدي
    يستلُّ القلب، يُحيدُ العَضْ

    أرَكينَ الرُّكنِ؟ كعاصمةٍ
    تنوى تنقضُّ، ولا تنقضْ

    قالوا: لو صوّب من (بَنَما)
    لأصاب ب(سينا) ما استغرضْ

    ماذا قوالوا عن مُدّته؟
    قالوا: سيموت ولايمرضْ

    قد يحكم قرناً، أو سنةً
    أخرى، يستوفي ما أقرضْ

    ويليه أمرٌ مأمورٌ
    بالشعب، وللجُلّى أنهضْ

    أحرى بالقمِّةِ مَنْ يدري
    ماذا يُختار، وما يُرفضْ

  • 348 ربيعية الشتاء

    ديوان جواب العصور >  ربيعية الشتاء

    هذا الذي سمَّيتُه منزلي
    كان انتظاراً قبل أن تدخلي

    كان سؤالَ القلب عن قلبه
    يشتاق عن قلبيْه أن تسألي

    أن ترجعي مثل الربيع الذي
    يغيب في الأعواد كي ينجلي

    أن تصبحي مثل نثيث الندى
    مثل نجوم الصيف أن تُلْيلي

    أن تومئي واعدةً ليلةً
    وليلةً تنسين كي تبتلي

    كيما تنادي الأرض: أجنيتِ يا
    حدائقي أينعت يا سُنْبلي

    ***
    أَقَبْلَ سُكْرِ الوعد، قالوا صحت؟
    أيُّ هوىً أرغى بها: عجِّلي؟

    هذا زمانٌ مذهلٌ ذاهلٌ
    عنه فمن حاولتِ أن تُذهلي؟

    ذاجمر صنعا خُفْتُ إذ أحرقوا
    فيه (بخور الشيخ) أن تسعلي

    أن تصرخي: هل رامني موئلاً
    مَنْ غاب عن حسبانه موئلي

    أظنُّ ما أسرعتِ كي تُدهِشي
    هل قال داعي القلب أن تُقْبلي؟

    أقول ماذا؟ صاح من لا أرى
    : عليك من نصفيْكِ أن ترحلي

    من مكتب التأجيل قالوا: ثبِي
    أنهي كتابَ الأمس؟ لا، أجِّلي

    لاتحملي أيُّ كتاب ولا
    دواةِ (جيفارا) ولا (الزِّركلي)

    رحلتُ منْ ساقي، إلى سُرَّتي
    منْ أعْرَضي أعدو إلى أطوَلي

    مفاصلي كانت طريقي وما
    درتْ حصاةٌ أنها مِفْصلي

    ***
    أَقرأتُ كفِّي البرقَ حنّى فمي
    قرأتُ كفَّ المشمش الحوملي

    هل مرَّ يا ابْني مَنْ هنا أو هنا
    أيُّ جوادٍ جَدُّه (مَوْكَلي)؟

    هل خلتَ موّالاً كسرب القطا
    يزقو ويدعو: يا ربى موِّلي

    ***
    أسمعتُه (الجرّاش) و(القَعْطَبي)
    بكى على (بستان) و(الموصلي)

    ومدَّ نحوي سلّةً لم يقل
    صِلي بها مهواك أوْ وصِّلي

    ***
    ناديتُ: ياذا الورد ضمِّخْ يدي
    فقال: أهلي قطَّعوا أكْحلي

    وقال (قاعُ الوطْية) استخبري
    (عيشانَ) عن قمحي وعن خردلي

    ***
    ماذا ألاقي يا (بن علوان) قلْ
    يا(عيدروسُ) احْمِلْ معي مُثْقِلي

    أيٌي، أنا، بيني وبيني، على
    أيِّ الشطايا وجهيَ الجرْولي

    ***
    سألتُ ذاتَ الودْعِ ما طالعي؟
    أفضتْ بردَّيْنِ: عليَّ ولي

    لأيِّ أزواجي جنى عِشرتي
    خذي سواهم قبل أن تحملي

    جمالُ هذي الحقْبة استْنوقَتْ
    والآن يا إنسانة استرجلي

    وغيِّري (يحيى بيفنى) وكي
    تُبدِّلي عن جوفكِ استبدلي

    ***
    واحتثَّني مُسْتقبلي قبل أن
    أعدَّ رمّاني ولا حنظلي

    قولي: أيبدو منزلي غير ما
    عَهِدْتهِ مَنْ قبل أن تنزلي

    تنحنحتْ مثل الخطيب الذي
    أنساه شيءٌ، صوتَه المحفلي

    ***
    كان كوجْر الضبِّ ذا البيت لو
    أتيتِ قبلاً خفتُ أن تجفلي

    والآن مَنْ بعد التصابي صَبا
    وقام بعد العري كي يحتلي

    أحضانه امتدت وجدرانهُ
    سكرى على قاماتها تعتلي؟

    لكل قنديل وكأسٍ صِباً
    ولليالي فرحٌ مشتلي

    وذكرياتٌ ضاحكات كما
    حكى (الخُفَنْجي) عن (علي عَيْطَلي)(6)

    قال (الشبيبي): نجمكِ الثور يا
    (قرنا) وأبدى شكَّه (العَنْدَلي)

    قال اجتلى هاءً ودالاً بلا
    حاء وواوٍ، فاقطعي، أو صِلي

    ***
    يُقال أخبرت الشذى أنني
    رسولةٌ لم أنتخب مُرْسَلي

    فقال: باسمي ضلَّلوني وبي
    حيناً، وقالوا: باسمهم ضللي

    ***
    يبدو لسمعي (هَبَليّاً) فهلْ
    تحسُّني ألحاظُهُ (المَقْبَلي)

    بُولي على جبهته، فادّنى
    وقال: شدِّي لحيتي واتفلي

    أراكِ غيري آخر المنتهى
    بدءاً، ونادى مَنْ هنا بسملي

    قل: أصبح الشطران بي شطرةً
    لا بأس في جرحيك أن تَرْفُلي

    ***
    هل تسمعين الزفَّةَ الآن؟ لا
    أصمَّني يا (دامُ يا بَلْبلي)

    تسعون طبّالاً وطبّالةً
    شهراً وقالوا: مثلُهم طبِّلي

    ***
    هناك من يأبى: أقيلَ انظمي
    للكل داراً، أم بها كبِّلي؟

    أأنت من غنيتُ: جودي لنا
    بالوصل، هل أبكي لكي تبخلي؟

    ومَنْ ينادي كالشعاع اهبطي
    ومن يفادي عن هنا حوّلي؟

    ومن يرى فرديّة الجمع في
    كفيك عهداً نصف مُتوكِّلي؟

    وقائلٍ كم قيل ما دّللوا
    عنها، ولاقالوا لها دلِّلي

    عشرين عاماً: سوف تأتي غداً
    ما اسم الذي كان بها مُختلي؟

    وسائلٍ: ماذا سيجري؟ لمن
    جاءت، أيا خضراء لا تأْمُلي

    فما أفادت علم شيءٍ سوى
    ما ينبغي يا أُمُّ – أن تجهلي

    صوغي على كفيك أخرى تريْ
    صباك في مجلى صباها الجلي

    هل ذاك – يا أولى – الذي يحتفي
    إذ جئتِ يخشى الآن أن تأفُلي؟

    ***
    هناك مَنْ يسلوك من يجتوي
    هنا الذي يدعوك يا معقلي

    ويفرش الخدّين كي تخطري
    ويملأ الكأسين كي تثملي

    كلي تحلمي حلم النواسي، صحا
    من سكرة (الكرخي) بقُطرُبُّلي

    وواقف يفديك فهّامةٌ
    ترقين مثل الشمس كي تعدلي

    يجلو بعينيك الرؤى تالياً
    نصف كتابٍ كلُّهُ ما تُلي

    مُعوّذاً كفيك أن تأخدي
    وُرَيْقَةً من قبل أن تبذلي

    ***
    وقالت الربْوات: أعطي فمي
    ثدييك أربو قبل أن توغلي

    وقالت الأرهار: لا تعبري
    فوقي فيلهو الشوك في مقتلي

    ***
    وللمقاهي عنك صوتٌ لهُ
    أيدٍ، وصوتٌ فاقع بُلبُلي

    وصائح يدعوك أن تقفزي
    وهامس يوصيك أن تكسلي

    محاذراً أن تأكل الجمر عن
    أنياب مقتاديك أو تؤُكلي

    تدرين؟ كم قالوا ولم يفعلوا
    قولي: تنحّوا جانباً وافعلي

    ***
    يرتاب هاذ الحيُّ أن تنجزي
    يودُّ ذاك الربع أن تمطلي

    ذا يرتئي: تلك التي أهجعت
    قلاقلي ما أقلقت عُدّلي

    أشمها مائدتي سائلاً:
    متى انتهى من طبخها مرجلي؟

    ***
    وقال شادٍ: ما شدت مثلها
    أسمار أعراسي ولا مَقيلي

    أنسى الدجى والصبحَ وقتيهُما
    صوتان: عَوديٌ يلي كُعدُلي

    كيف التقى نصفي بنصفي ضحىً
    في نضج مكرِ العصرِ يا مأملي

    ***
    وقال مضنٍ يا لعقيم التي
    شاءت مواني (هنتُ) أن تحبلي

    يا بنتَ أُمَّ (الضهضمدِ) قولي لنا
    : أيٌّ عليٍّ سوف يخصي علي

    قولي لماذا كنت أمثولةً
    سحريةً من قبل أن تَمثُلي

    ***
    فقال هَجسُ الأرض: مني رقت
    تعيد تشكيلي، ألا شكِّلي

    منْ بعضها انصبهضتْ إلى كلِّها
    أكلُّ وادٍ قال ذي منهلي

    شغلت أعراق الثواني فهلْ
    يرضي سُهيلاً عنه أن تشغلي؟

    في طعم ريق القات تَحمينَ عن
    ما قال تُفشين الصّدى المخملي

    تسرين في الكاذي فتدنين من
    عينيه وجه البارق الأحول

    تَنديْنَ في (ياظبي صنعاء) هوى
    تَشجينَ في أنفاس (ياصيدلي)

    في الحبر تحمرّين أنشودةً
    في الكأس تبيضِّين كي تُشعلي

    في الجمع تذكين الجدال الذي
    يميز الأبقى من المرحلي

    هل أنت من تُحيينَ كي تعظُمي
    أو أنت من تُحيينَ كي تَقتُلي؟

    هل خاتمي قانٍ؟ ألي خاتمٌ
    يكفي يدي أن سَلمتْ أنملي؟

    يا صاحب الصاروخ قلبي على
    كفِّي كتابٌ خلفهُ منجلي

    ***
    لا بدَّ من أن تُنْبهي خاملاً
    وكي يُرى لابدَّ أن تخملي

    لا بدَّ من أن تحتفي بالتي
    وبالذي لابد أن تحفلي

    مَنْ ذا سيعطيك لتعطي ومَنْ
    قال خذي، قال الحسي مَغْسَلي

    مادَام ذاتُ الأمر مأمورةً
    به، دعيه قبل أن تُعزلي

    – مني ابتدا نهجي، ألا فليكنْ
    صعباً ولايخشاكِ أن تَسُهلي

    ***
    يا طلعةً ماأذبلت مطلعاً
    تقدَّمي هيهات أن تذبلي

    ويا ربيعاً شق عمر الشَّتا
    تهدّلي للصيف واخضوضلي

    إن زيّن الإكليلُ مَنّ قبلهُ
    فكلِّلي مَنْ بعده كلِّلي

    ***
    مذ جئت جاء البدءُ مَنْ بدئِه
    وعاد من آخره أوّلي

    واجتاز ومضاً كان مُستدفئاً
    به إلى الوهج الذي يصطلي

    فأنكر التأريخ تأريخهُ
    لمّا استبان الأمسُ مستقبلي

    : لا رأسمالياً أرى ذا الفتى
    ولا اشتراكياً ولا هيجلي

    لا في (بني عبد المدان) اسمه
    لا من (بني باذان) لا (عَبْهلي)

    وعنده زائرة مثلهُ..
    تزف (عنِّيناً) إلى (المُشكِل)

    ردّي على التأريخ يا بنتَهُ
    لا تخجلي يؤذيه أن تخجلي

    قالوا: إلى نصف الطريق التقوْا
    سجِّل بلا حيفٍ وقلْ: حلِّلي

    زادوا على رأسي رؤوساً فهلْ
    تزيدني رِجلاً إلى أرجلي

    ضع نصفيَ الأعلى على الركن أو
    حوِّل أعالي قامتي أسفلي

    ما اقتاد تغييرٌ خطاي التي
    صيَّرن ما لا ينطلي ينطلي

    ***
    وأنت يا هذا؟ يقال الذي
    سوف يلي يومي أبى أن يلي

    لا هذه (سَيّان) لا غيرها
    لا (العبدلي) ثانٍ ولا العبدلي

    مَنْ غيّر التشكيلَ عن شكله؟
    قوّى على (الصِّلْوي) يَدَ (المقْولي)

    ***
    فاستضحكت قائلةً: أيُّنا
    أراد هذا، قلتُ لا رأي لي

    أمّا أنا ما جئت كهفي أنا
    وأنتِ كهفٌ بالمنى تغتلي

    تهوى سعاداً، ليدياً، غادةً
    وأختَ (هنري) وابنة العوذلي

    كان ابن جدي زوجَ عشر إلى
    أن طلّقتهُ (هَيْدبُ الحوْقلي)

    ***
    نبغي وتخشى نصف ما تبتغي
    فتنثني مثل الشَّجيِّ الخلي

    ترجو ولياً نائياً خيرةً
    فاختار لقيانا مزارُ الولي

    ***
    تمثال هذا هيكلي، أنتَ بي
    كصورة فيما اسمه هيكلي

    أعطاكِ طنبوراً، أنا مصحفاً
    فاعزفْ، ويا أميّتي رتّلي

    ***
    عزفتُ غازلت التي والتي
    حتى أتتْ مَنْ كسّرت مغزلي

    فالتمّ بحر القلب في كفّها
    كوباً بنهديْ كرمةٍ يمتلي

    ***
    إلى رضاعي جئتِ مني ومنْ
    تخرُّجي فيكِ ابتدأ مدخلي

    كي يرتدي عينيك معنى الضحى
    كي تبتدي الأنهار من جدولي

    ***
    أما تساقينا البروقَ المِدى
    وآنَ أنْ أغلي وأنْ تهطلي

    أن ينشر (المهديُّ) منك اللوا
    أو يركض (الدجّال) من منزلي

    مايو-يونيو 1990م.

  • 349 ثُوّار.. والذين كانوا

    ديوان جواب العصور >  ثُوّار.. والذين كانوا

    أحين أنْضَجَ هذا العصرُ أَعْصارا
    قُدْتُمْ إليه عن الثُوّار (أثْوارا)!

    كيف انتخبتم لهُ – إن رام – تنقيهٌ
    مَنْ كان يحتاج حَرّاثاً وجزّارا!

    أُبغيةُ الشعب في التغيير أن تضعوا
    مكان أعلى رؤوس العصر أحجارا!

    أو أن تولُّوا عصافير النّقار على
    هذا الذي قلَّب التسعين أطوارا!

    وارتاد فاعتصر الأزمانَ مكتبةْ
    واستجمع الشُّهبَ في كفّيه منظارا

    وقدَّس العَرَق المهدورَ معتزماً
    أن لا يُبقّي بظهر الأرض هدّارا

    ***
    أعندما أينعت أجنى تجاربِهِ
    وصَّيتُمُ بحكيم الحُكم قُصَّارا!

    إن كنتُمُ بعض من ربّى فكيف يرى
    كرومَ كفَّيه (يَنبوتاً) و(صُبَّارا)؟

    ***
    لأنكمْ غيرُ أكفاءٍ لثورته..
    أجْهدتُمُ فيه أنياباً وأظفارا

    تحسونَ أنخابه في كل مأدبة
    وعن نواظره تطوون أسرارا

    لأنكم ما بنيتم، قام باسمكمُ
    مَنْ يهدم الدار ينفي مَنْ بنى الدارا

    وكلما اختار شعبٌ وجهَ غايته
    أرْكبتُمُ كتفيه عكس ما اختارا

    وافقتمُ اليوم أن لا يدّعي أحدٌ
    تعاكساً بين (باتستا) و(جيفارا)

    هل مَنْ تعرّى لنار العابثين كمنْ
    أبدى عداوَتَهُ للشعب أو وارى؟

    ***
    هل اتّفقتم تجيئون الشعوب معاً
    تُزعِّمون عليها الكلبَ والفارا؟

    على لحاكمْ يبول العارُ مبتهجاً
    إذ عاش حتى رأى مَنْ يعشق العارا

    أليس علميَّة التَّسْييس عندكمُ
    كمن يتوِّج بالمخمور خمَّارا؟

    هل الشيوعيْ أتى المالي كما قصدتْ
    محنيَّةُ الظَّهر والثديين عطّارا؟

    كِلا النقيضين كالأنقاض فارتجلي
    يا سرّة الأرض زلزالاً وإعصارا

    واستفتحي عالماً أنقى يرفُّ صباً
    ويثمر الثَّوَرات الخضر أبكارا

    ***
    لن تمنعوا يا أساطين الوفاق غداً
    من أن يثور وأن ينصبَّ أنهارا

    مهما اقتدرتم، فما عَطَّلْتمُ فَلَكاً
    ولا أحلتمْ محيّا الشمس دينارا

    ***
    يا مَنْ هدمتم بناءً داس هادمَهُ
    هلاّ أضفتم إلى الإعمار إعمارا؟

    يا مَنْ تحررتمُ مِنْ نضجِ تجربةٍ
    هل تلك حريَّةٌ تحتاج أحرارا؟

    وياالذين دعوناكم على ثقةٍ
    رفاقَنَا نصفُ قرنٍ أيُّنا انهارا؟

    ***
    معاً بدأنا وردّدنا (الشِّعار) معاً
    يموت مَنْ خان أو والاه أو جارى

    كنّا كعقدٍ ولكن لم يجدْ عُنُقاً
    صرنا جناحين، لكن أيُّنا طارا؟

    ***
    ثرتمُ وثُرنا، فلمَّا نلتُمُ وطَراً
    هدأتمُ، وسهرنا نحن ثوّارا

    أردتمُ أن تناموا مرتوين كما
    شئنا نبيت عَطاشى نرضع النارا

    ***
    حكمتمُ الشعبَ، نحن الشعب يحكمنا
    حُبًّا، ونعليه فوق الأمر أمتارا

    ولا نُداجيه كي يختار سلطتنا
    بل نبتغي أن يكون الشعبُ مختارا

    تمسون شبه سلاطين، نبيت على
    نصل الطوى، كي نلاقي الصبح أطهارا

    ***
    أعن تقدمكم تبتم؟ نطمئنكم
    بأنك ما قطعتم فيه أشبارا

    بل قيل لم تدخلوه أو رأى لكمُ
    على الطريق إلى مجراه آثارا

    ناموا سنمضي بلارُجْعى وسوف نرى
    عنكمْ، أتستغفرون اليوم غفّارا؟

    وعندما أصبح الشطران عاصمةً
    مشطورة، هل رأت في الدور ديّارا؟

    ختمتمُ الشوط في بدء المسير، وما
    نزال نجتاز مضماراً فمضمارا

    ***
    نرمي بأشباحنا الأخطار نلبسها
    ليلاً ونخلعها في الصبح (أطمارا)

    نصيح: يا شوق رشقْنا ودُقَّ بنا
    في كل عرقٍ من التَّمويت مسمارا

    ***
    في كل سجنٍ نفني، في منازلنا
    نستقبل المخبرين الجُوفَ زُوارا

    أهلاً وسهلاً تشرَّفنا” وكيف جرى
    هذا التجافي، لماذا ، ما الذي صارا؟!!

    ***
    نسقيهُمُ أي شيء غير أدمعنا
    يسقوننا في بريق الودِّ إنذارا!

    : مرَّت ثمانون شهراً مِنْ تخرُّجنا
    معاً، أما زلتمُ – كالأمس – أغمارا!؟

    تردِّدون الأناشيد التي منعوا
    ولا تكنُّون للأستاذ إكبارا

    كُنا نفضِّلُ بشّاراً على (عُمَرٍ)
    فتنسبون إلى (إنْجلزَ) بشّارا

    كنا نعاكس بعضاً دون معرفةٍ
    كنتمْ وكُنّا بذاك الوقت أغرارا

    أضحى (الغويْدي) وزيراً و(إبن عائشة)
    محافظاً، وعيال (البوش) تجّارا

    تزوّج الشيخ نابُ الدين ثامنةً
    أنتم تزوجتمو (صنعا) و(عمّارا)

    زوّجتمو (بنت سُعدى) نجل (ذي يزنٍ)
    وزوَّجوا أُمَّهم عشرين عَهارا

    ***
    يستقرئون خفايانا، دفاترنا
    سرّاً، ونقرؤهم في الجهر أسفارا

    وقد نصادق في مكنون أكثرهم
    نقاوةً ترتدي شوكاً وأوضارا

    ولا نقاوَم سمساراً لمهنتهِ
    بل الذي سخَّر ابن الشعب سمسارا

    ***
    وإن أجاد لنا الخُوَّان مقتلةً
    مُتنا كما داعب التهويمُ سُمَّارا

    وإن أعدّوا لنا جاراً يحاصرنا
    قلنا: كبرنا ملأنا البيت والجارا

    وكلما أبحرت فينا عيونهمو
    أحسَّت البحر فيها صار بحّارا

    ***
    يا كل شوطٍ تطاولْ، لن نقول متى
    ننهي، ولاكم قطعنا منك أمتارا

    تمتد نمتد، نُصبي كل رابيةٍ
    وندخل المنحنى والسَّفحَ أفكارا

    نحيل كل حصاة شهوةً وصبيً
    نعبِّئُ الرّيحَ أشواقاً وأشعارا

    نَنْصبُّ في كل تلٍّ أعيناً ومُنىً
    نخضرُّ أوديةً ننهلُّ أمطارا

    نغور في الغور كي ترقى مناكُبهُ
    تحتلُّنا الأرضُ أوطاناً وأوطارا

    نجيش فيها قلوباً كي تقلِّبَنا
    سِفْراً، وتكتبَنا دُوراً وأشجارا

    تزكو بنا، وبها نزكو، تصوِّبنا
    للغيم برقاً، وللأمواج تيّارا

    ***
    مِنْ هجسنا تبدأ التأريخ نبدؤها
    نُؤسْطِرُ السَّفحَ والبستان والغارا

    نصوغ للعدم الموجود خاتمةً
    نأتي من الغائب المنشود أخبارا

    ***
    وقد يمزِّقنا غدرُ الرّصاص هنا
    أو ههنا، فنروع القتلَ إصرارا

    لأننا ما ولدنا كي نموت سُدىً
    بل كي نجمِّلَ بعد العمرِ أعمارا

    ***
    نَصفر كالخوخ، كي نندى جنىً وشذىً
    كالبذر نُدفن، كي نمتد إثمارا

    لكي نعي أننا نحيا، نموت كما
    تفنى الأهلَّةُ، كي تنساب أقمارا

    مِنْ البكارات نأتي رافعين على
    جباهنا الشعبَ أعلاماً وأقدارا

  • 350 ليلة في صحبة الموت

    ديوان جواب العصور >  ليلة في صحبة الموت

    ساعةَ يا ردى أُتمُّ القصيدةْ
    هاكَ قاتاً وجرَّةً وجريدَهْ

    النَّبيذي هذا يُسمَّى (البخاري)
    ذا المثنّى من غرس (وادي عَبيدهْ)

    كل غضنٍ له مذاق جديدٌ
    كالمليحات، كل أخرى جديدهْ

    كل قيليِّة الثرى بين فيها
    وشفاه الندى عهودُ عهيدَهْ

    أتَراها تدعوك ميساً وتغضي
    مثلما تخطف المرايا الخريدهْ(1)

    * * *
    عجبي كيف لان لمّا تثنّتْ
    في يديه غصونُ أشهى مكيدهْ

    كيف حال الذين قابلتَ قبلي؟
    قيل أعجلتَ (سعد يحيى) و(عيدَهْ)

    كيف لست الذي قصفْتَ صباها
    وصباه! إن المنايا عديدهْ

    تَسْبِقُ القتلَ أو تليه، وآناً
    تمتطي صهوةَ الحروب المبيدَهْ

    * * *
    يا مميتي مَنْ ذا يميت المنايا
    كالقوى تأكل الأُشدُّ الشديدَهْ؟

    قيل عنها نقّادةٌ أهي تُدعى
    في ذويها نقّادةً أو نقيدَهْ؟

    أنت تُسمى منيَّةً أو حمِاماً
    قيل أنثى الحديد تُدعى حديدهْ

    لو (زَبيدٌ) حقيبةٌ أو فتاةٌ
    لدعاه أبو الأسامي زبيدَهْ

    لو حكى (سيبوبه) عن أمِّ (ميدى)
    قال: ممنوعة من الصرف ميدَهْ

    * * *
    حين تغشى البيوتَ من أين تأتي؟
    من رياحٍ كما تروغ الطَّريدهْ

    فأراني حيناً بروقاً، وحيناً
    أنثني غيمةً خطاها وئيدَهْ

    وأوانا أُحسُّني فيضاناً
    يمضغ الرملَ والشطايا البديدهْ

    وعلى ساعديه ألفا دفينٍ
    وعلى منكبيه ألفا قعيدهْ

    قلُبُه شرقُ ظهرهِ وَهوَ غربٌ
    رأسهُ خوذةُ الرؤوس البليدَهْ

    * * *
    في (دُرامى) الخليج كنتَ (عُطيلاً)
    يده وحدها عليه الشهيدَهْ

    كنتُ فيها بلا ذراعين فوقي
    قوةٌ فوق ما أُريد مريدَهْ

    * * *
    ولماذا يدعوك شيخٌ فتأبى
    وتلبّي – ومادعتك – الوليده

    يوم كدتْ (لمى) لتشري طحيناً
    حُلتَ بين ابنها وبين العصيدَهْ

    المنى تبتدي، وينهي سواها
    والمآسي مثل الأماسي أبيدهْ

    * * *
    قل أتى مقتضيك خَقَّينِ مهلاً
    لم أقل جملةً تُسمّى مفيدهْ

    يا صديقي في القلب تسعون قلباً
    وقوافي الوداع – تدري – عنيدهْ

    انتظرني أفضي ل(زيد) بسر
    ببقايا حكايتي ل(سعيدهْ)

    لبلادي بهمسةٍ قبل تُمسي
    – وأنا تحت أخمصيها – بعيدهْ

    لا ترى غير فوقها، كل دارٍ
    عامروها الغواة ليست رشيدَهْ

    * * *
    عجّلي الآن، هاكَ صيّاد قفر
    يبتغي ظبية وتبغيه سيدَهْ

    في ثوانٍ تجتثُّني، لا عروقي
    غائرات، ولاقناتي عتيدهْ

    قلت أخّرتني، تبقَّت حروفٌ
    شئتُ مقصورةً فجاءت مديدهْ

    كلُّ فعلٍ (مجرِّدٍ) نثَّ شيئاً
    زاد شوقي إلى اختبار (المزيدَهْ)

    مستدرِّاً براءة البيد منها
    في صباها مستنشداً هيد، هيدَهْ

    لا تضق بي دنوتُ من شط صوتي
    والمعاني التي أُنادي فقيدهْ

    لست موتى الوحيد جرَّبتُ ألفاً
    كلها ما رأت حياتي أكيدهْ

    قل لقبري سأغتدي من قبورٍ
    فوق أكتافها القصور المشيدهْ

    * * *
    قل تريد الهروبَ متُّ مراراً
    ونجتْ لي إرادتي والعقيدَهْ

    كم مضتْ بي أغبى المنون المواضي
    وانثنت بي أصبى المنايا المُعيدَهْ

    * * *
    المُعيداتُ، هل طرأنَ مَرَدَاً؟
    ما علاماتُها الوجوه الرديدَهْ

    هل سيرجعن ما بَعثتُ، وكم لي
    بَعثاتٍ طريفةٍ وتليدَهْ؟

    هل سيأوي الردى هنا أيُّ لحدٍ
    حين تنفضُّ من هناك اللحيدةْ؟

    * * *
    أيُّ شيء يقول هذا ثناني
    عنه، يا عودتي تَسمَّيْ حميدة

    يا مضيف الحتوف هبْ تلك مني
    زورةً واحتفل بأخرى مجيدَهْ

    ولماذا احتزمتَ؟ وماأنت قصدي
    حسناً جئتَ كي تجيء القصيدَهْ

    مايو 1991م

  • 351 منزغ الشياطين

    ديوان جواب العصور >  منزغ الشياطين

    كما ينفش البوليس مقصورة البغا
    تكب الندى والعشب طاحونة الوغى

    كما يطبخ البحر المدمى شطوطه
    تشوي حراشيف الوجوه التمرغا

    كما وحد اثنين، الذي كان ثالثاً
    أقام الذي ألغى، وقام الذي التغى

    كما ابيض حنا العرس، لاح الذي انتقى
    عن اللون والوجهين، لوحاً مصبغا

    ***
    أمن دغدغ الأحلام، شظى عيونها
    وأصبح احلاماً، تنادي المدغدغا؟

    وهل تلدغ الحيات، إلا لأنها
    تلاقي -كما لاقت من البدء- ملدغا

    لأن بني (قايين) أضحوا عوالماً
    على الارض أمست للشياطين منزغا

    فلا ها هنا الراعي المغني، ولا هنا
    تناجي الشذى والطير، لابحة الثغا

    * * *
    يشيخ زمان الغاز عيا ويدعي
    بأن صباه الغض ما زال ألثغا

    يصوغ من التنقيط، (إلياذة) بلا
    حروفٍ، ليلقى (الدامغات) بأدمغا

    لماذا ينافي آخر الشوق بدأه؟
    لأن الذي لا ينبغي، عنده ابتغى

    * * *
    تجيء على أعقابها الريح، ترتدي
    رمداَ محيطٍ، جفَّ من طول ما طغى

    فتستفرغ الحيَّ الفتى من أديمه
    وتكسو عجوزين الأديمَ المفرّغا

    وتَعتُّم ساقيها، وتجترُّ وجهها
    وترمي الذي أوشى بجذع الذي لغا

    ومن ذا تُثني الريحُ؟ هل غير واحدٍ؟
    وكان هو اللاغي، وسمعُ الذي صغى

    * * *
    هناك صدى صوتين، من غير لهجة
    أمِنْ غير تلقين، هذى كلُّ ببَّغا؟

    أأضحى الصدى المشقوقُ صوتاً مشقّقاً؟
    بحلق الذي يوحي، يدسُّ المُبلَّغا

    * * *
    فأيُّ مكانٍ ليس يصلح مسلخاً
    وكل مكانٍ، ربما بات مدبغا؟

    لأن الثرى وارى البراءات، لا الكَلا
    يفوحُ، ولا يزقو صهيلٌ، ولا رُغا

    لياليه أعلتْ سوأتيها بيارقاً
    أزاغت؟ أكان الرَّصدُ من قبل أزيغا؟

    وتلك الدِّيار الغائصات إلى اللِّحى
    بأطلالها، هل تبتغي أيَّ مُبتغى؟

    إلى صوتها، من موتها تَدخل اسمها
    تُسائل هل تلقى لهذا مُسوَّغا؟

    * * *
    إلى كمْ إلى كمْ يا لظى، حمحم الصدى؟
    إلى أين يا نهر الشظايا، تبغبغا؟

    لأن حنايا والدي من خرائبٍ
    فمن ما به أعطاكِ هذا وأسبغا؟

    يقولون مزموراتُه مِن دم الثرى
    وإنصاتُه في كل غصنٍ تَنسَّغا

    * * *
    تقول بأعلى الصمت: هل جثَّتي أنا؟
    أهذا الهَبا (سُعدى) أتلك الحصى (أغا)؟

    أهذا الحطامُ المرتمي كان قامتي؟
    أما كنتُ قبل الهدم، هدماً مصمَّغا؟

    * * *
    أيُجدي بُعيدَ القتل علمي بقاتلي
    وأن الذي راوغتهُ كان أروغا؟

    وهذا الذي فيه وَلغتُ أخلْتُني
    سأشهده مني إلى القعر أولغا؟

    * * *
    هناك صدىً – غير الذي انشقَّ – ينتمي
    إلى لغةٍ، تمحو التواريخ واللُّغى

    يحسُّ نبوغَ الحزن، من كلِّ حفرةٍ
    يُشيرُ: سيرقى آخرُ الدَّفن أنبغا

    وهذا الفُتاتُ المنطوي شمَّهُ الندى
    يُقاوي تلاشيه، ويقوى ليبزُغا

    1991م

  • 352 جوّاب العصور

    ديوان جواب العصور >  جوّاب العصور

    ما الذي تبتاعُ يا (زيد الوصابي)
    هل هنا سوقٌ سوى هذا المرابي؟

    يدخل السوقان سوقاً، يمتطي
    (باب موسى) ركبتيْ (سوق الجنابي)

    ورق العملات يعدو مثلما
    تهرب الحيّات من ضيق المخابي

    يسقط المُغْرى على المغري كما
    يستحمُّ الطين في الطين المذاب

    لا أرى (الشرشفَ والعِقدَ) على قامة
    (العُسبان) مدعاةَ اعتجابي

    هكذا قُلْ، إنما لا تقترح
    عن هُدى التمييز أن أُبدي متابي

    سوف تلقى سبَّهُم، يا ليتهم
    أحسنوا أحدوثةً حتى سِبابي

    كلَّ يومٍ لا تَرى ما ترتضي
    ثمَّ تغضي آبياً أو غير آبي

    * * *
    ذاك يا أُمي يناجي ثانياً
    وَهْوَ يمشي وحدهُ، يُدعى اكتئابي

    لا تَلُفُّ امرأةً نظرتُهُ
    مثلَهمْ، يبدو نبيّاً أو دُعابي

    هاأنا أسمعتُ حيَّين فلو
    صحتُ هل يستوقف السوق اصطخابي؟

    قل لماذا جئتَ يا زيدُ إلى
    هذه الأنقاض؟ أجتُّر خرابي

    * * *
    الريالاتُ التي تملِكُها
    لا تفي قرصاً وإبريقاً (رُصابي)

    عدّها، عَدَّيتُها الآن هنا
    عند هذا السوق مَنْ يُحصي رَغابي؟

    أعْلِنُ الحربَ عليه في الذي
    كان أحنى منه، كسَّرتُ حِرابي

    * * *
    كنتُ في عصر البراءات بلا
    درهم أهنى طعامي وشرابي

    في متاه (الشنفرى) أذهلني
    عن نداء الجوف دفعي وانجذابي

    قلت: يا صحرا خذي جمجتي
    فأجابت: هاك ليلي وذئابي
    ***
    تحت بند الفتح أرضعت المنى
    أرخت الريح يديها لاحتلابي

    صرت عند (اليعفري) منتدباً
    للمهمات التي فوق انتدابي
    ***
    همت في أيام (فيضي) مفلساً
    وبفلس أشتري ملء وطابي

    جئت هذا العصر أحدو جثتي
    لا أرى لوني، ولا شم ملابي
    ***
    أين يا أرض الذي تطوينه
    تحت نهديك؟ أشميت اضطرابي؟

    في ثمانينات هذا القرن لا
    أنضجت شمسي، ولا جادت سحابي

    إن تكن بعض حنيني فاحتمل
    ساعة عن ساعدي بعض قبابي

    ما الذي يا زيد قالت؟ أوثقت
    سرها الباكي إلى قعر انتحابي

    أشتهي الآن غداء موجزاً
    حزمة صغرى من (القات الرحابي)

    بعض تبغ، ومقيلاً لا أرى
    فيه وجهاً بين وجهي وصحابي

    هل لديك الآن ما يكفي،
    ولا نصف ما يكفي، ولا كف لعابي

    إستدن من (مرتضى)، لاحظتهُ
    لامني حين تقاضاني (الحَبابي)

    قيل بالأمس قضيْتَ (المَقْطري)
    بالذي أقْرضني (يحيى المَذابي)

    جرِّب اليوم (هُدى) عندي لها
    خمسةٌ أخرى ومخطوط (العِنابي)

    قلتُ زيدي خَمسةً، قالت أبي
    كان أيام (الصليحييِّن) جابي

    قلتُ هل هذا تراثي؟ ضحكَت
    وأضافت وتُراثي واكتسابي

    * * *
    يا (وصابي) والدي يحتلُّني
    وجهُهُ مِن داخلي يُرخي حجابي

    كلّما مرّيتُ قالوا: بنتُ مَنْ
    مَنْ أبوها؟ عنْبَسيٌّ، بل شَوابي

    يا طريق البيت، هذا اسمي هدى
    مَنْ هدى؟ يا بنت شعسان الرَّبابي

    أنت يا زيد الذي أشكيتَها
    بل شَكَتْ مأساة أختي واغترابي

    * * *
    ذاك بنكٌ، كلُّ بنكٍ قال لي:
    في أكُفِّ المصرف الدولي رِقابي

    ربح دَيني وحدَهُ يربو على
    دِيَتي، مَنْ سيبتاع استلابي؟

    * * *
    كم تريد اليوم، يا زيد اقتصدْ
    عِشْرُ ألفٍ بعض ما يُطفي التهابي

    بع كتاباً، خمسةً، من يشتري
    أضحت البيضة أغلى من كتابي

    خُطَّ عنواناً، وعد (قطباً) به…
    من يحبُّ الشعب يأبى أن يحابي

    مثل (كُتَّاب الزوايا) قُل وكلْ
    لزواياهم جفان كالجوابي

    كلهم متربة مثلي، سوى
    أنني متربة غير ترابي

    * * *
    إنني أبدع مني عالماً
    لا تُلاقي فيه محبوّاً وحابي

    ليس فيه أيُّ محكومٍ، ولا
    أيُّ حكمٍ عسكري أو نيابي

    انتبه يا زيد قفْ، سيارةٌ
    المنايا والمُنى أحلى كعابي

    خُنتني يا زيد كم أضعفتني
    مذُّ تخيرت من المهد اصطحابي

    * * *
    إصعد السيارة، اقعدْ، ههنا
    لا تخف، ما أنت موضوعَ ارتيابي

    أي زيد يا فتى تدعو، متى
    لا تسل أنت، أجب، هذا جوابي

    أنت زيد، فمن الثاني، أنا
    أنت تدعو أنت، دع عنك التغابي

    رامَ إنسانُ قميصي مُسعداً
    فانتضى إنسان قلبي من إهابي

    أكما الطفل يناغي نفسهُ
    كنتَ تحكي؟ كالصِّبا وهم التصابي

    لا تخف، من زيدٌ الثاني، أفذ
    ضدّ هذا المختفي حكم غيابي

    أيُّ زيد كنت من أصحابه؟
    أو حكوا عنه؟ تكلَّم يا انقلابي

    أي زيد أخبروا عنه؟ ولو
    قبل عشرٍ، ليت إلماحي شهابي

    يا أخي، أذكر زيداً ثالثاً
    فاستمع صدقي، وفكّر في كذابي

    * * *
    جاء في “الأحزاب” من أخباره
    خيرُ توضيح وتلميح خطابي؟

    كان حزبياً، صدقت الآن، قل
    أين ألقاه، فقد أعيي طلابي

    هاك ألفين وحدد بيته
    من ربى التاريخ في أعلى الروابي

    في (فتوح الشام) يثوي قائلاً:
    ردّ لي أزكي أب أصل انتسابي

    إنه من (شام همدان) وما
    في رباه صعبة تثني ركابي

    حسناً نوّرتني، فاذهب وكن
    ألف مجنون، فقد هدأت ما بي

    * * *
    ما الذي أعثرني اليوم عليّ
    ذلك العاتي، تبدّى في ارتقابي

    من زحام المشترى والمشتري
    جاءني مني ومن فوق احتسابي

    قلت يا زيد إليه، شاهراً
    قلب قلبي، رامياً خلفي قرابي

    قُربه اركبني، أركبته
    منكب التأريخ، واختار انتخابي

    علّه اليوم يمسِّي حميراً
    أو يبغِّي سبأ، من أنت، سابي؟

    أو على (عمرو بن معد) يعتدي
    فيلاقيه بسيفٍ غير ناب

    أو يحثُّ (الأشتر): الآن اعترف
    أنت زيد يا أخا الجُرد الكوابي

    ربما يسطو على (موسى الرضا)
    أو إلى الإعدام يقتاد (عُرابي)

    أو على (الصابي) يوشي تهمة
    أنت زيد في سجل الحزب صابي

    وسيعزو كل ما يعتاده
    من حماقات إلى مرمى صوابي

    * * *
    ولعلي واهمٌ أحسبه
    ينبش التأريخ عن خصم سرابي

    هل ذرعت الدهر عنه يا أنا
    وهو في مكتبه يطهو عقابي؟

    يوم لاقاني دنا مُستنطقاً
    لونَ نبعي، وإلى أين انصبابي

    * * *
    قد ألاقيه غداً أو بعده
    مستعيراً مذهبي، وجه ذهابي

    واقفاً بين ضميري وفمي
    قائلاً ما لم يقل ريقي لنابي

    * * *
    عله في داره الآن على
    حضن أختين، كشيطان غرابي

    يحتسي من كف باريسية
    أو فلبينية أو بنت (فابي)

    * * *
    عله في السجن يشوي كاتباً
    أو يعشي كلبه أي نقابي

    أو بذاك الركن، يحصي دخله:
    ذا حساب المرتجى، هذا حسابي

    * * *
    كيف أعطي نصف كسبي آمري
    وهو ما كان قسيمي في عذابي

    باسم أمن الأمر، أحوي ثروتي
    باسم ماذا ، ينهب الأمر انتهابي؟

    * * *
    لست يا زيد الوصابي كفؤة
    بل أقاويه لكي يقوى غلابي

    ابتعد عنه قليلاً، نصفه
    ظهر بعدي، نصفه وجه اقترابي

    لا أغطي عنه وجهي، إن يكن
    غسقياً، فأنا ليت ضبابي

    لا أعادي شخصه بل وصفه
    فهو من أرضي كأشواك شعابي
    * * *
    كيف زاد الشوك يا أرض على
    حجمه: غذته من لحمي هضابي

    علميني: قل لمن لا تجتني
    من نباتي سوف يجنيك احتطابي

    * * *
    من أرى، من قلت غررت به
    لست أخشى ذلك الوجه الذبابي

    إنني من قلبه أقرأه
    وهو يتلو عن فمي صمت عتابي

    * * *
    كم أصابتك قواه؟ قل وكم
    علمتني كيف اجتاز مصابي

    قيل عنه، قال من أمنت من
    جانبي أنبحت حوليه كلابي

    فليكن، يبتز عني قشرتي
    أين من أيدي ضواريه لبابي

    * * *
    لست تدري مكره، أحمله
    مثلما احمل تبغي وثقابي

    إنه يقدر أن ينزعني
    من مباتي، وله علم إيابي

    إنه يعرف زواري، وكم
    طوب بيتي، ومتى أغلق بابي

    عنده كل بيوت الناس، بل
    عنده عنوان قبري من شبابي

    * * *
    لا أماري أنه أقوى، فما
    باله يخشى وقوفي وانسيابي

    إنه والٍ بلا شعبية
    وأنا داعية غير مجاب

    فلماذا يتقي صوتي، كما
    يتقي صمتي وإمكان انسرابي

    ألأني عفت رأسي مالئاً
    من رؤوس الفيلق التركي جرابي

    أو لأني حين مادت (صيرة)
    من عباب البحر أطلقت عبابي

    أو لأن الخائرين انسحبوا
    يوم (نجران) وقاتلت انسحابي

    * * *
    لا تخف يا زيد شيئاً، ومتى
    خفت، أو قيل رأى الهول اجتنابي

    جبت عصراً بعد عصر وأنا
    أنت، ما زلت أنا ذاك الوصابي

    ديسمبر 1989م

  • 353 إلى أين؟

    ديوان جواب العصور >  إلى أين؟

    أما زلتَ؟ شابت عيالُ العيالْ
    وأنت تلاحق وعد المِطالْ

    فلا أمكن الممكن المشتهى
    إليكَ ولا المستحيلُ استحالْ

    * * *
    تبيتُ على باب سينٍ وراءٍ
    وتغدو على باب واوٍ ودالْ

    وكالفجر فوق اخضرار المروج
    تُسمِّي قوافيك (رياً) (نوالْ)

    * * *
    فيخطرن مثل ربىً من كرومٍ
    كعشق أمال الصبا واستمال

    ويخترن نهجاً ويلبسن من
    شفافية الغيب عِقداً وشالْ

    * * *
    وأنت ترى منذ أمسٍ غداً
    وتلمس بالكف ما لا يُخال

    وتلهث خلف الذي ما ابتدا
    وراء الذي جاوز الإكتمال

    * * *
    تُنقِّبُ عن طيف عادٍ تشمُّ
    صدى كل مئذنة عن (بلالْ)

    وتروي عن الرمل مسرى (قصيرٍ)
    وماجدعه الأنف (ماللجمالْ)

    تُنقي المناسِبَ والنّاسبين
    فتلقى الحقيقة كالإنتحالْ

    * * *
    تُجيب (الحدا) أيٍّ ركب حدتْ
    و(خولانُ) من ذا دعاه (الطِّيالْ)

    ومَنْ حلَّ قبل (زًبيدٍ) زبيداً
    ومَنْ قال (عَمْران) ضاهت (كُهالْ)

    * * *
    تفوتُ الذي عقل السير فيكَ
    تلاقي الذي لا يحلُّ العِقالْ

    وعن ذا، وذاك تميل قليلاً
    وتنهي رحيلاً ببدء ارتحالْ

    أُيقمرُ أيُّ مساءٍ وما
    أتى من أواخر سُقم الهلالْ؟

    * * *
    تحمّلت ستين لهفى وجئتَ
    كطفلٍ يسابقه الإكتهالْ

    ألستُ شقيق الروابي التي
    كساها الندى وارتعال الهُزالْ

    كلانا كنبت ربيع الرمال
    نرفُّ ارتجالاً ونذوي ارتجالْ

    * * *
    لماذا أتيتَ؟ لأني أتيتُ
    وتعليلُ هذا أمضُّ اعتلالْ

    لأن بقلبي بلاداً تجولُ
    ومنها إليها أُعنِّي المجالْ

    أفيها تُتِّش عنها وعنك؟
    لأطلالِ (ميسونَ) يبكي (طلالْ)

    * * *
    يقولون: أدمنت جوب العصور
    ورافقت أخطار أعلى الجبالْ

    نعم كان ذاك، وهذا، وكان
    شرابي وقوتي غباراً و(آلْ)

    وكنتُ أموتُ غراماً وجوعاً
    وأدعو المماتيْنِ أعلى مثالْ

    وأستنطق الريحَ ماذا رأت
    وأستخبر السّيلَ من أين سالْ؟
    * * *
    ويسألني البرقُ: مَن أنت، هل
    قرأتَ كتابَ انتظارِ الغِلالْ

    ومن ذا رمى بكَ قلبَ الزّحام
    وأطفأ في مقلتيك (الذُّبالْ)؟

    * * *
    وكنت أُدندن كالمبحرين
    وأكسو الأسى جُبة الاعتزال

    أشاكي الربى، وأُفدّي غديراً
    يحنُّ ويُعطي سواه الزُّلالْ

    فتهمسُ لي تينةٌ: هل أُريكَ
    فقيهاً يلقِّيك بنت الحلالْ؟

    * * *
    وكنتُ أُمنطق (بيع الحرام)
    وباب الذي (يوجب الاغتسالْ)

    أُداجي الصِّحاب فأدع (حُسيناً)
    (جريراً)، وأدعو (مثنى) (الجلال)

    و(شيخ البخاري) ينادي بنا:
    إلى الفقه ما الشعر إلاّ الضَّلالْ

    وكانت تسلِّفني الخابزات
    رياليْنِ، حتى ألاقي الرِّيالْ

    وكنتُ مع البدو، أحدو هناك
    أُغنِّي معَ حاملات السلالْ

    * * *
    أُشُبُّ القصيدة َ في (حالمين)
    فتُمسي بوارقها في (عُبالْ)

    يقولون: تُضني (ل ماذا ) بكيف)؟
    لأنَّ سؤالي جوابُ السؤالْ

    * * *
    يقولون: إن قلت أسمْعتَ، إنْ
    سكتَّ، ففي البال عشرون بالْ

    أهذي ذنوبٌ أجازي بها؟
    لأنك أدنيت بُعد المحالْ

    أتمنح كلَّ صَموتٍ فماً
    إذا باح أسقى الرياح الصِّيالْ

    * * *
    يقولون: هذا التظى ثورةً
    ومن عيبه أنه ما يزالْ!

    أما تلك دعوى غبيٍ نوى؟
    ومن قبل أن يستهلَّ استقالْ

    تنقُّ الدَّجاجُ التي لا تبيض
    لتهدي إليها (ذوات الحجالْ)

    * * *
    تثور وحيداً؟ رفاقي أُلوفٌ
    رضعنا صغاراً حليب النِّضالْ

    أما قال: إنطاقُ عش (القطا)
    قتال، وإسكاتُ (بومٍ) قتالْ؟

    * * *
    تحامى قصائدك الناقدون
    وأيُّ يدٍ تلمس الإشتعالْ

    أليس (الدكاتير) يخشون مَنْ
    يقول الذي ينبغي أن يُقالْ؟

    لهم أن يصونوا دماء الدواة
    وللشعب أن لا يراهم رجالْ

    بذا صنتَ فنّك منهم، كما
    يصون الجميلة عنفُ الجَمالْ

    * * *
    علينا أمورٌ نَضتنا لها
    أُتلهي عن الفعل بالإفتعالْ؟

    أمانيك تبدو كماليةً
    أتسكر والخبز أعصى منالْ

    تريد الصدى قبل قرع الطريق؟
    دليلُ الإرادات ومضُ الخيالْ

    أبريل 1991م

  • 354 صديق الريح

    ديوان مدينة الغد >  صديق الريح

    على اسم الجنيهات والأسلحة
    يتاجر بالموت كي يربحه

    ويشتم كفي مرابي الحروب
    فيزرع في رمله مطمحه

    ذوائبه الحاضنات النجوم
    بأيدي المرابين كالممسحه

    يمنيه طاغ حساه الفجور
    وجلمد في حلقه النحنحه

    فيدمي وتغدو جراحاته
    مناديل.. في كف من جرحه

    وتومي له حربة،(الهرمزان)
    بقرآن (عثمان) والمسبحه

    فيهوي له جبة من رماد
    ومن داميات الحصى أوشحه

    على وجهه ترسب الحشرجات
    وتطفو قبور بلا أضرحه

    ويجتره من وراء السراب
    أسى يرتدي صبغة مفرحه

    فيجتاح تلاً شواه الحريق
    وتلآ دخان اللظى لوحه

    ويغتال رابية ممسياً
    وتأكله ربوة مضبحه

    وكالسل يمتص زيت(الرياض)
    ويرضع من دمه المذبحه

    ويسقط حيث تلوح النقود
    هنا أوهنا لا يعي مطرحه

    طيوف الحياة على مقلتيه
    عصافير دامية الأجنحه

    تعب أساريره الأمسيات
    وتنسى الصبيحات أن تلمحه

    وغاياته أن يدير الحروب
    ويبتز أسواقها المربحه

    ومادام فيه بقايا دم
    فمن صالح الجيب أن يسفحه

    يجود بأشلائه ولتكن
    (لإبليس) أو(آدم) المصلحه

    * * *
    وتلك عوائده الخالدات
    يجوع ومن لحمه يأكل

    بلا درهم كان يدمي فكيف؟
    وكنز (المعز) له يبذل

    أينسى عراقته أنه:
    أبو الحرب أو طفلها الأول

    ومازال تنجبه كل يوم
    (بسوس) وأخرى به تحبل

    إلى أين يسري؟ وردّ الصدى:
    إلى حيث لا يثنى الرحل

    وكان هناك سراج حزين
    يئن ونافذة تسعل

    فأصغى الطريق إلى مسمر
    كنعش ينوء بما يحمل

    وقال عجوز سها الموت عنه
    على من ننوح ومن نشكل؟

    رمى أمس (يحيى) أخاه(سعيداً)
    وأردى أبن أختي أخي (مقبل)

    فرد له جاره: لو رأيت
    متاريسنا كيف تستقيل

    تمور فتغشى الجبال الجبال
    ويبتلع الجندل الجندل

    ويهوي الجدار على ظله
    ويجتر أسواره المعقل

    وقالت عروس صباح الزفاف
    سعى قبل أن يبرد ( المحمل)

    ويوماً حكوا أنه في (حريب)
    ويوماً أتى الخبر المذهل

    وصاح فتى: أخبروا عن أبي
    وأجهش حتى بكى المنزل

    وولى ربيع مرير وعاد
    ربيع بمأساته مثقل

    وضاع المدى وصديق الرياح
    يحوم..وعن وجهه يسأل

    ويمضي به عاصف قلّب
    ويأتي به عاصف حول

    ***
    أما آن يا ريح أن تهدئي
    ويا راكب الريح أن تتعبا

    و أين ترى شاطئ الموج يا
    (براش) ويا نسمات الصبا

    ويا آخر الشوط: أين اللقاء؟
    ويا جدب أرجوك أن تخصبا

    ويا حلم،هل تجتلي معجزاً
    تحيل خطاه الحصى كهربا

    يبيد بكف، نيوب الرياح
    ويمحو بكف، حلوق الربى

    ويغرس في الذئب رفق النعاج
    ويمنح بعض القوى الأرنبا

    أيأتي؟ ويحتشد الانتظار
    يمدُ له المهد والملعبا

    ويبحث عن قدميه الشروق
    ويحفر عن ثغرة المغربا

    وعادت كما بدأت غيمة
    توشي بوارقها الخلبا

    وتفرغ أثداءها في الرمال
    وتهوي تحاول أن تشرباً

    و(صنعاء) ترتقب المعجزات
    وتحلم بالمعجزات المُجتبى

    وكالصيف شع انتظار جديد
    على الأفق وامتد واعشوشبا

    وحدق من كل بيتٍ هوى
    يراقب عملاقه الأغلبا

    ويختار أحلى الأسامي له
    ويتنخب اللقب الأعجبا

    ويخلقه فارساً يمتطي
    هلالاً ويتشح الكوكبا

    سيدنو فقد آن للسهد أن
    ينام وللنوح أن يطربا

    فعمر الرصاص كعمر سواه
    وإن طال جاء لكي يذهبا

    وقد يقمر الجو بعد اعتكار
    وقد ينجل الأحمق الأنجبا

    مارس 1966م

    ** ** **

  • 355 ابن سبيل

    ديوان مدينة الغد >  ابن سبيل

    سار والدرب ركام من غباء
    كلٌ شبرٍ فيه شيطان بدائي

    كان يرتد ويمضي مثلما
    تخبط الريح مضيقاً من عناء

    بين جنبيه جريح هارب
    من يد الموت ومسلول فدائي

    يصلب الخطو على ذعر الحصى
    وعلى جذع مدير من شقاء

    وعلى منعطف أو شارع
    من دم الذكرى وأنقاض الرجاء

    من يعي يسأله:إلى أين؟
    ضاع قدامي كما ضاع ورائي

    وإلى لا منتهى هذا السرى
    في المتاهات ومن غير ابتداء

    إنني أخطو على شلوي وفي
    وهوهات الريح أشتم دمائي

    من يؤاويني؟ أيصغي منزل
    لو أنادي أو يعي أي خباء؟

    الممرات مغارات لها
    وثبة الجن وإجفال الظباء

    وهناك الشهب غربان بلا
    أعين تجتاز غيماً لا نهائي

    وهنا الشمس عجوز تحتسي
    ظلها تصبو إلى تحديق رائي

    من دنا مني؟ وكالطيف التوي
    ونأى خلف خيالات التنائي

    من وراء التل عنت غابه
    من أفاع؟ وكهوف من عوام

    وعيون كالمرايا لمعت
    في وجوه من رماد وانحناء

    إنه حشد بلا اسم وجهه
    خلفه مرآة تزوير الطلاء

    من يرى؟ أي زحام ودرى
    إنه يرنو إلى زيف الخواء؟

    * * *
    وبلا زاد ولا درب مضى
    كالخيالات الكسيحات الظماء

    تخفق الأحزان في أهدابه
    وتناغي كعصافير الشتاء

    ينحني يستفسر الإطراق عن
    وجهه الذاوي وعن باب مضاء

    عن يد صيفية اللمس وعن
    شرفة جذلى وعن نبض غناء

    وتأنت نجمه أرسى على
    جفنها طيف خريفي الرداء

    فتملاها ملياً وارتدى
    جو عينيه أصيلاً من صفاء

    والتظى برق تضنى خلفه
    ألف دنيا من ينابيع السخاء

    وبلا وعي دنا من كوخه
    كغريق عاد من حلق الفناء

    فأحس الباب يلوي حوله
    ساعدي شوق وحضناً من بكاء

    أين من يسأله يخبره
    عن مآسيه فيحنو أو يرائي؟

    وجثا يحنو عليه منزل
    سقفه الثلج وجدران المساء

    وكما تنجر أم ضيعت
    طفلها يبحث عن أدنى غذاء

    يجتدي الصمت نداء أو يداً
    أو فماً يفتر أو رجع نداء

    ويداري الشهداء أو يرنو إلى
    ظله يختال في ثوب نسائي

    فتعاطيه مناه أكؤسا
    من دخان؟ واحتضاناً من هباء

    تحتسي أنفاسه أمسية
    عاقر تمتص ألوان الهواء

    هل هنا لابن السبيل الريح من
    موعد؟ أو هُهُنا دفء لقاء؟

    عاد من قفر دخاني إلى
    عامر؟ أقفر من ليل الغراء

    وغدا يبتدئ الأشواط من
    حيث أنهاها إلى غير انتهاء

    يقطع التيه إلى التيه بلا
    شوق أسفار ولا وعد انثناء

    وبلا ذكرى ولا سلوى رؤى
    وبلا أرض ولا ظل سماء

    عمره دوّامة من زئبق
    وسهاد وطريق من غباء

    ** ** **

    16يوليو1965م

  • 356 الشهيدة

    ديوان مدينة الغد >  الشهيدة

    كرجوع السنى لعيني كفيف
    بغتة كاخضرار نعش جفيف

    وكما مدت الحياة يديها
    لغريق على المنية موفي

    وكما ينثني إلى خفق شيخ
    عنفوان الصبا الطليق الخفيف

    رجعت فجأة رجوع وحيد
    بعد شك إلى أبيه اللهيف

    كابدت دربها إلى العودة الجذلى
    وأدمت شوط الصراع الشريف

    حدقت من ترى ومن ذا تنادي؟
    أين تمضي: إلى الفراغ المخيف؟

    وأرتها خوالج الذعر وجهاً
    بربرياً كباب سجن كثيف

    وجذوعاً له وجوه وأذقان
    وإطراقة الحمار العليف

    فتنادت فيها الظنون وأصغت
    لخفيف الصدى ووهم الخفيف

    وكما يرتمي على قلق السمع
    هدوء بعد الضجيج العنيف

    سرحت لمحة فطالعها شيء
    كإيماءة السراج الضعيف

    كان يعطي حياته للحيارى
    وعلى وجهه اعتذار الأسيف

    فأحست هناك حياً مهيضاً
    يتلوى تحت الشتاء الشفيف

    قرى بعن عمرهن على أدنى
    الخصومات والهراء السخيف

    واشرأبت ثقوبهن إلى الريح
    يسائلن: عن شميم الرغيف

    فدنت تنظر الحياة عليهن
    بقايا من الغثاء الطفيف

    والدوالي هناك أشلاء قتلى
    جمدت حولها بقايا النزيف

    وتجلت أماً تجعد فيها
    عرق الصيف وارتعاش الخريف

    سألتها عن أسمها فتبدى
    من أخاديدها حنان الأليف

    واستدارت تقص: إن أباها
    من (زبيد) وأمها من (ثقيف)

    فأعادت لها الربيع فماست
    في شبابين تالد وطريف

    نزلت ضيفة الحنان فكلنت
    لديار الضياع أسخى مضيف

    نزلت في مواكب من شروق
    وحشود من اخضرار الرفيف

    في إطار من انتظار العصافير
    ومن لهفة الصباح الكفيف

    وتهادت على الربى فتلظى
    في عروق الثلوج دفء المصيف

    وأجادت من الفراغ وجوهاً
    وجباهاً من الشموخ المنيف

    رجعت فانثنى اصفرار التوابيت
    إلى خضرة الشباب الو ريف

    ** ** **

  • 357 شعب على سفينة

    ديوان مدينة الغد >  شعب على سفينة

    كهودج من الضباب
    من الطيوف والسراب

    تزفه سفينة
    من الضياع والتراب

    ومن تخيل الغنى ومن تلهف الرغاب

    ومن حكايا العائد
    ين بالحقائب العجاب

    المتخمات بالحلى
    وبالعطور والثياب

    وبالجيوب تحتوي
    دراهماً بلاحساب

    لما أتوا تلفتت
    حتى القصور والقباب

    حتى السهوب والقرى
    حتى الكهوف والشعاب

    وكل صخر عندنا
    وكل شارع وباب

    ***
    ورغم خوفه مضى
    من غربة إلى اغتراب

    حشاه ملجأ الطوى
    عيناه مرفأ الذباب

    على الفراغ يبتدي
    وينتهي دجى العذاب

    و(مأرب) تساؤل
    متى يعود؟ وارتقاب

    و(حدة) مخاوف
    وموعد على ارتياب

    اينثني؟ فينثني
    إلى المزارع الشباب

    ومقلتا (سمارة)
    جوى (وميتم) عتاب

    يعي لهاث ربوة
    تعد أشهر الغياب

    وتشرئب ربوة
    إلى محاجر الشهاب

    تهز نهدها إلى
    مسافر بلا إياب

    تحطه جزيرة
    ويرتمي به عباب

    مسافر أضنى السرى
    وراع غيهب الذئاب

    وأقلق الحصى بلا
    مدى وأجهد الهضاب

    * * *
    من قارة لقارة
    يجوب أرحب الرحاب

    وهو على عيونها
    تساؤل بلا جواب

    فينحني ويبتني
    لها نواطح السحاب

    يضيئها ولا يرى
    يشيدها وهو الخراب

    يعيش عمره على
    أرجوحة من الحراب

    أيامه سفينة
    جنائزية الذهاب

    تزفه إلى النوى
    كهودج من الضباب

    ** ** **

  • 358 أسمار القرية

    ديوان مدينة الغد >  أسمار القرية

    من صدى البيد، والشعاب الحواشد
    بالمهاوي والضاريات السواهد

    من مدى الموت حين تحمر فيها
    شهوة الدود والقبور الزوارد

    من لياليه حين مس (عليّا)
    ليلة العرس أنه شر وافد

    أو أتى مرشداً فأوما إليه
    صاحباه أن الضحية راشد

    من صخور جلودهن حراب
    وكهوف عيونهن مواقد

    حيث للريح والتلال عروق
    من أفاع، وغابة من سواعد

    وعلى المنحنى تمدّ “صياد”
    للأذلاء حائطاً من أساود

    ولها حافرا حمار وتبدو
    مرأة، قد تزوجت ألف مارد

    من ركوب السرى على كل قفر
    لم ترده حتى خيالات رائد

    والليالي على أكف العفاريت
    نعوش، ذواهب، وعوائد

    من قوى البأس قصة تلو أخرى
    تصرع الوحش قبل نهضة قاعد

    من سؤال عن الحجاز ورد
    عن غلاء الكساء، و: التبن: كاسد

    من خصام بين الأقارب في الوا
    دي، وحرب في التل بين الأباعد

    من تثني المراتع الخضر تومي
    بالأغاني للراعيات النواهد

    من متاه الظنون تستجمع الأسما ر
    ، شعث الرؤى، وفوضى المشاهد

    بين جدرانها ركام الحكايا
    من جديد القرى وأكفان تالد

    وتجاعيد الشعوذات عليها
    كرفات تقيأتها المراقد

    وعلى كل بوحها وصداها
    تتنادى زواحف ورواكد

    تجمع القرية الشتات فتحوي
    أمسيات من عاصفات الفدافد

    وسيولاً من الفراغ المدوي
    أسهلت فوقها بطون الروافد

    وغناء كخفق بيت من القش
    تعاوت فيه الرياح الشدائد

    وبخوراً وشادياً من جليد
    ونداء: كم في الصلاة فوائد

    يحشر السمر الضجيج عليها
    من شظايا نعش السنين البوائد

    يتلاقيان كلما حشرج الطبل
    وأعلى الدخان ريح الموائد

    فيقصون كيف طار (ابن علوان)؟
    وماذا حكى (علي بن زائد)؟

    عن مدار النجوم وهي عيد
    عن فم الغيب أو برق المواعد

    عندما تسبل الثريا عشاء
    عقدها تحبل السحاب الخرائد

    وإذا الغرب واجه الصيف بالأر
    ياح باعت عيالها (أم قالد)

    ويعودون يغزلون من الرمل
    ودود البلى، عروق المحامد

    فيلوكون معجزات (فقيه)
    يحشد الجن والظلام يشاهد

    ومزايا قوم يصلون في الظهر
    وفي الليل يسرقون المساجد

    وحكايا تطول عن بائعات الخبز
    كم في حديثهن مكايد

    عن بنات القصور يقطرن طيباً
    كرواب من الورود الفرايد

    أو كصيف أجاد نضج العطايا
    أو ربيع في البرعم الطفل واعد

    شعرهن انثيال فجر خجول
    ظله في عيونهن مراود

    كلهن استمحنهم فتأبت
    حكمة الطين فيهم أن تساعد

    ويتوبون يستعيذون بالله
    لأن الإناث نبع المفاسد

    ويودون لو يعود زمان
    كان ثر الجنى عميم الموارد

    ويسبون حجة طوت الزاد
    فلاك الفراغ جوع المزاود

    وتناءت أسمارهم وتدانت
    مثلما تختفي الرؤى وتعاود

    والتقوا ليلة عجوزاً توارت
    في أخاديدها النجوم الخوامد

    فابتدوا ثرثراتهم وأعادوا
    ما ابتدوا من رواسب وزوائد

    وعلى صمتهم تهيأ شيخ
    مثلما تخفق الطيوف الشوارد

    فحكى قصة تململ فيها
    كل حرف، كأنه قلب حاقد

    وتعالى فيها التبجح بالثأر
    فهاجت مستنقعات العوائد

    وتنادوا.. لبيك يا عم هيا
    كلنا سائرون لا عاد واحد

    إنها ساعة إليهم فكروا
    عميت عنكمو العيون الحواسد

    واشرأبت بيوتهم تلمح الشهب
    دما في ملامح الأفق جامد

    وتعايا فيها النعاس تعايي
    طائر موثق الجناحين بارد

    ومع الفجر ساءل السفح عنهم
    جدولاً، في ترقب الفجر ساهد

    فرآه يهفو، يمد ذراعيه
    ويومي لها بأهداب عابد

    وارتمى يحتسي عبير خطاها
    ويعاني وخز الحصى ويكابد

    ودنت فالتوى على صبح ساقيها
    يناغي ويجتدي ويراود

    من أتته؟ فلاحة مشطها الشمس
    عليها من الشروق قلائد

    وقميص من الندى ماج فيه
    موسم، نابض الأفانين مائد

    وانثنت مثلما يميس عمود
    زنبقي تشتم أخبار (قائد)

    وعلى فجأة تلقت خطاها
    من غبار الصدى، غيوم رواعد

    أي شيء جرى؟ وتصغي وتعدو
    وتداري، نشيجها فيعاند

    وترامت مناحة القرية الثكلى
    كما يزخر انفجار الجلامد

    ودنت من ترى؟ أبا طفلتيها
    وهو جذع من الجراحات هامد

    وعجوزاً تبكي وحيداً وأطفالاً
    كزغب الحمام يبكون والد

    وجريحاً يصيح أين يداي
    أين رجلاي؟ هن ما كنت واجد

    وشقيقاته يمتن التياعا
    ويهبن له القلوب ضمائد

    يرتمي يرتمين يجثو فينصبن
    له من صدورهن وسائد

    وعواء النجيع في الساح يدوي
    يذهب الحاقدون والحقد خالد

    أحمق الحمق أن تصير الكراها
    ت تراثاً، أو يستحلن عقائد

    وعلى إثر من مضوا عادت الأسما
    ر تحيا على أصول القواعد

    وتباهي: أردوا صغيرين منا
    وقتلنا منهم ثلاثين ماجد

    وتعيد الذي أعادت دهوراً
    من صدى البيد والشعاب الحواشد

    يوليو 1964م

  • 359 اليوم الجنين

    ديوان مدينة الغد >  اليوم الجنين

    على الدرب والمرتع
    يجود، ولايدعي

    يوشي غناء الحقول
    وأنشودة المصنع

    ويعطي حياة.. بلا
    نيوب ولا مصرع

    يشد أبض الخصور
    إلى أعطش الأذرع

    ويسخو سخاء المصيف
    على الطير والضفدع

    على السفح والمنحنى
    على السهل والأرفع

    أتشتم أنفاسه
    طيوف الربى الهجع

    هناك رؤى مهده
    نبيذية المنبع

    حمام من الأغنيات
    على جدول ممرع

    مرايا هوائية
    سرابية المخدع

    وغيب وراء القناع
    ووعد بلا برقع

    هناك انتظار يحسّ
    خطاه وحلم يعي

    ودفءٌ صريع يحن
    إلى لمسه المبدع

    وواد يصيخ إلى
    تباشيره اللمع

    فأحلم أن الجنين
    وليد بلا مرضع

    فألوي زنود الحنان
    على خصره الطيع

    ويحبو على ساعدي
    فأرضعه أدمعي

    وينأى، فترنو الكوى
    يفتشن عنه معي

    ويرتد، حلم مضى
    ويمضي، بلا مرجع

    وتحتشد الأمسيات
    على العامر البلقع

    فأرجوه أن يشرئب
    إلى شرفة المطلع

    أمد له سلماً
    إلى النور من أضلعي

    وأشدو لميلاده
    ويصغي بلا مسمع

    فأبكيه في مقطع
    وألقاه في مقطع

    مايو1965م

  • 360 امرأة الفقيد

    ديوان مدينة الغد >  امرأة الفقيد

    لم لا تعود؟ وعاد كل مجاهد
    بحلى (النقيب) أو انتفاخ (الرائد)

    ورجعت أنت، توقعاً لملمته
    من نبض طيفك واخضرار مواعدي

    وعلى التصاقك باحتمالي أقلقت
    عيناي مضطجع الطريق الهامدِ

    وامتد فصل في انتظارك وابتدا
    فصل، تلفح بالدخان الحاقد

    وتمطت الربوات تبصق عمرها
    دمها وتحفر عن شتاء بائد

    وغداة يوم، عاد آخر موكب
    فشممت خطوك في الزحام الراعد

    وجمعت شخصك بنية وملامحاً
    من كل وجه في اللقاء الحاشد

    حتى اقتربت وأم كل بيته
    فتشت عنك بلا احتمال واعد

    **
    من ذا رآك وأين أنت؟ ولا صدى
    أومي إليك، ولا إجابة عائد

    وإلى انتظار البيت، عدتُ كطائر
    قلق ينوء على جناح واحد

    **
    لا تنطفي يا شمس: غابات الدجى
    يأكلن وجهي يبتلعن مراقدي

    وسهدت والجدران تصغي مثلما
    أصغي، وتسعل كالجريح الساهد

    والسقف يسأل وجنتي لمن هما؟
    ولمن فمي؟وغرور صدري الناهد؟

    ومغازل الأمطار تعجن شارعاً
    لزجاً حصاه من النجيع الجامد

    وأنا أصيخ إلى خطاك أحسها
    تدنو، وتبعد، كالخيال الشارد

    ويقول لي شيء، بأنك لم تعد
    فأعوذ من همس الرجيم المارد

    **
    أتعود لي؟ من لي؟ أتدري أنني
    أدعوك، أنك مقلتاي وساعدي

    إني هنا أحكي لطيفك قصتي
    فيعي، ويلهث كالذبال النافد

    خلفتني وحدي، وخلفني أبي
    وشقيقتي، للمأتم المتزايد

    وفقدت أمي: آه يا أم افتحي
    عينيك، والتفتي إلي وشاهدي

    وقبرت أهلي، فالمقابر وحدها
    أهلي، ووالدتي الحنون ووالدي

    وذهلت أنت أو ارتميت ضحية
    وبقيت وحدي، للفراغ البارد

    **
    أتعود لي؟ فيعب ليلي ظله
    ويصيح في الآفاق أين فراقدي؟

    أكتوبر1964م

  • 361 عائد

    ديوان مدينة الغد >  عائد

    من أنتَ، واستبقت جوابي
    لهب، يحن إلى التهاب

    من أنت، عزاف الأسى
    والنار قيثار العذاب

    وعلى جبينك، قصة
    حيرى، كديجور اليباب

    وخواطر، كهواجس الافلا
    س، في قلق المرابي

    وانا اتدري: من أنا؟
    قل لي،وأسكرها اضطرابي

    سل تمتمات العطر: هل
    (نيسان) يمرح في ثيابي؟

    من هذه؟ أسطورة الـ
    أحلام، أخيلة الشهاب

    همساتها، الخضر الرقاق
    أشف من ومض السراب

    إني عرفتك كيف أفرح؟
    كيف أذهل عن رغابي؟

    من أين أبتدىء الحديث…؟
    وغبت في صمت ارتيابي

    ماذا أقول، وهل أفتش
    عن فمي، أو عن صوابي

    من أنت، أشواق الضحى
    قبل الأصيل، على الهضاب

    حلم المواسم، والبلابل
    والنسيمات الرطاب

    أغرودة الوادي، نبوغ العنـ
    دليب… شذى الروابي

    وذهول فنان الهوى
    ورؤى الصبا وهوى التصابي

    وهج الأغاني، والصدى
    حرق المعازف، والرباب

    لا تبعدي: أرست على شطآ
    نك النعسى، ركابي

    فدنت تسائل من رفاقي
    في الضياع؟ ومن صحابي؟

    هل سآءلتك مدينة
    عني؟ وسهدها مصابي

    كانت ترى نكبات أهلي
    في شحوبي واكتئابي

    فتقول لي: من أين أنت؟
    وتزدريني، بالتغابي

    أنا من مغاني شهرزاد
    إلى ربى، الصحو انتسابي

    بي من ذوائب (حدة)
    عبق السماحة والغلاب

    وهنا أصخت ووشوشا
    ت (القات) تنبي باقترابي

    وأظلنا جبل ذراه
    كالعمالقة الغضاب

    عيناه متكأ النجوم
    وذيله، طرق الذئاب

    فهفت إلي مزارع
    كمباسم الغيد الكعاب

    وحنت نهود الكرم
    فاسترخت للمسي واحتلابي

    وسألت (ريا) والسكو
    ن ينث وهوهة الكلاب

    ماذا؟ أينكر حينا
    خفقات خطوي وانسيابي؟

    انا تلاقينا… هنا،
    قبل انتظارك… واغترابي

    هل تلمحين الذكريات
    تهز أضلاع التراب؟

    وطيوف مأساة الفراق
    تعيد نوحك وانتحابي

    والأمس يرمقنا وفي،
    نظراته خجل المتاب

    كيف اعتنقنا للوداع
    وبي من اللهفات ما بي؟

    وهتفت: لا تتوجعي
    سأعود، فارتقبي… إيابي

    ورحلت وحدي، والطر
    يق دم، وغاب، من حراب

    فنزلت حيث دم الهوى
    يجتر، أجنحة الذئاب

    حيث البهارج والحلي
    سلوى القشور عن اللباب

    فترين ألوان الطلاء
    على الصدوع، على الخراب

    والتسليات، بلا حساب
    والملال، بلا حساب

    والجو محموم، يئن
    وراء جدران الضباب

    كم كنت أبحث عن طلابي
    حيث ضيعني طلابي

    واليوم عدت، وعاد لي
    مرح الحكايات العذاب

    ما زلت أذكر كيف كنا
    لا ننافق، أو نحابي

    نفضي بأسرار الغرام
    إلى المهبات الرحاب

    والريح تغزل من زهو
    ر (البن)، أغنية العتاب

    فتهزنا أرجوحة
    من خمرة الشفق المذاب

    وكما تناءينا التقينا
    نبتدي صفو الشباب

    ونعيد تاريخ الصبا
    والحب، من بدء الكتاب

    أترين: كيف اخضوضرت
    للقائنا مقل الشعاب؟

    وتلفت الوادي إليك
    وهش، يسأل عن غيابي

    ما دمت لي فكويخنا
    قصر، يعوم على السحاب

    والشهب بعض نوافذي
    والشمس، شباكي وبابي

    صنعاء سبتمبر 1963م

  • 362 مدينة الغد

    ديوان مدينة الغد >  مدينة الغد

    صنعاء 30يونيو سنة 1967م
    من دهور… وأنت سحر’ العبارة
    وانتظار المنى وحلم’ الاشارة

    كنت بنتَ الغيوب دهراً فنمَّت
    عن تجليّك حشرجات’ الحضارة

    وتداعي عصر يموت ليحيا
    أو ليفنى، ولا يحسَّ انتحاره

    جانحاه في منتهى كل نجم
    وهواه’، في كل سوق: تجاره

    باع فيه تأله الأرض دعواه
    وباعت فيه الصلاة’ الطهاره

    أو ما تلمحينه كيف يعدو
    يطحن الريح والشظايا المُثاره

    نم عن فجرك الحنون ضجيج
    ذاهل يلتظي ويمتص ناره

    عالم كالدجاج، يعلو ويهوي
    يلقط الحب، من بطون القذاره

    ضيع القلب، واستحال جذوعاً
    ترتدي آدميةً… مستعاره

    ***
    كل شيء وشى بميلادك الموعود
    واشتم دفئه واخضراره

    بشرت قرية بلقياك أخرى
    وحكت عنك نجمة لمناره

    وهذت باسمك الرؤى فتنادت
    صيحات الديوك من كل قاره

    المدى يستحم في وعد عينيك
    وينسى في شاطئيه انتظاره

    وجباه الذرى مرايا تجلت
    من ثريات مقلتيك شراره

    ***
    ذات يوم، ستشرقين بلا وعد
    تعيدين للهشيم النضاره

    تزرعين الحنان في كل واد
    وطريق، في كل سوق وحاره

    في مدى كل شرفة، في تمني
    كل جار، وفي هوى كل جاره

    في الروابي حتى يعي كل تل
    ضجر الكهف واصطبار المغاره

    ***
    سوف تأتين كالنبوءات، كالأمطار
    كالصيف، كانثيال الغضاره

    تملئين الوجود عدلاً رخياً
    بعد جور مدجج بالحقاره

    تحشدين الصفاء في كل لمس
    وعلى كل نظره وافتراره

    تلمسين المجندلين فيعدون
    تعيدين للبغايا البكاره

    وتصوغين عالماً تثمر الكثبان فـ
    يه، ترف حتى الحجاره

    وتعف الذئاب فيه، وينسى
    جبروت السلاح، فيه المهاره

    العشايا فيه، عيون كسالى
    واعدات، والشمس أشهى حراره

    لخطاه عبير (نيسان) أوأشـ
    ذى لتحديقه، أجد‘ اناره

    ولالحانه، شفاه صبايا
    وعيون، تخضر فيها الاثاره

    أي دنيا ستبدعين جناها
    وصباها فوق احتمال العباره؟

  • 363 لليلة نعي.. محمد الحيمي رئيس مؤسسة الطيران اليمني

    رجعة الحكيم بن زائد >  لليلة نعي.. محمد الحيمي رئيس مؤسسة الطيران اليمني

    من نعوا؟ من ذا أباكي أو أدامي؟
    بت وحدي اثنين: مرمياً ورامي

    وقتيلين كلانا، لاهنا
    خفقة تهمس: يا أشباح نامي

    أينا الأقتل؟ هل تشتف من
    عود الأطياف تدخين حطامي؟

    أينا أعرى؟ ولو قال الكسا
    خذ، لقال انسج بديلاً عن قوامي

    * * *

    هل ترى ليلتنا عيدية؟
    ما لها تسمية، “قلت حذامي”

    يا سلام اليوم، من حنى الثرى؟
    كسرة أغرت حمامي بحمامي

    أصبحت كل بلادٍ مسلخاً..
    هكذا بوابة العصر السلامي

    كالذي يطفو على (كرواتيا)
    أو على (الصومال) قد يدعى (شبامي)

    لا ترى هذا، أر ى الحرب ابتدت
    وابتدا يطبخني سيف انقسامي

    * * *

    أينا استغمض صوت النعي، قل:
    كان رعب الليل في السمعين طامي

    لا تعي أنت، ولا أصغي أنا
    والثواني استنقعت أمست هوامي

    * * *

    الإذاعات تنادي: سادتي
    سيداتي، قل أضيفي يا غلامي

    أم كلثوم تشاجينا، أصخ
    مذهب (الأخوان) فيهن قطامي

    أنت من أي؟ أنا أرجو غداً
    أنتمى فيه إلى أي الأنام

    أينا أأسى وأعيى رنة؟
    يا شجى هذي المزامير عظامي

    * * *

    أي حيمي نعوا؟ هم كثرة
    من يقوينا على عد الأسامي؟

    إنه من كنت أخشى فقده
    والتلات تمني وتظامي

    هل حكى المذياع من أخباره
    ما يفي؟ هل قال من أي الحيام؟

    حينما قال اسمه أومى إلى
    فيلقٍ، هذا عمىً، يبدون تعامي

    كاد يدعوه: رئيس ال.. فانطوى
    صوته، أو غاب سمعي في احتدامي

    * * *

    أخر العهد به أمس الضحى
    كان أعدى أمس من ظبي الموامي

    أين تقرير الأفندي؟ قلت: خذ
    حققوا بين المضيفات، و(سامي)

    وإلى (المستقبل) استفتحتها
    بالوفيات، فأحسست إنهدامي

    كان يفضي، خلته قال لهم:
    احجزوا لي، عندكم يحلو مقامي

    كدت استفتيه، لبى هاتفاً:
    مرحباً، أهلاً، نعم كل اهتمامي

    ربما قال: إلينا فمضى،
    تاركاً للحيرة الشعثا زمامي

    * * *

    إنه من قلت هل جربت ما
    أصدق القلب، ومن قلبي كلامي

    كلما قال: (هنا صنعا)، جرى
    أو سيجري.. يضحك العكس أمامي

    أتصل، غير عليم بيت من…
    تلك اخلاق (العراجيف) (الغطامي)

    هل أتى من حيه جار، وفي
    أي حي بيته؟ في كل نامي

    قل: لماذا اليوم أودى، ونجا
    بين موتين: مرابٍ، وانهزامي

    ما اسم رمز السر؟ (حرف الحا) أفق
    كنت قبل الآن ألتاث حزامي

    * * *

    قربنا تل يوشي خبراً:
    مر سارٍ، قال شيئاً عن سنامي

    أي شيء قال؟ أصبى قامتي
    فاستحالت أعيناً خضراً مسامي

    لاح طفلي يوم كنت امرأة..
    وربيعي، إذا أنا إحدى الإكام

    يسبق الدرب، وكي أتبعه
    كالنشايا، أسبق الآن اقتحامي

    هل أحيي عنك ذاك المنحى:
    أعين الغربان، كي يخفى التزامي

    * * *

    كان تفسير هوى الشعب، يرى
    حيث يومي عنبيا أو غمامي

    صادراً عنه، ومنه رامياً
    بيديه رأسه أقصى المرامي

    صاعداً عن أمره هام الذرا
    متهماً عنه، كموالٍ تهامي

    حاملاً من قلبه محبرةً..
    ما جرى في بالها: ميمي ولامي

    * * *

    من هنا يسري، ويغدو ها هنا
    والمنايا حوم جوعي دوامي

    والعصا والذبح ليلاً وضحىً
    سيد الأحكام والشرط الزعامي

    يصبح القبر ملاذاً عندما
    ترتدي فوضى الفلا، شكلاً نظامي

    * * *

    من دعا (الحيمي) إلى أن ينطفي
    والدجى كالقحط، محمي وحامي؟

    يا صديق الناس قلباً ويداً
    مأتم الأنقى هوىً، عرس حرامي

    فلماذا مت، كم أحرقني
    بارق أرضعه الشوق غرامي؟

    * * *

    أينا أرثى؟ ومن يسألنا
    عن جمال الحرب في السلم الدرامي؟

    “عن مدير الجام، هل جام لنا؟
    فتآوي أنجم الستين جامي”

    عن أبي ذر أنفشي؟ ندعي
    قل: (سنوسي)، أنا (أدعوه يامي)

    * * *

    هل سها (العيوق)، أو غام السرى؟
    قال(سعد الذابح): الثور أمامي

    ما ترى يا (ديك) بيت (المهتدي)؟
    هل عفا الحراس يا كلب (المشامي)

    * * *

    ساعة أخرى، ونغدو من دجىً
    ما له بعد، إلى صبحٍ ظلامي

    مسبق النعش إلى غرفته..
    نسأل الأخبار، تمزيق اللثام

    غائصاً أنت، بفحوى لمحها..
    وأنا شاك إليها حمل هامي
    * * *

    أين بيت العزي الحيمي، رنا
    ذلك المصغي كعرافٍ يمامي

    مات هذا الأمس، أورى للحشا
    مخرم ابن السبع، والكهل العصامي

    بيته ليس شهيراً كاسمه
    قلبه قصران: وردي، خزامي

    * * *

    ربع قرنٍ صحبه، ما زرتما..
    داره، لا زار، هذا بحث عام

    هل أقول ارتاب؟ لا أعرفه
    فعلى أيكما أذكي ملامي

    ذلك استوفى مداه (نصفاً)
    وأنا الشيخ هنا، بعد تمامي

    بيته خلف سبا، قدامه
    شبه نادٍ، خلفه بيت (النعامي)

    * * *

    كاد يلقانا اسمه الموشى على
    مدخل المبنى، كتوقيعٍ هشامي

    تلك سيارته، قالت لمن
    آل ملكي، ليس لي غير انحطامي

    هل ترى ذا بيته، خمنته..
    بدوياً، يكتسي جلد رخامي

    حجمه ما امتد شبراً، هل
    أبى أن يجاري أي جار، أو يسامي؟

    * * *

    ما الذي يا بيت تروي بعده؟
    بعده جفت دموعي، وابتسامي

    خلته قال: دخلت المبتدا
    باكياً، والان مبكيا ختامي

    1992م

  • 364 فاتحة

    ديوان مدينة الغد >  فاتحة

    18/3/1968م
    يا صمت ما أحناك لو تستطيع
    تلفّني، أو أنني أستطيع

    لكن شيئاً داخلي يلتظي
    فيخفق الثلج، ويظمى الربيع

    يبكي، يغني، يجتدي سامعاً
    وهو المغنّي والصدى والسميع

    يهذي فيجثو الليل في أضلعي
    يشوي هزيعاً، أو يدميَّ هزيع

    وتطبخُ الشهبُ رماد الضحى
    وتطحن الريحُ عشايا الصقيع

    ويلهث الصبحُ كمهجورة
    يجتاح نهديها خيالُ الضجيع

    ***
    شيء يناغي، داخلي يشتهي
    يزقو، يدوًّي، كالزحام الفظيع

    يدعو، كما يدعو نبي، بلا
    وعي، وينجر انجرار الخليع

    فيغتلي خلف ذبولي فتى
    ويجتدي شيخ، ويبكي رضيع

    يجوع حتى الصيف ينسى الندى
    ميعاده، يهمي شهيق النجيع

    ويركض الوادي، وتحبو الربى
    ويهرب المرعى، ويعيا القطيع

    ما ذلك الحمل الذي يحتسي
    خفقي، ويعصي ذاهلاً أو يطيع

    يشدو فترتد ليالي الصبا
    فجراً عنيداً، أو أصيلاً وديع

    وتحبل الأطياف تجني الرؤى
    ويولد الآتي ويحيا الصريع

    فتبتدي الأشتات في أحرفي
    ولادة فرحى، وحملا وجيع

    ***
    هذه الحروف الضائعات المدى
    ضيعت فيها العمر، كي لا تضيع

    ولست فيما جئته تاجراً
    أُحسُّ ما أشريوماذا أبيع

    إليكما يا قارئي انها،
    على مآسيها: عَذاب بديع

  • 365 من ذا بقي

    رجعة الحكيم بن زائد >  من ذا بقي

    لأن الذين طفوا كالزبد
    أحلوا الشظايا محل البلد

    سروا يستبث القناع القناع
    نقي أوجهاً، أم فروج النكد

    أعني على ذلك المنحني
    إليه التصق، بل على (ابن القمد)

    لماذا أهي، هل تهي أنت يا؟
    تقاويت أجهد حتى الجهد

    ومن نستمد، وأقدام من
    شوونا على أعين المستمد؟

    لماذا تغطوا؟ ولاناظر
    أدر أيها الطيف جمر السهد

    * * *

    ألاهل أشاكيك يا (مشتري)
    لياليك بعن النجوم الرصد؟

    وكنت أدير الكرى عن أبي
    ويسرقن من حمله من هجد

    * * *

    بدأن يوردن إيماءهن
    يغازلن في الجذع شوق الملد

    زقت -نصف خمسين- أمسية
    لدي يا قبور، انكسر يا زرد

    وعن (معبد القمر) استخبرت
    فقيل: أضاع السنا من عبد

    * * *

    دعت ليلة عام سبعين: يا
    (سهيل) اروعني إلى أم غد

    وكيف؟ كما أومأت جدتي
    إلى (ليلة الفيل) قولي: نفد

    وعن (ليلة الغار) أزجت أسى
    إلى (ليلة الدار) قبل الأمد

    * * *

    وقال: حنت قامتي (كربلاً)
    فمي في يد (الشمر)، نهجي شرد

    يدامي حسام أبيه (الحسين)
    ولا ذاك أغضى ولا ارتعد

    عليك تمردت يا (ذا الفقار)
    وشذ (ابن سعدٍ) على ما مرد

    * * *

    فقال (سهيل): أنيبي (السهى)
    ألست اليماني؟ عليها أحتقد

    غد قال: يا أم أودى (سهيل)
    بحب (الثريا) ليبقى الكمد

    * * *

    سأخبرها في رؤى النوم كي
    تدوس الفحيح الذي ما رقد

    أخاف عليها من اللا تخاف
    فتغفو دماً فوق دامٍ جمد

    أتصغين؟ إصغاء صدري إليه
    حنين القلوب إليها أمد

    لأن مسافة نقر الجوى
    من (الصين) تنقر قلب (الجند)

    * * *

    عشاياك فوج كصفر الربى
    فريق يعد، وثانٍ يعد

    تلي كل قافلة أربعاً
    من الرازقيات ذات الغيد

    فكوني من البدء معدودةً
    وكيف- وماقال غصني نهد؟

    بدراعتي طفلة حامل
    فهزي صبياً بقلبي التحد

    ألست يمانية أعشقت
    ثقيفاً) غريبات (وادي ثمد)؟

    * * *

    خذي يا بنتي الآن ذاك الكتاب
    وماذا يسمى؟ مطايا معد

    وأين أراه؟ يسار الدخول
    عجوزاً على دفترين استند

    لجيه من البدء حتى الختام
    وسوف تلمين شتى الأبد

    وتعطين (لقمان) عكازه
    ولاتفزعي إن دعا: قم (لبد)

    ستلقين أخباره صفحةً
    وفصلاً يقول: عليها انعقد

    خذيه إليك بقلب الحنين
    تري كيف يصبو وقار الجلد

    * * *

    سيشدو قميصك: ماذا امتلأت
    ويستسئل البيت: ماذا وجد

    كلي كل حرفٍ، لكي تقرئي
    ب(شملان) وجه الرؤوس المشد؟

    ومن ذا دعا مدداً باسمه
    وأمسى وصي امتداد المدد؟

    وكيف وشي بالغموض الغموض؟
    بسرية النار يلقى بدد

    * * *

    وفي عمر حمل يلي ذاك، ذا
    أما القبر كالبيت يهوى الرغد؟

    آفاق الضحى قبل سكر الدجى
    أقبل الأبوة يأتي الولد؟

    لأن الذي يقع الآن ما
    له واقع، وادعى وانتقد

    زمان البلستيك لا يقتدي
    ولا يهتدي، يشتهي لا يود

    وماذا؟ أعيدي عليك السؤال
    وقولي: من اليوم عنك الأجد

    * * *

    سمعت وصيتها يا صلاح؟
    لبعض الليالي نبوغ الرأد

    أجاب (رجا): ألفت أمها
    كتاباً بفتح الغيوب انفرد

    وقالت: قبيل ضياء النيون
    أضأنا من القلب والمعتقد

    * * *

    تلهى (مجلي) كبا كاشف
    بلا أي صوتٍ؟ لغا وازدرد

    -أذي رجة؟ مدفع من هناك
    هنا مسجد جربوه سجد

    بناه مرابٍ، غدا صالحاً
    على موجة الشيخ عبد الصمد!

    نوى (مصطفى) أن يرى: أوشكوا
    وقيل: اتئد يا عقيد التأد

    لأن هنالك سريةً
    سكوت الطواري غموض (الحرد)

    سل الباب من؟ عاد (ناجي) أجب
    نجا (حامد) واستقادوا (حمد)

    مدير الإذاعة؟ أنبوبة
    بسيارة الضابط المعتمد

    و(طه) أتم الكتاب الجديد
    وماعنده؟ قال لما يكد

    (أزال) صفيحية، لا لقد
    بها (لبد)، لا لسوف (سبد)

    * * *

    أكر الألى أبدوا كالدخان
    ولا من يرى زبداً أو زبد!

    تشظوا رصوصاً أمات الأزيز
    تهجى عناوين من وارتمد

    * * *

    ومرت ثوانٍ كإعصار (عادٍ)
    ثوانٍ كحيات صحراً (أسد)

    أقلت الذي ما استهل انتهى
    – إذا أخبروا قام، قيل اتسد

    وما أثبت (الآنسي)، لا نفى
    لأن النشيد استحر، ابترد

    وقال النواح: رموا لفني
    رماد الصدى سائلاًً ما انخمد

    * * *

    قبيل الضحى أقبلوا استقبلوا
    من استوفدا؟ أين؟ من ذا وفد؟

    تبينتهم كمنوا للحمى
    بآباطه لصق نبض الجسد

    وسلوه من جلده ما دروا
    من استلبوا، ما درى ما افتقد

    لأن الفراغ انتقى واحداً
    له نصف رايٍ وعشرون يد

    أروه الرياح انحنت فامتطى
    وأعلى حشاه، قفاه احتشد

    كموءودةٍ زفت الدود من
    فقاها إلى أنفها من وأد

    لأن الرؤوس تهاوت رقىً
    وما اجتاز وهدته إذ صعد

    أتعرف من ذاك يا (بيت بوس)؟
    كما يعرف الذئب راعي (النقد)

    أعني ستكتب أمثاله؟
    فلان، فلان، وينسى العدد

    تقيس على (الحمدي) من يرى
    بكل بياضٍ نقاء البرد

    فكم نشد النهج حتى ارتمى
    إلى قدميه الذي ما نشد

    * * *

    وكان (حضور) إلى (الحيمتين)
    ينث حكايات (وادي ضمد)

    و(علوان مهدي) يصفي يضيف
    إلى ما سيسرد فصلاً سرد

    ونهراً يسمى (خليل الوزير)
    تلوى، ومن ربوتين اطرد

    وأمسى (شبام) يريب الدجى
    أ (طابا) دنت و(الخليل) ابتعد؟

    أما نفثت (صفد) أهلها
    وفي (الأحمدي) نبحتهم (صفد)!

    * * *

    لماذا تشتم الرياح الرياح
    كما قيل عن زوج ذات المسد؟

    أمن بعد سبع نوى (سالمين)
    ينافي -ضحى اليوم- نهج الرشد؟

    وعن ما قريبٍ يليه (الأمين)
    لها ناظم العقد عن ما عقد

    هنا شم (سعد) (مريساً) يصيخ
    إلى هاتفٍ: أي غيب ورد!

    فأصغى (مجلي) حكى (اليافعي):
    هناك الذي لا نراه استعد

    أغير الذي كان أمس انثنى؟
    علينا انتضانا، وفينا انغمد

    * * *

    فنادى (مريس): ألا تسمعون؟
    أطلتم على السفسفات اللدد

    (حميد بن منصور) يتلو الربى
    أقلتن كل هلالٍ همد؟

    فما أنضجت دورة دورها
    كأهلي، أغص المدار الكبد

    إليه ستلقون أفتى فتىً
    وأهدى إلى حرق أدجى العقد

    ضمير الحمى منتمى غرسه
    وفيه صبا، والتحى، واتقد

    لمن فيه ما فيه، لا فرق، لا
    تقل يا (حميد) ارتأى واجتهد

    وقل قال: أيام حصد الجراد
    لحوماً بدون عظامٍ حصد

    * * *

    أتاكم (حميد): عموا ضحوةً
    تعايون أمراً، ف ماذا استجد؟

    تلظى (المعلا) و(نجد)، و(قم)
    ومن قال: سوق التعادي كسد!

    متى ضرجت ليلة أختها؟
    إذا وسوس الود ضج الحسد

    أعام ثمانين أطغى السنين؟
    يغطي الجديد القديم الأشد

    غشى قبل عامين (شملان) من
    قحازة) حتى جبين (العند)

    تبصر ثمانين ماذا يلف
    وعيداً وفى، أم بشيراً وعد؟

    لماذا تعاوى، وأعوى، متى
    وكيف ارتمى، لا يلاقي مرد؟

    أيدعى غداً ثورةً؟ ربما
    أعاد (الجنابي) كما قيل: قد

    * * *

    تهاجى بمكة شعر الحريق؟
    ومن ذا أجاب؟ نرى بعد غد؟

    وهل ليلة (الحمدي) أنشدت؟
    جلت قصدها، أنطقت ما قصد

    * * *

    إذا المستبد على المستبد
    نرقى، بعدوى المكان استبد

    فخط (حميد) على قلبه
    مقولتها، وحباً وارتفد

    وقال: برامكة اليوم ما
    بهم (جعفر)، لا ألب ذو أيد

    عيالي، هنا يمن واحد
    وكي لا يرى، من يسمى اتحد!

    * * *

    أقتل الثلاث القيادات من
    غبار السنين الثلاث انجرد؟

    لذي البعد قبل، سلوا ما انتوى
    ومن جمر الغيم من ذا رعد؟

    أتى لي* الهدى صاح: أين القصاص؟
    هل (الأحنف) اقتاد ركب (القود)

    أليس الذي بالجباه الثلاث
    سخا بيدٍ، بيدين استرد؟

    وقالوا: انتخاب، فمن ذا على
    مواقفه، أو هداه اعتمد؟

    شروا خيباً، أعلنوا فوزهم
    ومن فاز لم ينتخبه أحد

    فما غاب من عاد، حتى يعود
    إليه، وقام الذي ما قعد

    * * *

    أقبر (حميدٍ) كتاب يجود
    على الحي ما لم يدر في خلد؟

    ومن ذا بقي غير أذكى القبور
    يرى راكداً، قلبه ما ركد

    1993م

  • 366 وردة المستهل

    رجعة الحكيم بن زائد >  وردة المستهل

    أتى قالوا: أتى من أين؟
    أكان مسافراً يا (زين)؟

    وعاد أباً بلا ولدٍ
    حسينياً بدون (حسين)

    * * *

    ومن يدعى؟ خزامياً
    وأحياناً أبا النجمين

    له شعبية أخرى
    كأن الصدق فيها المين

    * * *

    سمعت الصبح جارتنا
    تغنت باسمه صوتين

    وقالت لابن ضرتها:
    ألسنا اليوم في عيدين؟

    فلبى منيةً ظلت
    تناغي قلبه عامين

    * * *

    وقال فتىً: أتى أقوى
    وحان على عداه الحين

    أأنت رأيت طلعته؟
    ونزلته إلى (النهرين)

    وبسمته التي انصبت
    على جيد الضحى عقدين

    وكيف رأيته؟ قمراً
    وكدت أشمه فجرين

    * * *

    أمن صنعا مضى؟ ومتى؟
    ثواني قتل (يحيى الرين)

    صبيحة أرخت الليل
    ذوائبها على (النهدين)

    وألقت أم سنبلة
    عباءتها على الريحين

    * * *

    وقالت لي (أزال): قل
    كعادتها شدت لحنين

    وللرامي وللمرمي
    أضاءت ساحة البابين

    تمد ولاترد يداً
    أليست بنت ذي القرنين؟

    * * *

    وعني خط (وضاح)
    عناويناً وياءً غين

    هدى المعنى إلى المعنى
    فصولاً، فاصلاً، فصلين

    ومصباحاً فإصباحاً
    وعنقودين عنقوديم
    * * *

    ووشى شبه خاتمة
    تشي عن رمز عنوانين

    وقال الخا: ألي تاء
    تبرعم وردة البدأين

    1993م

  • 367 رجعة الحكيم بن زائد

    رجعة الحكيم بن زائد >  رجعة الحكيم بن زائد

    من أين؟ من باب الذي ما ابتدا
    أزمعت أرمي بي دماً، أو ندى

    بداية من آخر المنتهى
    شبيبة من خلف شيب الردى

    براءةً ما ولدت تربة
    لها، وتنوي الآن أن تولدا

    كسرة التفاحة اخضوضرت
    تأهبت من قبل أن تنهدا

    * * *

    طلعت مما كان قبري الذي
    أمسى قبوراً نوماً سهداً

    أقتاد جنا، من حليب السهى
    يبيضون (العنسي الأسودا)

    أعرى من الصحرا، فإن عضهم
    برد، ترى هذا بذاك ارتدى
    * * *

    أهفوا إلى من لست أدري، وهل
    أجيب صوتاً أو انادي الصدى؟

    أختار نهجاً، ما مشت خوذة
    عليه، لا والٍ إليه اغتدى

    يرى القوى قبض الرياح التي
    شاخت، ومازال اسمها أمردا

    من حيث تنهي تبتدي مثلما
    تحدد الأكذوبة الموعدا

    * * *

    هل كنت في عصرٍ بلا دولةٍ؟
    فوضاه أرقى من نظام المدى

    كان يؤدي ما عليه بلا
    أمرٍ، ويصبيه تمام الأدا

    ولا يصلي، إنما يبتني
    من قلبه في قلبه المسجدا

    * * *

    كالأرض كنا نستدر السما
    لكي ترى شهب الثرى صعدا

    كالدوح يعطي الوحل أعراقه
    وهامه يستحلب الفرقدا

    * * *

    مائة أصوات مأتاك يا
    شوقاً إليه، منه فيه اهتدى

    الآن، هذا عالم غير ما
    عهدته، أغشاه كي أعهدا

    يا صاحبي، ما عنونت دهشة
    وجهاً، ولا من مد نحوي يدا

    كي يخفقوا حوليك، جسم لهم
    ما يفجأ الأموات ما هددا

    يدرون مثلي، أن من أودعوا
    تحت الحصى، أمسوا حصىً ركدا

    * * *

    ذكرت عن (عادٍ)، أفض قيل لي:
    في النحو ضنوا (ماخلا ما عدا)

    يدعون (عاداً) بائداً، ما ثنت
    ذات العماد) العاصف الأربدا

    عن (ذي نواس) قل، ومن قال لي:
    من نصر (الأخدود) أو هودا

    صف (أسعد) الأغنى أما شاهدوا
    يوماً (سناناً)، كي يروا (أسعدا)

    (ياذيه) اسمع من تقاليدنا
    كل (عسيب)، وهو من قلدا

    لبدئه قبل، ومن شده
    عوداً، سوى من شده عسجدا

    * * *

    أين دليلي، ما اسمه؟ ربما
    كنت أنا المصغي، ومن رددا

    ألا فتيً يسألني من أنا
    فقد يراني (الشيخ) مستوردا

    * * *

    يا قلب ما أدناك منهم، وما
    أخفاهم عنك، وما أبعدا

    خلعت قبراً كنت أحتله
    فاحتلني، أمشي به مجهدا

    * * *

    أنا (علي) وأبي (زايد)
    خفض لنا الأعلى، خذ الأزيدا

    أولاد من؟ سلنا بأسمائنا
    إن كنت يوماً علماً مفردا

    * * *

    هل حلت (السبع) هنا أو هنا؟
    سل وردةً عنهن، أو سل (هدى)

    أو ما يسمى سجنهن الذي
    يزوج القوادة الأقودا

    وكان (بيت الزوقبي) فارتقى
    للمركزي الآن، وارقب غدا

    هل جاد (حيكان) الربيع؟ إنه
    مخرب، كان اسمه المفسدا

    (حيكان) واد، في الجهاز) اسمه
    هذا، وخطوا تحته ملحدا

    وقيل: ما زال بأجفانهم
    ناراً، على أضلاعهم جلمدا

    * * *

    (أقاع صنعأ) ذاك؟ ذا معرض،
    هذا طريق، هاهنا منتدى

    دور الذين، قبل أن يختنو
    ـه تزوجوا أم العصا سرمدا

    وثم سجن -قيل- ذو مدخلٍ
    فقط، بهذي الميزة استفردا

    و(معهد) ينصب أميةً..
    أخرى، تساوي من بنى المعهد

    * * *

    من ها هنا اركب أي (باص) إلى
    ما شئت، لست الآن مسترشدا

    أصبحت تتلو الأرض، لكن كما..
    تستجوب الأم الفتى الأدردا

    * * *

    (عياصر) اليوم عليها الدجى
    صبح كحيل، لا يرى من هدى

    أحجارها اليوم، قصور على
    صنعا) توشي كبر من شيدا

    ما أنكرتني، قيل: عاد الذي
    كان يبيع (الكاز) و(الإثمدا)

    وقيل: مر (الخضر) مستخفياً
    في (كاهنٍ) يدعونه (مرعدا)

    * * *

    سكعت جلدي في عظامي، إلى
    وادٍ أرجيه، ومني اجتدى

    يا عم هذا (القات) هل ذقته؟
    كنا شيوخاً، قبل أن يوجدا

    لوكان، هل كنتم ستهوونه؟
    وربما نومي به المذودا

    لو في يدي ألف لعاقرت من
    أغصانه الريان والأملدا

    في الجدب يندى؟ من مبال الثرى
    يسقى، وتلقى غيره فدفدا

    أ(منكث) هذا؟ أرى دوره
    ولاأشم الزرع والحصدا

    يا (منكث) اصفر (سهيل) وما
    أعشبت، من ذا أسكت (الهدهدا)؟

    يا منكثيات ابنتي (بدرة)
    عادت، وسموا عودها أحمدا

    قلتن عنها: مرغت لحيتي،
    و(ماعدا إذ ذاك مما بدا)

    أما تأكدتن من ذبحها؟
    من ذا نفى هذا، ومن أكدا؟؟

    من لا يرجي وهو حي، فما
    من حقه إن مات، أن يفقدا

    ذا (الثور) من ثوري، أذرية
    لمن تعاطى ذبح ما استولدا

    تقلن لي هذا، أقلن أذىً
    (ثور) رأى ثواره فاقتدى

    سواك أوصى: من رأى اثنين ذا
    في تلك أغضى، أو أهال الردا

    صرتن بعدي، (مالكاً) ثانياً!
    ونرفض التزويج إن قيدا

    من عددت منكن أزواجها؟
    قل: عددت زوجات من عددا

    كم كان في دار أبي (بدرةٍ)؟
    جاوزت من ثنى، ومن وحدا

    ماذا سيخبرن؟ لقين الذي
    حيكمتموا، من ثوره أبلدا

    * * *

    أيا (بني بدا) أما عندكم
    بيتي، أباد اليوم أم أنجدا؟؟!

    من أنت يا.. من؟ جد أجدادكم
    يقال: غابوا سيداً سيدا!

    من ذا دعا؟ من بردت كفه
    سيدفىء (التنور) والمرقدا

    ومن شدا صبحاً لأقوراه
    قال: احمرار القمح ماذا شدا؟

    من قال: رهن المال لا بيعه؟
    جثمان ذا الموصي غدا (موقدا(

    وربما صار ابنه (جرةً)..
    وابن ابنه في مركبٍ مقودا

    هل باد من كل البيوت انتمت
    إليه، وائتمت بما أنشدا؟

    ما زال حتى اليوم، ما قلته
    فقهاً لكم، أو خبراً مسندا

    ما قيل يوماً: كنت بيتاً
    ولا بيتين، كنت الموطن المفتدى

    * * *

    قلت (جعار): كم ظروفٍ دجت
    وما استبناك بها المرشدا

    لوجئت لما أعدن اللندني
    أطفاته فوراً، بما استوقدا

    كانت قواه قاذفات، كما
    كانت رواسينا قوىً أجلدا

    قيل: اشترى من أهلنا (مسعداً)،
    من باعكم يوم اشترى (مسعدا)؟

    ما القول فيمن بالعدو احتمى؟
    كما يقود الأعمش الأرمدا

    * * *

    قال (رداع): قلت في ليلةٍ:
    أمسيت لصاً حالفاً مكمدا

    بمن تغرزلت؟ بمن أنبتت
    للأرض حراثاً، ولي أكبدا

    شببت عن (ولادةٍ) بالتي
    دامت هي الأصبى، بل الأولدا

    فمن تغل القمح، ناديتها:
    غيدا)، وأم (المشمش) الأغيدا

    من تقمر (البيضا) (مهاً)، من همت
    دخناً) (غزالاً) فاقت الخردا

    * * *

    هل سن قتل الأم (قحم) الخلا
    إن طلقت فرداً، لكي تضمدا؟

    بأمه ضحى جزاءً، وما
    أوصى بذا (سلعاً) ولا (سرددا)

    هل قلت عنه؟ كل قلبٍ له
    كالبحر قعر قلما أزبدا..

    * * *

    وقال (ميدي): جئت مستخبراً
    أو مخبراً، أوطفت مسترفدا

    إلي مني جئت لا سائحاً
    لا زائراً، لا أشبه العودا

    يا شيخ (ميدي) إنني راجع
    أزجي سراجاً قبل أن ينفدا

    من عارك الأمس اعتراكي به
    أتى من الآتي، وحث المدى

    قل ما اقتداري، تحت دراعتي
    دراية تستكثر الحسدا

    أسمد البرق، لتصغي إلى
    أعلى جدال حول من سمدا

    * * *

    لو كنت عام الإنسحاب، الذي
    تقودنا، حتمت سحب العدى

    مدرعات القوم أحثو لها
    حفائراً يبلعنهم سجدا

    ما كل أقوى، كان أذكى، ولا
    يخشى سليل الحرب من أرعدا

    * * *

    لو كنت في (عام الطوى) حاضراً،
    صابرت معتادي كما عودا

    في كل عام كان يعتادنا..
    شهرين، نذوي قبل أن نحصدا

    * * *

    كنا إذا ما حلنا موجع
    نحل ذوب الأعين (المهيدا)

    لكي نصون الوجه، نثني البكا
    إلى الحشا، يدمي بما عقدا

    * * *

    قال (المعلا): لمت من جمهروا
    سيان من عادى، ومن أيدا

    لو جئت (صنعا) مشبطاً، قلتها:
    أخبار مولاتي بلا مبتدا

    يا (قصر غمدان) أيدري الذي
    أشهرته ماذا ، ومن أغمدا؟

    قل للشباطيين: من ضرجوا
    كان (إماماً)، كاد أن يعبدا

    * * *

    أقلتم مات، وأوصاكم
    وقال يوم الصيحة: استشهدا

    ماذا جرى تحيون أعراسكم
    على دم، ما حان أن يبردا؟

    * * *

    أقل ما أبقاه (يحيى) يقي
    صنعا)، أمنكم ضاع فيكم سدى؟

    جراية الشهر استحالت بكم
    عشرية، أشقى الذي أسعدا

    أغريتمونا بالنقود التي
    أغرت بنا الجيران والوفدا

    وقلت: أين (الورتلاني) يرى
    من ذا استباح السوق والمعبدا؟

    حصار (صنعا) يا (زبيري) رمى
    إلى البيوت الأقبر الزردا

    تريد خبزاً وشراباً، فهل
    تحسو (عكاظاً) تخبز (المربدا)؟

    تختار أسواقاً وأمناً، ولا
    تفضل الدستور، أو (أحمدا)

    بالمذود اهتموا، لكي يعلفوا
    بقيرة) ما غادرت (عردا)

    * * *

    (شوكان) أفضى: أي باب هنا
    خلعت كان الأغمض الموصدا؟

    أمن (بني صنعا) غدوا نهباً؟
    كانوا باخفى كنزها أرصدا

    * * *

    لو كنت يوم (المصقري) في (بني
    ضبيان) يبغي أن يروا عبدا

    أسرعت أعطي (سورة الثور)، بل
    و(آل ضبيان) فقيه (الحدا

    لو كنت والي أمر (ذي ناعم)
    جانبت من أذكى ومن أخمد

    فما ابتغى (الرصاص) محمية
    لا (الكوكباني) راود السؤددا

    لو كنت يوم (الجوبة) استنمرت
    فيها، دعوت استنصحوا (مرثدا)

    وقلت: سل يا (قردعي) (شبوة)
    هل تعذبين اليوم لي موردا؟

    عاكست (يحيى) أمس في شانها
    واليوم تستدعيه مستنجداً

    من أحقد الأقوى عليه، درى
    كيف يقاوي ذلك الأحقدا

    هل سود (البيحاني) (القردعي)
    مكراً؟ متى ساد الذي سودا؟

    * * *

    لو كنت في (الحوبان) ذا رتبةٍ
    عاقبت قبل الجند، من جندا

    وقلت: يا جيش الحمى من له
    إذا ابنه قبل العدو اعتدى؟

    رآى ل(عبدالله) أعمى الحجا
    أو ما انتقى الأخبار من زودا

    * * *

    قالت (تعز): ذاك ما كان، لا
    أساله مجرى، ولاجمدا

    لو كنت في (أيلول) دبابة
    أطلقت من فكر السنا مسردا

    كي أملك البعد، أعي قبله
    بطناً وظهراً، مشهداً مشهدا

    ولا أولي قائداً، ما أنا
    رقيبه الأعتى إذا عربدا

    لو يصبح الأعلى صغير الظبا
    على نمور الغابة استأسدا

    لا تسألي (النمرود) من غره
    سلي غرور الأمر كم نمردا

    * * *

    لو كنت في (ردفان) أعلنتها
    أزرى براميه كما سددا
    وشبها خمساً، ويوم اكتست
    حدادها (إنكلترا) عيدا

    وقلت: يا ثوار أخشى لكم
    منكم، وأرجو الآتي الأرغدا

    بعيد الاستقلال من قلبه
    تدرون كم أردى، وكم شردا

    كم رغد الحكم الفتى المنتقى
    فكيف يطفي سكره الأوغدا؟

    مذ قال: تحتي مصر (فرعونها)
    طاش انفراد الأمر واستعبدا

    * * *

    لو كنت في (السبعين) سألت عن ماهية
    الجدوى، ومرمى الجدا

    وقلت (إدريسية) لو بدت
    أخرى، لأبدى فرعها المحتدا

    * * *

    تقاتل الشطرين هل خفته؟
    قلت الذي أذكاهما رمدا

    هل قلت: لما لجنوا أحسنوا؟
    قلت غراب يلتقي بالحدا

    لأن من سموا لجاناً، كمن
    يختار من بين الحصى الأجودا

    * * *

    قالت (ذمار): كيف صغت البلى
    جسراً، وذقت الأنس والمردا؟

    هل عدت؟ قل ما غبت راقبت ما
    جرى ويجري منهضاً مقعدا

    مكاشفاً ما جد، هل سوؤه
    في أصله، أم في الذي جددا؟

    * * *

    عن وحدة الشطرين ماذا ، وهل
    أفقت من سكرين، كي أشهدا؟؟

    أين أنا؟ نصفي انطوى في الذي
    هنا، ونصفي في الذي زغردا

    وربما أصحو على غير من
    أماتني سكراً، وما عنقدا

    لأنني كنت أغني، فما
    دريت من ذا ناح، من غردا

    ولامن اهتاج، وقال: التقوا
    لكي يقوي الفاسد الأفسدا

    أو من أجاب: اثنان من واحد
    أقوى، ومن ثنى الصدى والندى

    من صاح: عرسي وحدتي، من نعى؟
    من قال: كنا قبلها أوحدا؟

    * * *

    الناس: منقود ونقادة
    وقد يكون الصامت الأنقد

    1992م

  • 368 حضان المآتم

    رجعة الحكيم بن زائد >  حضان المآتم

    كان يبدو، كصائم ما تعشى
    الملايين فيه، جوعى وعطشى

    أثث القلب للعراة، ويحكي
    أنه ما أذاق جنبيه فرشا

    * * *

    بين جنبيه تشرئب الشظايا
    أنجماً من دمٍ، صباحاً مغشى

    كل مثوىً نبا بها فوعاها
    منه قلب أحلها فيه عرشا

    في حناياه ترتعي، ثم تصبو
    وهو ذاو، يكاد ينحل قشا

    كل (أفغان) فيه تنهار تعلو
    كل (صيدا) تنهد فيه لتنشا

    * * *

    أي سر عن كل شلو سيبدي
    أي أخبارها إلى الريح أفشى

    إنه يحمل الضحايا، ويضني
    عن خبيئاتها المجاهيل نبشا

    ما الذي باح للسوافي، دعاها
    لا تنامي، صبى على الوحش وحشا

    مصرع الباطشين ما شئت منه
    مقتل اثنين، بل تزيلين بطشا

    هل أجابته، هل درى من يباكي
    أهل صرعى (جنين) أو أهل (موشى)؟!

    * * *

    عنه ساهٍ، لاهٍ بكل صريع
    وعلى المنظرين، أحنى وأخشى

    ذاك أقوى فتىً، وأبكى إذا ما
    أن شيخ أو اشتكى الطفل خدشا

    أو تعاطى فن الكتابة ناءٍ
    عن حماها، يدمي الوريقات خمشا

    * * *

    كل آن تغشاه أخفى المآسي
    وعليها يقيس ما ليس يغشى

    جاره من يعول عشراً، رماه
    جاره جثة، على أي ممشى

    فامتطى من رماه أصبى طرازٍ
    وارتجى المرتمي، ومانال نعشا

    واقتضى قاتل الفقير ألوفاً
    والبواكي عليه، ما نلن قرشا

    * * *

    هكذا حكمنا، علينا ومنا
    في زمان أعمى، يقسيه أعشى

    واللغى فيه باع، وابتاع، أردى
    احتوى واستزاد، رشى، ترشى

    ما تلقى عير (الكوميشان) درساً
    فالتمسه إن شئت، في باب (كمشا)

    * * *

    ونرانا بالهجو نرميه بحراً
    مثل من يستلذ في الحلم فحشا

    قال ذاك النموذج الفرد يؤذي
    أوبش الناس، حين تدعوه وبشا

    وإلى القاذفات أومى، لماذا
    كنت أقسى؟ وكنت ليناً وهشا

    ليس من يدفن البيوت الحزانى
    مثل من ينطوي على قتل (رقشا)

    من عظامي هذي الخرابات تبدو
    كشؤوني: لهفى، وغرثى، وعمشا

    تلك تشتف حزن عاتيك، هذي
    مثل أمية تترجم نقشا

    تلك محشوة، بيتم الصبايا
    ذي بأدمى القلوب والخوف، أحشى

    * * *

    ذلك التل كان أضلاع فوجٍ
    الردى فيه، للردى الغير بشا

    كل قصفٍ ما هز صنعاء فيه
    كل شعوى ما استطلعت منه رعشا

    ذاد حتى انطفائه، قام تلا
    يعتلي الناهشين، رجماً ونهشا

    قال: لو في التلال جذر قتال
    كجذوري، لأصبح الذئب كبشا

    * * *

    قص هذا للقاذفات، ونادى:
    ارجعي محرثاً فؤوساً ورفشا

    كل بيت رشيت بالنار يعيا
    كيف ترقين، كي تصيري مرشا

    الرفات التي قذفت يميناً
    وشمالاً كانت ربيعاً موشى

    * * *

    قال هذا، وغاص يبحث عنه
    فيه يمشي، وسائلاً من تمشى

    نافشاً قلبه على الليل (عهناً)
    يبتدي غزله، فيرتد نفشا

    واجتلى المبتدا، فشم كتاباً
    مد أبكى الفصول فيه، وحشى

    كان يذوي كي يسمن الفن فيه
    ويعري، كي يظهر الغش غشا

    1994

  • 369 رسالة إلى صديق في قبره

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  رسالة إلى صديق في قبره

    ههنا عندي غريبات العوادي
    عندك الإنصات والهجس الرمادي

    كيف أروي يا صديقي؟ هل ترى
    أنني أزجي إلى الموتى كسادي؟

    هاهنا مسراك يلغي وحشتي
    وصدى نجواك، يَغلي في اعتقادي

    مِن هنا أشتف ماذا تنتوي؟
    أسأل القبر: أينسيكَ افتقادي

    إنني يا بن أبي متّحدٌ
    بثرى مثواك، هل ترضى اتّحادي؟

    * * *

    أين أنت الآن؟ ها أنت معي
    نمضغ (السوطي) وأقوال الروادي؟

    ونرى سرّية الآتي كما
    تقرأ البرق نبوءات البوادي

    نبحث (الإكليل، زربا، رندلى)
    نقتفي كل رحيلٍ سندبادي

    نغتذي شعر (الشحاري) تارةً
    تارةً نحسو خطابات (الربادي)

    * * *

    يابن أرضي لم تغب عن صدرها
    بل تحوّلت جذوراً لامتدادي

    بيتك الثاني ذراع مِن دمي
    وأنا بيتي دم الطيف القتادي

    عندك النوم الطفولي، وأنا
    لي زغاريد الصواريخ الشوادي

    لنثيث الصمت تصغي، وأنا
    في زحام النار أُصغي لا تِّقادي

    * * *

    أدَّعي الحشد أمام المعتدي
    ثم يعدو فوق أنقاض احتشادي

    وبرغمي يصبح الغازي أخي
    بعدما أضحى أخي أعدى الأعادي

    * * *

    كيف أمحو كل هذا؟ دلِّني
    لا تقل – أرجوك – دعني وانفرادي

    يا صديقي أنت أدنى مِن فمي
    فلماذا أنت أنأى مِن مُرادي؟

    أجتدي رأيا سديداً، لا تقل:
    مثلما مِبُّ أنا أودى سدادي

    مِن أسارير الحِمى سرتَ إلى
    قلبهِ كي تنجلي يوم اسودادي

    * * *

    أنت في البعد قريب، وأنا
    في غياب القرب مثلي في ابتعادي

    أنت في شبرين مِن وادٍ، أنا
    خلف حتفي هائمٌ في غير وادي

    * * *

    يا صديقي لبِّني أو نادني
    لم يعد لي مَن أُلبِّي أو أُنادي

    كنت تأبى الصمت بل سمَّيتَهُ
    غير مجدٍ: فهل الإفصاح جادي؟

    * * *

    آخر الأخبار: قالت زحلةٌ
    أغصنت نار التحدي في زنادي

    أخذت (بيروت) رقم القبر مِن
    (صفدٍ) قالت: على هذا اعتمادي

    قال (حاوي) وهو يردي نفسهُ:
    يا رفاقي هذه أخرى جيادي

    شاعرٌ ثانٍ تحدّى قائلاً:
    الدم اليوم حروفي ومدادي

    قلتَ لي يوماً كهذا إنما
    كنت توصيني بتثقيف اجتهادي

    ذلك الودّ الذي أوليتني
    مثله عندي: فمن أولي وِدادي؟

    * * *

    موطني ينأى ويدنو غيرَهُ
    زمناً هنا حام وفادي

    لانثنى الماضي، ولا الآتي دنا
    مَن ترى بينهما أُعطي قيادي؟

    قال لي ذاك ارتضى إخلادهُ
    قال لي هذا: أرى الآن اتئادي

    هل ترى أرتد، أوأمضي إلى
    أين أمضي، وإلى أين ارتدادي؟

    * * *

    يا صديقي أسفر اليوم الذي
    كان يخفى، وتراه نصف بادي

    كنت تنبي عن حشا الغيب كما
    كان ينبي ذلك (القَس الإيادي)

    * * *

    ربما تبغي جديداً، حجمهُ
    ندّ عن وصفي كما أعيا ازدرادي

    بعد أن متَّ، مضى الموت الذي
    كان عادياً ووافى غيرُ عادي..

    صار سوقاً، عملةً، مأدبةً
    مكتباً، مسعى يسمى بالحيادي

    في التراثيات دكتوراً، وفي
    غرف التعذيب نفسياً ريادي

    * * *

    ويسمى فترةٌ ضيف الحمى
    فترةٌ يدعى: الخبير الاقتصادي

    يدخل القهوة مِن فنجانها
    مِن غصون القات يغشى كل صادي

    يحرس الأثرى، يباكي مَن بكى
    يرتدي أجفان “عيسى” وهو “سادي”

    يا صديقي لا تقل: زعزعتني
    قم وقل: يا قبر فلتصبح جوادي

    ذلك الموت الذي لاقيتَهُ
    مات يوماً، وابتدى القتل الإبادي

    ومدى الرعب الذي تذكرهُ
    عدّد الأشواط، غالى في التمادي

    ذلك السهل الذي تعرفهُ
    بات سجناً لصقه سجنٌ ونادي

    * * *

    مجلس الشعب ارتقت جدرانهُ
    قال للجيران: ضيقوا مِن عنادي

    فأجابوا: ما كهذا يبتني
    بيته، بل يبتني أقوى المبادي

    * * *

    ربما تسألني عن (مأربٍ)
    وانبعاث (السد) و(الشيك الزيادي)

    ذكريات (السد) آلت طبخةٌ
    ثم عادت ناقة مِن غير حادي

    كل مشروعِ على عادته
    عنده التأجيل كالقات اعتيادي

    * * *

    و(أبي هادي) أتدري لم يعد
    أعزباً، قد زوَّجوهُ (أُم هادي)

    فارتقب ذريَّةٌ ميمونةً
    قبل أن تستلطف العرس الحدادي

    قل لمن أغرى انتقادي بعدما
    نزل القبرَ علا فوق انتقادي

    يا صديقي ما الذي أحكي، سدىً
    تستزيد البوح، ما جدوى ازديادي؟

    شاخت الأمسية المليون في
    ريش صوتي وانحنى ظهر سهادي

    والسكاكين الشتائيات كم
    قلن لي: يا نحس جمّرت ابترادي

    الشظايا تحت جلدي، والكرى
    خنجرٌ بين وسادي واتسادي

    * * *

    أنت عند القبر ساهٍ، وأنا
    أحمل الأجداث طرّاً في فؤادي

    أتراني لم أجرب جيداً
    صادروا خطوي، وآفاق ارتيادي

    مِن نفايات عطاياهم يدي
    وجبيني، وبأيديهم عتادي

    * * *

    أنت غافٍ بين نومين، أنا
    بين نابيَ حيَّةٍ وحشٌ رقادي

    متَّ يوماً يا صديقي، وأنا
    كل يومٍ والردى شربي وزادي

    أنت في قبرٍ وحيدٍ هادئٍ
    أنا في قبرين: جلدي وبلادي

    إنما ما زالت الأرض على
    عهدها، والشمس ما زالت تغادي

    (فبراير 1983م)

    * * *

  • 370 الهارب.. إلى صوته

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  الهارب.. إلى صوته

    كان يبكي، وليس يدري لماذا؟
    ويغنِّي، ولايُحسُّ التذاذا

    وينادي: يا ذاك.. يصغي لهذا
    وهو ذاك الذي ينادي، وهذا

    * * *

    … لا يعي من دعا، ولا من يُلبِّي
    كان في صوتِه، يلاقي ملاذا

    مِن سرايبه، إلى البوح يرقى
    يمتطي صوته، ويهمي رذاذا

    * * *

    ينتمي، يدخل الشجيرات نسغاً
    وإلى قلبهِ، يلُّم الجُذاذا

    يقرأ الأرض، من لغات المراعي
    وإلى حزنها يُطيل النفاذا

    * * *

    وعن المنحنى، عن السفح يحكي:
    وسوساتٍ، منها الجنون استعاذا

    وإلى أغرب القرارات يرنو..
    ويناغي كالطفل: (دادا، حباذا)

    * * *

    أي هجس عن المغارات يروي؟
    قيل: يهذي، وقيل عنه، تهاذى

    قيل: أضحى شيخ المجانين طرّاً
    قيل: داني بدء الصبا، قيل: حاذى..

    قيل: لم يتّخذ لشيء قراراً
    قيل: يبدو تجاوز الاتِّخاذا

    * * *

    كان يدعو الربى: “سُعاداً” “لميساً”
    ويسمِّي لحقول: “زيداً” ، “معاذا”

    ويسمي الغبار: أطفال بؤسٍ
    زادهم، عاصف المتاه انشحاذا

    كان يرضى انتباذهُ، ويُغنِّي،
    للمنابيذ، وهو أقسى انتباذا

    (مارس 1983م)

    * * *

  • 371 حوار فوق أرض الزلازل

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  حوار فوق أرض الزلازل

    مَن علَّمها الرقص النَّاري؟
    هل رنَّحها العشق الضاري؟

    فغلَت من كل جوانحها
    ودوَت: ضجِّي يا أوتاري

    وهَمَت قُبلاً صخريات
    ما أقسى العشق الأحجاري

    وامتدَّت أحضاناً أخرى
    من أشداق الطيش الواري

    * * *
    كيف ارتجلَت أعتى طَربٍ؟
    أختارت، أو قيل اختاري

    فانثالت قصفاً تحتيّاً
    وانهلّت كالسيف العاري

    وتلت مزمور الموت كما
    يتزيّا الأمِّي بالقاري

    * * *
    أمّ العُرف الجاري خرجت
    عن سلطان العُرف الجاري

    هل ملَّت حمل مناكبها
    فتنادت: أوشك إبحاري؟

    * * *
    ماذا يا (مِذحج) هيَّجها؟
    فلتت مِن قبضة إصراري

    لا الصبح تجلّى نيَّتها
    لاأفشاها النجم الساري

    * * *
    هل جاشت تبحث عن شعبٍ
    أطرى، أو عن رعبٍ طاري؟

    هل للأرض الكسلى يا بني
    أوطارٌ تشبه أوطاري؟

    أوَلم تسمع أنشودتها؟
    شاهدت حطامي وغباري

    قالت لي ما لا أفهمهُ
    عصفَت بالمزري والزاري

    جاءت مِن خلف مدى ظنِّى
    مِن خلف مرامي أنظاري

    * * *
    هل قالت هاك خطوراتي
    فلتتعلمْ مِن أخطاري؟

    لم تترك لي وقتاً أُصغي
    أو أُبدي بعض استفساري

    نفثَت سريَّتها الغضبى
    مِن قعر أرومة أسراري

    وأظنِّي قلتُ لها: اتئدي
    أو قِرِّي، أو لا تنهاري

    لا أدري ماذا قلت لها
    قالت: طلَّقتُ استقراري

    ركضَت مِن تحتي، مِن فوقي
    مِن قدَّامي، مِن أغواري

    مِن بين خلايا جمجمتي
    مِن تحت منابت أظفاري

    * * *
    حدَس (أدجولوجي) علَّتها
    قال المقري: أمرُ الباري

    ما جدوى هذا، أو هذا
    أو ذاك الوصف الإخباري؟

    لا شيخ المسجد أوقفَها
    لا ألجمها المستر (لاري)

    حتى (رختر) يبدو أغبى
    مِن ذيّاك العجل (الذاري)

    * * *
    أبَت: أضَعُفتَ ولاتدري؟
    هربت مِن حولي أقطاري

    وأعز مآمنَي اضطرت
    أن تمسي خوفاً إجباري

    أتراها أبقت لي أثَراً
    مَن كانت تدعى: آثاري

    مِن خلف (الصيَح) إلى (أضرعةٍ)
    حُفَري، وشظايا حُفَّاري

    * * *
    أتشمُّ – هنالك أوديتي؟
    أتصيخ هناك لمزماري؟

    أتشاهدني وأنا أتلو
    في قلب التربة أسفاري؟

    يظما المحراث، فأسقيهِ
    عَرَقي وأغنّي أثواري..

    أذكرتَ هنالك أبنيتي
    تحكي للأنجم أسماري؟

    وتحيي الضيف بريحاني
    وتلاقي الريح بإعصاري
    * * *
    جذّرت الصخر على صخرٍ
    وهناك دُفنت بأطماري

    أضحَت – يا طفلي – مقبرتي
    مَن كنت أُسميِّها داري

    * * *
    (أو جار الثعلب) تحرسهُ
    فلماذا خانت أوجاري؟

    أوكار الطير تُحصِّنهُ
    وأنا أكلتني أوكاري

    * * *
    هل قالت منهى تدميري
    كشفٌ عن أول إعماري؟

    أتراني – يا ولدي – قمحاً
    مِن دفني يربو إثماري؟

    الموت الفوت: أتحسبني
    غيَّرت بموتي أطواري؟

    * * *
    هل أنت الأصدق؟ هل أرمي
    بالتهمة رؤية أبصاري؟

    أنكرتُ أموراً سابقةً
    يوماً وسخرت بإنكاري

    * * *
    أرجو – يا بني – أن تمنحني
    معياراً يُلغي معياري

    أصبحتُ أعي أني غيري
    هل – فأر السد – سوى فاري؟

    * * *
    رجفات الأرض – كعادتها-
    دفعَت مجراكَ وتيّاري

    السرُ الناري في دمها
    أذكى فينا السرّ الناري

    (ديسمبر 1982م)

  • 372 زَمَكيَّة

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  زَمَكيَّة

    المكان الآن، والآن المكان
    والذي كان غداً، بالأمس كانْ

    والذي يأتي أتى مستقبَلاً
    قبل أن يتزوج السُّوق الأوانْ

    قبل أن تتلو الشظايا عهدَها
    قبل أن يستكتبَ الرمح الطعانْ

    ألغت الأفعال فعليَّاتِها
    شكَّلت أسماءها، عنها لجانْ

    * * *

    الزمان أنحلَّ أبحاراً دماً
    البيوت استوطنت ريح الزمان

    المراعي للثواني لحيةٌ..
    الثواني للمصلَّى لحيتان..

    الدم المُدية، والذبح المُدى
    والنجاة القتل، والموت الأمانْ

    التردَّي للتّردي زفَّةٌ
    والتوابيت نجوم المهرجانْ..

    موكب الأعراس موتٌ أبيضٌ
    والنعوش الخرس عرسٌ مِن دخانْ

    * * *

    حسناً جاءت فؤوسٌ رطبةٌ
    هطلت أيدٍ سليبات البنانْ

    الذباب الورَقي تاجٌ على
    قرن (واشنطن) وفخذِ (الخيزران)

    الغريب، الدار، والدار عصاً
    في يد النافي، وإبط القهرمانْ

    أصبح العكسان عكساً واحداً
    جاوز التخطيط شرط الاقتران

    * * *

    المتى أين،وماذا ههنا
    وعظام المنحنى، كانت فلان؟

    الأسامي والموامي والحصى
    كلها رقمٌ، ثلاثٌ، أو ثمانْ
    * * *

    المنايا كالأماني كلها
    أضحت أسماً واحداً: (أُمَّ الجبان)

    سيد الأسياد هذا الرعب في
    كفِّه كل مكانٍ صولجانْ…

    (أكتوبر 1982م)

    * * *

  • 373 للشوق زمانٌ آخر

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  للشوق زمانٌ آخر

    للشوق زمانٌ آخر

    هنا تدخل الشمس مِن كل ثقبٍ
    وتحت أديمي ليالي الشِّتا

    ويلبسني عري هذا الجدار
    كما يلبس الميِّتُ الأموتا

    وينهشني صوت أُمِّي العقيم
    ويوهمني أنَّهُ ربَّتا..

    وكان يُفتِّت بعضي ببعضٍ
    ويُطعمني بعض ما فتَّتا

    ويزقو كعصفورةٍ في الوثاق
    ترى حولها خنجراً مُصلتا

    ويسألني البرد والخوف عن
    نهاري، فأرجو بأن يسكتا

    لأن بقلبي زماناً يلوح
    وينأى، ويدنو لكي يُفلِتا

    وخبتأ مِن الشوق تطهو النجوم
    لأشباحِه وجهَ مِن أخبتا

    وصمتاً يصوِّتُ مِن داخلي
    وأستفسر القفر: مَن صوَّتا؟

    * * *

    أحسُّ دويّاً تجاوبتَ أنت
    أصحتُ وأذناي لي أصغتا؟

    لذا الصوت شمٌّ بلا اسمٍ لهُ
    صدىً يذهل النعت أن يَنعتا

    له نكهَةٌ كغموض المصير
    كتلٍّ على المنحنى نكَّتا

    كدربٍ نوى يسبق العابرين
    تنادى، ورجلاه ما لبَّتا

    كمشمشةٍ بكَّتت عرقها
    أرادت، وأغفى الذي بكَّتا

    * * *

    إلى الصمت أرتدُّ، أنحلّ فيهِ
    ولايأذن الصمت أن أصمتا

    فأُضغي هناك إلى جنَّتين
    أحسهما داخلي غنَّتا..

    إلى هاتفٍ، كَسُرى نجمتين
    على حُلم زيتونةٍ رفَّتا

    * * *

    وأدخل حين تنام الغصون
    إلى الجذع، أشتُّ ما بيَّتا

    إذا صرتَ باباً، أتنسى الجذور؟
    ألا تذكر الصخرة المنحتا

    سأنجرُّ مِنْ عنَت العاصفاتِ
    برغمي، لكي أحرس الأعنتا

    وأمسي خفيراً لبيتٍ هناك
    وللطير كنتُ هنا أبيُتا

    * * *

    وياقات: مَن أول القاطفين؟
    سدىً خضرتي، واسم مَن قوَّتا

    أخافُ يكون الجنينُ الذي
    سيحبو، كجد الذي أسنتا

    اللِقات حسٌّ بأهل الحمى؟
    على مَن حنا، وبمن أشمتا

    * * *

    هنا أدخل الريح مِن إبطها
    وأوصي المهبَّات أن تخفُتا

    أتى سيء الصيت فلتحذروهُ
    أتى يبتغي الأعنفَ الأصيَتا

    فأيُّ مباغتةٍ تحتشدون؟
    تنحَّوا، أرى برقُه أبغتا

    لقد أزغبت بنت “عشتار” فيهِ
    وأُختا “سهيلٍ” بهِ أومَتا

    * * *

    نسيتُ الكتاب اهدئي يا رياح
    أُريد الكتاب الكتاب الكتا…

    ستتلو الندى، تكتب الياسمينَ
    وتبدي الذي رام أن يكبتا

    أتسري: إلى أي مستقبَلين؟
    أقدَّامي اثنان؟ واويلتا..

    وأخشى تكون الرياح اثنتين
    كريحين قبلهما ولَّتا..

    فتحتَ مطلاًّ علي كل غيبٍ
    وأغلقتَ مِن خلفك الملفتا

    * * *

    زماني رحيلٌ إلى وعد شعرٍ
    سيأتي، ولهوٌ بشعرٍ أتى

    وهزءٌ، بمن سوف يعتو غداً
    لأني تعلَّمت ممن عتا..

    * * *

    توحّدتُ بالعالَم المستحيل
    لأجتاز ذاتي، ومَن ذيَّتا

    هناك يرى الحب، ماذا يُحبُّ
    ولايملك المقت، أن يَمقُتا

    * * *

    زماني حنينٌ ليوم مضى
    لمجنى غدٍ قبل أن يَنبُتا..

    لِطَيفٍ مِن الأمس يرتدُّ طفلاً
    لِحُلمٍ مِن اليوم يبدو فتى

    لمحبوبةٍ وعدت أن تجيء
    وجاءت لِماماً، ولكن متى؟

    أحبَّتكَ شيناً وعيناً وراءً
    وأحببتَ باءً ونوناً وتا…

    * * *

    أما يرسم القلب تأريخهُ؟
    مراياه تمحو الذي أثبتا

    فلا تبتدي الجمعةُ السبتَ فيهِ
    لأن الخميسَ به أسبتا
    * * *

    كما الساعة الآن؟ فاتت عصورٌ
    وعادت، ولا مرَّ مَن فوَّتا

    أما كتكتت ساعةٌ في الجدار؟
    جدارٌ بلا ساعةٍ كتكتا

    * * *

    ألِلشَّوقِ وقتٌ سوى شوقهِ
    وأغبى مِن الوقت مَن أقَّتا

    أأصغَى لهذا المغنِّي سواهُ؟
    فمن ذا تغنَّى ومَن أنصتا؟

    (فبراير 1981م)

    * * *

  • 374 تحولات يزيد بن مُفَزِّغ الحميري

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  تحولات يزيد بن مُفَزِّغ الحميري

    تحولات يزيد بن مُفَزِّغ الحميري

    تاريخية بطل القصيدة
    ا- ولد حوالي عام 600م، كان اجرأ شعراء صدر الإسلام رغم ضعف شوكته القبلية؛ لأنه كان ينتمي إلى غمار اليمنيين لهذا كان يسمي نفسه في شعره بالرجل اليماني دون تحديد قبيلة بعينها، على عكس سواه من امثال محاصره (اعشی همدان).
    2- كان على جرأته طيب الحضور، وعلى شدة حبه كان شديد البغض والخوف، تنازعه فتيان قریش لحسن عشرته، وتحاموه لحدة بادرته ووميله إلى الحرية.
    3- اختاره (عبّاد بن زیاد) صاحبة إلى ولايته في (سجستان) على محبة وتوجس، وعندما شاهد الريح تلعببلحية (عبّاد) غلب عليه المزاج الشعري فقال في ذلك المنظر:
    الا ليت اللحى كانت حشيشاً.. فنعلفها خيول المسلمينا
    وكانت اول شرارة عداوة انطوى عليها تجاهل (عباد) لحقوق الشاعر من الصلة، فاستدان من التجار للإنفاق على جارينه اراكة) وعلى غلامه (برد) وكان يحبها أشد حب كما كانا يحبانه.
    4- الب (عبّاد) على الشاعر الدائنين، فامر ببيع سلاحه وفرسه واثاث بينه ثم سجنه فيما تبقى حتى اضطره إلى بيع الجارية والغلام من التاجر (الأزجاني).
    5- لجا (ابن المفرغ) إلى (یزید بن معاوية بدمشق كما تمادی هناك في هجو آل زياد، فطلبه (عبد الله بن زیاد) والي العراق، فاستجاب الخليفة يزيد شارطاً الا يلحق به من العذاب ما يؤدي إلى تلفه، وهناك م
    هجا الشاعر البيتين (السفياني) و(الزيادي) فابتدع له (ابن زیاد) اشنع عقوبة إذ سقاه نبيذا مخلوطة بالمسهل وربطه إلى خنزير وكلب وطاف به شوارع البصرة، وبعد سجن ایام ارسله إلى اخيه (عباد) آمرا أن يمحو الشاعر بأظافره كل ما كتب في هجائهم على الجدران إلى أن وصل إلى (سجستان).
    6- بعد سجنه هناك غضب له الشعب فافرج عنه وفي طريقه
    إلى الشام كان ينشد بغلته المسماة (عدس) هذا الشعر:
    عدس مالعباد عليك إمارةٌ..
    أمني، وهذا تحملين طليقُ

    7- اعنف هجائيات (یزید بن مفرغ) هي تلك النونية التي استهدف بها الزياديين والسفيانيين إذ شهر باستلحاق (معاوية)
    (زياد بن سمية) اخأ من السفاح كما يقول:

    ألا أبلغ معاوية بن صخر
    مغلغلة مِن الرجل اليماني

    أتغضب أن يُقال أبوك عفٌّ
    وترضى أن يُقال أبوك زاني

    وأقسم أن رحمك مِن زيادٍ
    كرحم الفيل مِن ولد الأتانِ

    وأشهد أنها ولدت (زياداً)
    و(صخرٌ) من سميَّة غير دان

    وعلى غرار هذه المقطوعة الشهيرة انبنت هذه القصيدة مؤرخة البطل نفسية وتحولية:

    لماذا ناب عن سيفي لساني؟
    ألي سيفٌ؟ أفي كفِّي بناني؟

    ًأصيح الآن: هل في القلب صوتٌ
    بحجم الحقد، أقوى مِن جَناني؟

    أصيح: لكي أُمَمِّرَ أيَّ سجنٍ
    لينفث جذوةً بعضُ اختزاني

    (ألا ليت اللَّحى كانت حشيشاً
    فأعلفها تناوي اضطغاني)

    أعندي غير هذا الحرف ينوي
    كما أنوي، يعاني ما أُعاني؟

    أُريد أقوم، أعيا بانخذالي
    أُريد البَوح، يعيا ترجماني

    فأختلق المنى، وأخاف منها
    وأشجى، ثم أخشى ما شجاني

    لأن مكان قلبي غير قلبي
    لأن سبيَّ أجدادي سباني

    لأني لا أعي ما نوع ضعفي
    على علمي بنوع مَن ابتلاني

    * * *

    ألي كفَّان؟ يبدو كنت يوماً
    فصرت بلا يدين، بلا أماني

    لأن “البصيرة” انتعَلت جبيني
    وأعطت ذيل “خنزيرٍ” عِناني

    سقتني السُّم، واجتَّرت وثاقي
    وأرخَت فوق نهديها احتقاني

    فكنت أرى الشوارع تقتفيني
    وتسبقني – إلى السجن – المباني

    وأسمع زفَّةَ، هل ذاك عرسي؟
    أدَفني؟ أم سقوط مَن ازدراني؟

    * * *

    أتمشي في جَنازتها “قريشٌ”
    وتزعم أنها قصدَت هواني؟

    إلِي في ظلّ دولتها صِيانٌ
    فتحلم أنها امتهنَت صِياني؟

    أأخزاني الخليفة أم تدنَّى
    لكي يفنى، وأعتنق التفاني؟

    * * *

    أمان الصمت أجدى يا قوافي؟
    أأرضى حكم أولاد الزواني؟

    أتعزفني سيوفٌ مًن حديدٍ
    ولا “أستَلُّ سيفاً مِن أغاني؟

    وهذا الشعر آخر ما تبقَّى
    مِن الأحباب في زمن التشاني

    * * *

    بدت جلوي هِناتُ “بني زيادٍ”
    وأدمَوا دونها الْمُقَل الرَّواني

    فأغرتني القصيدة بالتَّحدي
    وأغراها بهم أخفى المعاني

    تغاضى العارفون، وثُرتُ وحدي
    كفاني هتك ما حجبوا، كفاني

    عن الخيل امتطوا دفء الجواري
    غدا الفرسان أفراس القناني

    فتى “مرجانةٍ” أضحى أميراً
    (دعَوا جرّ الذيول على الغواني)

    * * *

    إذا لم تغضبوا مثلي لهذا
    سيتلو أولَ المكروه ثاني

    لأن الشرَّ أخصبَ مِن لحاكم
    لأن العجز أوله التواني

    فهذا العوسج الملعون ينمو
    بأعينكم، وتنتحر المجاني

    أقلتُ الآن شيئاً؟ هل أصاخوا؟
    أمات الناس؟ هل أودى بياني؟

    * * *

    إذا صوتي أنا أم لون بُغضي؟
    أفي جلدي سوى الرَّجُل اليماني؟

    أُنادي: يا “يزيد” أخال “بُرداً”
    يناديني – فأهتف: مَن دعاني؟

    أكنت أنا الملبِّي والمنادي؟
    وأين وأنا؟ أفتِّش، لا أراني

    وأبحث عن يدي شجر العشايا
    وعن وجهي الزوايا والأواني

    وعن جسدي أنَقِّبُ لا أُلاقي
    سوى مِزَق القميص الأصفهاني

    * * *

    أهذا السقف – يا جدران – رأسي؟
    أهذا المشجب المحني كياني؟

    يُقال: القبر أحنى مُستقرٍّ
    فكيف لبست قبراً غير حاني؟

    * * *

    لأني متُّ آناً بعد آنٍ
    أوَدّ اليوم قتلاً غير آني

    أُحاول أن أُغيِّر أي شيءٍ
    أمام القهر أمتحن أمتحاني

    أُريد ولادةً أخرى، لموتٍ
    له عبَقٌ، ولونٌ أرجواني

    * * *

    وهل أقوى وخيل “بني زيادٍ”
    على صدري؟ وعُكَّازي حصاني

    وكل بني أبي مثل الأعادي
    فتّباً للأقاصي والأداني

    * * *

    (ألا أبلغ معاوية بن صخرٍ)
    أتيتَ مُزامناً، ومضى زماني

    “زيادٌ منك ندعوه “ابن حربٍ”
    وقد ندعو: “سُميَّةَ أم هاني”

    * * *

    ويا “عبَّاد” أبحرَ “ذو نواسٍ”
    وأبحرنا على الرمل الدخاني

    قصدنا شاطئاً مِن غير بحرٍ
    عن الأمواج، خوَّضنا المواني

    * * *

    ف ماذا أدَّعي؟ أُفرِغتُ حتى
    مِن اسمي: “يا مفرِّغ” مَن نماني؟

    أتدعوني – على المعتاد – يا ابني؟
    هضمتَ هزيمتي، قل: يا جباني

    أتَلمحني “مراديَّ” المحيَّا؟
    أتدري الشمس أني “كوكباني”؟

    أبوك أضاع – يا أبتِ – حمِاهُ
    وأنت وحميرٌ ضيعتماني

    * * *

    لماذا لم تجالد أنت مثلي؟
    أنا استوطنت في المنفى سِناني

    يدل عليك – يولدي – جبينٌ
    معينيٌّ، وصوتٌ زعفراني

    ورثتَ ملامحي وفمي ورمحي
    لماذا : لم ترث عنِّي طِعاني؟

    “سجستان” التي شرختك: نصفاً
    مراديّاً، ونصفاً “مَزرُباني”

    فصرت مُرقَّعاً مِن ذا وهذا
    أشد تمزقاً مِن طيلساني

    متى أنساك “عبَّادٌ” “أزالاً”
    أما ألهَتك غانيةٌ وغاني؟

    * * *

    لقد كانت “أراكة” عرش قلبي
    بمغتَربي، و”بُرداً” صولجاني

    فبعتهما برغمي، ويح نفسي
    وويل للغريم “الأُرَّجاني)

    * * *

    أبي.. – أين اختفى؟ أرجوك مهلاً
    أما هذا أبي؟ مَن ذا لحاني؟

    أنا حاورت شيطاناً، ولكن
    هنا الشيطان، مِن أحفاد (ماني (

    ومَن شافهتُ سيفاً يعربيّاً
    كأن لسانه رمحٌ “عُماني”

    نعم: هذا أبي مِنِّي تَبدَّى
    فأورَق مِن جذوري كلُّ فاني

    * * *

    “عَدس” لم تحملي مني طليقاً
    زمان الغدر مهمومٌ بشاني

    وصلت هنا: أكُلّ الأرض سجني
    ومسحب جثّتي بعد انسجاني؟

    فأية بقعةٍ تدعى بلادي؟
    وخيطٌ مِن دمي أضحى مكاني

    * * *

    سأخلق موطناً يمتد مني
    ويَدخُلني، يجدِّد عنفواني

    أعادت صيغتي تلك الدواهي
    عليها غضبتي، ولها امتناني

    فكيف يُعيدني عِنَباً نضيراً
    نبيذٌ قد تخثَّر في دِناني؟

    * * *

    أحسُّ – الليلة – الآفاق أزهى
    أتوهمني؟ أمِ الوهم ارتداني؟

    أحَرْ باوِيَّة حتى الليالي؟
    أللأشباح جلدٌ أفعواني؟

    ترى: ماذا اعترى صورَ المرائي؟
    أراها غيرها: ماذا اعتراني؟

    أتى الوقت المحال، أم استعارت
    سوى ميقاتها هذي الثواني؟

    لهذا الحلم وجهٌ، يحصبيٌّ
    لذاك الطيف، إكليلٌ جُماني

    * * *

    عجيبُ لمح ذاك البرق، يبدو
    يمانياً، أيكذبني عِياني؟

    له أطياب هاتيك الروابي
    له إيماض هاتيك المغاني

    على عينيه أطيافٌ كحزني
    أنامله – كأحلامي – قواني

    أهذا البرقُ روحي طار مِنِّي
    إلى وطني، ومِن عيني أتاني؟

    أراني الآن رابيةً تُغنِّي
    (ألا واليل دان الليل داني)

    يغازل ناظري هجسُ المراعي
    ويلبس قامتي شجو (السواني)

    أتَدَّكُر (السعيدةُ) لو رأتني
    بأني طفلها مهما دهاني؟

    أظن عيونها عنِّي ستُغضي
    وأضلعها تتوق إلى احتضاني

    ستهمسُ: فيه رائحتي وهذا
    – على شتفيه – خَطٌّ مِن لِباني

    له جلدٌ ترابيٌّ وجلدٌ
    مُدمَّىً فوق عظمٍ خيزُراني

    * * *

    فأدعو: يا (مذيخرة) ارقبيني
    إليك البارق الصيفي هداني

    إليك عبرتُ كُلّ ركام عصري
    وبالمستقبل اخترت اقتراني

    * * *

    ستسأل: مَن أنا؟ مِن أي دَوحٍ؟
    يريميٌّ، أبي خالي مَداني

    إلى كل الأُناس أمُتُّ: أني
    بكيليٌّ، حُديديٌّ، خُباني

    * * *

    مرايا الشمس: هل تجدين وجهي
    كما يهوي صِباك الأقحواني؟

    “يزيد” اليوم، غير “يزيد” أمسٍ
    أتى الفادي مِن القِلق الأناني

    فهَزِّي أعظمي، سيفاً. لواءً
    ودميِّني، يزغرد: مهرجاني

  • 375 مِن حماسيات يعرب الغازاتي

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  مِن حماسيات يعرب الغازاتي

    نحن أحفاد عنترة
    نحن أولاد حيدره

    كلُّنا نسل خالدٍ
    والسيوف المشهّره

    يعربيون إنما
    أمُّنا اليوم “لندره”

    أمراءٌ، وفوقَنا
    عين “ريجن” مُؤمَّرة

    وسكاكيننا على
    أعين الشعب مُخبره

    نحن للمعتدي يدٌ
    وعلى الشعب مجزره

    كلُّنا سادة الرماح
    والفتوح المعطَّرة

    كل ثقبٍ لنا بِهِ
    خِبرة (الدِّيك) بالذرة

    في الملاهي لنا الأمام
    في الحروب المؤخِّرة

    حين “صهيون” يعتدي
    يصبح الكل مقبره

    نحن في اللَّهو أقوياءٌ
    وفي الحروب مسخره

    إننا أجبن الورى
    عندما الحرب مُسعَره

    نَحن أبطال يعربٍ
    عندما نلعب “الكره”

    ونُمورٌ على الضباء
    وعلى (الصَّقر) قُبَّره

    نحن في الهزل وثبةٌ
    نحن في الجِدِّ قهقره

    ليس فينا تقدميٌّ
    سوى الفخذ والشَّرَه

    ذاك حلوٌ مؤنثٌ
    تلك أُنثى مذكَّره

    تلك أصبا مِن إبنها
    ذاك أشهى مِن “المره”

    نشتري الناس جملةً
    ننهش اللحم جمهره

    نجعل الحسن سُلعةً
    والكفاآت سمسره

    “مونت كارلو” خيولنا
    وسراديب “أنقره”

    الغدا في “سويسرا”
    والعشا في “أدنبره”

    آخر الليل مرقصٌ
    أول الصبح تذكره

    * * *

    سيفنا الشيِّك وحدهُ
    والسياسات حميره

    نبذل “القدس” منحةٌ
    نرتدي سوق “أسمره”

    ولكي ندَّعي، لنا
    في الإذاعات زمجره

    نكتري ألف كاتبٍ
    نصف مليون حنجرة

    هكذا أُمَّة العُلى
    مِن عُلاها مُطَهَّرَة

    (30 مارس 1982)

    * * *

  • 376 أسمار.. أُم ميمون

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  أسمار.. أُم ميمون

    كانت بكل عشيّة تروي
    خَبَر الطرابيش التي تهوي

    عشرون طربوشاً هناك هوَت
    وهنا ارتمى ذو الشارب الملوي

    * * *

    مِنَّا افتقدنا سبعةٌ وفتىً
    نُحنا، وكان نُواحنا يكوي

    نفنى تآويهاً، وتُشعلنا
    (أمة الجليل) وزوجةٌ “الحروي”

    ويضجُّ “مسعودٌ” فيرعبنا
    فمه العريض، وصوته النٌسوي

    كانت “لميس” تصيح: واولدي
    و”ابن الشريف” يصيح: واصنوي

    وأبي يقول لكل مكترثٍ:
    قَدَر الشجاع القتل يا (خُوِّي)

    وغرابة الأطوار لازمةٌ
    للحرب، مِن تكوينها العضوي

    * * *

    في اللّيلة الأخرى بدا قمرٌ
    زاهٍ إلى “الأروام” يستهوي

    فتكبَّدوا تسعين واقتنصوا
    مِنّا “ابن عيسى” و”ابنة البدوي”

    قلنا: انتهينا وهي ما بدأت
    واكفُّنا مِمَّا بها تخوي

    * * *

    مِن خلف ذاك التلُ باغَتنا
    جيشٌ نوانا قبل أن تنوي

    دخل البيوت فلم يجد أحداً
    وغدا بهاكالثعلب المزوي

    جئنا إليه مِن هنا وهنا
    فارتدَّ فوق دمائِه يعوي

    ويفرُّ من عرقوبه، وعلى
    قدميه يسقط نصفه العُلوي

    فاختار (عزّت) مَن يُبلِّغنا:
    كفُّوا عن الفوضى، خذوا عفوي

    * * *

    في “الشّعب” أردَوا “مرشداً” وأخي
    واستوحدوني، فانثنوا نحوي

    ناديت: يا أهل الحمى، فعدت
    كل القرى، كالعاصف الشتوي

    قالوا: أرينا أين مكمنُهم
    فحملت فاسي، واحتذوا حذوي

    وفرحت حين رأوا وطني
    وامتد فوق عيونهم زهوي

    منهم قتلنا تسعةٌ، قتلوا
    عشرين مِنّا، آه واشجوي

    أحسست كل ممزقٍ جسدي
    ورأيت كل معفَّرٍ شُلوي

    * * *

    كانت بلا نارٍ بنادقنا
    ومدافع “ابن الهمشلي” تدوي

    والفرد منهم حجم أربعةٍ
    مِنَّا، ونحن كزرعنا نذوي

    يوم استبى الخيّال “عافيةٌ”
    صاحت: فلبّي “أحمد الصُّلوي”

    وهناك جاءت كل رابيةٍ
    برماحها، كالماطر الغدوي

    واشتدّ ذاك اليوم، لا فرسٌ
    ينجي، ولا مِن مهربٍ يؤوي

    في ذلك اليوم ارتدى دمهُ
    عمّي، وضاع “محمد العروي”

    * * *

    هدرت “بقاع البَون” معركةٌ
    قالت لغازي الدار: ذق غزوي

    كُنّا نصير بعنف قوَّتهِ
    أقوى، ويعيا كيف يستقوي

    يوم “المقاطرة” اغتلت غضباً
    قالت ل”عصمت” هل ترى صحوي؟

    هطلت عليه النار قلعتها
    فاندكّ مثل الطحلب المشوي

    وهنا سمعنا الأرض تخبرنا
    إني أكَلت مَن ابتغوا حسوي

    * * *

    آباؤكم كانوا أعزّ على
    ذهب “المُعِزّ” وكل ما يُغوي

    ماذا أقصُّ اليوم؟ كم سقطوا
    والموت لا يغفو ولايثوي..

    كان الصباح كأنف أُمسيةٍ
    كان الدجى كالملعب الجوِّي

    * * *

    والآن هل ألقى معازفهُ
    زمنُ الأسى كي يبتدي شدوي

    وتنحنحت كي تبتدي خَبراً
    فبكت، فغاص أمرّ ما تحوي

    حدث الذي.. والدمع يسبقها
    ويقول عنها غير ما تطوي

    (مارس1982م)
    * * *

  • 377 أولاد عرفجة الغبشي

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  أولاد عرفجة الغبشي

    قيل عنهم: تمردوا وأطاعوا
    وكأمثالهم، أضاعوا وضاعوا

    قيل: جاؤوا مِن صخرتين بوادٍ
    قيل: شبّوا كما تطول التّلاعُ

    قيل: هم إخوة، وقيل: رفاقٌ
    قيل: هم جيرةٌ غذاهم رضاعُ

    ذو أصولِ، أعلى المزايا لديهم
    سلُّ سيفٍ أحدَّ منه الذراعُ

    * * *

    قيل: كانوا إذا أجالوا سيوفاً
    في رُبى (صعدةٍ) أضاءت (رداعُ)

    وإذا أولموا ب”صعفان” ليلاً
    كان الليل في الخليج التماعُ

    * * *

    قيل: كانوا كواكباً فاستحالوا
    وأدياً للشموس فيه انزراعُ

    فترى الأرض حيث حلُّوا سماءً
    ولهم مثلها سنىً واتساعُ…

    ولهم نسبةٌ إلى كل برقٍ
    وعلى نيّة الرياح اطِّلاعُ

    * * *

    قيل: إن الصخور كانت رطاباً
    في صباهم، وللرَّوابي شراعُ

    رضعوا في الصِّبا حليب الثُّريا
    وارتعوا قامة الرُّبى حين جاعوا

    * * *

    قال راوٍ: هم أربعون، وثانِ
    قال: هم تسعةُ وعمٌّ شجاعُ

    فانبرى ثالثٌ، تَعِدّان ماذا؟
    هم أُلوف كما تمور القلاعُ

    هل تكيلانهم؟ نعم هم لدينا
    نصف صاعٍ، وقل إذا شئت صاعُ

    ربما تشبرانهم ذات يومٍ
    ربما، أول القياس ابتداعُ

    * * *

    قال بعض المحللين: أطلُّوا
    فجأة في الدجى فهزُّوا وراعوا

    قبل أن يظهروا أتى الوصف عنهم
    فرآهم – قبل العِيان – السَّماعُ

    وأضاف: اغتلوا قليلاً وأغفوا
    هل أقول اشتروا حماساص وباعوا؟

    حين ذاك التقوا بزغب الأماني
    مثلما يلتقي الندي والشُّعاعُ

    * * *

    قال مستبصرٌ: أتوا في زمانٍ
    للنقيضين في يديه اجتماعُ

    فلهم كالزمان قحطٌ وخصبٌ
    وطفورٌ كموجهِ وارتجاعُ..

    ولهم مثل ركبتيه انحدارٌ
    ولهم مثل حاجبيه ارتفاعُ..

    عن حكاياتهم أشاعوا كثيراً
    واستزاد الصدى إلى ما أشاعوا

    * * *

    قَصَّ مؤرخٌ: كيف جاؤوا
    قال ثانٍ: مضوا وجاء الصراع

    ما تراهم تدافعوا ثم قرُّوا
    وامتطى الآن نفسَه الاندفاعُ؟

    حينما أقبلوا تغنّى التلاقي
    فلماذا لا يفكهرُّ الوداعُ…؟

    شوّهتهم صحيفةٌ كالأعادي
    وأعادت صحيفةٌ ما أذاعوا

    * * *

    قيل: جاؤوا النزاع لَمّا تبدّوا
    قيل: مِن قبلهم أفاق النزاعُ

    قيل: جاؤوا البقاع كي يحرقوها
    قيل: جاءت إلى الحريق البقاعُ

    قيل: نابوا عن الغبار فهبّوا
    ثم ناب الغبار عنهم فماعوا

    عجزوا حين حاولوا أن يطيروا
    وأرادوا أن يهبطوا فاستطاعوا

    ثم قالوا: تزوجوا (بنت آوى)
    وأطالت حفل الزفاف السباعُ

    وتبنّى الحياد هذا وهذا
    واتّقى ما انطوى عليه القناعُ

    قيل: هذا، وقد يقال سواهُ
    كل ماضٍ للقادمين مُشاعُ

    * * *

  • 378 زوار الطواشي

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  زوار الطواشي

    كان يرتاد (الطواشي)
    راكباً بغلاً، وماشي

    تارةً يلبس طمراً
    تارةً أزهى التواشي

    كان يخشى من يراه
    كل راءٍ منه خاشي

    * * *

    لي هنا حامٍ كأهلي
    وحمىً يبغي انتهاشي

    ما لهم يكسون جذعي
    أعيناًً تحسو مشاشي

    هل دروا أوطار قلبي
    من ضموري وانتفاشي؟

    ألفوا الدهشة مني
    أنا طال اندهاشي

    جاوزوا دور التوقي
    كيف أجتاز انكماشي؟

    * * *

    أخطر الشبان “سعدٌ”
    “زيد يحيى” و”الرياشي”

    أعنف النسوان “سعدى”
    “مريمٌ” “بنت الخباشي”

    * * *

    سوف أخفي من نفوري
    ولهم أبدي بشاشي

    فأحيي من ألاقي
    وأغالي في التحاشي

    ربما ارتابوا بصمتي
    ربما أوحى نقاشي

    ربما أجدى ثباتي
    ربما خان ارتعاشي

    * * *

    سألوا: أهو ولي
    أهو للسلطان واشي؟

    أهو داعٍ “حوشبي”
    أهو عفريتٌ براشي؟

    * * *

    قيل: مسؤول كبيرٌ
    قيل: مرشوٌ وراشي

    قاته المختار “وادي”
    كوزه المخصوص “باشي”

    * * *

    قال شيخٌ: ذا مخيفٌ
    واكتبوا: قال الحفاشي

    دخله في كل يومٍ..
    فوق أضعاف معاشي

    صحنه يكفي جياعي
    كأسه يروي عطاشي

    * * *

    قيل: يحتاز كتاباً
    كل سر فيه فاشي

    قيل: يحوي أف سفرٍ
    ويعي حتى الحواشي

    فهو يروي عهد(باذان)
    وتأريخ (النجاشي)

    يعرف الأمس ويدري
    كم ستأتي من غواشي

    * * *

    ولماذا لم يعلم؟
    كالشهاري كالخراشي

    أهو يتلو كالرقيحي؟
    أهو يشدو كالعتاشي؟

    أو كعز الدين يروي
    برمكيات الرقاشي؟

    مذ تبدى وهو يغى
    بيت جلاب المواشي

    من رآه قال يوماً:
    هات لي، أو خذ كباشي

    ويغادي (تلك) حيناً
    واحياييناً يعاشي…

    قائلاً: يصفو شرابي
    ههنا يحلو انتعاشي

    فسهيل سقف بيتي
    وثريّاُه فراشي

    عرفوهُ، كان عطّاراً
    وأياماً قماشي

    واسمه بالأمس “حلمي”
    واسمه اليوم “الهتاشي”

    * * *

    فغدا يخفي ويبدو
    ثم يوطيه التّلاشي

    صار أسمار العشايا
    وأحاديث المماشي

    (أكتوبر 1982م)

  • 379 إحدى العواصف

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  إحدى العواصف

    كتلفت الذكرى الحميمه
    كذهول أيام الهزيمه

    كفرار محكومٍ عليه
    كزوجةٍ أمست غريمه

    كوثوب مزبلةٍ، لها
    ساقٌ على أخرى جثيمه

    كدبيب أول سكرةٍ
    كختام أغنيةٍ كليمه..

    جاءت منوعةً كما
    يروون أخبار الجريمه

    وكما يصيخ المخبرون
    إلى تزاويق النميمه

    * * *

    تهمي كحكي البدو: عن
    أسواق عاصمةٍ فخيمه..

    تختال “كامرأة العزيز”
    وتنحني مثل البهيمه

    كالرمل تصهل، كالطبول
    تنق، تخطب كالحكيمه

    كجدال برميلين، عن
    أي الأمور: هي الصميمه

    تلقي ترهلها، على
    مزق العشيات السئيمه

    في كل مرأةٍ تفتش
    عن ملامحها القسيمه

    * * *

    ومن الرماد إلى الرماد
    تزف طلعتها الوسيمه

    تعوج حتى الركبتين
    وتنثني كالمستقيمه

    * * *

    تلج الثثقوب إلى الثقوب
    لأنها، ليست جسيمه

    ولأنها الأم العقيم
    أرادت الطرق العقيمه

    * * *

    في سن والدةٍ، تتوق
    إلى الرضاعة، كالفطيمه

    ولها قوائم فرختين
    وقامة امرأةٍ لحيمه..

    من خيفة الشيطان
    تحمل، كل أمسية تميمه

    وعلى شوارع ظهرها
    تلهو الشياطين الرجيمه

    * * *

    تمضي -كعادتها- بلا
    جدوى، تجيء بدون قيمه

    بالزرع تعصف، بالصخور
    تلوذ، تبسم كاللئيمه

    فتعدد الأزواج، وهي
    العانس الولهى الدميمه

    * * *

    وعلى مناكبها تجيء
    حقائب الخطط الأثيمه

    وكتائب “السفليس” من
    أنواع، “ريتا” أو “بسيمه”

    تستورد “السرطان”
    تحسبه مساعدة كريمه

    وبغير مسمعها تصيخ
    إلى البراكين الكظيمه

    * * *

    أهي الوخيمة يا هبوب
    أم المهبات الوخيمه؟

    سلمت يداها: قل معي
    ألأنها ليست سليمه؟

    أأتت كإحدى العاصفات
    من النسيم، أو النسيمه؟

    أهي الذميمة يا روابي؟
    أم أبوتها الذميمه..؟

    أسكت، لأن فم التقصي
    يجرح اللغة الرخيمه

    وهل التردي طبعها؟
    ألفت عوائدها (حليمه)

    تخشى وترجو، لا تصادق
    لا عداوتها أليمه

    كالوارث المطلاق، تهوى
    كالمطلقة النهيمه

    كسلى، وأنشط من ذباب
    الصيف، مترفةٌ عديمه

    * * *

    في جعبة التجار جببهتها
    نواياها الكتيمه

    من كل موطوء الدماغ
    لها نديمٌ، أو نديمه

    مشدودةٌ بعرى هناك
    وعن هنا باتت صريمه

    * * *

    تعرى، وتلبس كل عيدٍ
    طيف “صعدة” و”الجميمه”

    وتقول: والدها “يريمٌ”
    أمها تدعى: “يريمه”

    وقرين عمتها “نعيمٌ”
    واسم خالتها “نعيمه”

    اسميةٌ، ما لونها
    ألها روائحها الشميمه؟

    حتى الأسامي ترتديها
    تلك أوسمة العزيمه

    رمز المواطنة التي
    بسوى لوازمها لزيمه

    لا فرق في أسمائها
    بين المميتة، والمنيمه

    * * *

    تنأى عن الأتي، تعود
    تظل رائحةً مقيمه

    تومي كواعدةٍ، كقاتلةٍ
    بمهنتها عليمه

    تهوي، وتصعد كالدلخان
    على الحصى تبدو زعيمه

    وكأن حشد غبارها:
    أبطال ملحمةٍ قديمه

    * * *

    كالدود، لم ينبت لها
    عظم وسموها: العظيمه

    وهي الأقل من التساؤل
    والإجابات السقيمه

    وأقل من برد المديحة
    من حرارات الشتيمه

    * * *

    للطين تولم، تبتني
    عرشاً، برائحة الوليمه

    تهب الكؤوس وتحتسي
    دمها، وتحسبه غنيمه

    وعلى تجاعيد الفراغ
    تصف أقنعةً نظيمه

    وتهب عن أمر المصارف
    والوعود المستديمه

    يا من تبنوا يتمها
    من منكمو أكل اليتيمه؟؟
    (أكتوبر 1979)

  • 380 هذا اليأس

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  هذا اليأس

    ترى: ما نوع هذا الياس
    وهل لقياسه مقياس؟

    كسقف السجن يمناه
    بنان شماله، أمراس

    له رأسان في رأسٍ
    وظهرٌ مثل ألفي راس

    وأذقانٌ بلا شعرٍ وأيدٍ شعرها مياس
    وجذعٌ لا أساس له

    وجذع ثابت الأساس

    * * *

    ألا تدري له بدءاً؟
    فهل يأتي من الأرماس؟

    عليه روائح الموتى
    ورعب السوق والمتراس

    ترى: من أين مأتاه؟
    وما يطوي من الوسواس؟

    أراه فوق من قاموا
    وتحت ملامح الجلاس..

    هناك يلوح، سلطاناً
    وشيطاناً هنا، خناس

    فهل في قلبه حسٌّ
    وهل في سمعه إحساس؟

    يجوس البدء والمنهى
    ولا ينجر كالجواس

    عليه عمائم كالدور
    فوق ربىً من الأتياس

    دنيء السير والمسرى
    جبان الغيم والإشماس

    ألا يبدو له نوعٌ؟
    ويغشى سائر الأجناس

    * * *

    يدوي تحت جلد الصمت
    يعوي في فم الأجراس

    يحن بغلة الظامي
    ويغلي في عروق الكأس

    يدمي المأتم الباكي
    يحل جوانح الأعراس

    ويعلو صهوة المثري
    يجر عباة الإفلاس

    ويربو في بيوت المال
    يسعل في حشا الحراس

    ومن سوق إلى سوقٍ
    يسوق الرق والنخاس

    يئن بقبضة الحداد
    يبكي في يد النحاس

    يبيع الخوف أقراصاً
    ويبتاع المنى أكياس

    يدير الحكم والمحكوم
    والمدسوس والدساس

    * * *

    يشكل طعمه خمراً
    مياهاً، مسرحاً، كراس

    أناشيداً، وأخباراً
    دماً، فوق الدم النعاس

    نهوداً من غبار الليل
    من تبن الأسى أكداس

    عشاء من حليب الريح
    أوهاماً من الألماس

    طوابيراً تفوق العد
    بالأخماس والأسداس

    (بسوساً) في حمى (روما)
    وسوقاً في حمى “جساس”

    مرايا لا ترى شيئاً
    وجوهاً تمضغ الأنفاس

    * * *

    يرى من شوك إبطيه
    ومن عكازه النواس

    ويرمي تارةً ناراً
    ويهوي تارةً كالفاس

    وطوراً يقرأ الأبراج
    طوراً يخنق النبراس

    وحيناً يرتدي المحراب
    حيناً يلبس القداس

    ويوماً يوقد الثورات
    يوماً، يبلغ الأقباس

    * * *

    هنا يهمي توابيتاً
    هنا ينقض كالأفراس

    هنا ينصب أحجاراً
    ويمشي هاهنا كالناس

    ترى: ماذا تسميه
    عيون الرمز والأقواس؟

    (نوفمبر1981م)
    * * *

  • 381 علامات العالم المستحيل

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  علامات العالم المستحيل

    قيل لابد، أن يطيل الغيابا
    قيل ينأى، كي يستزيد اقترابا

    قيل عنوان نبعه، كل جرحٍ
    قيل يستوطن الظنون الكذابا

    قيل أدناه عاصفٌ قبل عامٍ
    وثناه غيمٌ، فأغضى وحابى

    * * *
    وهنا شكل الحصى مقلتيه
    مقلةً حيةً، وأخرى غرابا

    وعلى وجنتيه، يمتد وكرٌ
    يستضيف الذباب فيه الذبابا

    فوقه يفسق الدجى بالمراعي
    تحته تسحب النمال الهضابا

    يعشب القحط في حشاه رمالاً
    ويباري فيه اليباب اليبابا

    * * *
    قيل أودى، قيل استحال نواةً
    قيل كهفاً، أمسى لكهفين بابا

    قيل أغفا هناك، يجتر حزناً
    مثلما يذكر النجيع الحرابا..

    قيل من جوف حارةٍ، سوف يرقى
    قيل من لا هنا، يجيء انصبابا

    قيل يأتي من تحت شعث الروابي
    قيل تنوي الربى إليه الذهابا

    قد يناديه كل صقع فيأبى
    وبلا دعوةٍ، يكون الجوابا

    * * *
    قالت الشمس: ذات يومٍ سيهمي
    قالت الريح: شاهدته سرابا

    قال شيخ الحمام أبصار قلبي
    تجتليه، عيني تراه ارتيابا

    فأجاب الغراب: يبيض لوني
    قبل أن يبتدي، يحث الركابا

    قال سرب القطا: أظن الثريا
    أوشكت أن تحل عنه النقابا

    وادعى المنحنى بأن خطاه:
    أصبحت من رنو عينيه، قابا..

    هل تعي يا قطا ضجيجاً خليطاً؟
    ربما استنبحت خطاه الكلابا؟

    عنه ينبي هذا النباح الموشى
    بأغانٍ يشحدن ظفراً ونابا

    فأجاب القطا: حكت عنه أمي
    مثلما يمضغ الخجول العتابا

    أخبرت أنه أتى قبل عشر
    وتولى، ومادرت كيف ذابا

    هل أحست إذ ذاك من أين وافى؟
    لا، ولاحمنت إلى أين آبا..

    ربما ظن أنه كان فجاً..
    وانثنى كي يطيب، والآن طابا

    * * *
    والذي لا يراه قال: رآه
    والذي شمه يقيناً تغابى

    قيل ينهل من عيون الأماني
    قيل يسري تحت السطوح انسرابا

    قيل من ظنه سيرنو إليه
    يملك الحالم الغيوب اغتصابا

    قيل من أصدق العلامات عنه
    صخرةٌ كالقطار تعلو شهابا..

    قيل بل أنجم تحول كؤوساً
    ورؤساً لا تستقل الرقابا

    قيل بل نم عنه، وقتٌ تجزا
    ساعداً مديةً، ووجهاً ضبابا

    قيل أهدى علامةٍ عنه طفل:
    يحتذي غابةً، ويطوي العبابا

    عبهري، سفرجلي المحيا
    مقلتاه، تعنقدان الرغابا

    وله لحيةٌ وتسعون ثدياً
    وفم، يمسخ الأفاعي قبابا

    * * *
    قيل تنشق بذرةٌ عنه يوماً
    قيل تدمي البروق عنه السحابا

    ربما كان تحت حزن الدوالي
    وقريباً يجتاز، ذاك الحجابا

    * * *
    قيل من أبعد الغرابات يدنو
    يعجن الضوء والندى والترابا

    يغزل البيد برتقالاً وورداً
    يحمل البحر، في يديه كتابا..

    يدخل العشب، يركض فيها
    يستحيل الهبا غصوناً كعابا..

    * * *
    قيل يغشى بيوت (صنعا) صباحاً
    قيل يغشى ليلاً (أديس أبابا)

    قيل فجراً يزف (بيروت) أخرى
    وإلى (تل ابيب) يحدو الخرابا..

    قيل يمحو مجاعة (الهند) صيفاً
    قيل يستهل هنداً شبابا

    قيل من خارج التقاويم يأتي
    من وراء الحساب، يلغي الحسابا

    يبدع العالم الصديق، وينسى
    ثانياً، ثالثاً، نعاجاً، ذئاباً..

    طاوياً، كل من دعوهم، رؤوساً
    دافناِ، كل من تسموا ذنابي..

    * * *
    وسيبدو عاماً، أشذ صبي
    أو يسمى: أحنى عجوزٍ تصابي

    ثم يبدو غير التي لقبوها
    ثورةً، غير ما دعوه انقلابا..

    ويرى من وضوحه كوليدٍ
    يرتدي عريه الطفولي ثيابا

    قيل هذا، وتارةً عكس هذا
    ليت شعري: أذاك، أم ذا أصابا؟

    (مايو 1981)

    * * *

  • 382 غير كل هذا

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  غير كل هذا

    مثلما تهرم في الصلب الأجنة
    تأسن الأمطار، في جوف الدجنه

    يحبل الرعد، ويحسو حمله
    ثم يستمني غباراً وأسنه

    تمطر الأعماق، نفطاً ودماً
    يحلم الغيث، بأرضٍ مطمئنه

    يعشب الرمل، رمالاً وحصىً
    يستحيل الغيم، بيداً مرجحنه

    ينطوي البرق على إيماضه
    كتغاضي (عمةٍ) عن طيش (كنه)

    ينشد الحلم البكارات التي
    لا يعي النخاس، من ذا باعهنه

    تأكل العفة من أثدائها
    يغتدي القتل على المقتول منه

    * * *

    من هنا؟ سوق البغايا وحده
    يكتب التأريخ، يتلوه لهنه..

    هل دم الإجهاض أمسى أحرفاً؟
    للكتابات، لزوجاتٍ وصنه

    فيلوك الصمت شدقيه، كما
    تعلك الخيل الجريحات الأعنه

    مثلما يستضحك القش، كما
    ينفث المصدور أوجاعاً مرنه

    * * *

    يبتغي النبت الندى، أرضاً سوى
    هذه الموطوءة القلب المسنه

    وسماءً غير هذي تنجلي
    من وراء الحلم، من تحت الأكنه

    وربى أخرى صبايا، للضحى
    من حكاياهن لثغاتٌ وغنه

    عالماً يأتي بلا بادرةٍ
    زمناًً من لا متى، من لا مظنه

    (مايو 1981م)

    * * *

  • 383 صعلوك..من هذا العصر

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  صعلوك..من هذا العصر

    كان يحس أنه خرابه
    وأن كل كائنٍ ذبابه

    وأن في جبينه غراباً
    يشوي على أنفاسه غُرابه

    وأنه نقابةٌ طموحٌ
    وشرطةٌ تسطو على النقابه

    وبعضه يلهو بهجو بعضٍ
    وكله يستثقل الدعابه

    * * *
    وتارةً يرى البحور كأساً
    في كفه والعالم استجابه

    وأن في قميصه نبياً
    أغنى عن الإعجاز والصحابه

    وأن إبليس على يديه
    أتى يصلي صادق الإنابه

    وأن “هارون الرشيد” يرجو
    في بابه التشريف بالحجابه

    وأن أنف الشمس كان فأساً
    من نصف قرنٍ طلق الحطابه

    * * *
    وتارة يرنو إلى الثريا
    كحائضٍ نامت، على جنابه

    تبدو لعينيه “بنات نعشٍ”
    خناجراً غيمية الذرابه

    ما طالعي؟ كانت تقوم أمي:
    مكتوبةٌ على ابني “الشقابه”

    رأت أبي كان عصاً “لفيضي”
    وراعياً عند “بني ثوابه”..

    وعند “ثاوي يفرسٍ”يرجي
    -مثل ابن خالي- (مهنة الجدابه)

    كانت تود أنني فتاةٌ
    تغوي ثرياً، تحسن الحلابه

    * * *
    نجمي هنا، أرض الحمى سمائي
    هذا نداه، أنجم مذابه

    وبرج عشقي، مقلتا “أزالٍ”
    وبرج حظي في يدي (رصابه)

    المنحنى، في موطني شهابٌ
    زاهٍ، وكل ربوةٍ شهابه

    * * *
    وههنا يصغي، يحس هجساً
    ينشق من قرارة الكآبه

    فيلمح المآذن استحالت
    مشروع برقٍ، يبتغي سحابه

    يخال صفر الرابيات تبدو
    عرائساً، وردية الصبابه

    * * *
    يحكون عنه: أنه فقيرٌ
    ونادراً ما يأكل القلابه(5)

    وغالباً يمسي بلا عشاءٍ
    عن نفسه ساهٍ، عن القرابه

    وأنه يثني العقاب عنه
    ولايمد الكف للإثابه

    وأنه يشتم كل وكرٍ
    وأنه يرتاد كل غابه

    يستبطن المسارب الخفايا
    من قعرها، في أول انسرابه

    لذا رأوه، أخطر الحزانى
    لأنه مستغرب النجابه

    لأنه، من نفسه عليها
    يخشى، ولا يسترهب الرهابه

    * * *
    من ذلك الصعلوك؟ صار هماً
    وكان يوماً، تافهاً لعابه

    بأمه، كان (الفقيه) يزري:
    بشراك بابن الخير يا “كعابه”

    وكان يدعى في صباه، نحساً
    فصار يدعى، حامل الربابه

    وكان يعطي الفعل حرف جر
    ولايرى للمصدر انتصابه

    ومثل شيخ النحو، كان يحكي:
    تأنيث بابٍ -يا بني- بابه

    ومن أسامي النابغين يروي:
    (السهروردي) و”ابن خردذابه”

    * * *
    واليوم يغلي وحده كسفرٍ
    للريح يروي: أغرب الغرابه

    يلقي “سهيلاً” فحمه ويبدي
    نجماً يعير الشارع الثقابه

    يمحو تواريخ التي ستأتي
    ويبتدي مستقبل الكتابه

    (يوليو 1981)

    * * *

  • 384 قراءة.. في كف النهر الزمني

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  قراءة.. في كف النهر الزمني

    هل هذا الجاري مفهوم؟
    يبدو مجهولاً، معلوم

    صنعائياً من “روما”
    أمريكياً من “مخزوم”..

    عيناه في إبطيه
    وله أنفٌ كالقدوم

    قدماه حرف جر
    فمه كالفعل المجزوم

    * * *
    أدهى من رأس الأفعى
    أنمى من شجر الزقوم

    أجلى من سقف المقهى
    أخفى من أوهام البوم

    وأنا، ما بين الخافي
    والبادي فيه، مقسوم
    * * *
    يستخفي حيناً، يبدو
    حيناً، شيطاناً مرسوم

    آناً عينياً، آناً
    شكلاً غيبياً مزعوم

    يرنو كثقوب المبغى
    يومي كالطيف المجذوم

    يصبو كالشيخ الفاني
    يبكي كالطفل المفطوم

    هل ذا الجاري يجري
    أو أن المجرى مركوم؟

    يمتد هنا مسئوماً
    وهناك يعيد المسئوم

    ينحل شكولاً شتى
    يبدو منثوراً منظوم..

    فعلاً لا أفعال له
    حالاً مجروراً مضموم..

    عنقاً مقطوعاً، رأساً
    برقابٍ أخرى مدعوم

    إطلاقاً، لا صوت له
    موتاً ذا صوتٍ مبغوم

    يبدو ملهى في “دلهي”
    قصفاً ودماً، في “السلوم”

    مذياعاً في (هولندا)
    كعطاس المبغى المزكوم..

    في “واشنطن” اسطولاً
    ينوي إبرام المبروم..

    أيشن هجوماً؟ ومتى
    أجلاه الشرق المهجوم؟

    يحتل المحتل به
    يقتاد زمام المزموم

    ألهذا الجاري صفةٌ
    أله تاريخٌ موسوم؟

    يمسي كبشاً في “صيدا”
    يغدو ثوراً، في “الخرطوم”

    سوقاً حراً في “نجدٍ”
    “ضباً هزروفاً” مخطوم

    ريماً وجرياً “كلباً”
    كندياً يدعى “برهوم”..

    فرواً رومياً يكسو
    بيضات الخدر المعصوم

    “جملاً” لا يرعى “شيحاً”
    لا عهد له “بالقيصوم”

    لا يدري شيئآً إلا
    خلع السروال المنهوم

    * * *
    يدعى شيخاً في “طنطا”
    إفيونياً في “الفيوم”
    “حافرم” من ذا؟ سموه
    فراماً صار المفروم

    في “ديفد” أمسى كنباً
    في “سينا” نصراً مهزوم

    * * *
    هذا الجاري يجري من
    قدميه حتى البلعوم

    حيناً لا إيقاع له
    حيناً ذا نبضٍ منغوم

    حيناً وجهاً مشتوماً
    حيناً أزرى من مشتوم

    يبدي تسجيم الفوضى
    ويغطي القبح المسجوم

    ويخاف ذباب المقهى
    ويغذي فيه الجرثوم

    * * *
    أتلو كفيه فصلاً
    من سفر الآتي المحتوم

    يرتد جداراً، يلوي
    زنديه جسراً ملغوم

    يضحي في “ميدي” نفطاً
    يمسي تبغاً في “الأهنوم”

    تكساً في “صنعا” رقماً
    بالحبر الثلجي مرقوم

    يعدو هراً حجرياً
    يستلقي فاراً مرجوم

    ويلوح “بسوساً” أخرى ألظلم
    لديها المظلوم

    يغدو صلحاً أخوياً
    لبقاً في حسم المحسوم

    * * *
    يعلو كالبحر الطاغي
    يقعي كا “الكوز” المثلوم

    أملى بكنوز الدنيا
    أعرى من كوخ المحروم

    * * *
    ماذا أحكي؟ عن ماذا؟
    زمني كالكهف المردوم
    مفصوم عن شطيه
    وأنا عن نبعي مفصوم

    هل يأتي زمنٌ يمحو
    من لغتي: (كان المرحوم)؟..

    * * *
    أأثير هموماً كبرى؟
    من ذا بالكبرى مهموم؟

    السوق الهم الأطغى
    لا ملتزماً، لا ملزوم

    * * *
    : إني مهضومٌ: وأنا
    من ذا للوطن المهضوم؟

    المعروقي الأيدي
    أحد عن حس مغموم؟

    هل تستدعي تصديقاً
    يا هذا الصدق المذموم؟

    * * *
    ماذا أحكي؟ هل أشجي
    هذا الإسمنت المتخوم؟

    أروي للشؤم الآتي
    تأريخ الماضي المشؤوم

    * * *
    أهذي وحروفي تهوي
    حولي كالطير المسموم

    حتى ظلي متهمٌ..
    وقميصي مثلي موهوم

    * * *
    من أين أنادي؟ حلقي
    بالشمع القاني مختوم

    وعلى صدري برميلٌ
    بنجيع بلادي موشوم

    ولماذا لا تبقي لي
    هذياني، إني محموم

    قل ما تهوى، لكن قل
    بفم ليس له حلقوم

    * * *
    هذا المذياع الأمي
    أقوى من صوتي المكلوم

    هل هذا الإسمنت فمي
    وعلى أنفاسي قيوم؟

    ألهذا الجاري نسبٌ؟
    أم هذا ظرف مقحوم؟

    * * *
    ويحي، من ذا ينسيني
    أني كبلادي معدوم؟

    وبأني مبيوعٌ من
    بياعٍ مثلي مقصوم

    وبأني محكومٌ في
    كفي مأمورٍ محكوم

    وبأني بيدي غيري
    من لحمي ودمي مطعوم

    يا من أجلى “إبرهةً”..
    أضحى عربياً “يكسوم”

    * * *
    أدري أني محتل
    وأرى فوقي خيل الروم

    أدري، لكن ما الجدوى
    من علمي، إني موصوم؟

    هل يبنيني إدراكي
    أني من أصلي مهدوم؟

    هل يشفي من أزماتي
    ترديدي: أني مأزوم؟

    ماذا تحكي، لا تغضب
    لم أكشف أمراً مكتوم

    عملي! أعطي للمرئي
    سمةً، لغة للمشموم

    أتلو كفاً مائياً..
    وفماً كالصخر المخروم

    حيناً استقري عقماً
    حيناً تأكيداً مسقوم

    فأحس جذوراً خلفي
    وأشم أمامي برعوم

    * * *
    هل تستجلي ما يخفى
    عنا، يا أكال الثوم؟

    عفواً: إني عفريتٌ
    عرافٌ، واسمي “يحموم”

    أستنبي ما لا ينبي
    وأعي ما تحت الحيزوم

    * * *
    هل تحت الإسمنت دمٌ
    يغلي، وطفورٌ مكظوم؟

    ما لا يجري مفهومٌ..
    الجاري غير المفهوم
    * * *

  • 385 الصمت المر

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  الصمت المر

    هاهنا أقعت اللغه
    كالؤوس المفرغه

    كشظايا صفيحةٍ
    كالعظام الممرغه

    واستحالت حصىً بلا
    أي دعوى مسوغه

    * * *

    لا استحرت بحرقتي
    لا استجابت لدغدغه

    ساهدٌ استفزها
    وهي في الموت مولغه

    يلهث الصمت فوقها
    كالرئات المتبغه

    شهوة البوح داخلي
    صخرةٌ ذات بغبغه

    أو جلودٌ تفسخت
    تحت إرهاق مدبغه

    * * *

    ليس في الصمت حكمةٌ
    لا البلاغات مبلغه

    فلسف الرمل يا حصى
    وامنح الريخ أدمغه

    لا أنجلى المختبي ولا
    غطت القبح مصبغه

    (نوفمبر 1982)

    * * *

  • 386 بنوك.. وديوك

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  بنوك.. وديوك

    لنا بطونٌ.. ولديكم بنوك
    هذي المآسي، نصبتكم ملوك

    حرية المقهى لنا، عندكم
    لكل بابٍ داخلي فكوك
    * * *

    من أي صنفٍ أنت؟ إني إلى
    شيءٍ سوى ما في يديكم هلوك

    لكم ثراءٌ، ولنا ثورةٌ
    من أنت حتى تدعي، من أبوك؟

    نصف يدي مغلولةٌ ههنا
    ونصف زندي، عامل في “تبوك”

    أنا الحواري، والقرى كلها
    -كن مثل إحداها، سكوتاً تروك

    -لأنني منها، فمي بعضها
    – يخاف لا تدري غداً أين فوك

    * * *

    لنا شروطٌ، ولكم شرطةٌ
    تخط بالكرباج (حسن السلوك)

    لنا نقاواتٌ، لكم عكسها
    فأينا أولى بمنح الصكوك؟

    * * *

    عن من تعادي؟ كل من تجتبي
    ملوا نضالاً، والعدا أنهكوك

    يا ضعفنا، تبدو لهم سافراً
    يا ضعفهم، هيهات أن يدركوك

    * * *

    لكم سجونٌ، ولنا عنكمو
    تجادلٌ مثل نقار الديوك

    عنا تلوكون اللغات التي
    نعني سواها، أي همسٍ نلوك؟
    * * *

    ظنونكم عنا يقينيةٌ
    يقيتنا عنكم، كخوف الشكوك

    لنا مناقيرٌ حماميةٌ
    لكم مدىً عطشى، وجبن سفوك

    * * *

    أنتم تحوكون الذي لا نرى
    وتستشفون الذي لا نحوك

    هذا انتهاكٌ، بل عدائيةٌ
    كل ضيائي عدو هتوك

    قل غير هذا، لا تقل غيره
    ملكت من يبغون أن يملكوك

    (يونيو 1980م)

  • 387 زامر الأحجار

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  زامر الأحجار

    موطني أدعوك، من تحت الخناجر
    وإلى زنديك، من موتي أسافر

    هامتي عنوان بيتيك، وفي
    قبضتي من سرة الريح، تذاكر

    من سعال التبغ أطفو، وإلى
    جبهتي أخرج من جوف المحابر

    تخبز الكثبات في جمجمتي
    وجهها خارطةً حمر الدوائر

    * * *

    المسافات معي تمشي، إلى
    ركبتي، تأتي، ومن ساقي تغادر

    من هنا، من نصف وجهي، وإلى
    نصف وجهي سائرٌ، والدرب سائر

    من هنا آتي، وآتي من هنا
    دلني أرجوك: من أي المعابر؟

    فيك أفنى، أرتمي سنبلةً
    تحفر الأشواك من منقار طائر

    عن ندى يغزلني مزرعةً
    ومهباً يعزف الريح بشائر

    فيك أمتد طريقاً، أنهمي
    كرمةً، عصفورة، مشروع شاعر

    * * *

    هاك، شكلني كتاباً، وردةً
    أي شيءٍ، أي تشكيلٍ مغاير

    ليس تدري الآن ما اسمي؟ ربما
    كنت من “عمران” أو من “بيت عامر”

    صرت لا أجدي، أعدني إنني
    جئت من أم -كجلد الرمل- عاقر

    قمطتني نبتةٌ بريةٌ
    رحبت عوسجةٌ بابن الأكابر

    * * *

    أرضعتني الريح مزماراً، وفي
    ذلك المربى دعاني السفح، زامر

    علمتني أدخل الكنه، إلى
    أسفل الأخفى، ليرقى كل غائر

    فتهجيت كتاب المنحنى
    قبل أن تحلم بالحبر الدفاتر..

    ولذا أعشبت في ساقيك
    يا موطني، أقمرت أشواقاًمواطر

    فلماذا عنك هاجرت أنا
    وإليك ارتحلت أعتى المهاجر..

    موطني: هل أكشف الغور، أما
    يوجز البرق المصابيح السواهر

    منك أدعوك، وصوتي أنت
    يا أقرب القرب، وبعد المغامر

    ولعينيك أغني، وأنا
    أنطفي وحدي، كأعقاب السجائر

    * * *

    أحتسي طعم رمادي باحثاً
    في أسى الذرات عن شوق المجامر

    أشتري من شارع الأمس فماً
    معزفاً، أغنية عن “ظبي حاجر”

    جرةً، جاريةً كوفيةً
    أنجماً، أخيلةً حمر المشافر

    أمضغ القات الذي يمضغني
    أمتطي جنيةً مثلي تحاذر

    أسأل المذياع: ماذا يدعي؟
    من صديق الشعب، وفي دور الأوامر؟

    يستحيل الصمت نهدي عانسٍ
    أحتمي من ساعديها بالضفائر

    أغتفي، يتكىء النوم على
    نعل شرطي، على أهداب ساحر

    * * *

    أدخل الأحجار، أنمو، أرتدي
    عريها، تلبسني مثلي تخاطر

    تبتني هجس الحصى فلسفةً
    للتحدي، تنتقي نوع المنابر

    تهتك الاسرار، تدوي، يا ربي:
    السلام القتل، والقتل المتاجر

    آخر الحرب كبدء الحرب، لا
    يبتدي النصر، ولا للحرب آخر
    * * *

    يرتقي العهر على العهر، إلى
    آخر المرقى، لأن السوق عاهر

    لأن الشارع الشعبي، على
    زحمة الأهل، لغير الأهل شاغر

    * * *

    هذه “الموضات” أعراس بلا
    أي عرسٍ، هكذا الموت المعاصر

    أيها السواق: من ذا ههنا؟
    إنها ملأى، ولكن من أحاور؟

    ذلك الدكان يعطي غير ما
    عنده، هذا بلا حذقٍ يناور

    ذاك ماخورٌ بلا واجهةٍ
    ذاك ذو وجهين: ودي ونافر

    كل شيءٍ رائجٌ منتعشٌ
    هل سوى الإنسان معروضٌ وبائر؟

    تلك أصوات أناسٍ، لا أعي
    أي حرفٍ، أصبح الإسمنت هادر

    يا فتى: يا ذلك الآتي، إلى
    غيره يرنو: صباح الخير “صابر”

    سنةً تبحث عن بيتٍ؟ سدىً
    أتعب التفتيش “مسعود” و”شاكر”

    إن هداك البحث عن بيتٍ، إلى
    مقعدٍ في أي مقهى، لست خاسر

    * * *

    أصبح المحتل طين الأرض، عن
    طينها، واحتل “مريان” و”ظافر”

    صار”رمسيساً” و”عمراً” وارتدت
    قامة التلمود “يس” و”فاطر”..

    وبنى (بيجن) ب(جيهان) على
    لحية (السادات) زفي يا مساخر

    لم يعد هذا (أبو الهول)، هنا
    (حائط المبكى)، أفق يا قبر ناصر

    * * *

    تسأل الأحجار: ماذا يختفي
    يا درامى، تحت ألوان الستائر؟

    ومن السادات منكم؟ كلكم
    واحدٌ كاثنين: موحٌ ومباشر

    * * *

    صلوات النفط سفيانيةٌ
    والمصلى، لحم “عمار بن ياسر”..

    إنها نفس الضحاياوالمدى
    آخر التجديد، في شكل الوتائر

    * * *

    ههنا الثروة فقرٌ زاهرٌ
    وكذا الفقر هنا زاهٍ وزاهر

    يا (بهاء الدين) ماذا تنتقي؟
    من تغني؟ وكلا البدرين حاضر

    * * *

    أسمع الأحجار من داخلها:
    أينا الملعون؟ من أفشى السرائر؟

    أصبحت -ياكشف- حلاجيةً
    فتحت للريح أبواب الظواهر..

    * * *

    ما الذي يدوي؟ صخورٌ سيدي
    ذاك أدهى ما جرى، سخفناً نكابر

    أسكتوا -كالناس- أحجار الربى
    قبل أن تنشق أحجار المقابر

    أقتلوها الآن، ماذا ندعي؟
    سجلوها ثورةً من غير ثائر

    هجماتٍ ضد مجهولين، من
    غيركم أدى بقاموس العساكر

    * * *

    تصرخ الأحجار: يا أبطال في
    غير حربٍ، يا مغاوير المسامر

    يا رجالاً في الملاهي، يا دمىً
    في سواها، من ملفات المخافر

    كسرتكم فوضويات المنى
    يا (أفندم) لم تعد فيك مكاسر

    * * *

    اهربوا ناريةً أعينها
    ولها كالجن، أيدٍ وحناجر

    أهي خيلٌ؟ شبه خيلٍ، إنما
    ذات بعدٍ تاسعٍ، في بطن عاشر

    تقرأ الأعشاب من أعراقها
    كي تعيد الأرض تركيب العناصر

    ترسم التصهال جغرافيةً
    تبتدي عالمها من كل حافر..

    * * *

    خبأتني هذه الأحجار، في
    صلبها، أضحت بلادي والعشائر

    عن فمي تعلن عن إنصاتها
    أغتلي هجساً، وعن همسي تجاهر

    أنا والأحجار نأتي، نبتدي
    موطناً بكراً، ونختار المصائر..

    هل لذا الوادي سوى أحجاره
    وزمان الصخر أدرى بالضمائر

    * * *

  • 388 ليلة من طراز هذا الزمان

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  ليلة من طراز هذا الزمان

    دنت كزيارة الجاسوس
    ومثل غرابة الكابوس

    وكالرحالة المحني
    ومثل الهارب المحبوس

    ومثل توغل المحتل
    مثل تعقل الممسوس

    * * *

    تخالسني كأمي
    يقلب دفتراً مطموس

    تحن إلى المدى الأخفى
    وتستغني عن الملموس

    كوحشٍ ما له وصفٌ
    ولا رسمٌ على القاموس

    كأن الأنجم الكسلى
    حصىً في لحمها مغروس

    * * *

    مساء الخير: من جاءت؟
    حضوري غائبٌ ميئوس

    ستسخن، أنت مبرودٌ
    أحس بأنني مشموس

    تريد حليب شحرورٍ
    وكوزاً من دم الجاموس

    * * *

    فمن قبلي رأى الأفعى
    تحاكي الشيخ (جالينوس)؟

    صهٍ: لا تجتلب (رسو)
    ولاتعرف (إكدياموس)

    أبوك الفارس الملغى
    وأنت الفارس المفروس

    * * *

    أتت منحوسة المسرى
    إلى ذي الطالع المنحوس

    بكفيها توابيتٌ
    وخلف قذالها فانوس

    بفيها (سورة الأعلى)
    وتحت قميصها (باخوس)

    وعقدٌ فوق فخذيها
    كخفق المشعل المنكوس

    * * *

    لها عشرون حافوراً
    وأنف يشبه الدبوس

    وأيدٍ عوسجياتٌ
    وحيداً للقفا معكوس

    عليها يرتخي ثديان
    مثل الجورب المغموس

    وبين قوامها والظل
    شيءٌ ثالثٌ مدسوس

    * * *

    غريبٌ أمرها عندي
    وعند أميرها مدسوس

    رهيبٌ سرها عندي
    وعند سريرها مأنوس

    * * *

    أمرت مثلها؟ كلا
    لماذا اجتازت الناموس؟

    أتأرق تحتها (صنعا)؟
    هل امتدت إلى “الأعبوس”؟

    أجاءت منزلي سراً
    فلا حساً ولا محسوس؟

    ولا مستنبئاً عنها
    ولاحدساً ولامحدوس؟

    لماذا لا يعيها الباب
    إلا كالصدى المهموس؟
    مشت، لا استموأت “سوسو”
    عدت، لا استبحت “دعبوس”

    ولانادت زوايا البيت
    يا (باهوت) يا (قدوس)

    ولاشمت محياها
    نوافذ جارنا المحروس

    * * *

    أتت، لا أخبر الممشى
    ولا دق الحمى الناقوس

    أأعطت كل صرصورٍ
    فماً من صمتها مقبوس؟

    وباتت ضيفتي وحدي
    وبت رئيسها المرؤوس

    برغمي ترتدي وجهي
    وألبس جلدها الملبوس

    فمن منا على الثاني
    تطفل؟ أينا المهووس؟

    (يوليو 1982)

    * * *

  • 389 عام بلا رقم

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  عام بلا رقم

    وجهه بيدر الجثث
    ظهره مركب التفث

    صبحه الراث كالدجى
    وهو من وقته أرث

    كل مجرى فصوله
    جدث يقتفي جدث

    أهو أقصى مدى الأسى؟
    أم بدائية العبث؟

    جاء من جوف مسلخٍ
    وإلى المدية انبعث

    يسهل الخبث أعزلاً
    تب من سلح الخبث

    كيف وافى؟ من الذي
    قاد مجراه واستحث؟

    أقسم الكل أنهم..
    ما دروا: أيهم حنث؟

    * * *

    قيل: أبقاه فاتحٌ
    في الشقوق الذي نبث

    قيل: ألقاه عاصفٌ
    قيل: مستنقعٌ نفث

    زمن القحط إن سخا
    عزز الغث بالأغث

    * * *

    أي ريحٍ جرت به؟
    أيها زاول الرفث؟

    يازفاف الغبار: من
    أولد الريح؟ من حرث؟

    ضاجعت ثم نفسها
    بعضها بعضها طمث

    * * *

    من تبنى الذي أتى؟
    أين عن وجهه بحث؟

    قيل: من هاهنا التوى
    قيل: من لا هنا لهث

    بات عيناً وما درى
    عاد كعباً وما اكترث

    كان عاماً بلا مدىً
    صار قرناً وما انثلث

    قيل: سموه حادثاً
    قيل: غير الذي حدث

    * * *

  • 390 أطوار بحَّاثة نقوش

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  أطوار بحَّاثة نقوش

    كما تعرف النبع قبل الورود
    تشمُّ مِن السفح ريح النجودْ

    تجىء مهرِّبةً ذات يوم
    وتُمسي مواطنةً ذات جُودْ

    تبيض هنا وهناك الرَّصاصَ
    وترمي هنا وهناك النقودْ

    * * *

    ويوما تُسمَّى “لميساً” ويوماً
    تُسمَّى “فُنَيدا” ويوماً “فُنُود”

    وعن كل شيءٍ تعيد السؤال
    وتبدي غباءاً أمام الردود

    أتسهو عن “القات” يا عم يوماً؟
    أعد إليه الثواني (عدود)!

    وكيف تراك – لدى مضغه؟
    أميراً على جن (بيت العرود)!

    وكم عمرك الآن؟ سبعون عاماً
    عرفت الأعاجيب: حمراً وسود!

    * * *

    تكسرت في زمن “الانسحاب”
    ويوم “كريتر” ذبحت اليهود

    بذي “السك” أحرقت طيارتين
    على الانجليز، السلاح الزنود

    * * *

    أراكم حفاةً.. نعم كالنمور
    لأهل الغنى، لبس تلك “المسود”

    وهل تقصدون من الاغتراب
    سوى المال؟ إن المعنى قصود

    * * *

    وأنت كجدك، يا ذا الفتى؟
    كنفسي، على كل عاتٍ حقود

    تراك، وأختيك ند “الإمام”؟
    أضيفي إلينا ألوف الندود

    * * *

    وتستنفر المستريب الصموت
    بإطرائها كل حاكٍ سرود:

    (حكى لي “أبو عامرٍ” قصةً
    سأكتبها برحيق الخلود)

    تجس نبواءات “بيت الفقيه”
    لكي تدخل الغيم قبل الرعود

    وعند “المقذي”ترى داءها
    وعند “الشبيبي” تداوي الكمود

    وفي طب “حيفان” و”الحيمتين”
    تغوص من الساق حتى الخدود

    * * *

    (هنا.. كل شيءٍ على ما يرام
    لكل عنودٍ نقيضٌ عنود

    إذا ما استحال الموالي عدواً
    فسوف يكون المعادي سنود

    عما ههنا للعداوات حد
    وبين الأخوات أعتى الحدود

    يقولون: لابد.. لابد.. لا..
    عن البت يستحمسون البدود

    أرى بعضهم نبت هذي السنين
    وأكثرهم نبت عهد الجدود)

    * * *

    تضاهي أوان “المقيل” الثقاة
    فتروي تواريخ كل العهود

    وتبدي اختصاصاَ بعلم النقوش
    وأقوام “عادٍ” وأصحاب “هود”

    * * *

    (هناك.. بنوا مئتي معبدٍ
    وكانوا هنا، يعصرون القنود

    وكانوا يصلون قبل الصباح
    وبعد الضحى، يدبغون الجلود

    يحوكون في “الجند” المذهبات
    وفي “مأربٍ” ينقشون اللبود)

    * * *

    وتسرد: كيف مضى “آصف”
    ب(بلقيس) ثم تلتها “السدود”

    و”ذي حود” تحكي: على أنه
    لتوحيده الله سموه “حود”

    وتزعم: أن “يريماً” مريمٌ
    وأن اسم “عبهلةٍ” “ذا العبود”

    وأن “أبا حميرٍ” شافعي
    و”خولان” من قبل “زيدٍ” “زيود”

    و”ذو يزنٍ” نشد المستحيل
    لكي ينجلي بعد، موت النشود

    وتخبر عن “سبأ”: كم سبى
    وكيف طوى “حضرموت” البرود؟

    (أكانوا سيوفاً، كما يدعون؟
    فكيف استحالوا بقايا غمود؟

    أأتقنت سحر الزمان الدفين؟
    لكي تقتدي بالقبور المهود)

    * * *

    وتبدي، بأن اهتماماتها
    “معينيةٌ” عن أبيها تذود

    وقد تدعي أنها من “زبيدٍ”
    وأن خؤولتها من “عتود”

    وأن أباها تحدى “الوشاح”
    وضاح ابنها في ليالي “الجرود”

    وأ أخاها اشترى “موتراً”
    قبيل “الحلالي” وباع “القعود”

    وعن “فيد” “صنعا” سوى الناس عف
    وعادوا سواه بأغلى “آلفيود”
    * * *

    تغني كأهلي: أيا (دان دان)
    وكالأهل تدعو الجبال: “الحيود”

    وك”بن الغويري” تشد “العسيب”

    وتلبس كا “العنسيات”العقود

    فتغدو يمانيةً من زجاجٍ
    مقاتلةً لا يراها الجنود..

    وبعد ثلاثين شهراً تغيب
    وتأتي كأخرى، كطيف شرود

    (مهماتي اليوم: شتى الوجوه
    فكم أشتري؟ وعلى كم أجود)؟

    وتنسل كالهارب المطمئن
    وتختال كالياسمين الميود..

    * * *

    تراها فتاةً بعيد الشروق
    وقبل العشية زوجاً ولود

    لها من جلود التماسيح ثوبٌ
    وقبعةٌ من سراب “النفود”

    * * *

    تلوح “سويديةً” تارةً
    وحيناً عليها اصفرار “الهنود”

    وتبدو هناك ابنة “العم سام”
    وتبدو هنا، ناقةً من “ثمود”

    وآناً تمر كسيارةٍ
    وترنو كغزلان وادي “زرود”

    وطوراً تحجر لمح العيون
    وطوراً تعلب فيها الهجود…

    * * *

    وبعد ثمانين يوماً تغيب
    وتأتي.. عليها مئات النهود!

    (أرى ذلك “البنطلون” أشرأب
    على ذلك “التكس” كبش سفود)

    * * *

    يصير اسمها العربي (رندةً)
    ومن دللوها دعوها (رنود)

    وكان اسمها في “دبي” “أم زينٍ”
    وفي سوق “طهران” “قوت الكبود”

    وكان اسمها في “المعادي” “حناناً”
    وفي “الأحمدي” كان “أم الرشود”

    وكانت بيروت (دوبو فوار)
    وفي “خور مكسر” “مرجريت يود”

    * * *

    لها سلةٌ من فتات اللغات
    وقارورةٌ من حليب الوعود

    تسمي حسيناً “هسيناً”كما
    تنادي بايثار: فردٍ فرود…

    فيعجبها مثل “عبدالغفور”
    ويرعبها مثل “سعد الكدود”

    تقول لذا: ألف شكرٍ، تقول لهاتيك
    “مرسي” لهذين: “قود”

    ومن كتب الحب تشري الرخيص
    وتبتاع ليلاً.. بيبع الهمود

    * * *

    هنا تفتح الجيب والساعدين
    هنا.. تفتح النار ذات الوقود!

    وتندس بين الحمى والحمى
    وبيني، وبيني تشق اللحود

    وتسخو على كل ذي ثروةٍ
    وتستنزف السيد بن المسود
    * * *

    (ل ماذا أجود، ولا أستميل
    كثيراً، وأهوى، وألقى الصدود؟

    أما آد هذي الرياح الغبار
    وحجب المدى؟ أي شيءٍ يؤود؟)

    ترى الحل نفي الحمى من حماه
    وتبديل أبنائه بالوفود!!

    * * *

    يخوفها بائع “السندويتش”
    وترتاب في بائع “العنبرود”

    وتخشى الزقاق الترابي، تراه
    يراوغها.. كالرقيب الكيود

    * * *

    (أأقتاد كل أنوف القصور
    ويوقعني شارعٌ في القيود؟)

    فتخفى كعادتها مدةً
    وتأتي كأخرى، كشيخٍ صيود

    لها لحيةٌ كالنبي الكذوب
    وظهرٌ كظهر الحصان (الحرود)

    وكفان -رغم التماع الحلى-
    بنانهما من أفاعٍ ودود!!

    أواناً تناهز منهى السقوط
    وآناً تناهز بدء الصعود!

    بأسمار “صنعا” تسمى المدام
    وفي “باب موسى” تسمى “حمود”!

    وتدعى ب “صعفان” دكتورةً
    وتدعى ب “همدان” ذات الجعود

    “بوادي بنا” ينكرون اسمها
    وفي الجوف يدعونها: (عقنفود)

    وتدعى “الخبيرة” في “البرتكول”
    وفي غيره أم أخفى الجهود؟

    ترود هنا، مصيفاً في الشتا
    وتشتو مصيفاً، ف ماذا ترود؟

    تشتي، وتصطاف كل الفصول
    سوى الحر تبغي، وغير البرود

    * * *

    على منكب الجوع ترقى.. ترى
    على من ستقضي؟ ومن ذا تقود؟

    تجيء كباحثةٍ مرةً
    وأخرى كمبحوثة لا تعود!!

    * * *

  • 391 حوارية الجدران.. والسجين

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  حوارية الجدران.. والسجين

    هيّا يا جدران الغرفة
    قولي شيئاً، خبراً، طُرفه

    تأريخاً منسيّاً، حُلُماً
    ميعاداً، ذكرى عن صدفه

    أشعاراً، سجعاً، فلسفةً
    بغبار الدهشة مُلتفَّه

    أنغاماً تعلو قامتُها
    وتحلُّ ضفائرها اللَّهفه

    * * *

    هَيّا يا جدران ابتدعي
    أصواتاً، إيماءً، وجْفَه

    فجّاً أسطوريّاً. أرجو
    مِن نبت غرابته قَطْفَه

    أشواقاً، أخيلهً حبلى
    كوباً غيبيّاً، أو رشفه

    * * *

    (يا هذا تستسقي نهراً
    لا تنظُرهُ، وترى الضّفَّه

    الأنهار الكبرى تفنى
    غَرقاً، وتحنُّ إلى النطفه(

    * * *

    أترين لهذا خاتمةٌ؟
    (ماعندي للموتى وَصفَه)

    )قد يهذي البعض كمذياعٍ
    يعزو للسَّفَّاح الرأفه)

    * * *

    تحكين الآن عن الجاري
    : ألَديكِ عن الآتي نُتفه؟

    (هذي أعوامٌ، لا تمضي
    لا تأتي، لا تجري خِلفَه

    ألسقف يعي عن جمجمتي
    أسراراً، تجهلها الشُّرفه

    ترتاب الزاوية اليمنى
    في اليسرى، تتَّهم الصُّفّه

    لعروق وقاري وسوَسَهٌ
    أقوى مِن ثرثرة الخِفَّه

    أو ما تشتَمُّ شذى لغتي؟
    وتَحسُّ بأجفاني رَفَّه؟)

    * * *

    هذا المدعو جلدي: جَدَثٌ
    هذا المدعو رأسي: قُفَّه

    إني أستدعي رائحةً
    أخرى، أبغي أعلا رجفه

    عنوان البرق المستخفي
    أستملي عينيهِ خطَفه

    * * *

    (في قلبي ألسنةُ الدنيا
    لكن لفمي عنها عِفَّه

    الصمت حوارٌ مُحتَملٌ
    والهجس أدلُّ مِن الزَّفَّه

    إطلاق الأحرف حرفتكم
    اِخترت الصمت، أنا حِرفَه

    أو قل: ما اخترت ولا اخترتم
    طبَعتنا العادة والألفه)

    حسناً، ألديكِ سوى هذا؟
    (إجهادي مِن طول الوقفه

    مَن صفَّ ركامي، لا يدري
    أني أوجاعٌ مُصطَفَّه)

    * * *

    وَجَعي مثلي؟ فمن الأشقى؟
    مَن أضنى؟ مَن أعتى كُلَفه؟

    مَن أستعطي يدَه قمحاً
    ألقاني صاعاً مِن رُفَّه

    * * *

    (حرِّرني مِن هذا المثوى
    أو فاسكت مثلي يا تُحفه)

    (يونيو 1981م)
    * * *

  • 392 كُليمة.. لمقبرة خزيمة

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  كُليمة.. لمقبرة خزيمة

    في فمي مِن آخر القلب كُليمة
    كيف أحكيها لقلبي، يا خُزيمة؟

    انظري: كيف استحالت غضّةً
    بين صدري، وفمي، تلك النغيمه؟

    هل تقولين لقلبي عن فمي:
    (إننا كنا كندماني جذيمه)؟

    هذه البوحة أعيَت أحرفي
    ولساني، وهي في حجم اللُّقيمه

    ظَلَّ يُثنيها اختناقي بالبكا
    مثلما يجترف الطوفان خَيمه

    * * *
    كيف أحكيها؟ تعاصت، جذَّرت
    غابة في القلب، في الأجفان غَيمه

    أصبحت أُمّاً لأجيال الأسى
    في عظامي، بعدما كانت “أُميمه”

    كَبُرت صارت “زبيداً” “شبوةٌ”
    أضحت “الحيمة” فيها ألف حيمه

    * * *
    لفظةٌ كالوردة امتدت لظىً
    داخلي زوبعةٌ، كانت نُسيمه

    كوكبت كل الأسامي والكُنى
    “مسعداً” “أروى” “أبا ريّا” “نُعيمه”

    إنها أطول مِن صوتي، وفي
    أضلعي أعرَقُ مِن أدواح (ريمه)

    فالمحيها في سكوتي، ربما
    أوجَزَتْ غَور الدجى عينا نُجيمه

    مايو 1981م

    * * *

  • 393 مِن آخر الكأس

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  مِن آخر الكأس

    نعم، لا انتهى شيء، ولا غيره ابتدا
    لمن أشتكي؟ لا الأهل جاؤوا، ولا العِدا

    تجيءُ ملايين القبور كغيرها
    كأن الرَّدى في قبضتيها سوى الرَّدى

    لأن الغرابات التي تغزل الحصى
    عيوناً، وجوهاً، تنسج الحلم أرمدا

    * * *
    أما ههنا قتلى تروح وتغتدي؟
    وقتلٌ بألفي ركبةٍ راح واغتدى؟

    .. ومِن تحت جلد الريح يأتي وينثني
    ويأتي كما ولَّى، وينأى كما بدا

    إذن ينهمي بعض الرصاص بلا يدٍ
    فهل ترتدي سريّة الذابح الْمُدى؟

    * * *
    ومَن قولب الإعدام في غير شكله؟
    ترقّى، إلى أن أصبحت رجله اليدا

    وأضحى كألوان الأواني، لأنهُ
    تزيَّا، بأرحام الثواني توحَّدا

    * * *
    أقول لمن؟ يا ريح هل تزعمينني
    توهمت، هل أكَّدتَ أمراً مؤكداً؟

    أعَنِّي تُغنِّي الريح والرمل لا أعي
    أأنشدت؟ أم عني حصى الريح أنشدا؟

    ويجتازني غيمٌ، وتأتي روائحٌ
    يهاجسنني وحدي، ويرجعن شُرِّدا

    * * *
    لماذا يسدّ العالَم الميت درب مَنْ
    سيأتي؟ لأن المهد بالمِدفن اقتدى

    لأن الذي ألغى المسافات بينهُ
    وبين سواهُ صيَّر القرب أبعدا

    لأن لغات السوق من كل عمله
    تريد (أبا جهل) وتدعو (محمدا)
    * * *
    فمِن أين يأتي العالَم الرابع الذي
    يموت فدائياً، وينمو كمفتدى؟

    ومَن حزّ أثداء الليالي؟ مَن احتذى
    بقايا عيون الشمس؟ مَن حجَّر الندى؟

    ومَن ذا يضجّ الآن في كل بقعةٍ؟
    أنادي، ويأتي مِن سوى صوتي الصدى

    أمَسُّ فمي، هل لا يزال..؟ وأنثني
    أشمُّ ولا ريحاً، أأنفي تجلمدا؟

    * * *
    بمليون رجلٍ يركض الرعب، ينحني
    يرى، ينتقي مِن ريشهِ ما تبدَّدا

    ينحّى رداءاً، يرتدي أعيناً بلا
    جفونِ، يراوغن النعاس المسَّهدا

    يميس كستِّينيَّةٍ تشتري الصِّبا
    فيبتاعها كهلٌ، وتبتاع أمردا

    * * *
    تجيء سراويل المدينة وحدها
    مِن الريح تستجدي عَشاءً ومرقدا

    ويدخل بعض السوق أصلاب بعضِه
    وتنثال أسرابٌ مِن البُوم والحِدا

    * * *
    وتمتد أيدٍ تقتل البحث عن يدٍ
    أجابت سؤالاً، عن سراجٍ تمرَّدا

    عن النبض في ذاك الزقاق الذي التوى
    وعن حارةٍ تهوى (الغدير) و”مشهدا”

    وعن بيت شِعرٍ قيل: قدّام بابهِ
    رصيفٌ، يحاذي نصف ركنيه مسجدا

    وعن أي جذرٍ سوف يصبح كرمةٌ
    وعن أي عودٍ سوف يصبحُ مقعدا!

    * * *
    خذوا مَن يردَ الجيم سيناً، ودبِّبوا
    فم السين حتى يصبح الجيم أدردا

    وحتى يرى كل النصاعات حمرةٌ
    وحتى يحس الأخضر النضر أسودا

    لأن اشتباه اللّون باللّون ينتهي
    إلى غير لونٍ، مثل بغضٍ تودّدا

    بطمس الضحى لا يحمد الصبح مَن سرى
    بمحو السُّرى، لا ينظر العَود أحمدا

    * * *
    هنا أحشدُ (القطران): من أين أقبلَتْ؟
    عفاريت كل البيد أدهى وأعندا

    أمدّ لهم (شمس المعارف) كلها
    يصبُّون لي مِن فلم (لورنس) مسردا

    أحث “ابن علوان”: البدار ابن يفرسٍ
    وأستنفر الشيخين “عَمْراً” و”أسعدا”

    أصيح، يقول الصوت ما لا أقولُه
    أصيخ لمن، سمعي سوى سمعه ارتدى

    فأشدو سكوتاً، كي أحس بأنني
    أغني أنا، يستغرب الشدو مَن شدا

    لأن انقسام القلب، أنساه قلبهُ
    لأن اتحاد الحزن، فيهِ تعددا

    وفي البحث عن قلبي، أضيع بقيَّتي
    وفي البحث عن صوتي، أضيع التنهّدا

    * * *
    أقول لمن؟ كل المرايا تكسَّرت
    فليست ترى، إلاّ الغبار المرمَّدا

    وأصوات ألوانِ تطقّ كأنها
    جدارٌ تهاوى، فوق ماءٍ تجمَّدا

    * * *
    لأن اجتماعي ناشيءٌ من تجمعي
    سقطت اجتماعاً، وابتذلت التفردا

    سدىً في سباق الانهيار تَسارُعي
    سدىً تغتلي الأنقاض، أصغي لها سُدى

    فهذا الأسى مِن آخر الكاس يبتدي
    كأن نهايات المدَى، أولُ المَدى..

    لأن سوى الثوَّار ثاروا، وهل يعي
    رداءات ذا مَن لا يرى ذاك أجوَدا؟

    * * *
    هنا أدخل الصمت الذي ضجّ داخلي
    أفتّش عن شيء، أسمِّيه موعدا

    ألَقِّبُه تلاًّ، كتاباً، حديقةً
    أناديه ميداناً، أكنِّيه منتدى

    وأغزله برقاً، يراني غمامةٌ
    ويشتَمُّني عرساً، وأدعوه مولدا

    أعدُّ له لوناً، أُلاقي تلوُّناً
    وأختار بُنِّياً، أُلاقي مورَّدا

    * * *
    يحنُّ وأهفو، يجتديني وأجتدي
    طفور التلاقي، لا نعي أيَّنا اجتدى

    أعيهِ وصولاً، معلناً بدء وقتهِ
    رحيلاً قبيل الوقت، للوقت غرَّدا

    * * *
    وأجثو هنا وحدي، فتدخل غرفتي
    ربى موطني، مَن ذا هداهنّ، مَن حدا؟

    ومن أين جئن الآن؟ من كل أعظمي
    توالدن آحاداً، وأقبلن حُشُداً

    بلا موعدٍ مِن كل ثقبٍ دخلنني
    بلا مرشدٍ، بعضي إلى بعضه اهتدى

    هناك انتهت كل التواريخ وابتدا
    ضحاهُ جبينٌ، كان للشمس معبدا

    * * *

  • 394 جدليَّة القتل والموت

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  جدليَّة القتل والموت

    يا راية الفزع الفكاهي
    فقدت غرابتها الدواهي

    غدت اعتياداً، كاحتمالي
    جثَّتي، كحصى متاهي

    مثل ارتحالي في غيوم
    التبغ، في وَهج التماهي

    ما عاد يفجأُ فاجعٌ
    يا هول: دع عنك التباهي

    هذا الذي تبدين زهواً
    يا مخافة أم تزاهي؟

    * * *

    أمسيتَ لغواً يا ردى
    والقتل كالمقتول ساهي

    مَن ذا تُميت، وكلهم
    ماتوا، وأنت هناك لاهي؟

    سبفتك أمركة المذابح
    أيها الشيخُ الرفاهي

    اليوم للشيك الأوامرُ
    لِلْمُدى كل النواهي

    أصبحت يا موت احتياطاً
    مثل أبطال المقاهي

    * * *

    قد كنتُ آجالاً، وجاء
    القتل، فاخترقَ اتجاهي

    أتَخال ذبح الشيك أمهر
    مِن يد الحتف الآلهي؟

    * * *

    قد كان ذلك مثل ذا
    والآن ليس له مُضاهي

    ويلوح أن الفرق بين
    الموت، والموتَين واهي

    * * *

    أتقول: عطَّلني الرصاص
    وشاركتني الريح جاهي؟

    تبغي مجابهتي؟ ألا
    تدري ملايينٌ جباهي؟

    السوط أذكى مَن يشم
    تطرفي، ويرى سفاهي

    هذي الشظايا كلها
    كانت دمي، فغدت مياهي

    السوط سمعي والسكاكين
    التي أحسو شِفاهي

    عنوان قبري في يدي
    مهدي على طرف اشتباهي

    لَبِسَت معي جلدي
    سراديب المخافر والملاهي

    * * *

    أتظن إبليس انتهى؟
    أمسى بذاك القصر طاهي

    واعتاض عشر نواهدٍ
    عن زوجة أم الشواهي

    تكسوه أبَّهة الرشيد
    وشملة الزُّهد (العتاهي)

    * * *

    سيارةٌ مَنّا دنت
    أخرى تزيد مِن اكتناهي

    وتكاد تقرأ لون أنفاسي
    تعبُّ خيوطَ آهي

    * * *

    جوّالة تُعنى بما…
    تحت انكسارك وانشداهي

    وتجس: هل (طاليس)
    في خلَدي؟ أو (الجمل الدباهي)؟

    وترشُّ عجمة صوتها
    بفصاحة السمن (العُباهي)

    ألَمحتَها تبدي المحبةَ؟
    ذلك الغَزَل الكراهي

    أتقول أني واهمٌ؟
    أأنا بمأساتي أكاهي؟

    أترى البديهيات يا مولاي
    مِن نزَق ابتداهي؟

    * * *

    يا موت حاذر قبل أن
    يروا انتباهك وانتباهي

    الذئب يحذر مِن أخيهِ
    فكيف أحذر مِن شياهي؟

    مُتْ بالبطالة: هل ترى
    بعد النهاية مِن تناهي؟

    (أكتوبر 1982م)

    * * *

  • 395 حادي المطر

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  حادي المطر

    وراء برقٍ مذحجي
    أعدو، أخاف، أرتجي

    أظما إلى غمائمٍ
    يُفصحن عن تلجلجي

    أحدو سحابةً إلى
    أخرى، أصيح: عرِّجي

    يا تلك، مِن تلك اقربي
    في هذه تولّجي

    هناك حلمُ بارقٍ
    بنبضهِ تزوّجي

    * * *

    أسقي عمامةٌ دمي
    وغيمةٌ تشنُّجي

    أرجوك يا هذي ارقصي
    أرجوكِ يا تلك اهزجي

    يا هذه تألقَّي
    يا هذه تضرَّجي

    يا هذه تعبئي
    يا هذه تدجَّجي

    كالأخريات، جرِّبي
    أن تُحزني وتُبهجي

    كالرمح شجِّي جبهتي
    كجبهتي تشجَّجي

    تشكّلي شيئاً، عِدي
    لا تحذري، أن تُخدِجي

    بالمنحني توحّدي
    وبالربى تتوّجي

    * * *

    يا خلّباً أزعجتُها
    تلّمي أن تُزعجي

    أن تحرقي، أن تورقي
    أن تُضحكي أن تُنشجي

    أُعلي إليك جرِّتي
    تُسقينني تحشرجي

    وكالوليد أقتفي
    هروب طيفٍ (منبَجي)

    * * *

    أعيا بِحَمل قامتي
    أجثو، ينادي منهجي

    إلى الحريق أنتحي
    وبالرماد أحتجي

    أجتّر خلفي جبهتي
    يجترّني تعرُّجي

    * * *

    البحر يحسو زورقي
    الرمل يشوي هودجي

    أسرجتَني يا موطني
    حُمِّلتُ غير مُسرجي

    يمتصُّني تستُّري
    يُذيبني تبرُّجي

    * * *

    أموت، ينتشي على
    بطولتي، تفرُّجي

    يصيح ميتٌ داخلي:
    يا جيفتي تبهرجي

    مِن قعر جثَّتي إلى
    عنف الخروج ألتجي

    أفنى، وأتي باحثاً
    عن مبتدا توهُّجي

    عن ورطةٍ تشبُّني
    يشبُّها تهيُّجي

    تقولُني، أقولُها
    أبكي، ترى تهدُّجي

    تَردُّني، أجنَّةً
    وتنتقي مُنَضِّجي

    * * *

    أجتاز جلدي أغتلي
    مفتِّشاً عن مدرجي

    عن همسةٍ ورديَّةٍ
    عن موعدٍ بنفسجي

    عن واحةٍ أوسيَّةٍ
    وعن غدير خزرجي

    وعن نهود كرمةٍ
    وراء تلٍّ عوسجي

    وعن أريج مطلعٍ
    يهفو إلى تأرُّجي

    وعن حنين مدخلٍ
    يضيع فيه مخرجي

    أنسى أمام بابهِ
    هشاشتي تحرُّجي

    * * *

    إلى هنا تدفُّقي
    ومِن هنا تموُّجي

    هنا أمدُّ قامتي
    مُخصِّباً توشُّجي

    جذريَّتي بدايتي
    مِن بدعتي نموذجي

    تهمي البروق مِن يدي
    يَهدي الضحى تبلُّجي

    * * *

    أشدّ أعراقي إلى
    ربابتي ومِنسَجي

    أعيد نوع صيغتي
    أصوغ، نوع مُنتجًي

    (يوليو 1979م)
    * * *

  • 396 أمين.. سرّ الزوابع

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  أمين.. سرّ الزوابع

    كان الدجى يمتطي وجهي، ويرتحلُ
    وكنت في أغنيات الصمت، أغتسلُ

    وكان يبحث عن رجليه في كتفي
    وكنت أبحث عن صخري وأحتملُ

    وكان يهذي السُّكارى في عباءتهِ
    وتحت جلدي حيارى، بالدم اكتحلوا

    وكان يغزل أطيافاً وينقضها
    وكنت والصمت، والأَشباح تقتتلُ

    وكان عند سهادي يجتدي عملاً
    وكنت كالرمل عند الريح لي عملُ

    وكان يهجس: بعد المبتدا خبرٌ
    وكنت أسأل: ما التوكيد ما البدَلُ؟

    وكان يكتب أسماءً ويمسحها
    وكنت أفتح أوجاعي وأنقفلُ

    وأشرئب كعُود يرتدي حَجراً
    وكان يختال في تلوينه الوجَلُ

    وكنت أستفسر الجدران: أين أنا؟
    وكان يستجوب الإعدامُ مَن سألوا

    وكنت عن كل برقٍ أنهمي شرراً
    طلاًّ، عن الغيمة المكسال أنهمل

    أبكي على مَن أتوا مثلي بلا سببٍ
    على الذين بلا مستوجب أفَلوا

    * * *

    وأبتني عالَماً، لا حلم مكتشفٍ
    رآه، لا أنبأت يوماً به الرُّسُلُ

    أصوغه من خيالات النجوم، وما
    أومَى إلى بابه (المريخ) أو (زُحَلُ)

    أومي إليه، تُسمِّي كل داليةٍ
    أحياءه ورباهُ، تفرح السُّبُلُ

    * * *

    مَن ذا يجمجم في أدغال جمجمتي؟
    جنٌّ يبولون، جنٌّ أولموا، ثَمِلُوا

    الكاس تحرَق في كفِّي وأعصرها
    هناك عند الرصاص.. الكاس والقُبَلُ

    وكان للسوق أصواتٌ مسفلتةٌ
    وكنتُ أُنصتُ، والإسفلت يرتجلُ

    وكان أبناؤه يرقَون مِن يدهِ
    لأن آباءهُ مِن فخذه نزلوا

    ويركبون مِن (الموديل) أبهضتةُ
    سعراً، ويعلوهم الإسمنت والوحَلُ

    * * *

    وكنت قدّآم باب الحظ أسألهُ
    وكان قدَّام بابي يعرق الخَجَلُ

    وكنت أستمنح الحداد مطرقةٌ
    وكان مثلي، بباب الحظ يبتهلُ

    * * *

    لِمَ لا تكون كمن أوليتهم نِعَمي؟
    لأنني غيرهم: أفعل كما فعلوا

    لأنني غير مَن أوليت يمنعني
    شيءٌ أُفدِّيه، أن أرضى الذي قبلوا

    * * *

    ماذا يوشوشُ؟ يرخي الصمت لحيتهُ
    للريح، يبحث عن عكازه الملَلُ

    يروِّض الشارعُ المدفون ركبتَهُ
    على الوقوف، كما يستذئب الحَملُ

    * * *

    وكنت مِن ساق (وضّاحٍ) أدبُّ إلى
    عرقوب (أروى) طريقي الموت والغزَلُ

    وكان ينجرُّ ميدانٌ على فمهِ
    كما تشتكَّي إلى (ذي الرُّمَّةِ) الطللُ

    وكانت الهضبة الصفراء مثقلةٌ
    أولادها في طوايا صلبها اكتهلوا

    شَيب الأجنَّة أقسى ما تكابده
    كيف التقى في حشاها: العقم، والحبَلُ؟

    وكنت مِن كائنات الليل واحدةً
    وكان أتفه ما أشتاقه الأملُ

    * * *

    هل أَصفر الآن؟ يأتي الجنّ أُسلمهم
    نفسي، لكي يأكلوني مثل مَن أكلوا

    يقال: كانوا شياطيناً لهم خطرٌ
    تطرَّفوا زمناً، كالناس واعتدلوا

    واليوم تغرقهم كأسٌ، وفي زمنٍ
    خاضوا بحوراً، وما ندَّاهُمُ البللُ

    * * *

    مَن ذا أُنادي؟ لماذا لا تنام أجب؟
    أنسى لماذا ، ومثل الفار ينفعلُ

    وكان يُعشب كفَّاهُ حصىً ودماً
    وكان تحت قميصي يزهر البَصلُ

    هل تنتمي؟ ذاك سرٌّ، كل زوبعةٍ
    عليّ في حرمة الأسرار تَتَّكلُ

    أنا ابن مَن ولدوا سرّاً، وكي يثقوا
    ماتوا، وماشهقوا كالناس أو سعلوا

    يرنو الرصيف إلى وجهي كمتَّهمٍ
    مثلي، بلا هدفٍ يعصي ويمتثلُ

    وكان يحكي غلامٌ: جاء يا أبتِ
    مَن خِفتَ واجتاز ثقب الإبرة الجَملُ

    * * *

    وكان لون الدجى مشروع أسئلة
    وكان بيني، وبيني حولها جدَلُ

    كانت تصارع نفسي نفسها وأنا
    عنها، بتأريخ هذا الصمت منشغلُ

    * * *

    كان الدجى يخلع المسرى ويلبسني
    وكنت ألبس أنقاضي وأنتعلُ

    وكان يبحث في الغيمات، عن دمهِ
    وكانت الأرض عن رجلَيَّ تنفصلُ

    وكنت أسرد عن (بلقيس) أغنيةً
    مداد من كتبوها، العطر والعسَلُ

    وكان يفترس المذياع، مَن سقطوا
    ويرتدي وجه مَن قاموا مَن احتفلوا

    مَن ضاجعوا الشمس في سروال والدها
    مَن وزَّعوا أمَّهم، في بعض مابذلوا

    * * *

    هذي الفجاج كأنثى، ما لها رَحِمٌ
    هذا الزحام، رجالٌ ما بهِ رَجُلُ

    يمضون يأتون، كالأبواب ما خرجوا
    مِن أي شيء، ولافي غيره دخلوا
    * * *

    غاصت وجوه الروابي تحت أرجلها
    في جلد كل حصاةٍ، ينطوي جَبَلُ

    هذي (الدراما) مِن الأحجار أحرفها
    ومِن نقيق الغبار، الدَّور والبطلُ

    هل بُحتِ يا ريحُ بالأسرار؟ تدخلني
    عجلى، تبعثر ذرّاتي وتنتخلُ

    * * *

    وكان يلثغ نجمٌ، وعده قدَرٌ
    : على قناديل قلبي، سافِروا تصلوا

    كانت تَفرَّع مِن عينيه أغنيةٌ
    وكنت مني، إلى عينيه أنتقلُ

    وأستحيل بروقاً، شوق أوديةٍ
    غمامةٌ، بعروق الأرض تنغزلُ

    وكان يبدأ حُلماً مِن أواخرهِ
    وأستهلُّ نشيداً سوف يكتملُ

    وكان يهمي ندىً جمراً، وكنت أنا
    أُجمِّع الغيم في كفي وأشتعلُ

    * * *

    وكان (عيبان) يأتي حافياً: أهنا
    أهلي؟ ويدنو بعشب النار يشتملُ

    وكان يهمس مِن خلف الهدير فمٌ
    : لا يورق الناس، حتى تذبُل الدُّوَلُ

    يوليو 1979م

    * * *

  • 397 عواصف وقش

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  عواصف وقش

    لأنني هشٌّ وبيتي صفيح
    تجترني ريحٌ، وأقتاد ريحْ

    لا شيء غير الريح: ماذا هنا
    سواك يا هذا الفراغ الفسيحْ؟

    حتى النقاوات التي أومضتْ
    قيل ارتدت لون الأوان القبيحْ

    * * *

    لأنني قشٌّ مضاف إلى
    قشٍّ، بويبي للذواري فتيح

    ريح تغاديني سكاكينها
    ريح يماسيني حصاها الطليحْ

    لا، لليالي سكراتُ الكرى
    ولا، لصحو الصبح وجهٌ صبيحْ

    تَقِلُّني قارورةٌ عاقرٌ
    وينثني فوقي زقاقٌ جريحْ

    ثُلثي غبارٌ قائمٌ يمتطي
    وجهي، وثلثايَ غبارٌ طريحْ

    * * *

    مَن ذا الذي يدعو سُعالي إلى
    عقد اجتماعٍ، واعترافٍ صريحْ

    بالهدوء الْمُرِّ يوصي يرى
    أن الهدوء اليوم عقلٌ رجيحْ

    يقول: يا (ناجي) (يحيى) أتعَّظ
    بقتل (فرحان)، اعتبر يا (سميحْ)

    سمعتَ يا هذا، ولكن أعي
    غير الذي يحكي الغبار النصيحْ

    ترى الذي يهمي ندىً عاطراً؟
    هذا نجيعٌ آدميٍّ سفيحْ

    تقول هذا واقعيْ؟ تنثني
    تكيل للمقسوم غثَّ المديحْ

    قرأتَ لي فنجان مستقبلي؟
    إني أرى ما لا ترى يا “سطيحْ”

    أُريد أغشى عالماً واضحاً
    مثلي، زماناً مثل سرِّي فضيح

    ما الفرق بين القتل والقتل يا
    كثبان؟ يا هذا الغموض الفصيحْ
    * * *

    خمسون عاماً مِن عظامي غدت
    خمسين نعشاً فوق ظهري تسيحْ

    تمشي بأرماسي، وأمشي بها
    فما الذي عني وعنها أُزيحْ؟

    تشتّ أنقاضي رياح الضحى
    تلُّمني ريح الدجى، كالضريحْ

    يا هذه الأجداث: ماذا جرى؟
    هل مَن يموت اليوم لا يستريحْ؟

    ماذا تقولين؟ يجيء الذي
    يموت يوميّاً طريّاً صحيحْ

    * * *

    يا ذلك البرق الذي يبتدي
    في الظن، حتى أنت عنِّي تُشيحْ

    مِن أين تأتي الريح؟ مِن خلفها
    مِن وجهها، لا فرق، ردٌّ مليحْ

    وهل ستأتي غيرُهما؟ ربما
    هل أبتغي أمراً سوى ما تُتيحْ؟

    دأذوي، وتلك الريح تمتصني
    أدمى، وهذي مِن دمي تستميحْ

    وذي تهوهي مثل كلبٍ يرى
    كلبَيْن، يجتران طفلاً ذبيحْ

    * * *

    مِن ذا له حريّةٌ أو يدٌ
    سواكِ؟ يا ريح الزمان الكسيحْ

    مَن سوف يُثني مستبيح الحمى؟
    – يا قشّ – والحامي يدُ المستبيحْ

    ماذا سيأتي بعد؟ أرضي بلا
    ماءٍ، سمائي كالأديم المسيحْ

    * * *

    قرون هذي الريح أقوى؟ نعم
    أموت إمَّا ناطحاً، أو نطيحْ

    أُذكي حطامي شهوةً للثرى
    حلقاً لديكِ ينتوي أن يصيحْ

    مهداً لغصنٍ، زوجةٌ للنّدى
    ينبوع زيتٍ، للسراج الشحيحْ

    هذا اكتمالي في ابتدائي الذي
    أرجو، وأدعوه الجزاء الربيحْ

    (سبتمبر 1982م)

    * * *

  • 398 وردة.. من دم المتنبي

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  وردة.. من دم المتنبي

    مِن تلظّي لموعه كاد يعمى
    كاد من شهرة اسمه لا يُسمّى

    جاء من نفسه إليها وحيداً
    رامياً أصلهُ غباراً ورسما

    حاملاً عمره بكفيه رمحاً
    ناقشاً نهجه على القلب وشما

    خالعاً ذاته لريح الفيافي
    ملحقاً بالملوك والدهر وصما

    * * *

    اِرتضاها أُبوَّة السيف طفلاً
    أرضعتهُ حقيقة الموت حُلما

    بالمنايا أردى المنايا ليحيا
    وإلى الأعظم احتذى كل عظمى

    عسكر الجن والنبوءات فيهِ
    وإلى سيف (قُرمطٍ) كان يُنمى

    * * *

    البراكين أُمُّه، صار أُمّاً
    للبراكين، للإرادات عَزْما

    (كم إلى كم، تفنى الجيوش افتداءاً
    لقرودٍ يفنون لثماً وضمّاً)

    ما اسم هذا الغلام يا بنَ مُعاذٍ؟
    اسمه (لا): مِن أين هذا المسمى؟

    إنه أخطر الصعاليك طُرّاً
    إنه يعشق الخطورات جمّا

    فيه صاحت إدانة العصر: أضحى
    حكَماً فوق حاكميهِ وخصما

    قيل: أردَوه، قيل: مات احتمالاً
    قيل: همّت به المنايا، وهمّا

    قيل: كان الردى لديه حصاناً
    يمتطيه برقاً ويُبريه سهما

    الغرابات عنه قصّت فصولاً
    كالتي أرّخت (جديساً) و(طمساً)

    * * *

    أورقَ الحبر كالربى في يديهِ
    أطلعَت كل ربوةٍ منه نجما

    العناقيد غنّت الكاس عنهُ
    الندى باسمه إلى الشمس أوما

    * * *

    هل سيختار ثروة واتساخا؟
    أم ترى يرتضي نقاء وعدما؟

    ليس يدري، للفقر وجه قميء
    واحتيال الغنى من الفقر أقمى

    ربما ينتخي مليا، وحينا
    ينحني، كي يصيب كيفاً وكما

    عندما يستحيل كل اختيار
    سوف تختاره الضرورات رغما

    ليت أن الفتى – كما قيل – صخر
    لو بوسعي ما كنت لحماً وعظما

    هل سأعلو فوق الهبات كميا؟
    جبروت الهبات أعلى وأكمى

    * * *
    أنعلوا خيله نظاراً ليفنى
    سيد الفقر تحت أذيال نعمى

    (غير ذا الموت ابتغي، من يريني
    غيره لم أجد لذا الموت طعما

    أعشق الموت ساخناً، يحتسيني
    فائراً، أحتسيه جمراً وفحما

    أرتعيه، أحسه في نيوبي
    يرتعيني، أحس نهشاً وقضما)

    * * *
    وجدوا القتيل بالدنانير أخفى
    للنوايا، أمضى من السيف حسما

    ناعم الذبح، لا يعي أي راء
    أين أدمى، ولا يرى كيف أصمى

    يشتري مصرع النفوس الغوالي
    مثلما يشتري نبيذاً ولحما

    يدخل المرس من يديه وينفي
    جسمه من أديمه وهو مغمى

    يتبدّى مبغى هنا، ثم يبدو
    معبداً هاهنا، وبنكين ثَمّا

    يحملُ السوق تحت إبطيه، يمشي
    بايعاً شارياً، نعيّاً ويُتما

    * * *

    مَن تُداجي يا بن الحسين؟ (أُداجي
    أوجهاً تستحق ركلاً ولطما

    كم إلى كم أقول ما لست أعني؟
    وإلى كم أبني على الوهم وهما؟

    تقتضيني هذي الجذوع اقتلاعاً
    أقتضيها تلك المقاصير هدما)

    * * *

    يبتدي يبتدي، يُداني وصولاً
    ينتهي ينتهي، ويدنو ولَمّا

    هل يرى ما ترى مقلتاهُ؟
    (هل يُسمِّي تورّم الجوف شحما)؟

    * * *

    في يديهِ لكل سِينَين جيمٌ
    وهو ينشَقّ: بين ماذا وعّما

    لا يريد الذي يوافيه، يهوى
    أعنف الاختيار: إمَّا، وأمَّا

    كل أحبابهِ سيوفٌ وخيلٌ
    ووصيفاتهُ: أفاعٍ وحمّى

    * * *

    (ياابنة اليل كيف جئتِ وعندي
    مِن ضواري الزمان مليون دهما؟

    الليالي -كما علمتُ – شكولٌ
    لم تَزدني بها المرارات عِلما)

    * * *

    آه يا بن الحسين: ماذا ترجِّي؟
    هل نثير النقود يرتد نظما؟

    بخفيف الرموز ترمي سيوفاً
    عارياتٍ: فهل تحدَّيتَ ظلما؟

    كيف تدمى ولاترى لنجيعٍ
    حمرةٌ تنهمي رفيفاً وشما؟

    كان يهمي النبات والغيث طلٌّ
    فلماذا يجفُّ والغيث أهمى؟

    ألأنَّ الخصاة أضحوا ملوكاً
    زادت الحادثات، وازددن عُقما؟

    * * *

    (هل أقول الزمان أضحى نُذيلاً؟
    ربما قلت لي: متى كان شهما؟

    (هل أُسمِّي حكم الندامى سقوطاً؟
    ربما قلت لي: متى كان فخما؟

    أين ألقى الخطورة البكر وحدي؟
    لست أرضى الحوادث الشمط أُمّا

    أبتغي يا سيوف، أمضى وأهوى
    أسهماً مِن سهام (كافور) أرمى)
    * * *

    شاخ في نعله الطريق، وتبدو
    كل شيخوخةٍ، صِباً مدلهمّا

    كلما انهار قاتلٌ، قام أخزى
    كان يستخلف الذميمُ الأذمّا

    هل طغاة الورى يموتون زعماً
    – يا منايا – كما يعيشون زعما؟

    أين حتمية الزمان؟ لماذا
    لا يرى للتحول اليوم حتما؟

    هل يجاري، وفي حناياه نفسٌ
    أنِفَت أن تحلَّ طيناً مُحمَّى؟

    (ساءلت كل بلدةٍ: أنت ماذا؟
    ما الذي تبتغي؟ أجلّ وأسمى

    غير كفِّي للكأس، غير فؤادي
    لعبةٌ في بنان “لَميا” و”ألمى”)

    * * *

    كيف يرجو أكواز بغداد نهرٌ
    قلُبه وحدهُ مِن البحر أطمى؟

    كان أعلى مِن (قاسيون) جبيناً
    مِن نخيل العراق أجنى وأنمى

    للبراكين كان أُمّاً: أيُمسي
    لركام الركاد خالاً وعمّا؟

    * * *

    (حلبٌ يا حنين، يا قلب تدعو
    لا أُلبِّي، يا موطن القلب مهما..

    أشتهي عالماً سوى ذا، زماناً
    غير هذا، وغير ذا الحكم حكما

    أين أرمي روحي وجسمي، وأبني
    لي، كما أستطيب روحاً وجسما؟)

    * * *

    خفِّفف الصوت للعدا ألف سمعٍ
    هل أُلاقي فدامة القتل فدما؟

    يا أبا الطيِّب اتئد: قل لغيري
    اِتخذ حطيةً على مَن وممَّا؟

    كلهم (ضبَّةٌ) فهذا قناعٌ
    ذاك وجهٌ سمَّى تواريه حزما

    * * *

    (ألطريق الذي تخيَّرتُ أبدى
    وجه إتمامهِ، أُريد الأتَّما

    متُّ غمّاً: يا درب “شيراز” أورق
    مِن دمي كي يرفَّ مَن مات غمَّا

    وانفتح وردةَ إلى الريح تُفضي
    عن عدوِّ الْجَمام كيف استجمَّا)

    أصبَحت دون رجله الأرض، أضحى
    دون إطلاق برقه، كلُّ مرمى

    هل يصافي؟ شتى وجوه التصافي
    للتعادي وجهٌ وإن كان جهما

    أين لاقى مودّةً غير أفعى؟
    هل تجلَّى ابتسامةً غير شرمى؟

    * * *

    أهلُهُ كل جذوةٍ، كل برقٍ
    كل قفرٍ في قلبه، وجه “سلمى”

    تنمحي كلها الأقاليم فيهِ
    ينمحي حجمُه، ليزداد حجما

    تحت أضلاعه “ظفارٌ” و”رضوى”
    وعلى ظهرهِ “أثينا” و”روما”

    يغتلي في قذاله “الكرخ” يرنو
    مِن تقاطيع وجهه “باب توما”

    * * *

    التعاريف تجتليه وتغضي
    التناكير عنه ترتدّ كلمى

    كلهم يأكلونَهُ وهو طاوٍ
    كلهم يشربونهُ وهو أظما

    كلهم لا يرونهُ وهو لفحٌ
    تحت أجفانهم مِن الجمر أحمى

    * * *

    حاولوا، حصرهُ، فأذكوا حصاراً
    في حناياهمو يُدمِّي ويَدمى

    جرَّب الموت محوهُ ذات يومٍ
    وإلى اليوم يقتل الموت فهما

    إبريل 1980م

    * * *

  • 399 مصارحة المأدبة الأخيرة

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  مصارحة المأدبة الأخيرة

    (قيلت بعد مقتل السادات)

    ألا اقتلْ كل مَن تلقى
    إذا استبقيت لن تبقى

    لأن القتل بعد القتل
    طبّ الأمة الحمقى

    * * *

    قتلتُ قتلتُ، لا جدوى
    غدوتُ الأقتلَ الأشقى

    أبتّ جذورها، تنمو
    أحزّ رؤوسها، ترقى

    وأدفن مَن تُسمّيهِ
    نقيّاً، يصعد الأتقى

    بكل النار أشويها
    ومِن جمراتها تُسقى

    هنا تنهلُّ أمطاراً
    هناك تُكثّف البرقا

    وتحت قذائف (النابلم)
    تندى، تحرق الحرقا

    وتبدو أنجماً خضراً
    ربىً وردّية زرقا

    ترود قرارة الأغوار
    كي تستبطن العمقا
    * * *

    لها دمويةُ كالصقر
    تحت وداعة (الورقا)

    تروعُ الباحث الأدهى
    وتُعيي الواعظ الأتقى
    أتدري؟ كل متراسٍ
    هنا أعصى مِن (العنقا)

    رصاصي ينثني عنهم
    قتيلاً داخلي مُلقى

    فجرِّب قتلهم، تصبح
    شبيهي، جثّة غرقى

    على أني أرى أني
    أُمشّي خطّة خرقا

    * * *

    سأعطي، خطّة أخرى
    ومالاً يدعم الخطّه

    – فعلنا الأعنف الأضرى
    أخفنا النسر بالبطّه

    – نكظّ السوق ب”الوسكي)
    ونطوي صفقة الحنطه

    فنلهي كل صعلوكٍ
    بسعر الخبز و(الشطَّه)

    ونغري كل موصولٍ
    بثانٍ نحرف الخُلطه

    * * *

    – مراراً قلتَ لي هذا
    ووحدي أدخل الورطه

    وعنك – وأنت لا تدري-
    أنوء بصخرة الغلطه

    لقد أسقطتُ بالثروات
    بالسهران، بالشرطه

    قبضت الكفّ عن هذا
    لذا أسرفت في البسطه

    ولم أُسقط بذا وجهاً
    سوى المطوي على السقطه

    سوى أُلعوبة الملهى
    سوى المبني على الحِطّه

    * * *

    فهل حققتُ يا مولاي
    ما يستوجب الغبطه

    – مَن الأغبى، أنا أو أنت؟
    تلك خلاصة النقطه

    * * *

    خلا مِن مخلبيه القطّ
    لِم لا تحكُم القطّه؟

    سدىً نختار سلطاناً
    نريد أُنوثة السلطه

    – خبطتَ بوجهي العشوا
    فصرتُ نهاية الخبطه

    * * *

    – فدع لي الآن جمجمتي
    وخذ وصفي، وخذ لقبي

    وخذ دُروي، وأدويتي
    ودعني، لا تخف غضبي

    ومَن أُدعى؟ أما وطني
    يردّ إليك منتَسبي

    فلا أصبحتُ مِن بلدي
    ولا مغناك مغتربي

    * * *

    أذع ما ترتئي سبباً
    فأنت كما ترى سببي

    كما استعملتني ذنَباً
    منحتَ مكانتي ذنَبي

    – فلم أصعد بمقدرتي
    صعدتُ بزندك الخشبي

    وما كانتُ الأحقَّ بذا
    ولا هذا حصان أبي

    فما أعليتَ مِن خلَفي
    ولا أنزلت مِن رُتبي

    * * *

    عرفتَ اليومَ كيف ترى
    بدأتَ أوانكَ الذهبي

    ستثني كل عاصفةٍ
    بهذا المشجب القصبي

    بأفواجٍ مِن الأغراب
    تدعى: الفيلق العربي

    وهذا ما ارتكبتُ أنا
    فهل تبني على كَذِبي؟

    * * *

    سيلقى ليلةَ خلَفي
    على كفيكَ مُنقلبي

    فمنذ الآن يرقبهُ
    مصيرٌ كان مرتقبي

    وأنت ستحتمي سنةً
    وتهوي، لاحقاً عقبي

    * * *

  • 400 علاقمة

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  علاقمة

    المستهل الآن يبدو الخاتمه
    أتعود؟ أم تأتي الفصولُ القادمة؟

    القادمات مريرةٌ، أو أنها
    أحلى؟ تعاكست الظنونُ الرَّاجمه

    أهناك قادمةًٌ؟ يقال جميعها:
    قدمت كواهمةٍ، وولّت واهمه

    ويقال: أودت مرتين، ومرّة
    فقدت قوائمها، وأغفت سالمه

    ولعلها نجمت مراراً وانطوت
    ولعلها اندثرت، وظلّت ناجمه

    ولربما احتشدت صباحاً وانثنت
    ليلاً، وعادت والصبيحة واجمه

    وعلى بقية وجهها (طروادةٌ)
    وطيوف (أبرهةٍ) وتلك الدّاهمه

    * * *

    مِزَق النهايات، استحلن بدايةً
    لنهاية بدأت، وأخرى عازمه

    أتحُول أعجاز الحوادث أوجهاً؟
    وهل الحوادث مثل أهلي راغمه؟

    * * *

    يا فلسفات الشك: هل حَلُم الذي
    يُدعى اليقين؟ أم الشكوك الحالمه؟

    أوَ ما الذي سمّوه لغو خرافةٍ
    أضحى الحقيقة؟ فالخرافة دائمه

    حتى الذي زٌعِمَ المحال، فإنهُ
    وافى وولى، والأهلّة نائمه

    * * *

    يا عين (زرقاء اليمامهِ) هل خبَت
    مُقلُ الشموس؟ أم المرايا قاتمه؟

    أترين شيئاً في حقيقة وضعهِ؟
    وهل الجزيرة حيث كانت جاثمه؟

    * * *

    خلعَت شواطئَها البحارُ، وأقبلَت
    فوق الربى، وعلى العواصف عائمه

    تنجرُّ تائهةً، كظهر هزيمةٍ
    تجتاز قامتها، كجبهة هازمه

    * * *

    (تكساس) جاءت فوق منكب (لندنِ)
    غدت العواصم، فوق صدري عاصمه

    كيف ارتدت جسدي؟ أأحكي أنها:
    بيني وبين فمي تبثُّ تراجمه؟

    وهناك تعمر حانتين ومسجداً
    وتقيم أحياناً طقوس براهمه

    وكأن (يعرب) حارس في بابها
    وكأن (أروى) في يديها خادمة

    صور القواصم بعد فرقتها التقت
    في شكل منقصم، وهيئة قاصمة

    * * *
    يا (مأرب) الأغلى: أتى (العرم) الذي
    يفني بدغدغة الأكف الناعمه

    سميت سيل الغيث أمس عرامة
    اسيول نفط اليوم ليست عارمة؟

    أتقول: أعياك القياس وإنما
    هاتيك غاشمة، وهذي الغاشمة؟

    * * *
    بالأمس كنت على التجارة حاكماً
    واليوم أصبحت التجارة حاكمة

    أرأيت (إرباط) الذي تعتاده
    أليوم يلتحف (العذيب) و(كاظمة)

    و(الشمر) كر (بذي الفقار) كما ابتدا
    وأتى (الحسين) على ذراعي (فاطمة)

    نفضت مقابرها (البسوس) وأرعدت
    وعدت على دمها الرمال الغائمة

    وتقمص (التنين) شكل حمامة
    ودنا (أبن أوى) كالبغي النادمة

    وتعدد (ابن العلقمي) فههنا
    قامت علاقمة، هناك علاقمة

    أو أنت يا يوم القيامة واحد؟
    من عهد عاد، والقيامة قائمة

    * * *
    هل قُلت يا ميمونة الذكرى سوى
    ما قلتِ لي؟ عبثاً أُخبِّر عالمه

    مِن ذا وذاك بدأت أعرف ثالثاً؟
    لا تكترث، إن النتيجة حاسمه

    وقع الذي تدري وأدري لا تخف
    المطلع الآتي، دليل الخاتمه

    (ديسمبر1981م)

  • 401 ترجمة رملية لأعراس الغبار

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  ترجمة رملية لأعراس الغبار

    غريبة يا طارئات مثلي
    شريدة مثلي ومثل أهلي

    منقادة مثلي لكل ريحٍ
    رمل الفيافي أصلها وأصلي

    لأنها رملية شبيهي
    أتى غباراً نسلها ونسلي

    كما التقى مستنقع وقيح
    كأن تناجي زمرها وطبلي!!

    * * *

    مثلي بلا فعل بلا تخل
    هل فعلنا أخوى أم التخلي؟

    مثلي بلا ماضٍ، وما يسمى
    (مستقبلي) يأتي، يموت قبلي

    غريبة يا طارئات عني
    وتلتحفن قامتي وظلي

    من مقلتي تدخلن قبل فتحي
    ومن فمي تخرجن بعد قفلي

    تطبخن في قلبي عشاء موتي
    وتبتردن في يدي، وأغلي

    تقلن ما لا أبتغي بصوتي
    تكتبن ما لا أرتأي وأملي

    وليس لي ما أدعي لأني
    أغمدت في قلبي: يدي ونصلي

    * * *

    أيا التي سميتها بلادي
    بلاد من؟ يا زيف: لا تقل لي

    بلاد من؟ يا عاقراً وأما
    ويا شظايا تصطلى وتصلي

    يا ظبية في عصمة (ابن آوى)
    يا ثعلباً تحت قميص (مشلي)

    يا طفلة في أسرها تغني
    ويا عجوزاً في الدجى تفلي

    يا حلوة دودية التشهي
    يا بهرجاً من أشنع التحلي
    * * *

    همست للقواد: هاك صدري
    وقلت للسكين: هاك طفلي

    وللغراب: البس فمي وكفي
    وللجراد: اسكن جذور حقلي

    فهل تبقى الآن منك، مني
    شيء سوى لعلها، لعلي؟

    * * *

    إلى سوى هذا الزمان أهفو
    إليه أضني سرعتي ومهلي

    هل أمتطي نفاثة إليه
    وتحت جلدي ناقتي ورحلي؟

    هل أمتطي بغلاً كنصف حل؟
    قد يمتطي وجهي قذال بغلي؟

    أي الخطى أهدى إليه؟ أضحت
    غايات عرفاني كبدء جهلي!

    * * *

    يا غير ما جربته أجبني
    ويا سوى تلك المنى أطلي

    ويا حدود المستحيل ذوبي
    ويالغات الممكن اضمحلي

    ويا التي يدعونها: (ظروفا)
    تحط أكداس الدمى وتعلي

    الموت بالحلوى لديك حذق
    وبالمدى ضرب من التسلي

    من علم البوليس كيف يشوي
    لحوم عشاق الحمى ويقلي؟
    * * *

    من يحمل الرشاش فهو حر
    في قتل آتي موطني وقتلي

    يقول -إذ يمشي على الضحايا-:
    ماذا هنا غطى لموع نعلي؟

    لأن قتل (النفط) ذو فنونٍ
    يردي هنا، وها هنا يصلي

    هنا يحني لحية ويدعو
    هناك يرمي جلده المحلي

    يبيع لوناً يشتري سواه
    يريد تجديد اسمه فيبلي

    تلك القبور المزمنات فيه
    يظل يجلو حسنها ويطلي

    * * *

    يبدو عروساً، لا تقول ريح
    لأختها: إن الزفاف رملي

    تصغي إلى تصريحه الدواهي
    وآخر الأزواج عنه يدلي

    يغدو أصولياً بدون فقهٍ
    يمسي حلولياً بلا تجلي

    يشم ماذا تحلم العشايا
    يصيح: هذا العصر صنع بذلي

    أهرقت في أوكاره عيوني
    كي يرتدي هذا اللعين شكلي

    لا تنفلت يا بحر من بناني
    تجمعي يا أرض تحت رجلي

    * * *

    يا ريح: هل تعطين غير قش؟
    من أين؟ تأريخ الركام بعلي

    غداً تراني أستهل عهداً
    لأنني ضيعت مستهلي

    * * *

    في القلب شيء -يازمان- أقوى
    لا تنعطف من أجله وأجلي

    أحب ما تولين من عطايا
    -ياهذه الأيام- أن تولي..

  • 402 شتائية

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  شتائية

    البرد أبرد ما يكونْ
    والليل أسهد ما يكونْ

    وأشذ من شبق الرصاص،
    ومن غرابات المنونْ

    * * *

    ماذا هنا غير الدجى المشبوه،
    وحشي السكون؟

    يبدي ثلاثة أوجهٍ
    ويمد آلاف الذقونْ

    كشيوخ (ياجوجٍ)، كسيف
    (الشمر)، كالسقف الهتونْ

    * * *

    وكأن كل دقيقةٍ، تبدو
    ملايين القرونْ

    كل الكواكب لا تدور
    وكل ثانيةٍ حرونْ

    وكأن فوق مناكب
    اللحظات، جدران السجونْ

    * * *

    البرد يسترخي كأفيلةٍ
    حطيمات المتونْ

    ينسل، يستشري، له
    في كل زاوية شؤونْ

    * * *

    ومفاصل الأكواخ ترسف
    تحت أحذية الغبونْ

    والحلم يلبس مديةً
    والطيف يزفر كالاتونْ

    وهناك ترتجف الكوى
    وهنا يجول المخبرونْ

    * * *

    فتموت (صنعا) وهي توقد
    -فوق نهديها- (النيون)

    ويقال: تولم للردى
    وتصوغ من دمها الصحونْ

    * * *

    والليل يبتدع التهاويل
    الغريبات الفنونْ

    ويرهل المذياع حشرجة
    يسميها اللحونْ

    كهوى المراهق يغتلي
    ويئن مثل (الحيزبون)

    والصمت يستقصي
    كأسئلةٍ قريحات الجفونْ

    وكمدمنٍ ضام، عليه
    لكل خمار ديونْ

    * * *

    تصفر أوردة الرؤى
    تسود وسوسة الظنونْ

    تثب العيون بلا وجوهٍ
    والوجوه بلا عيونْ

    فتخاف جدران المدينة
    أن يفيق الميتونْ

    النوم متهم، ومتهم
    سهادك يا جنونْ

    والحب متهم، ومتهم
    أسى القلب الحنونْ

    والصوت يحترف الخيانة،
    والسكوت كمن يخونْ

    حتى الجذور مدانة
    بذنوب إنجاب الغصونْ

    حتى الصخور، لأنها
    كانت (لذي يزن) حصونْ

    حتى الذي كان احتلالاً
    ملسوه بالسمونْ

    حتى الذي كان اسمه
    عنباً، تحول زيزفونْ

    يا خدعة التشكيل أمسى
    كل رأسٍ (بنطلون)

    يا برد (كافات الحريري)
    لا يراها الطيبونْ

    * * *

    غارت أسارير المنى
    وتجلمدت فيها الغصونْ

    والليل متسلقٍ كماخورٍ
    ينقر عن (زبون)

    كخرابةٍ شعثا أناخت
    فوق أعظمها السنونْ

    يا قلب هل تدع الطفور؟
    وأين تمضي بالشجون؟

    للشوق شوقٌ في حشاه
    وللمنى وجهٌ مصونْ

    ما دام لي شوق، له
    وجه، فإن له بطونْ

    لهواه ألفا زوجةٍ
    ولكل واحداةٍ بنونْ

    * * *

    كيف اكتشفت؟ قرأت
    أسرار المغاور والحزونْ

    لي موطن، لا ذرة فيه
    على الأخرى تهونْ

    الأرض نفس الأرض
    لكن الجحيم الآخرونْ

    السجن لصق السجن
    لصق المكرفون المكرفونْ

    * * *

    لا تكترث، يقع الذي
    لا يدعي المستطلعونْ

    من أي نبع أنت؟
    من ياءٍ، ومن ميمٍ، ونونْ

    * * *

    للقلب -يا ديجور- قلب
    من أساطير الفتونْ

    لن يعدم الأرق النجوم
    ولن ينام العاشقونْ

    * * *

  • 403 الصديقات

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  الصديقات

    نافرات ينسين عندي النفارا
    واعدات لا يستطبن اعتذارا

    مسعدات من طول ما ارتدن بيتي
    زائرات، أمسين هن المزارا

    في بساتينهن يحلو مقامي
    فوق أثدائهن أهوى السفارا

    * * *

    أصبحت وحدها القصائد أهلي
    صرن لي في الضياع حقلاً ودارا

    تلك أمي، تلك ابنتي، تلك طفلي
    تلك عرسي ليلاً، وأختي نهارا

    * * *

    حاضناتي، وهن طفلات حبي
    مرضعاتي، وهن أصبى العذارى

    هن سكري، وهن في الكأس أصحى
    هن صحوي، وهن حولي سكارى

    * * *

    الصديقات في الزمان المعادي
    والحواني، والعنف ليس يجارى

    الدفيئات في الليالي الشواتي
    والشوادي والصمت يحسو الجدارا

    * * *

    يختصرن الشعوب قلباً بقلبي
    وإلى جرتي يسقن البحارا

    فارعات القوام يحضن وجهي
    وإلى جبهتي أطيل القصارا

    بين أفنانهن يفتن غصني
    فأغني، ويعطس القلب نارا

    عند ذات الوقار أصغي وأنسى
    عند برقية العيون الوقارا

    * * *

    هن شتى الفنون، هذي ألوف
    تلك جنية الخطا لا تبارى

    ذي (تراجيديا) وهذي (درامى)
    تلك (جمالة) تشم العرارا

    هذه ربوة تدلي الثريا
    تلك فج هناك يتلو الغبارا

    تلك عين تمد للشمس يوماً
    تلك أمسية كوهم الحيارى

    تلك بنية، وهذي نبيذ
    تلك قمحية تشع اخضرارا

    تلك وادٍ من الكروم الحبالى
    تلك روض تفتق الجلنارا

    تلك قاتية كأهداب (أروى)
    تلك دخنية كغيم الصحارى

    * * *

    هن أنى ذهبن وجه بلادي
    جئن عنه، وجئن منه اختصارا

    أي اسمائهن أشذى نثيثاً
    أي أوصافهن أشهى ابتكارا؟

    * * *

    قد أرى هذه (تعزاً) وتبدو
    تلك (صنعأ) هاتيك تبدو (ذمارا)

    تلك تبدو (بيحان) هاتيك (إباً)
    تلك (لحجاً) هذي تلوح (ظفارا)

    قد أسمي هذي (سعاداً) وأدعو
    هذه (وردةً) وهذي (نوارا)

    هن ما شئت من أسامٍ وإني
    كيفما شئن لي أموت اختيارا

    (أغسطس 1982)

  • 404 لعينيك يا موطني

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  لعينيك يا موطني

    لأني رضيع بيانٍ وصرف
    أجوع لحرفٍ، وأقتات حرف

    لأني ولدت بباب النحاة
    أظل أواصل هرفاً بهرف

    أنوء بوجهٍ، كأخبار كان
    بجنبين من حرف جر وظرف

    * * *

    أعندي لعينيك يا موطني
    سوى الحرف، أعطيه سكباً وغرف؟

    أتسألني: كيف أعطيك شعراً؟
    وأنت تؤمل، دوراً وجرف

    أفضل للياء وجهاً بهيجاً
    وللميم جيداً، وللنون طرف

    أصوغ قوامك من كل حسنٍ
    وأكسوك ضوءاً ولوناً وعرف

    * * *

  • 405 ملامح حداثية في شعر البردوني.. الدكتور عبدالعزيز المقالح

    دراسات >  ملامح حداثية في شعر البردوني.. الدكتور عبدالعزيز المقالح

    اعترف بداية أنني لم أكن أرغب في الكلام على حداثة شاعرنا الكبير تحت هذا العنوان فقد كنت- ومازلت- أرى أنه شاعر حديث بكل ما تحمله كلمة حديث من مفهوم المعاصرة والتجديد، وباستثناء بداياته القليلة التي كان واقعياً فيها- شأن كل مبدع مبتدئ- تحت تأثير بعض الشعراء القدامى والإحيائيين أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم والرصافي وأضرابهم، فإن الشعر الذي كتبه بعد مرحلة البداية يصب في نهر التحديث بكل طموحاته ومغامراته، سواء من خلال الأسلوب الذي يصطنعه أو من خلال الموضوعات التي يتبناها، ويمكن لنا أن نتكلم على هذا الشعر عبر ثلاثة ملامح رئيسية تتحدد بحسب المؤثرات التي خضع لها الشاعر هي: الملمح الرومانسي، والملمح الواقعي، والملمح السوريالي.
    البردون الشاعر وحداثة البردوني الإنسان والثائر قد تلازمتا وتناغمتا، وكانتا دليله إلى “مدينة الغد” التي ظل ينشدها في شعره ومواقفه.
    قبل الاقتراب من الملامح الحداثية في شعر الشاعر الكبير عبدالله البردوني تجدر الإشارة بإيجاز شديد إلى مفهوم الحداثة عند القدماء والمعاصرين من نقاد الشعر العربي عبر العصور، مع التأكيد على حقيقة لم تكن غائبة في وقت من الأوقات ومؤداها أن الشعر العربي لم يعرف حالة الركود والاجترار إلا في القرون التي أعقبت انهيار الدولة العربية الإسلامية وما تلاها من توقف حركة التطور والتجديد ومن عزل للوطن العربي عن سياق التفاعلات الواسعة التي كان أبناؤه يخوضونها بوعي واقتدار، والتأكيد على هذه الحقيقة والتعمق في أبعادها من شأنهما أن يجنبانا بل يقيانا الوقوع في براثن التفكير الرديء وأعني به ذلك المستوى من التفكير الذي يصور لنا أن كل جديد ماهو إلا خروج عن سياق الأصالة وإساءة للنموذج الإبداعي الأول، أن كل حداثة بدعة مستوردة من الآخرين الذين هم أعداؤنا بالضرورة، وأن المحافظة على لغتنا وأدبنا بشقيه النثري والشعري لن تتحقق إلا بالانكفاء على الذات وبرفض منطق التفاعل والقبول بالعيش في دائرة ضيقة بعيداً عن الرؤى والقضايا والعلاقات الجديدة.
    وتحاول هذه الإشارة الموجزة إلى مفهوم الحداثة قديما أن تسترجع مواقف ثلاثة تيارات إبداعية في الشعر العربي يرافقها أو يعكس مواقفها ثلاثة تيارات نقدية شغلت الماضي كما تشغل الآن الحاضر وكأنها تؤكد نظرية التناسخ في الأفكار والمواقف وهذه التيارات الثلاثة هي:
    1- تيار شعري تقليدي محافظ على مرجعيته الأصولية التي تعود إلى شعر ما قبل الإسلام، ويتركز جهده ومحافظته على الشكل البنائي الخاص بترتيب القصيدة بدءاً بالنسيب والوقوف على الأطلال من جهة وعلى الجانب الفني المرتبط بالبلاغة وطريقة بناء الاستعارة بما لا يخرج عما تواضع عليه الشعراء في ذلك الزمن السالف الذي أصبح مرجعا ونموذجا. وشعراء هذا التيار كثيرون ومن نقاده المشاهير عمرو بن العلاء الذي يناوئ كل تحديث ويرى فيه ضعفاً وركة وخروجاً على النموذج الكامل وقد روت عنه كتب النقد قوله بعد تمكن الحديث من إثبات وجوده (لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته)(1)
    2- التيار الشعري التجديدي الذي يحافظ على الشكل البنائي للقصيدة ويخضعه لاستيعاب المتغيرات في الرؤى والتحول في التعامل مع اللغة وصوغها بما يتناسب مع قدرتها على تلبية ثقافة الواقع وشروطه الثقافية، وله رواده وأقطابه في الماضي ورواده وأقطابه في العصر الراهن ولم يحفل هؤلاء الرواد بمواقف التيار السابق ولا بمقولاته الجامدة ومنها قول الآمدي (وإنما ينبغي أن ينتهي في اللغة حيث انتهوا ولا يتعدى إلى غيره فاللغة لا يقاس عليها)(2)
    3- التيار الشعري التجديدي أو الحداثي الذي يسعى إلى تجاوز النموذج البيتي، وكانت البداية مبيتات ومسمطات ثم موشحات وصولا إلى ما يسمى بشعر (البند) الذي يشبه النثر في طريقة كتابته مع محافظته على الوزن، ولقد لقي هذا المستوى من التجديد اعتراضاً شديداً، فكان الموشح، وهو الفن الشعري الذي حاول في وقت مبكر اكتشاف إيقاعات وأوزان وتشكيلات بيتية جديدة- مرفوضاً ومعدوداً خارج الشعر، وجاءت تسميته بالموشح إبعاداً وتمييزاً له عن الشعر بالمفهوم السائد.
    وهذا يؤكد بوضوح أن العربي كان دائما بحاجة إلى التجديد والتجاوز إما في لغته أو في بنيته أو في موضوعاته، كما يؤكد أن التعايش بين هذه الأنماط أو التيارات الثالثة قد بقي إلى العصر الحديث حيث بدأ التجديد في المهجر على شكل قصائد متعددة البحور وتفيد من نظام الموشحات، كما بدأ التحديث داخل إطار القصيدة البيتية، وحقق شعراء الحداثة المضمونية -إذا جاز التعبير ومنهم على سبيل المثال لا الحصر بشارة الخوري – وعمر أبو ريشة وسليمان العيسى والبردوني والجواهري وسعيد عقل، حققوا نجاحا هائلا في أن يصبوا داخل الإطار التقليدي للقصيدة خلاصة ثقافتهم الحديثة، وكما اخترق أبو نواس ومن بعده أبو تمام المألوف ليحدثا جديداً داخل القصيدة العربية دون أن يضطر إلى تهشيم نظامها البيتي فقد أحدث الشعراء المعاصرون ثورة فريدة مؤكدين بذلك أن الشاعر الحقيقي في كل عصر لا يخضع للتقليد ويرفض الاستسلام لأساليب سابقية والكتابة على منوالهم والحداثة في أبسط تعريف لها هي التعبير عن الفاعلية الزمانية والمكانية وعلى ضوء هذه الفاعلية يعيد كل جيل ترتيب أفكاره وأساليبه ويحاول كل فرد موهوب في هذا الجيل أن تكون له لغته الخاصة أو بعبارة أدق امتلاك لغة تستوعب رؤاه وتسمو إلى أفقه الفني والمعنوي.
    ويستطيع القارئ أن يكتشف بنفسه أن البردوني الذي كان أكثر الشعراء المعاصرين -المشار إليهم فيما سبق- محافظة على نظام القصيدة البيتية هو في الوقت ذاته أكثرهم خروجاً على هذا الشكل من داخله ومن خلال استيعاب المغامرة،. وفي كتابي “أصوات من الزمن الجديد” دراسة بعنوان “عطر جديد في آنية قديمة” مقاربة تحليلية لهذا المستوى من التجديد في القصيدة البردونية وقد بدأت الدراسة بالسؤال الآتي: (هل رأيت العطر أو “الباروفان” الباريسي الحديث في زجاجة قديمة؟ إذا لم تكن قد رأيته فإنني قد رأيته أنا، ولكن في ديوان شعر.. نعم ديوان شعر يجمع بين المحتوى الحديث والشكل القديم، بين الرؤية التحليلية التي تتواءم مع الرؤية التمثيلية لشاعر حديث مثل (سان جون برس) والبنية التراثية التي تذكرنا بالأعشى، والنابغة، وأضرابهما من الشعراء الجاهليين، كيف حدث هذا؟ وأين حدث؟ وتمضي الدراسة بعد ذلك إلى القول: (إن قراءة عابرة في ديوان الصديق الشاعر الكبير عبدالله البردوني كفيلة بالرد على السؤال، وقادرة كذلك أن تعطينا تصورا كاملا عن كيفية اللقاء الواعي بين الماضي الحاضر، والعناق الملائم بين الإبداع والتراث، ولقد تمكن شاعرنا في ديوانه الأخير، “زمان بلا نوعية” ان يتوصل إلى المعادلة الصعبة في عالم الشعر، واستطاع أن ينجح فيما فشل فيه الآخرون، عندما حافظ على الغنائية المتكاملة، وهي أهم ما تتميز به القصيدة التراثية، في الوقت الذي شحن فيه قصائده بالمضامين المواكبة للعصر، وكأنه بذلك يضع شعار الأصالة والمعاصرة موضع التطبيق)(3).
    وفي كتابي “من أغوار الخفاء إلى مشارف التجلي” دراسة أخرى بعنوان “البردوني ورحلة التجاوز من القصيدة البيتية بالقصيدة البيتية” وفيها أي الدراسة قراءة متأنية لعدد من الدواوين الأخيرة للشاعر وما تحمله من مغامرة جديدة ومدهشة داخل النظام البيتي، مغامرة تصنع اللامألوف من المألوف وتقيم الجسر المفقود في حركة التنوير الشعري في امتدادها من البيت إلى القصيدة، ومن القصيدة إلى النص الفني المعاصر، وهو أي البردوني- بهذه الدواوين يثبت أن كل الشعراء العرب المبدعين والحريصين على الانتماء بشعرهم إلى الوجود المعاصر قد شاركوا جميعاً وبمستويات مختلفة في هز القصيدة التراثية وآفاقها كلٌّ بأسلوبه فمنهم من حاول تفكيك القصيدة إلى مقاطع ومنهم من حاول تفكيك البيت إلى تفعيلات مع الاحتفاظ بموسيقى البحر، ومنهم من حاول تفكيك القصيدة والبيت معا وصولا إلى القصيدة النثرية، وكل هذه المحاولات مشروعة وضرورية للشعر إذا كان الهدف هو الإبداع وإثبات أن نبض القصيدة كنبض التاريخ تطورٌ لا يتوقف ولا ينتهي ولا يعترف بالقيود والسدود، فالتوقف صيغة للموت وصورة من إعلان إفلاس الإبداع.(4)
    وتصل الدراسة إلى الدور المهم الذي نجح فيه شاعرنا البردوني في الخلاص من التأثير البنائي للقصيدة الموحدة البحر والقافية والخروج بها إلى مرحلة التحدي التاريخي حين تبدو ظاهريا تكراراً لصيغة الشكل التقليدي في حين أنها تتمتع بمقومات الحداثة والمعاصرة، وحتى الإيقاع الموسيقي الذي يبدو مع القافية أقل عناصر القصيدة البردونية حداثة لا يخلو من الجدة، فهو يستجيب للتمرد اللغوي ولخللة تركيب الجملة الشعرية، والقافية وهي جزء من الإيقاع الموسيقي لا تؤدي إلى تقطيع أوصال القصيدة أو إلى تفتيت معانيها، كما كانت ولا تزال تظهر في شعر كثير من النظامين، وإنما هي جزء من البنية ليست ملتصقة بالبيت ولا خارجة عن النسق الشعري ولم تعد مهمتها إيجاد التوافق الصوتي مع بقية الأبيات أو إعلان نهاية المعنى وإفساح الطريق لمعنى جديد، إنها تتلاشى بإيقاعها الحاد في البنية الداخلية للقصيدة وتوشك القصيدة من هذا النوع عند البردوني أن تصير مدورة، ويستطيع القارئ أن يلم بها دون أن يتوقف عند نهايات الأبيات وهذا هو المقطع الأول من قصيدة زمان بلا نوعية
    غريبة طارئات مثلي
    شريدة مثلي ومثلك أهلي
    منقادة مثلي لكل ريح
    رمل الفيافي أهلها وأهلي
    لأنها رملية شبيهي
    أتى غباراًً كنسلها، ونسلي
    كما التقى مستنقع قبيح
    كان تفاجئ زمرها وطبلي
    مثلي بلا فعل ولا تخلٍّ
    هل فعلنا أخوَى أم التخلي
    مثلي بلا ماض، وما يسمى
    (مستقبلي) يأتي، يموت قبلي(5)
    هذا المقطع يمكن أن نقرأه على نحو آخر تختفي معه العمومية أو البيتية، وتتشابك فيه المعاني وتتوحد البنية الخارجية بالبنية الداخلية دون أن يحدث قدراً من الاختلال، ودون أن يؤثر التشكيل الجديد على وضوح التجربة وتطور مسارها، بل ربما زاد هذا الجانب وضوحا واستكمالا، وربما اتجه إلى الكشف عن وحدة البناء العضوي، وحدد ملامح تجربة متميزة تستطيع أن ترتفع إلى مستوى التحدي التاريخي لفن الشعر(6).
    ومهما قيل عن الإطالة في هذا التقديم، واعترف أنها كذلك، لكنها تبدو من وجهة نظري على الأقل- ضرورية لمعرفة أبعاد التجاوز التي قطعتها القصيدة البردونية في مضمار التحديث فضلا عن المحاولة الهادفة من خلال هذا التقديم الذي أكرر الاعتراف بأنه طال- إلى وضع تجربة الشاعر في سياقها التاريخي والمعاصر بوصفها واحدة من أهم التجارب الشعرية الحديثة التي استأثرت بوجدان القارئ العربي، وكانت وستبقى محل اهتمام النقد الأدبي لا بكونها تجربة رائدة في مجالها وحسب وإنما مغامرة فنية لم تمنعها الأطر المحددة سلفا عن التعدد والاتساع وتغيير المعادلات التي ترسخت عبر الكتابات النقدية الجادة التي كانت وما تزال ترى أن هامش الحداثة داخل القصيدة البيتية محدود أو شبه معدوم.
    الملمح الرومانسي
    لا مكان للشك بين الدارسين المهتمين بالشعر العربي الحديث.. في أهمية ما اضطلع به الاتجاه الرومانسي من إشاعة النزعة التجديد والتمكين للشاعر العربي من اكتشاف منهج مغايرة في الكتابة الشعرية، ومن حسن الحظ أن الرومانسية عندما تلقتها الحياة الأدبية العربية في العشرينات من القرن المنصرم لم تكن تعبيراً عن الإحباط والهروب من الواقع كما كانت في بداية ظهورها في أوروبا وإنما كانت بمثابة الثورة الفنية الشاملة ثورة في الأسلوب وفي المعجم الشعري وفي الحنين إلى الطبيعة وتجاوز موضوعات الشعر العربي القديم كالمدح والهجاء، صحيح أن عدداً قليلاً من الشعراء العرب قد وجدوا في هذا الاتجاه فلسفة أو مرجعية للشعور بالقلق والإحساس بالضياع والتشاؤم من الوجود إلا أن غالبية شعراء العربية الذين اقتربوا من هذا الاتجاه بوعي قد أفادوا من سماته الجوهرية وكتبوا في ظل مؤثراته شعراً إنسانياً بديعا متألقا في صوره ومفرداته وموقفه وفي حنينه إلى العدل والمساواة. وإذا كان الأثر الإيجابي لهذا الاتجاه قد بدأ مع أبي القاسم الشابي وعلي محمود طه وإبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل فإن تجلياته الأوضح كانت مع السياب ونازك الملائكة والبياتي وبلند الحيدري وصلاح عبدالصبور وأدونيس وأحمد حجازي حيث قاد إلى اكتشاف التجربة الجديدة في الشعر العربي الحديث، فقد خرج هؤلاء جميعهم من عباءة الرمانسية.

    وإذا كانت اليمن لأسباب جغرافية أو سياسية قد انعزلت عن العالم بعامة وعن أقطار الوطن العربي بخاصة فإن ذلك لم يمنع بعض أبنائها المبدعين من الخروج إلى بعض العواصم العربية كما حدث لأربعة من الشعراء الرواد وهم محمد عبده غانم ومحمد محمود الزبيري ولطفي جعفر أمان وعلي محمد لقمان، فقد تلقى الأول دراسته في بيروت في أوائل الثلاثينيات وحاول الثاني أن يدرس في القاهرة في أواخر الثلاثينات ولم ينجح بينما أفاد الثالث من دراسته في الخرطوم في الأربعينات والرابع والأخير تلقى دراسته في القاهرة في الفترة ذاتها تقريبا وحمل أربعتهم نسمات الرومانسية وسماتها وسرعان ما التقطها شاعران مقيمان في الوطن هما إبراهيم الحضراني وأحمد الشامي، وبفضل الجهود الإبداعية التي بذلها هؤلاء استطاعت الحداثة أن تؤسس لها مساحة في الحياة وفي وعي الناس.
    وفي منتصف الخمسينات كان البردوني قد استوعب الموروث واستبطنه حفظاً ومحاكاة وحينها بدأ يتجه إلى قراءة الشعر الحديث وكان الاتجاه الرومانسي أول المنعطفات الهامة في حياته الشعرية. فالرومانسية تلبي حاجة الشاعر إلى “الحلم” بعالم جديد وإنسان متجدد في إحساسه بالتوحد مع الطبيعة والتعامل بحب وحنان مع كل الأشياء كما هو الحال في قصيدة “عازف الصمت” التي توحد بينه وبين الصخور والقبور بين السهول والتلال بين الوجود والفراغ في لغة صافية وفي صور بالغة العذوبة والجمال:
    أطلت هنا وهناك الوقوف
    تلبي طيوفا وتدعو طيوفْ
    وفي كل جارحة منك.. فكر
    مضيء وقلب شجي شغوف
    تغني هنا وتناجي هناك
    وتغزل في شفتيك الحروف
    وتهمس حتى تصير الصخور
    فماً شاديا وفؤاداً عطوف
    وتعطي السهول ذهول النبي
    وتعطي الرؤى حيرة الفيلسوف
    تلحن حتى تراب القبور
    وتعزف حتى فراغ الكهوف
    وتفني وجوداً عتيقاً حقيراً
    وتبني وجوداً سخياً رؤوف
    وتغرس في مقلتيك الرؤي
    كروماً تمد إليك القطوف
    وحدي وآلاف البرى
    قومي.. وكل الدهر عندي
    من جلديَ الخشبيَّ أخرج
    تدخل الأزمان جلدي
    من لا متى، آتي، أعود
    مضيعاً قبلي وبعدي
    كحقيقة ملأى ولا تدري
    كبابٍ، لا يؤدي
    مشروع أغنية بلا صوت
    كتابٌ غير مجدي
    شيء يخبئه الدجى
    في زرع سرته ويبدي(8)
    شعر بديع يعزز المنحى التجديدي في القصيدة العربية، ويتمثل بوضوح تام مقاييس الاتجاه الرومانسي وجمالياته، ورغم بوادر القلق والحيرة البادية في الجزء الأخير من هذا المقطع فإنه يبقى شعراً متمرداً وصاخباً وإيقاعه الحزين لا يمنع من الإيحاء بعنف صارخ ضد هذه العدمية التي تنمو داخل النص دون أن يدري الشاعر كمحصلة طبيعية لهذه الوجدانية المتأزمة.. وما أحوج هذا الملمح التحديثي في شعر البردوني إلى دراسة متأنية تتناوله بتوسع.
    الملمح الواقعي
    لا ينفصل شعرنا العربي بعامة، أو الشعر في اليمن بخاصة عن الواقع الذي صدر عنه، وهو يعبر أصدق تعبير عن حالات التردي التي يعيشها الإنسان العربي في مشرق الوطن الكبير ومغربه.. ومعظم شعر البردوني، إن لم يكن كل شعره مرتبط أشد ارتباط بالواقع المحلي والعربي والإنساني وقصائده كلها أو جلها جدل حي بين الاجتماعي والسياسي والفكري، وقد رأينا في النموذجين اللذين أوردناهما في الملمح الرومانسي كيف أن الرومانسية بما قيل عن كونها مذهبا هروبيا لم تستطع أن تنتزعه عن الواقع الحائر المحير فامتلأ النموذجان بالتمرد والثورة العارمة.
    وإذا كانت بعض النماذج الواقعية في الشعر العربي قد اختلطت بالإعلام والدعاوة المباشرة وتعامل معها عشرات الشعراء من منظور تبسيطي هابط يسيء إلى الشعر وجمالياته ويشوه معالمه فإن قصيدة الواقعية لدى البردوني ذات مقاييس حداثية حريصة على أن تكون شعراً وكما تحاول أن تتجه إلى مجموع الناس الذين نسعى جميعا إلى استقطابهم وكسب مواقفهم فإنها تسعى كذلك إلى أن تتحدث إلى ذهنية ثقافية متقدمة تمتلك ثقافة شعرية وتجيد التمييز بين مقومات لاشعر ومقومات النثر، بين الكلام والإبداع، ومن هنا فقد لقيت قصائده الأخيرة وهي شديدة الواقعية والارتباط بواقع الناس الذين ازداد اقترابا من همومهم ومعاناتهم قد لقيت نوعا من الإعراض لأنها ارتقت بمستواها الفني إلى درجة يصعب على عامة الناس إدراك رموزها ودلالاتها، ولأسباب ثقافية بحتة سيظل القارئ العربي يشكو من غموض القصيدة ومن عجزه عن فهم الشعر الجيد المكتنز بالمعنى العميق والأسلوب الساخر الساحر وهذا نموذج واقعي بديع كان قد حمله إلى قبل عقد من الزمن أحد المحسوبين على الشعراء طالبا مني تفسيره:
    الرقم العاشر كالثاني
    الواحد ألف، ألفان
    وسوى المعدود، كمعدود
    وسوى الآني، مثل الآني
    الألف، الصفر، بلا فرق
    يَّان الأعلى، والداني
    الفوق سقوط صخري
    التحت سقوط إنساني
    نفس النوع، الأعلى أدنى
    وجه المغنى، ظهر الغاني
    سيان القاتل، والراثي
    سيان الشامت والحاني
    الإنسان الموت الأظمى
    ودم القتل الظمىء العاني(9).
    أي صورة أدق وأعمق للواقع العربي، بل الواقع الإنساني الذي اختلطت فيه الأمور إلى درجة يصعب معها التميز بين الأرقام والألوان وكذلك بين الأفعال نفسها وبين الأقوال نفسها، إنه واقع شديد الغرابة والقسوة لا يستطيع إدراك أبعاده الحقيقية وقراءة دلالات هذه الأبعاد سوى الشاعر الرائي القادر على النفاد بوعيه المتقدم إلى الواقع المتعين القائم لا الواقع المثالي المنتظر.
    وحين نتخلى قليلاً عن تفاؤلنا الساذج سندرك حقيقة هذه المفارقات المتضادة ونعذر الشاعر الذي أمسك بخيوط هذه الشطحات، بل سنكبر فيه وعيه المخالف للمألوف في التعبير وفي أساليب التعبير، والفن الواقعي- كما يؤكد النقاد الواقعيون الأحرار- لا يكون بنقل الواقع من الطبيعة إلى الورق كما تفعل الصورة الفوتوغرافية، وإنما يعطي للفنان، الشاعر والرسام مساحة من حرية التشكيل:
    أخي صحْونا كله مأتم
    وأغفاؤنا ألمٌ أبكم
    فهل تلد النور أحلامنا
    ولم يلد الزهرة البرعم؟
    وهل تنبت الكرم ودياننا
    ويخضر في كرمنا الموسم؟
    وهل يلتقي الري والظامئون
    ويعتنق الكأس والمبسم؟
    لنا موعد نحن نسعى إليه
    ويعتنق الكأس والمبسم؟
    لنا موعد نحن نسعى إليه
    ويعتاقنا جرحنا المؤلم
    فنمشي على دمنا والطريق،
    يضيعنا والدجى معتم
    فمنا على كل شبر نجيع،
    تقبله الشمس والأنجم
    سل الدرب كيف التقت حولنا
    ذئاب من الناس لا ترحم
    وتهنا وحكامنا في المتاه
    سباع على خطونا حوّم
    يعيثون فينا كجيش المغول
    وأدنى إذا لوَّح المغنم(10).
    تلك صورة واقعية بالكلمات لما كان يعاني منه الشعب اليمني قبل ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، ولعل هذا الملمح بحداثته المعنوية، ورؤيته الثورية يشكل الجانب الأكبر من تجربة البردوني الشعرية الذي أصبحت قصائده التعبير الصادق عن هموم الإنسان في هذا الجزء من الوطن العربي والصور الأوضح عن الواقع القبيح الذي ينبغي، بل يجب تغييره:
    لماذا لي الجوع والقصف لك؟
    يناشدني الجوع أن أسألك
    وأغرس حقلي فتجنيه أنت
    وتسكر من عَرَقي منجلك
    ماذا؟ وفي قبضتيك الكنوز
    تمد إلى لقمتي أنملك
    وتقتات جوعي وتُدعى النزيه
    وهل أصبح اللص يوما مَلَكَ؟
    لماذا تسود على شقوتي؟
    أجب عن سؤالي وإن أخجلك
    ولو لم تجب فسكوت الجواب
    صحيح.. يردد ما أنذلك(11).
    الملمح السوريالي
    يقول خصوم السوريالية إنها فن الكتابة الذي يسعى إلى وضع الرأس مقلوباً في محاولة للإدهاش والإثارة، ولكن هؤلاء الخصوم ينسون الهدف الذي من أجله تفعل السوريالية ذلك، ويقولون أيضاً إنها تسعى إلى تشويش الوعي دون أن يذكروا الأسباب الفنية الكامنة وراء ذلك التشويش الذي يصدر عن قصد يستبعد معه الشاعر المألوف والمتعارف عليه ويبدأ كتابته في حالة شعورية خالية من قيود المنطق، وفي محاولة لتجاوز الواقع الجامد وتركيب الأشياء تركيبا فنياً.
    وباختصار، فإن السوريالية (تقوم على الحلم الدائم والمشاعر والأحاسيس البعيدة عن كل هيمنة إرادية، وتخرج من سلطان الوعي المباشر إلى اللاوعي، ومن المنطق العقلي السائد إلى اللاوعي حيث الحقائق الأولى والمواضيع الأولى البعيدة عن مراقبة العقل المباشرة)(12) وقد نجح البردوني في التقاط مؤثرات هذا المذهب الفني وكتابة بعض قصائده في ضوئه؛ لا بحثاً عن الإدهاش والإثارة وإنما في محاولة للفت الانتباه إلى حالة التناقض الموجودة في الواقع والتي تجعل الأمور مقلوبة أو في غير موضعها من جهة وفي تحديث القصيدة العربية والخروج بها من المسكوكات التقليدية من جهة ثانية، ويكاد هذا الملمح يشكل الخصوصية الخالصة في القصيدة البردونية إذ لم يجرؤ شاعر عربي، من شعراء العمود أو التفعيلة على تحطيم التعابير المألوفة عقليا كما فعل هذا الشاعر الكبير الذي شجعته سخريته المريرة على الاقتراب من الخيال بالمفهوم السوريالي:
    للريح طعم في حلوق الحصى
    وللجواري بالنجوم اكتحال
    هذي الشبابيك لها صبوة
    إلى وصالٍ غير ذاك الوصال
    تلك القناديل وإن راوغت
    لها غموض واضح الانفعال
    ماذا اعتراني لا أنا عامر
    ولست قفراً.. ما اسم هذا المآل؟
    يُعيِّر الأحلام، تبدو له
    ذوات أنياب وأيد طوال
    لها أنوف مثل ريش “القطا”
    وأعين مثل دبيب النمال
    أقدامها مثل صدى أنة
    أكتافها مثل جسوم البغال
    يحس رأسين على جيده
    وحيث كان الحلق، حل القذال
    يلف زنديه على صدره
    يصغي كمسلول يقاوي السعال
    تلوذ ساقاه بأضلاعه
    يهز في إبطيه، وكر اغتيال
    أمطار هذا الوقت ضوئية
    يا سقف هذا وابل أم وبال(13).
    نحن مع هذا النص وأمثاله أمام طقس شعري ولغوي غير مسبوق لا في شعرنا القديم ولا في شعرنا الحديث، تركيب الجملة مختلف وتكوين الصورة أكثر اختلافاً، ولو تساءلنا هل للريح طعم؟ وهل للحصى حلوق كي تتذوق من خلالها طعم الريح؟ لكانت الإجابة بالنفي طبعاً، ولكنه الشعر أو أنها الملامح الأولى السوريالية في القصيدة العربية تعيد تركيب الأشياء كما تراه لا بما هو عليه، وهذا جزء من نص بعنوان: “الجدران الهاربة” هاربة إلى أين؟ هذا ما لا يقوله النص لأنه لا يحفل بأن يقول أو يرد على جواب:
    أقبلت كلها الدكاكين ولهى
    كبغايا هربن من نسف ملهى
    لم يعد من يجيء، جاءت سقوف
    فوق أخرى، واهٍ أتى فوق أوهَى
    كان يستفسر الغبار الشظايا:
    المرايا أو الجراحات أزهى؟
    أي صنفي خمارة الموت أرقى؟
    الأغاني أو السكاكين أشهى؟
    أقبلت كلها العمارات عجلى
    تتمطى مخبزاً،وتجتر مقهى
    ترتدي آخر الأناقات، لكن
    مثلما تدعي الفطانات بلها
    كاد يبدو أسفلت كل رصيف
    ركبة تحتذي ثمانين وجها
    والذي يبتدي، بلا أي بدء
    والذي ينتهي، إلى غير منهى(14).
    خاتمة
    تلك هي الملامح الحداثية في شعر البردوني كما حاول أن يقدمها – باقتضاب- هذا البحث الذي اعترف أنه بمثابة قراءة أولية لهذه الملامح الفنية بالمعاني والصور الجديدة والمحرضة على الأخذ بأسباب التحديث ومقاومة الجمود الشعري، وما من شك في أن ثقافته التراثية العميقة قد ساعدته على التحرر من أشكال الوعي المسبق بالتركيب البنائي للجملة الشعرية وعدم الخوف من تهمة الحداثة إيماناً منه بأن هذا المصطلح ليس جديداً ولا طارئاً مستورداً من وراء البحار كما يتوهم التقليديون ودعاة الجمود وربما تضمَّن تقديم هذا البحث إشارة مباشرة إلى هذه الحقيقة وإلى أن مصطلح التحديث قديم وليس هبة من الغرب وإنجازاته في الآداب.
    وبعيداً عن التعصب الأعمى والمبالغة فإن موروثنا الأدبي بشقيه الإبداعي والتنظيري يشمل معطيات بالغة الأهمية تحتاج منا إلى مزيد من الدرس والبحث والتأصيل حتى لا يبقى العقل العربي المعاصر رهن التخرصات ولكي يدرك أن مدارس شتى للحوار في مختلف المجالات الفكرية والإبداعية قد نشأت على أرض العرب قبل قرون من وعي الغرب بها.
    وتبقى إشارة أخيرة إلى العلاقة بين حداثة البردوني الشاعر وحداثة البردوني الإنسان والثائر، فقد تلازمت الحداثتان وتناغمتا وكانتا دليله إلى “مدينة الغد” التي ظل ينشدها في شعره وفي مواقفه.
    الهوامش:
    1- ابن قتيبة: الشعر والشعراء، ص5
    2- نفسه: ص6.
    3- د. عبدالعزيز المقالح: أصوات من الزمن الجديد، ص11.
    4- د. عبدالعزيز المقالح: من أغوار الخفاء إلى مشارف التجلي، ص143.
    5- ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار، ص23.
    6- د. عبدالعزيز المقالح: من أغوار الخفاء إلى مشارف التجلي، ص144.
    7- ديوان في طريق الفجر، ص289.
    8- ديوان وجوه دخانية، ص14.
    9- ديوان زمان بلا نوعية، ص15.
    10- في طريق الفجر: ص55.
    11- نفسه، ص21.
    12- د. عبدالحميد جيده: الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي الحديث ص29.
    13- ديوان رواغ المصابيح، ص75.
    14- ديوان زمان بلا نوعية، ص27.
    عن (مجلة الكويت العدد 227 الصادر في 1سبتمبر2002)

  • 406 الدلالة ومرجعية الصورة في شعر البردوني.. الدكتور فايز الداية

    >  الدلالة ومرجعية الصورة في شعر البردوني.. الدكتور فايز الداية

    يتطلع الكشف الدلالي في نقد الشعر إلى بلوغ مرتبة يتبين معها وعي الشاعر بالعالم من حوله وترتسم من خلال الكلمات الدوال رؤيته المتبلورة في مجمل الديوان، أو في الأعمال الشعرية الكاملة، وهذا ما يتيحه لنا ديوان عبدالله البردوني الثالث “مدينة الغد” الذي يجمع سمتين هامتين هما نضوج التجربة والأدوات لدى الشاعر، والإطار التاريخي للقصائد. فهي تدور في سنوات غليان الثورة وبحثها عن ملامحها وطريقها بعد انطلاقها في اليمن 1962م.
    إن الكلمات هي الدوال التي تعكس العالم المادي والذهني والنفسي وعندما تبرز مجموعة منها مشكلة دائرة دلالية في زوايا محددة إنما تعطينا ما يدور في أعماق الشاعر وهي الهواجس التي تلح وتتفاعل في المواقف والمنحنيات وتتلمس مواطئ الخطوات، إن هذه الدوال المفاتيح هي بعض من المعجم الشعري الخاص لأنها غادرت فاعلية الدلالة العامة إلى دلالة تحمل إضافة من تكاملها وتبادل التأثير فيما بينها عبر قصائد الديوان، ولا شك أن قراءتنا ستجد تفسيراً أبعد مع كل وقفة للمفاتيح الدلالية، لأن تجاوب الأصداء سيتصاعد ما بين كيان الدائرة الكلي وهذا الموقع في القصيدة، وسيظل التلقي في إطار النص وعلاقاته أولاً على أن يتسع مفهوم النص لديوان الشاعر أو دواوينه.
    أدى بنا استقراء ديوان “مدينة الغد” إلى رصد دائرتين دلاليتين تركزت كل منهما في بؤر دلالية تستغرق القصيدة ثم انداحت المفاتيح في القصائد الأخرى على شكل مقاطع أو ومضات، وهكذا يبدو جسم الدائرة في مجموعة المفاتيح الخاصة بها وفي انتشارها في أركان التجارب الشعرية، أما الأولى فهي دائرة “الولادة والخصب” والأخرى هي “دائرة المواسم والفصول”.
    ونحدد قبل الخوض في التفاصيل أن دراسة الصورة الفنية متداخلة على نحو عضوي بالدلالة ذلك أن الدوال المرصودة تعد إشارة إلى مرجعية الصورة، وفي الوقت نفسه ترتبط بمرجعية داخلية هي دلالة اختيار الشاعر للدائرة والأبعاد النفسية والفكرية فيها، وهنا يمتاز هذا اللون من الدرس النقدي بالحركة مع مساحات ووحدات تغني الصورة في سياقها وتنقل إليها شيئاً من سياق أوسع تلتحم به خاصة عند تداخل الدوائر الدلالية.
    ولعل هذه الدراسة ترسم الخطوط في ديوان “مدينة الغد” أساساً لنظر شمولي في أعمال البردوني الشعرية يمتحن المشترك والمباين في دلالات الدائرتين.
    الخصب في ولادة الوطن
    يطل علينا الوطن/ اليمن في كل أرجاء دائرة “الولادة والخصب” في ديوان مدينة الغد، فالتجدد مطمح مع الولادة التي تتنامى أجيالاً مع اليوم الآتي، وكأن الأمل يداعب النفوس بوجوه تحمل من دفء الشمس وضيائها ما يبدد ضياعاً أحاط بالجبال رغم شموخها، ويكتسب هؤلاء الآتون روح الحضارة في شرايين الوطن الغائرة فتتحول أزهاراً تغسل مرارة العقم الذي يغير ويبغي الوقوف باباً موصداً في وجه التاريخ.
    وقد استطاع البردوني بهذا الربط بين الوطن ودلالات الولادة والخصب أن ينقل القضية إلى إطار حتمي الانتصار، فلا تستطيع قوى الطغيان أن تقف في وجه هذا السر الذي منحه الخالق للبشر، فهذه المواجهة مع ظلمة التخلف وخفوت صوت الإنسان قد تتعثر ولكنها ستمنع يوماً جمرة الخلاص، وقد تبدت رابطة الدم فريدة في هذه الدائرة لأنها، في حلمها- وحدت الأبناء في كنف أم هي الأرض وإهاب الوطن غدا جامعاً أكبر من إطار الأسرة الصغيرة والروابط الخاصة، وجوهر الخصب يكمن في الائتلاف لا تباين معه الوديان ولا الجبال وتجدل الأصوات نغماً واحداً.
    امتدت هذه الدائرة في ثلاث عشرة قصيدة إضافة إلى فاتحة الديوان الذي بلغت قصائده (45) خمسة وأربعين: مدينة الغد، اليوم الحنين، صديق الرياح، كانت وكان، وراء الرياح، أم يعرب، كلمة كل نهار، أم في رحلة، ذات يوم، نحن أعداؤنا، من رحلة الطاحونة إلى الميلاد الثاني، حكاية سفين، كاهن الحرف” وانتشرت مفاتيح الدائرة وكان ترددها (62) اثنتين وستين مرة في البؤر والمقاطع والومضان ونستطيع إدراجها في عدد من الحزم الدالة فنجداً أولاً إلحاحاً على المصدر “الميلاد” وما يتفرع منه اشتقاقاً إضافة إلى “الأم” وليد، مولود، ولدنا، ولد، ولادة، استولد، تلد، يولد، أولاد، الميلاد، أم، أمي، أم يعرب” وينضم كذلك إلى هذه الحزمة “الجنين” أجنة، تحبل، الحبالى، الحمل، تجبه، إخصاب”، ونلحظ حضور الأفعال والتركيز على الحدث الرئيسي الولادة بعد الحالة الجنينية ولا يغيب عنا ترميز امتداد الأرض ومما تحمل من أبناء الوطن الذين يتخلق من جموعهم الوليد القادم، وهنا ننتقل إلى الحزمة الثانية التي تتابع مرحلة تالية للوالدة” مرضع، يرضع، أرضعه، رضاعته، رضعناه، رضيع، أثداؤها، الحاضنات، حليبي، المهد” وفي الحزمة الثالثة ينمو المشهد “طفل، طفولة، أطفالي،ابني، صبي” ونشير إلى النقيض أو السلب في هذه الدائرة ونذكر مفتاحين هما “العقيم وتخدج”.
    وتبدو لنا حال التماهي بين الإنسان والوطن في تبادل الأدوار تبعاً لأطوار الطبيعية التي تجعل الوالدين في رعاية الابن يحنو عليهما متذكراً تواصلاً له مع الدنيا من خلالهما عندما درج على الأرض، إن مفهوم الأسرة الكامن في أثناء هذه الدائرة الدلالية يتجلى في موقع يبحث فيه الشاعر عن “حلم الوطن” الآتي وهنا يتحول إلى الراعي الذي يتكفل بذاك الوليد لتنهض أيام جديدة في اليمن وتشع عليها من العمق إضاءة من الثقافة القرآنية “واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا”.
    وواد يصيخ إلى
    تباشيره اللّمعِ
    فأحلم أن الجنين
    وليد بلا مرضع
    فألوي زنود الحنان
    على خصره الطيع
    ويحبو على ساعدي
    فأرضعه أدمعي
    أمد له سلما
    إلى النور من أضلعي
    وأشدو لميلاده
    ويصغي بلا مسمعِ
    ويؤكد هذا التصور لدى البردوني ما جاء في قصائد أخرى تتوزع الديوان فهو يجمع الوجهين معاً، وقلبه مفعم بأمل يستل من حنايا هذه الهضاب وتلك الروابي ويظل الإحساس بالتاريخ منفتحاً على الأفق وليس انغلاقا ماضياً.
    وها هنا غمغم التاريخ أين أنا
    من قائد الزحف سيف الله أو عمرُ!
    ماذا هنا اليوم يادنيا؟ هنا يمن
    طفل على شفتيه يبسم الظفر
    وتردد كلمات أخرى التواصل المأمول بين “العجوز” و”الحنين”.
    ولمن ألحن هجعة الأشباح
    والرعب الدفين؟
    لمواكب التاريخ يرويها
    الأمين عن الأمين
    ولأمي اليمن العجو
    زولا بني اليمن الجنين
    وعندما يرقب تسلسل الأحداث وإرهاصات الثورة في محاولات انبثقت من بين الصخور الصلدة نراه يوازي بين انفجار يغير مساراً غارقاً في التيه والولادة التي تنداح أمامها دنيا بريئة ونقية تسطر عليها خطوات الحلم على الأرض:
    وإلى العشي تعاقدا
    واستبطأ سير الثواني
    أيكون مستشفى الحديد ة
    مولد الفجر اليماني؟
    إن بوصلة ذاك النور الكامن هي سر الولادة لذلك يميز البردوني الومضة الخلبية التي لا غيث من ورائها، بل إنها تبلغ حد الخديعة لأعين طال انتظارها وشفاه ظمأى، ونسمع شكوى الشاعر، من أولئك الذين كانوا عذاب الوطن والسياط التي أدمت الأجساد، والسلطة الغاشمة وإننا نجد ما نسميه الولادة النقيض:
    من عهد من ولدوا بلا
    سبب وماتوا دون غاية
    المسبلين على الذئاب
    البيض أجنحة الرعاية
    الناسجين عروقهم
    لمواكب الطاعون راية
    وقد يكون تجار الحروب أشق وأكثر دماراً لبنية البلاد وهي تتلمس طريق الغد.
    إن تجربة الثورة شهدت عثرات كادت تعود بها القهقري كما حدث في المحاولات الأولى المأساوية سنة 1948م، لذلك تزاحم الصورة المشوهة أطيافاً واعدة:
    على اسم الجنيهات والأسلحة
    يتاجر بالموت كي يربحه
    أينسى عراقته أنه
    أبو الحرب طفلها الأول
    وما زال تنجبه كل يوم
    (بسوس) وأخرى به تحبل
    وعادت كما بدأت غيمة
    توشي بوارقها الخلبا
    وتفرغ أثداءها في الرمال
    وتهوي تحاول أن تشربا
    لكننا نلحظ أن التفاؤل ظلت له السيادة، ففي نهاية قصيدة “حكاية سنين” التي روي فيها البردوني وقائع الوطن والزمن، تبزغ حقيقة هي توحد ولادة الخصب في الأرض وفوق المسالك بأنفاس زكية ودماء طهرت الآفاق، وامتزجت تربة غالية فلا ندري ملامح دفق الدماء من قطرات الندى فالكل تلفه كلمة الحب وهمةٌ فيها من الشمس وعد الحصاد:
    أَوَ ما رأى الشهداء كيف
    أخضوضرت بهم الفصول
    فرشوا السعيدة بالربيع
    ليهنأ الصيف البذول
    ومضوا لوجهتهم ويبقى
    الخصب إن مضت السيول
    الواقع والرمز في دائرة
    تستوقفنا قصيدة “أم في رحلة” لأنها تبدو واقعية مما يجري في جنبات الحياة اليومية، ونحن نتابع لهفة أم بعيدة عن أولادها في رحلة، وذلك عندما تصادف طفلا مع والده، فلماذا غايرت هذه الوقفة ما نراه في دائرة الولادة من اتخاذها المجاز والرمز سبيلا تعبيريا؟ إن كل المواقع والمفاتيح الدلالية كانت أداة تصويرية تحمل نفثات وهواجس ورؤى إلى التجربة في القصيدة التي تدخل في نسيجها.
    رغب البردوني أن يمشي على الأرض مع كلماته بيننا ثم ينشر خفقات على امتداد الديار وبعدها تحلق الرموز عالياً، ولعلنا لا نبعد عندما نرى هذه القصيدة مشهداً محسوساً قريبا يعمق ما كان يذهب إليه الشاعر في أركان الديوان من رموز فتغدو كائنات من لحم ودم!.
    شكل حلو ما أجمله
    كالطيف كأطيار الوادي
    كالحب كدغدغة الذكرى
    كالحلم كهمس الميعاد
    أشتم حليبي في فمه
    قبلاتي أنفاس بلادي
    وتمد إليَّ ملامحه
    فرحي وعذاب الميلاد
    زهوي بالحمل كجاراتي
    صرخات المهد وإجهادي
    وتخرج هذه الأم من حالتها الفردية إلى شمول يضم الجميع وهنا تقصد الوطن بحسب أنفاس الحديث ومفاتيحه الدلالية، ونتابع الحوار بين والد الطفل الذي يحمل عبر اسمه سلسلة الأجيال وبين هذه المرأة/ الأم:
    ما اسم المحروس؟ أجب يا بني:
    (نعمان) كجد الأجداد
    أتحبين ابني؟ كل ابن
    في الأرض وكل الأحفاد
    عفواً، ياعم أنا أم
    أولاد الغير كأولادي
    ونلحظ الأسلوب الحواري الموجز والذي تحرر من (قلت، قالت، قال، فجاءت الجمل باترة محددة هدفها بتركيز وإن يكن بحاجة إلى دربة القراءة لتحقيق المعايشة.
    وإثر الجولة الأرضية رأينا الشاعر تنفتح بصيرته وتضم في حناياها كل أبناء اليمن، وقد تكون معرفتنا بأحوال البردوني الشخصية مثار شجن إنساني، فقد برهن على التعالي الذي بلغ به درجة رفيعة من التواصل مع الآخرين ومع القضية الكبرى التي ترسم أحلام بلده، كان البردوني محروماً من الإنجاب لكن الخصب الذي تغنى به، وأرسل كلماته تبشر به أعطاه فوق ما يعطي الأبناء، وقد أطلق في هذه القصيدة شيئاً مما في نفسه على لسان والد الطفل “نعمان”.
    لا تأسي يا بنتي إني
    سافرت العمر بلا زاد
    خضت الخمسين بلا ولد
    يرجى وبلا أمل حادي
    وكذلك فيما نرى كانت كلمات هذه المرأة بعضا من كلمات تضج في أعماق الشاعر “أولاد الغير كأولادي”!.
    وهنا نستطيع أن نؤكد ما يعطيه التحليل الدلالي في تجاوب الأصداء ضمن الدائرة الدلالية، فالبردوني في سعي لتكبر الأسرة في الوطن يقدم ما قدر له أن تمتلكه الكلمة وألواناً من الفن:
    ما ذلك الحمل الذي يحتسي
    خفقي ويعصى ذاهلاً أو يطيع
    يشدو فترتد ليالي الصبا
    فجراً عنيداً أو أصيلاً وديع
    وتحبل الأطياف تجني الرؤى
    ويولد الآتي ويحيا الصريع
    فتبتدي الأشتات في أحرفي
    ولادة فرحى وحملا وديع
    ومن اللفتات الآسرة ذاك الحزن الذي يزحف من كل الأطراف لكنه لا يتمكن من سد المنافذ أمام رغبة عارمة في العطاء، ونلحظ الخيوط تربط مظاهر الطبيعة وسر الولادة السحري.
    تقولين لي، أين بيتي؟ مزاح؟
    من النار زاد رمادي جراح
    وراء النوى حيث لا برعم
    جنين ولا موعد من جناح
    أموت واستولد الأغنيات
    وأبذلها للبلى في سماح
    المواسم والفصول
    انتشرت دائرة المواسم والفصول في إحدى وأربعين قصيدة من قصائد ديوان “مدينة الغد” البالغة خمساً وأربعين وتوزعت المفاتيح الدلالية مترددة (226) مرة، وبهذا تشكل ظاهرة دلالية تعين على ولوج رؤى الشاعر البردوني ونلحظ أن عدداً من القصائد تعد بؤراً تركزت فيها المفاتيح “أسمار القرية، أصيل القرية، نهاية حسناء ريفية، فارس الاصطياف، صديق الرياح، وراء الرياح” وندرك عودة إلى الأرض مصدراً للخصب ومثاراً لإشكالات تحيط بها وبأهلها، ولا تغيب إشارة الحضور المكثف للرياح.
    1- نبدأ متابعتنا للحزم الدلالية فنجد علامات الفصول التي تبني هيكل الحياة وبمقدار تباين ألوانها وقسماتها تظل الشرايين موصلة بينها، وثمة حبل سري يبلغ الجنين المرتقب لحظة التلاقي مع المستقبل:
    “الصيف، صيفي، مصيف، أصياف، صيفية، الربيع، ربيعاً، نيسان، الشتاء، أشتَتْ، ثلج، ثلوج، ثلجية، الخريف، خريفي، سبتمبر، برق: الأمطار”.
    وإذا عدنا إلى عناوين بعض القصائد اتضح الانشغال بدوار الزمن فالشاعر مهموم برقاد يهيمن؛ ولذلك يملأ الأجواء مستحضراً الحقيقة الحاضرة الغائبة عن الأهل في الوطن، إ الدنيا تسافر وتعبر القرون فكيف يكون ثمة نهوض ومشاركة في الوجود!! مدينة الغد، كلمة كل نهار، ذات يوم، سيرة للأيام، حكاية سنين، من رحلة الطاحونة إلى الميلاد الثاني، وهكذا تتسع المساحة الدلالية لهذه المفاتيح لأكثر من تحديد لدوران الفصول الفلكية، ونسمع كلمات تهفو إلى “مدينة الغد”.
    ذات يوم ستشرقين بلا وعد
    تعيدين للهشيم النضارة
    تزرعين الحنان في كل واد
    وطريق في كل سوق وحاره
    في الروابي حتى يعي كل تل
    ضجر الكهف واصطبار المغارة
    سوف تأتين كالنبوءات كالأمطار
    كالصيف كانثيال الغضارة
    وتصوغين عالما تثمر الكثبان
    فيه ترف حتى الحجارة
    لخطاه عبير نيسان أو
    شذى لتحديقه أجد إناره
    2-وأما الحزمة الدلالية الثانية فتغوص وراء ينبوع الخصب، تبدأ بالخضرة وتتابع الأفعال التي ينبض معها الموسم.
    “الخضرة، اخضوضر، اخضرار، يخضر، الخضر، أخضر، الخضراء، إخصاب الخصب، خصيبة، النبع، الزرع، الزروع، أزرع، زرعت، مزارع، مزرعة، الحصيد، الحصاد، يقتطف، القطاف، القطاف، الغلال، البيادر، الحقول، حقلاً، الثمر، الجنى، ثمار، الكرم، كرمة، كروم، الدوالي، الداليات، شجر، الرمان، عناقيد البلح”.
    وسوف تختلف نظرة المتلقي إلى هذه المفاتيح عندما يجد أناه يتصدر عن موقع في الأعماق حيث يصطبغ الدم بذرات التراب ويتصاعد التكوين في وجوه تدرج وخضرة تشع لوناً يقهر الجدب والعقم، وإن اشتباك الدائرتين الدلاليتين يكسر حواف الدلالات السطحية في قراءة عابرة لمشاهد البيعة والتغني بالجمال أو الحنين إلى الرومانسية:
    سل الرياح هل لها
    خلف الرؤى توهج
    هناك ذر برعم
    فأوما التأرج
    إلى نهود هضبة
    يحيلها الترجرج
    هناك نبض مولد
    يريبه التحرج
    وكرمة عيونها
    أحلام أنثى تزوج
    ومنحنى يخضر في
    حروفه التهدج
    وواحة حبلى تعي
    متى وكيف تنتج
    3- ويبدو مسرح الأحداث في الحزمة الثالثة حيث تتوالى المفاتيح: “مرعى، المرتع، المراتع، الربا، رواب، السهوب، القرى، الوادي، روضة، ربوة، الريف، جنة، واحة، السهول”.
    4- وفي الحزمة الرابعة نلحظ مفاتيح تبرز ملامح الجمال لكنه جمال يتأدى إلى الثمار في طرف منه، وكمنت في طرف آخر طاقة الفعل وهذه هي الإضافة الدلالية لدى البردوني التي ساعدته على إبرازها جرأته اللغوية في الاشتقاق وتصريف الكلمات:
    “الورود، خميلة، الزنبق، زنبقي، أفواف البنفسج، الياسمين، الزهر، الجلنار، الصفصاف، شذا، عبير، أشذى، أفنان، الغصون، برعم، عرار”.
    ولقد لفت البردوني الانتباه عندما أورد “أشذى، يزنبق، تزنبق، تندى، ينرجس، تعنقده، تسنبله، أجنت له” فالفعل إنما ينبثق من الكائنات!! وترن الأوتار مذكرة بمسارب إلى دائرة الخصب والولادة وبوابات تشرع أمام أحلام الوطن.
    هل تحس الحقول ماسر نسيانَ
    ومن أين عاد يهمي اخضرارا
    كيف أصغت إليه، هل ضج- يا أشواك
    موتى- وبارك (الجلنارا)
    أي فصل من الفصول التوالي
    أسكت البوم واستعاد الهزارا؟
    فعلى الجبال من اسمه
    شعل مجنحة تجول
    وصدى تعقده الربا
    وهوى تسنبله الحقول
    ولعل النظرة المكتملة تتجلى مع النقيض “أشواك، هشيم الغصون، عوسج، جدبي”.
    5- تتردد في الحزمة الخامسة ثلاثة مفاتيح “الريح، الرياح، الأرياح” أربعاً وأربعين مرة، وتضاف إليها عشر مرات مع المفاتيح “الأهوية، عاصف، عاصفة، عاصفات، العواصف، زوبعة، الإعصار” لا يحدد الشاعر لونا واحداً لهذه المفاتيح وإنما نجدها تتحرك مع الأطوار المختلفة وفيها الخطر ونذر الهلاك وفيها عون للإنسان في سعيه على الأرض، ويبقى التساؤل عن هذا الإلحاح والحضور الذي لم تكد تخلو منه قصيدة لهذه الدائرة،إننا نشعر بقاسم مشترك هو علامة على حركة الزمن ومؤشر للتحولات أو هو نبض الحيوية في كل توجهاتها ودفق يدفع بالدماء في الشرايين والأوردة على حد سواء.
    فمن المشاهد القائمة الحزينة ما آلت إليه ثورة 1948م بعد تباشير الخلاص، لقد كانت الريح بعضاً من علامات دمار لم يترك إلا الحطام:
    وانثال أسبوع تزف
    عرائس الفجر اخضراره
    وتلاه ثان لحنت
    بشراه أعراق الحجارة
    حشد الخريف إزاءه
    همجية الريح المثارة
    وتلاقت الفلوات حو
    ليه وأشعلت الإغارة
    وفي مشهد آخر تسهم الريح في إزاحة خطر داهم لنكتشف الداء الحقيقي في واحد من منعطفات مسار البلاد.
    وليس عدانا وراء الحدود
    ولكن عدانا وراء الضلوع
    فقد جلت الريح ذاك الجراد
    فكنا جراداً وكنا الزروع
    وأما المشهد الثالث فقد يبدو مفاجئاً لأن البردوني جعل الريح تتماهى مع الإنسان في حالة غربة، وتجلت حركتها بين البقاع انقطاعاً من مصادرها ومولدها، وموضع ائتلافها مع محيطها!!.
    وورائي ذكرى تعض يديها
    وأمامي طيف كوحش خرافي
    من رآني من أين جئت وأمضي
    كالصدا كاغتراب ريح الفيافي
    والذي كان منزلي قبل حين
    جئته فاستحال منفى المنافي
    6- وثمة حزمة رصدنا عدداً من مفاتيحها وتحتاج إلى المزيد من الاستقصاء فقد أخذنا ما كان أقرب إلى حيوية هذه الدائرة الدلالية: “البلابل، العندليب، أغرودة، العصافير، طائر، طيور،أطيار، عصفور، جناح، هدهد، بوم”.
    رحلة الصورة بين الدوائر
    كان الشاعر البردوني يضم تلك المفاتيح في الدائرتين ويفتن في تركيب أطياف صوره، فهو يخترق الحواجز حاملاً بردة يمنحها لهذا الإنسان سواء في وقفة ذاتية له أو في حشد يسير على الدرب الصاعد إلى قمة يستشرف مسار الشمس، وهنا تغدو ألوان المفاتيح دليل الهوية، فالخصب عنوان والخضرة تنشق لها الأرض، وبهذا التلاقي بين الولادة والمواسم ندرك مدى إيمان الشاعر بانتفاض المارد من هذه النفوس تحملها أجساد نال منها تعب القرون.
    نقرأ مناجاة رقيقة لكنها تضم بين جوانبها إشارات تذهب إلى ذاك الخزان في عمق يحفظ نبض الدار والأرض.
    من أين تهمسين لي
    فستعيد الأهويةْ
    من أين أنني علي
    أيدي الظنون ألهية
    من حيث لا أعي ولا
    تدرين أي أحجيهْ
    وتهمسين لي كما
    يندي اخضرار الأودية
    كما تبوح جنة
    حبلى بأسخى الأعطية

    (مجلة الكويت العدد 227 الصادر في 1سبتمبر2002)

  • 407 اللصوص في شعر عبدالله البردوني.. الدكتور شهاب غانم

    >  اللصوص في شعر عبدالله البردوني.. الدكتور شهاب غانم

    كان القرن العشرون لم يشأ أن يرحل إلاّ وقد أخذ معه كبار شعراء القصيدة البيتية أو ما تسمى بالعمودية، فرحل في أواخر القرن العشرين محمد مهدي الجواهري ونزار قباني ثم عبدالله البردوني يوم 03 أغسطس 9991. وإذا كان نزار قباني قد كتب قصيدة التفعيلة إلى جانب القصيدة البيتية وأجاد الشكلين معاً فإن الجواهري والبردوني أخلصا للشكل البيتي في كل نتاجهما الشعري طوال حياتهما وظل أنصار القصيدة البيتية والمتعصبون لها يشيرون إلى هذين الإسمين كنموذجين على مقدرة القصيدة البيتية على التعبير بكفاءة عن هموم العصر علماً بأن المتحمسين لقصيدة التفعيلة التي لعبت دوراً هاماً منذ أواخر الأربعينيات (وان كانت هناك تجارب من هذا الشكل لعلي أحمد باكثير منذ أواخر الثلاثينيات) كان كثير منهم يشكك في مقدرة القصيدة البيتية على ذلك ثم جاء بعدهم أنصار ما يعرف بقصيدة النثر التي انتشرت في الثلث الأخير من القرن العشرين ليشككوا في مقدرة القصيدتين البيتية والتفعيلية معاً على مواكبه حاجات العصر في مجال التعبير الشعري.
    فهل نجح البردوني حقاً في تطويع القصيدة البيتية للتعبير عن خلجات قلبه وهموم شعبه وأمته؟ الشيء الأكيد هو أنه استطاع أن يطور أسلوباً خاصاً به في قصائده السياسية والاجتماعية بل حتى في قصائدة الذاتية بحيث يستطيع القارئ المطلع أن يميز قصائد البردوني من قصائد غيره من الشعراء حتى ولو لم تكن مذيلة باسمه.. وأحد خصائص ذلك الأسلوب روحه الفكاهية وسخريته الظريفة واللاذعة، خصوصاً في مواضيعه السياسية والاجتماعية.
    وفي هذه المقالة نضرب مثلاً على ذلك بقصيدتين تناولتا موضوع اللص الذي قلَّما تنبه إليه أو كتب عنه الشعراء العرب الآخرون.. ولنتوقف أولاً عند قصيدة بعنوان “لص في منزل الشاعر” بتاريخ نوفمبر 6691م نشرت في ديوان “مدينة الغد” والقصيدة في شكل قصة طريفة تدلنا على الحس الفكاهي الكبير الذي كان يتحلى به البردوني ونلاحظ في القصيدة بساطة لغتها ولكن دون إسفاف فهي من السهل الممتنع:

    شكراً دخلت بلا إثاره
    وبلا طفور أو غراره
    لما أغرت خلقت في رجليك
    ضوضاء الإغارة
    لم تسلب الطين السكون
    ولم ترع نوم الحجارة
    كالطيف جئت بلا خطى
    وبلا صدى وبلا إشارة
    أرأيت هذا البيت قزما
    لا يكلفك المهارة
    فأتيته ترجوا الغنائم
    وهو أعرى من مغاره
    ####
    ماذا وجدت سوى الفراغ
    وهرة تشتم فارة
    ولهاث صعلوك الحروف
    يصوغ من دمه العبارة
    يطفي التوقد باللظى
    ينسى المرارة بالمرارة
    لم يبق في كوب الأسى
    شيئاً حساه إلى القراره
    ###
    ماذا أتلقى عند صعلوك البيوت
    غنى الإمارة
    يا لص عفواً إن رجعت
    بدون ربح أو خسارة
    لم تلق إلاّ خيبة
    ونسيت صندوق السجارة
    شكراً أتنوي أن تشرفنا
    بتكرار الزيارة
    وقد سقنا القصيدة كاملة فهي ليست طويلة ثم إنها في شكل اقصوصة طريفة يفسدها البتر.. وهي تعرفنا بشكل سافر على روح البردوني الساخرة وأخيراً ففيها يعرفنا البردوني بوضوح كيف يرى نفسه: أنه (صعلوك الحروف) ومعروف أن البردوني أديب آثر أن يحيا مستقلاً معبراً عن وجهات نظره بكثير من الحرية.. وفي قصيدة “لص تحت الامطار” المؤرخة في سبتمبر 3791م والمنشورة في ديوان “السفر إلى الأيام الخضر” يرسم البردوني مرة أخرى حكاية لص بأسلوبه الفكاهي فالبردوني يكتب القصيدة على لسان هذا اللص الذي يبحث عن الفريسة المناسبة:
    من أين أمر؟ هنا وكر
    ملعون.. رادته ألعن
    وهنا شباك يلحظني
    شبح في وجهي يتمعن
    طرب في ذا القصر العالي
    أو عرس في هذا المسكن
    ولماذا أحسد من يبدو
    فرحاً من عيشته ممتن؟
    لا.. لست لئيماً يؤسفني
    أن يهنا غيري في مأمن
    لكن مسرات الهاني
    توحي للعاني أن يحزن
    أيسارا يا “صنعاء” أمضي
    أم انتهج الدرب الأيمن؟
    ترى هل هذا لص عادي يخاطب صنعاء عن دربه وهو يمضي نحو فريسة.. أم أن اللص رمز لشخص أكبر وأن هناك بعداً سياسياً عن معنى اليمين واليسار واختيار الدرب، ولعل البردوني يتعمد ذلك الغموض ويترك القارئ يختار المعنى الذي يناسبه.
    فهنا اقطاعي دسم
    وهنا اقطاعي أسمن
    هذا ما أعتى حارسه
    بل هذا حارسه أخشن
    وهناك عجوز وارثة
    تعطي لو عندي ما أرهن
    هل أغشى منزلها؟ أغشى
    فلعل فوائده أضمن
    وهكذا يستعرض الفرائس المحتملة ثم يفكر في السطو على بنك ولكنه يراجع نفسه:
    البنك مغالقه أخرى
    تحتاج لصوصاً من لندن
    ولاشك أن البردوني شاعر فنان ذو حس فكاهي ساخر وعميق.. ونكاد نستشعر أن البردوني يتعاطف مع ذلك اللص البائس تحت الأمطار الذي لايدري من أين ستكون وجبته المقبلة في ذلك الوضع الاجتماعي القاسي، أو أنه على الأقل يرثى لحال اللص، ربما كان هذا هو السبب الذي جعل البردوني يختتم القصيدة بذلك الشكل غير المتوقع حيث يقرر اللص في النهاية ألا يسرق أحداً ففجأة بدأ يحلم أن تحل مشاكله في الغد من تلقاء نفسها.. وعند تلك النقطة أو ذلك القرار يشعر اللص براحة نفسية وتنتهي القصيدة على هذه الصورة:
    فلارجع، حسناً.. لا أدري
    أرجوعي.. أم تيهي أغبن؟
    سيهل غد.. وله طرق
    أنقى.. ومتاعبه أهون
    وبدأت أحس بزوغ فتى
    غيري، من مزقي يتكون

    *كان والدي الدكتور محمد عبده غانم رحمه الله أول أديب عربي يقترح استعمال كلمه بيتي بدلاً من عمودي وكان ذلك في مجلس بصنعاء صادف أن حضرته في أواخر السبعينيات من القرن الماضي وكان من ضمن الحضور الشاعر أ.د عبدالعزيز المقالح ود. عبدالكريم الارياني والشاعر محمد أنعم غالب والشاعر على حمود عفيف والشاعر صالح عباس ونخبة من مثقفي اليمن، ووضح والدي احتمال الخطأ في الاستعمال الشائع لصفة العمودي في وصف الشعر الخليلي البيتي إذا أن الرزوقي كان قد حدد سبعة شروط للإلتزام بعمود الشعر الخليلي البيتي.

    صحيفة 26سبتمبر

  • 408 السخرية في شعر البردوني.. الدكتور وليد مشوح

    >  السخرية في شعر البردوني.. الدكتور وليد مشوح

    السخرية هي الحدود الأربعة لجغرافية شعر البردوني، فما وصف إلا وسخر، وما تغزل إلاَّ وسخر، وما هجا إلا وسخر، وما مدح إلا وسخر، وما تعرض لموقف وطني أو قومي إلا وسخر، إذن فالبردوني قهقهة عالية عندما يحس بوجوده المحيط، وتفجع مؤلم عندما يتبصر في كونه الخاص، أي هو بكاء يشبه الضحك، أو ضحك يتماهى مع البكاء.
    ماذا ق عبدالله البردوني حناناً، ولا رأى جمالا، ولم يهنأ بمال أو عيال، ولا قرأ في وجوه أصدقائه وخلأنه مافي دواخلهم، لذا عاش غربتين: غربة الروح وغربة الفرح، بينما ظل يكابد محابس عدة، إذا ابتدأت بالفقر وانتهت بالعمى.
    وهكذا اعتمد شعره” عكازة” يتلمس بها طريق الحياة، وسخريته” مذبة” يذب بها ظلامتين: ظلامة الذات، وظلامة الآخر، وكثيراً ما نجد إحساساته تلك في قصائد جاءت كتصوير انطباعي لصمت الخارج وظلام الداخل:
    يا حياتي وياحياتي إلى كم
    احتسي من يديك صابا وعلقم
    وإلى كم أموت فيك وأحيا
    أين مني القضا الأخير المحتم
    أسلميني إلى الممات فإني
    أجد الموت منك أحنى وأرحم
    وإذا العيش كان ذلاً وتعذ
    يباً: فإن الممات أنجى وأعصم
    ما حياتي إلا طريق في الاشْ
    واك: وأمشي بها على الجرح والدم
    وكأني أدوس قلبي على النا
    ر، وأمشي على الأنين المضرَّم
    لم أفت مأتماً من العمر الا
    وأُلاقي بعد بعده ألف مأتم
    وحياة الشقا على الشاعر الحسا
    س، أدهى من الجحيم وأدهم
    إلى أن يقول:
    أيها ذي الحياة وما أنت إلا
    أمل في جوانح اليأس مبهم
    غرة تضحك العبوس وتبكي
    فرحاً هائناً، وتشقي منعَّم
    يا حياتي، وما معنى حياتي وما معـ
    نى وجودي فيها لأشقى وأُظلم
    أنا فيها مسافرٌ زاديَ الأحلا
    م والشعر والخيال المجسم
    وشرابي وهمي، وآهي أغاريـ
    دي، ونوري عمى الظلام المطلسم
    لم أجد ما أريد حتى الخطايا
    أحرامٌ علي حتى جهنم
    كل شيء أرومه لم أنله
    ليتني لم أُرد، ولا كنت أفهم
    أنا أحيا مع الحياة ولكن
    عمري ميت الأماني محطم(1).
    والقصيدة بحد ذاتها تقرير نفسي يفضح دخيله الشاعر وإحساسه المريد تجاه الحياة التي يعيشها، وهي في الوقت نفسه صرخة احتجاج حادة تعبر عن معاناته على الاصعدة كافة.. وهو يعترف بذلك قائلا” وكان حادث العمى مأتماً صاخباً في بيوت الأسرة لأن ريفه يعتد بالرجل السليم من العاهات، فرجاله رجال نزاع وخصام فيما بينهم، فكل قبيلة محتاجة إلى رجل القراع والصراع الذي يقود الغارة ويصد المغير(2).
    أما إذا عنَّ على بال أحدنا السؤال القائل: لماذا جنح البردوني في شعره صوب السخرية المريرة، وطفحت موضوعاته الشعرية بالهجاء الخشن والجارح والذي يصل على الأغلب إلى حدود التشهير؟
    إننا نرى في ذلك سببين: الأول نابع من تركيبه النفسي الذي تكون في بدايات وعيه الحياتي، إذ ظل يعاني من مرض الجدري سنتين فَقَدَ بعدهما نظره، ورواء بشرته إذْ ترك له المرض -ذاك- ندوباً في بشرة وجهه، وعلى صفحة روحه، كما ترك ظلاماً أبدياً يحيط بحياته، لذا جنح إلى المشاكسة والعدوانية نتيجة لفرط الإحساس تجاه الحياة ومن عليها، وقد أكدت الدراسات النفسية على الطبيعة العدوانية لدى أصحاب الحاجات المستديمة.. وخاصة أولئك الذين فقدوا نعمة البصر.
    أما السبب الثاني فنابع من تأسيسه الثقافي عموما، والشعري على وجه الخصوص، فالشاعر كان يبحث في خبايا الشعر العربي الموروث عن الفكر السكِّين، والصورة المقصلة، والخيال الإهانة ليشبع نزوعه في تحدي المحيط، كذا كانت اهتمامات، البردوني الشعرية، البحث عن الشاعر الهجَّاء، والقصيدة الهاجية، جمعها وخزنها في ذاكرته، ثم أعاد صياغتها، وأعطاها خصوصيته، فانماز بذلك، وبرع في رسم الصورة الكاريكاتورية داخل إطاره الشعري البردوني.
    وبدأ يقرض الشعر وهو في الثالثة عشرة من عمره، وأكثر هذا الشعر شكوى من الزمن، وتأوه من ضيق الحال، وفي هذا الشعر نزعات هجائية تكونت من قراءة الهجائين، ومن سخط الشاعر على المترفين الغُلُف، فقد كان يتعزى بقراءة الهجو ونظمه، وهذا بدافع الحرمان الذي رافقه شوطاً طويلاً، فبكي منه، وأبكى، وكان يظهر في هذا الانتاج طابع التشاؤم والمرارة..(3)
    هي ذي سخرية البردوني ومراميها ودوافعها وغاياتها، فهي وليدة بؤس وحرمان، لا وليدة ترف، ولا هي مجرد ظاهرة تجلت في شعره بعفوية كاملة. السخرية وصورها وغائياتها: قراءة سريعة في نماذج من أشعار البردوني لم تكن سخرية البردوني كما أسلفنا مجرد ظاهرة بقدر كونها إرادة فنان مبدع طامع بتحطيم المألوف الصوري واللغوي والخيالي، وصولاً إلى تغيير السائد وإدانة الراهن المعيش، لذا تنوعت الصورة الساخرة، وتعددت غاياتها ومراميها، فتحولت إلى سمة وسمت في شعر هذا الشاعر الفذ. لقد تصاعد شعوره بالمسؤولية الاجتماعية حتى كاد أن يصل إلى سيادة الأنا المبدعة لتكون محور كونه الشعري.. وهكذا فرط باللغة حيناً، وبالصورة حيناً، وبالخيال، فضخَّم الواقع، وعبث بالموروث التقليدي ليضحك الآخر عبر بالموروث التقليدي ليضحك الآخر عبر مرثية تحمل مفارقاتها بذاتها.
    سخر مهاراته، واستغل موهبته، فاستعمل المذاهب كلها، وعبر المدارس كلها، ليحقق الغائية الجوهرية من رسم الصورة الشعرية النافرة، ولو اضطر أحيانا إلى المتصور المنفر.
    تنقل البردوني بين المدارس، فمن الكلاسيكية إلى السوريالية إلى الكلاسيكية الجديدة إلى الرومانتيكية وكان يطيل المكوث في غرفاتها.
    ومن القديم إلى الجديد صنع تاريخا جديدا للقصيدة العربية إذْ حافظ على طرازها وجدد في تأثيثها الداخلي، فهو رغم محافظته على الأسلوب البيتي في القصدة، شاعر مجدد ليس في محتويات قصائده فحسب، بل في بناء هذه القصائد القائمة على تحطيم العلاقات اللغوية التقليدية، وابتكار جمل وصيغ شعرية نامية صحيح أن إيقاعه كلاسيكي محافظ، لكن صوره وتعابيره حديثه تقفز، في أكثر من قصيدة وبخاصة في السنوات الأخيرة إلى نوع من السوريالية، لتصبح فيه الصورة أقرب ما تكون إلى ما يسمى باللامعقول(4)
    الحيرة تفترس الشاعر فهو ينوس بين الغناء والأنين، بين الضحك والبكاء يحاكم الأشياء بصورة رومانسية تشف عن نفس قلقة معذبة، وروح دائبة في البحث عن السكينة والاستقرار.
    اعتمد الشاعر في شعره الساخر على ركائز متعددة لإيصال غايته من إبداع نصه الشعري، فنراه حيناً يلمح عبر الرمز إلى مضحكات ومبكيات يقوم عليها زمانه، وحينا آخر يطرق موضوعته بنزق صارخ يحتاج إلى مباشرة استنكارية فيها جفاء وخشونة، وفي أحايين كثيرة يعتمد على الحوار فيتحول نصه إلى مسرحية درامية، علما أن كل الركائز كانت تتأطر بإطار قصصي تبرز فيه مفارقات مكانية وزمانية واجتماعية وسياسية وديناميات أخرى يريد تغييرها فعلا.
    فالنص الإيقاظي يحتاج إلى لغة فضَّاحة وصورة مقلوبة وخيال مستحيل:
    يا بن أمي أنا وأنت سواء
    وكلانا غباوة وفسولهْ
    أنت مثلي مغفل نتلقى
    كل أكذوبة بكل سهولة
    ونسمي بُخْل الرجال اقتصادا
    والبراءات غفلة وطفولة
    ونسمي براءة الوحش طغيا
    ناً ووحشية الأناس بطولهْ
    ونقول: الجبان في الشرأنثى
    ووفير الشرور وافي الرجوله
    يا ابن أمي شعورنا لم يزل طفلا
    وها نحن في خريف الكهولةَ
    كم شغلنا سوق النفاق فبعنا
    واشترينا بضاعة مرذولةْ
    لا تلمني ولم ألمك.. لماذا؟
    يحسن الجهل في البلاد الجهولة(5)
    إنه يسخر من العلاقات الاجتماعية السائدة ويبرز التي تهد الجسد الاجتماعي كالجهل والتسطح والكذب والنفاق والبخل ووحشية الإنسان ضد أخيه الإنسان واضطهاد الأنثى وتمجيد الذكور وتخلف المجتمع واستيراد البدع والنِّحل والتقليد الأعمى وأموراً كثيرة فصل بها تفصيلا، أدخل النص في مباشرة سردية أملتها عليه وجهة النصر الذي أراد له أن يكون كذلك لأنه يتوجه بالأصل إلى متلق أمي على الأغلب، أو مترف جهول لا تهمه علل مجتمعه، فانصرف عن مشكلاته إلى حدود التنكر، فما عاد يهمه ما قيل وما يقال. لقد أراد البردوني، عن قصد وتصميم أن يوصل أفكاره إلى أكبر عدد من الناس، فلا حظ أن الكوميديا هي الأكثر قبولا، عند العامة الغالبة، كذلك أحس باندحار القيم المثالية، أمام الجائحة المادية، فعقد على أن يسبح ضد التيار، وأن يسير على الطريق الشائكة الوعثاء، وهكذا قرر أن يكون منتجه الفني مصنوعا من خصوصية مادته.. وبهذا اتفق مع الناقد الفذ يوسف سامي اليوسف في رأيه القائل.
    “وفي صلب الحق أن الفنون وألآداب.. ولا سيما الشعر، هي أولى الأنشطة التي تضررت نتيجةً لاندحار المثالية أمام المادية، ففي سواء هذا الاتضاع الشامل، يتحتم على تلك الأنشطة نفسها أن تصاب بالتجفف والتقلص النوعي، أو بانحسار الكيفية الجوهرية للمنجزات الفنية والأدبية في الغالبه الأعم، فمن غير المعقول أن يخسر الإنسان قيمته دون أن تخسر أنشطته العليا قيمتها هي الأخرى إذا لا مراء في أن جميع منتجات الإنسان إنما تستمد قيمتها من قيمته خاصة ولكن الفنون مع ذلك ستظل حتى في سواء هذا التدهور الشامل، قيمةً جُلى، أقله في نظر أولئك الحساسين المرهفين، الذين لا يطيقون الاكتفاء بالبعد الحيواني للحياة البشرية، كما أنها سوف تظل على الدوام، واحة يانعة تزهر في جون هذا التصحر الروحي الآخذ بالاندياح في كل اتجاه، ودون أن يقبل التراجع بأي حال من الأحوال.. فالإنسان هو الحامل الوحيد للقيمة في هذه الدنيا التي لا تتمتع بأية قيمة في حضرة العقل الكامل.. وهذا يعني أنه علو لا يعلى عليه إلا بإيجابه الخاص أي الا بتحاوزه لذاته، في ذروة كما له، أو صور روحانيته البحتة التي هي علو فوق المادة وثقلها وجلافتها وعجمتها، وافتقارها إلى أي تسويغ ممكن، مهما يك نوعه”(6)
    سخر البردوني من الواقع، وجسم الصورة الساخرة حتى بدت في كثير من معانيها عبثية وغير معقوله، وكان بذلك يدين الواقع المعيشي، ويحتج على الراهن، ويحث على التغيير أملا في نظام ورفاه وطمأنينة واستقرار وعزة.
    كما كان يعرض لبؤسه وفاقته كما يتحدث عن الفقر الاجتماعي وما يولده من أمراض نفسية تهدد طمأنينة الإنسان وتعذب الروح، فيجري تبادلا بين السلبي والإيجابي حتى يكاد أن يوزع الفكرة بينهما، فاللص الذي يسطو على منزل الشاعر يصاب بالإحباط؛ كونه وجد حالة بائسة تشابه تلك التي يعيشها فكانت سبباً في انحرافه.. وهكذا سخر الشاعر من سارقه وتشفى من حالته الإحباطية.
    شكراً، دخلت بلا إثارهْ
    وبلا طفورة، أو غرارة
    لما أغرت خنقت في
    رجليك ضوضاء الإغاره
    لم تصلب الطين السكون
    ولم ترع نوم الحجاره
    كالطيف، جئت بلاخطى
    وبلا صدى، وبلا إشاره
    أرايت، هذا البيت قز
    ما لا يكلفك المهاره؟
    فأتيته ترجو الغنا
    ئم، وهو أعرى عن مغاره
    ***
    ماذا وجدت سوى الفراغ
    وهره تشتم قاره
    ولهاث صعلوك الحروف
    يصوغ من دمه العباره
    يطفي التوقد باللظى
    ينسى المرارة، بالمراره
    لم يبق في كوب الأسى
    شيئا حساه إلى القراره
    ماذا؟ اتلقى عند صعلو
    ك البيوت، غني الإماره
    يا لص، عفواً إن رجعت
    بدون ربح، أو خساره
    لم تلق إلاَّ خيبةً
    ونسيت صندوق السجاره
    شكراً أتنوى أن تشرفنا
    بتكرار الزياره(7)
    نلاحظ أن الفكرة استغرقت ثلاثة مشاهد ساخرة. فالمشهد الأول يصف مهارة اللص وولوجه داخل المنزل، ثم يعرض في المشهد نفسه حالة المنزل المحسوسة(الصمت، الفراغ، السكون ، الخواء) وهنا تصطدم الغاية الكيدية، بكيدية الغاية والتي تمثلت في خيبة أمل اللص تجاه ماهو فيه، وإحباطه تجاه ما هو مقدم عليه، أما المشهد الثاني، فيمثل التشفي الذي أظهره (الفنان) وهو يشعر بمشاعر اللص الذي خابت آماله في تصيد الثمين والخفيف، بيد أنه لم يجد سوى الفقر والفاقة وقد رمز إليهما ب” هرة تشتم فاره” هرة جائعة، وفأرة ماتت جوعاً وما وجدت شيئا يدفع عنها غائلة الموت، وشاعر أثقلته الهموم الحياتية، فراح يصوغ الألم نصوصاً إبداعية، وهو يرتشف المرارة والأسى، وهنا يبرز المضحك المبكي في المعادلة التي تقوم عليها الصورة.
    وفي المشهد الثالث يتعالى ضحك الشاعر، فينعي على اللص غباءه وجهله، فهو لم يختر المكان الصحيح، ولا الصيد الثمين.
    أما اليمن فحاضر دائما في شعره، منه يستقي فنه وذاته، وعليه يعلق آماله وآلامه، وفيه يصب مواجده وبوحه، إنه الكل في ترابه ومائه وتاريخه وبنائه وعاداته وتقاليده.
    لقد حَنِق الشاعر على أولئك المتنفذين الذين هدموا قديمه بحجة التجديد، وما دروا أنهم بفعلهم ذاك قد هدموا التاريخ وطوحوا بأمن الفقراء، فرسم بناء عليه صورة لذلك الواقع، صورة مضحكة مبكية، أبرز فيها خراب الذات والعمران في الوقت نفسه.
    يا قاتل العمران.. أخجلت
    المعاول.. والمكينه
    الآن في فمك النفوذ
    وفي يديك دم الخزينه؟
    جرحت مجتمع الأسى
    وخنفت في فمه.. أنينه
    وأحلت مزدحم الحياة
    خرائبا، ثكلى طعينه
    ومضيت من هدم إلى
    هدم، كعاصفة هجينه
    وتنهد الأنقاض في كفيك
    أوراقاً ثمينه
    ***
    من أنت؟ شيء عن بني الإنسان
    مقطوع القرينه
    ذئب على الحمل الهزيل
    تروعك الشاة السمينه
    عيناك، مذبحة مصوبة
    ومقبرة كمينه
    ويداك زوبعتان
    تنبح في لهاثهما الضغينه
    يا وارثا عن ” فأر مأرب”
    خطة الهدم اللعينة(8)
    وهنا نلاحظ خطوط المؤثرات التراثية والأسطورية في تكوين ثقافة البردوني، وأهميتها في نفسه الشعري، وتشكيل صورته الفنية، فقد أشار إلى الأسطوره القائلة: إن فأرا دأب على فتح ثغرات في سد مأرب فتم تصدعه وخرابه.
    ظل البردوني منحازا إلى طبقة الفقراء، وفضح الحيف الواقع عليهم، وجسم الهوى المعيشية التي تفصلهم عن الأغنياء، ،أدان انحياز السلطات المكونة للدولة إلى الاغنياء على حساب الحقيقة:
    إنما لو لمست جيب غني.
    في قوى قبضتيه، قوتي، ومنعي
    لتلاقي الزحام حولي يدوي
    مجرم، واحتفى بركلي، وصفعي
    ولصالح القضاة: مااسمي وعمري
    من ورائي؟ ما أصل أصلي وفرعي؟
    فيقص القضاة أخطار أمس
    وغدي وانحراف وجهي وطبعي
    من سوابقي نصف سفر
    وفصول أشد عن خبث نبعي
    سأُدعى تقدميّاً خطيرا
    أو أُسمَّى تآمرياً ورجعي
    وهنا سوف يحكمون بسجني
    ألف شهر، أو يستجيدون قطعي
    وسأبكي ولن يغير دمعي
    أي شيء من وضع غيري ووضعي(9)
    ويدين التسطح الفكري الذي يعاني منه جيل الشباب، ويفضح انصرافه عن القضايا الوطنية والقومية، ولهاثه وراء المستورد من اللباس والغناء والموسيقى مما يتهدد خصوصية الأمة وهويتها القومية والإنسان:
    جيل التحرر والهوى
    عبد التفاهة والأناقة
    جيل التفتح والتمزق
    والحداثة، والعتاقة
    حيران يغمره الشروقُ
    ولا يرى أي ائتلاقةْ
    ومرفه للجوع في ذرات
    طينته.. عراقة
    غضبان يبلع بعضه بعضا
    ويفخر بالصفاقة
    وسينتهي وجد السلاح
    وليس تنقصه الحماقة(10)
    دأب الشاعر في كل إبداعه الشعري على تجسيد القضايا الحيوية التي تهم جماهير وطنه، إنْ في السياسة أو الاقتصاد أو الحياة المعيشية، واختار الأسلوب الساخر أداة لتصوير تلك الهموم، لأنه وجد في السخرية طريقا إلى عقول مواطنيه، فهي الأكثر حفظاً وترديداً من قبل التندر، وبالتالي فإنها قابلةً للتأمل والإثارة وصولاً إلى الصحوة والعمل على تغيير الواقع، لكنه كان كثيراً ما يصل إلى نقطة اليأس، فينعي على نفسه جهدها وقلقها ومحاولاتها الدؤوبة على الإيقاظ والحث، عندها يسخر من نفسه التي طالما ركضت وراء سراب الأمل.
    من تُغنِّي هنا؟ وتبكي على ما؟
    كل شيء لا يستحق اهتماما
    القضايا التي أهاجتك أقوى
    من أغانيك من نواح الأيامى
    خلف هذا الجدار تشدو وتبكي
    والزوايا تندي أسى وجثاما
    هذه ساعة الجدار كسول
    ترجع القهقرى وتنوي الإماما
    من تُغني يا ” كاهن الحرف” ماذا؟
    هل سعال الحروف يشجي الركاما(11)
    ويشهد الشاعر متغيرات متتالية في سياسة بلده، فمن انقلاب إلى انقلاب، من اغتيال إلى اغتيال، ومن اقتتال إلى اقتتال، حتى كادت الأيام أن تتشابه وأصبح الاضطراب عادة، لذا سخر الشاعر من هذا الواقع.
    ولدت صنعاء بسبتمبرْ
    كي تلقى الموت بنوفمبر
    لكن كي تولد ثانية
    في مايو.. أو في أكتوبر
    أو في أول كانون الثاني
    أو في الثاني من ديسمبر
    ما دامت هجمتها حبلي
    فولادتها لنا تتأخر
    رغم الغثيان تحن إلى
    أوجاع الطلق ولا تضجر(12)
    وهنا لابد من التنويه إلى أن الشاعر البردوني تحول في شعره إلى ناقد سياسي عبر سخرية موجعة، فكان الملمح يتبدى في ديوانه الموسوم ب لعيني أم بلقيس” وهي اليمن، لذا غلبت على الديوان المذكور القصائد الساخرة الناقدة المتوجهة إلى الوطن، المجسمة لحراكه السياسي على وجه الخصوص(13).
    وإذاً؛ تماهى البردوني مع أبي العلاء في الإحساس بالصورة وتوليفها وتلوينها من ألوان مشاعره، ثم فلسفة الفكرة التي أراد أن يرسلها إلى المتلقي، وماثل بشار أبن برد في تضخيم المشهد وسوَّقه، نحو الإحساس بالضحك، فإنه يلتقي مع الخطيئة في سلاطته الهجائية، وتحوله في انتقاده لذاته والسخرية منها وإيصالها إلى حدود” التشيؤ” عبر لغة ” سوقية” ليضحك منه وعليه طبقات المجتمع بمستوياتها الثقافية كافة:
    هنا.. أرقم الصدى
    وانمحى كالخربشة
    وكالصلاة أرتقي
    وأرتمي كالدروشة
    أهمى ندى وأرتخي
    كالتربة المرششة
    سحابة تزرعني
    تفاحة ومشمشةْ
    نعشاً تجره الحصى
    إلى الوعود المنعشة
    مقبرة تلبسني
    عباءة مزركشة
    عمامة زيدية
    ولحية منتفشة(14)
    كان البردوني يختار شخوصه من القاع، ويسخر من تركيبتها النفسية، ثم يدين الظروف التي أوصلتها إلى الهاوية المعيشية والإخلاقية، فهو عندما يصور بائعات الهوى، إنما يكثر التساؤل، كمثل قاض يتوجه باستجوابه إلى المتهم، بحيدة عادلة:
    قل لها.. قبل أن تفض يديها
    هل غرام الذئاب يحلو لديها؟
    وهي ليست شاه.. ولكن لماذا
    تتوالي هذي الهدايا إليها؟
    مقلتاها أظما من الرمل.. ماذا
    يرشف المرتوون من مقلتيها؟
    عشق هذا الزمان يخلع وجهاً
    ويغطي وجهاً.. ويبدي وجهيها
    إنهم عاشقون.. فليخدعوها
    أن يلاقوا أعز من جانبيها
    تحتسي منهم الجنيهات..لكن
    لاترى عشقهم يساوي الجنيها
    تمتطي كفها الهدايا..ولكن
    كل مُهدٍ لا يمتطي منكبيها
    فهي أشقى من عاشقيها وأقوى
    غير أني أخاف منها عليها(15)
    كذلك فهو يجترح نموذجاً من أولئك الذين يصنعون الثورات في الوطن العربي، وكيف يتنكر له رفاقه، فيبيت مهملاً منبوذاً.. إنه يريد القول إن تأكيد المقوله: الثورة كالهرة تأكل أولادها إذا جاعت:
    من أنت؟.. ماذا تساوي
    وكل ما فيك خاو(ي)
    تحس جلدك ثلجا
    مطينا وهو كاو(ي)
    تئن، تخفي ضجيجا
    أنت الصدى وهو عاو(ي)
    من تسطو عليهم
    وأنت وحدك ثاو(ي)
    كسلان كا لجذع تقوى
    عليك أدنى الهراوي
    لاتشتهي أي شيء
    وكل مافيك طاو(ي)
    تعبُّ عشرين قرصا
    وأنت كالأمس ذاو (ي)
    لا الطب يعرف داء
    ولا الدواء يداوي
    كل القلاع اللواتي
    أقلقتها في تهاو(ي)
    فاهدأ فخطوك ماض
    والدرب مُصغٍ وراو (ي)(16)
    وفي هذه تظهر مشاكسة البردوني الأسلوبية والصرفية، والمشاكسة نابعة من اعتداده بنفسه أولا، إذ يريد إثبات وجوده اللغوي بإثبات الياء التي نصت القاعدة الصرفية على حذفها في حالتي الرفع والجر، كذلك فهو يسخر من النحاة والصرفيين الذي تشددوا بقواعدهم حتى على حساب جمالية الصياغة ثانيا:
    واللعبة الشعرية” في جانبها الساخر” التي برع فيها الشاعر البردوني هي تلك التبادلية بين الظاهر والباطن في الممارسة السياسية، فهو يوصل المتلقي إلى المفارقات المضحكة في السياسة عندما يصف الحل الواقعي بوجود قناع، ويعري الواقع عندما يزيح القناع، فتنكشف اللعبة ويبدأ فصل الضحك:
    غير رأسي.. اعطني رأس (جمل)
    غير قلبي.. اعطني قلب (حمل)
    ردَّني ماشئت..(ثورا)..(نعجة)
    كي أسميك يمانيا بطلْ
    كي أسميك شريفاً..أوأرى
    فيك مشروعَ شريفٍ محتمل
    سقط الميكياج، لا جدوى بأن
    تستعير الآن، وجهاً مفتعلْ
    كنت حسب الطقس تبدو ثائراً
    صرت شيئاً.. ما اسمه؟ ياللخجل(17)
    ويدين الشاعر أساليب التحقيق في أجهزة الأمن، ويسخر منها، ويسلط الضوء الفضاح على ما يدور في هاتيك الأقبية، ليستكمل بذلك الصورة البائسة التي رأى وطنه فيها، وقد استخدم فيها لغة الحوار، حوار” الطرشان” بين المحقق والمتهم، فيظهر التفاصيل الصغيرة وكأنها دواهٍ عظيمة يؤاخذه عليها قانونهم
    وماذا عن الثوار؟ حتماًعرفتهم!
    نعم حاسبوا عني، تعدوا بجانبي
    وماذا تحدثتم؟ طلبت سجارة
    أظن وكبريتا.. بدوا من أقاربي
    شكونا غلاء الخبز. قلنا ستنجلي
    ذكرنا قليلا..موت” سعدان مأبي”
    وماذا؟ وأنسانا الحكايات منشد
    ” إذا لم يسالمك الزمان فحارب”
    وحين خرجتم، أين خبأتهم، بلا
    مغالطة؟ خبأتهم، في ذوائبي
    لدينا ملف عنك.. شكراً لأنكم
    تصونون/ ما أهملته من تجاربي
    لقد كنت أميّاً حماراً وفجأة..
    ظهرت أديبا.. مذطبختم مآدبي
    خذوه.. خذوني لن تزيدوا مرارتي
    دعوه.. دعوني لن تزيدوا متاعبي(18)
    وكلما اثقلت الهموم صدر الشاعر وضميره، ازدادت لفظته حدة وسخرية فتحولت إلى سكين جارحة، في الوقت الذي تتحول فيه لغته إلى لغة شارعية بسيطة كي يصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس.
    الخاتمة
    البردوني ظاهرة إنسانية تحتاج إلى اهتمام الدارسين النفسانين، فلا يستطيع أمرؤ أن يصل إلى مغاليق شعره مالم يصل إلى دواخله وأنماط تفكيره.
    شاعر سخر من كونه، لأنه رأى في بصيرته وحشية الإنسان ضد أخيه الإنسان، فأدرك عندئذ أهميته كمبدع يترتب عليه أن يكون حاديا في مجتمع، فنادى بالثورة على التخلف.
    شاعر وجد نفسه جزءاً من سخرية القدر الذي سخر منه في ولادته، في مكانه وزمانه، في عماه، في عجزه، في عدم نجاحه أو مقدرته على التغيير، في ترسيمه كاهناً للحرف.
    شاعر يماني حتى النخاع، فاليمن هو، وهو اليمن، وكلاهما من سخريات القدر الظلوم كما كان يصرح بقوله” أنا واليمن توأمان متماثلان كتضاريسه (يشير إلى الندوب التي تركها مرض الجدري)، وهو أعمى لا يرى الحضارة، وأنا أعمى لا أرى الجمال والنور، وهو عقيم ما ولد معطى حضاريا، وأناعقيم ما استخلفت ضنى يحمل اسمى إذن أنا وهو متماثلان حتى التماهي(19) وهو في سخريته التي تتمظهر في شعره، إنما يصدرها عن نفس كليمة حزينة محيطة أرادها أن تكون تعبيرا عن واقع معيشي يقوم على المفارقات المتضادة.
    الهوامش:
    1. الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ديوان من أرض بلقيس، من قصيدة “مع الحياة” ص (187) وما بعدها، إصدار دار العودة. بيروت، سنة 1986م.
    2. نفسه، المقدمة الشاعر بقلمه.
    3. نفسه، ص (52-53).
    4. نفسه، المقدمة ص(23)، بقلم الدكتور – عبدالعزيز المقالح.
    5. نفسه، من ديوان “في طريق الفجر” قصيدة “أنا وأنت” صفحة(42).
    6. القيمة والمعيار، يوسف سامي اليوسف، ص(11-13) إصدار كنعان، دمشق، سنة 2000م.
    7. الأعمال الكاملة، من ديوان “مدينة الغد”، ص(83-84) المجلد الثاني.
    8. نفسه، ص(105-107) من قصيدة “سفاح العمران”.
    9. نفسه: من قصيدة “ضائع في المدينة” ص(118-119).
    10. نفسه، من قصيدة “حماقة وسلام” ص (129-103).
    11. نفسه، من قصيدة “كاهن الحرف” ص (142-143).
    12. نفسه، من ديوان لعيني أم بلقيس” ص (172-174) من قصيدة “صنعاءوالموت والميلاد”.
    13. انظر المجلد الثاني من الأعمال الكاملة، ديوان لعيني أم بلقيس، القصائد على الصفحات: 172، 177، 189، 212، 216، 219، 226، 231، 24، 251، 26، 264. ناهيك عن أبيات توزعت على قصائد الديوان المذكور بأكملها.
    14. المجلد الثاني، من ديوان “السفر إلى الأيام الخضر” من(302- 303) من قصيدة “طقوس الحرف”.
    15. نفسه، من قصيدة ” من بلادي عليها” ص(325-326).
    16. نفسه، من قصيدة ” مناضل في الفراش” ص(385) إلى ص(287).
    17. نفسه من ديوان “وجوه دخانية في مرايا الليل” ص (504-505) من قصيدة “بعد سقوط المكياج.
    18. نفسه، من قصيدة “سندباد يمني في معهد التحقيق” ص (51-513).
    19. أنظر كتابنا “الصورة الفنية في شعر عبدالله البردوني” في طبعته الأولى منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق سنة 1995م، والثانية من منشورات دار اليمامة السعودية، الرياض، ضمن سلسلة كتاب الرياض عام 2000م “الباحث”.
    عن (مجلة الكويت العدد 227 الصادر في 1سبتمبر2002م)

  • 409 البردوني المبدع والرائي الذي رأى ما لا يُرى.. الأستاذ عبد الباري طاهر

    >  البردوني المبدع والرائي الذي رأى ما لا يُرى.. الأستاذ عبد الباري طاهر

    هل رأيتم كيف تزول الجبال؟ وكيف تغور الأنهار؟ وكيف تتزلزل الأرض وكيف تكسف الشمس ويختفي القمر وتهرب الأشجار.. وتتساقط النجوم كأوراق الخريف، موت شاعر عظيم كالبردوني لون من ألوان الكوارث الطبيعية التي تضرب كيان أمة بأسرها فالعالم الموسوعي والمبدع كبير كالبطل الأسطوري إنما يكون في رحم الأمة- أي أمة عبر عشرات ومئات السنين فأمثال عبدالناصر والبياتي والجواهري والقباني وطه حسين والبردوني ، و..و.. لا يأتون إلا في أزمان متباعدة أليسوا ملح الأرض، ومهندسي ضمير الأمة ووجدانها، وحُداة مسيرتها.
    لم تكن أمه وأبوه في البردون منطقة الحد اء، ولا أبناء قريته في منطقة ذمار يعرفون أن الصبي الذي حاق به العمى في الطفولة، والمحاصر بالمرض والفقر والتخلف في ثلاثينيات هذا القرن وفي جزيرة واق الواق اليمنية، ولم يكن حتى البردوني نفسه يدري أنه سيشغل الناس والأقلام والكتاب، وإن معجزة فقد بصره ستجعل منه الأكثر إيصاراً لأسرار الإبداع من المبصرين المبدعين أنفسهم، وسيكون شاهدا على شعبه وأمته وعصره، فهو الرائي الذي يرى ما لايرى، ويبصر ما يعجز المبصرون عن إدراكة ومعرفته.
    ولد في جزيرة واق الواق في أزمنة الجدري، والطاعون، والجوع والملاريا وككل الأشقياء رفض الموت أو أنه أمات موته كما تصور قوافيه الأدبية.. واستعاض عن بصره ببصيرة تدرك أسراة الحياة، وأبعاد الكون، وعمق الرسالات الكبيرة، وتستشرف آفاق المستقبل:
    تمتصني أمواج هذا الليل في شره صموت
    وتعيد ما بدأت.. وتنوي أن تفوت ولا تفوت
    فتثير أوجاعي وترغمني على وجع السكوت
    وتقول لي: مت أيها الذاوي فأنسى أن أموت
    هذا البردوني العظيم الذي يتحدى الموت بنسيانه قد دخل عالم الأبدية والخلود ونسي أن يموت وإلى الأبد. فرحيل البردوني- الجسد الذاوي يصبح فلكاً وعالماً من الإبداع والتجدد والديمومة.. تماهى بمجد الكلمة ليكون كلمة” وطلب الموت لتوهب له الحياة.
    لا أهمل الموت الجبان ولا نجا منه وعاش الثائر المستشهد
    دَرَس الحلال والحرام.. وذاق الطاعة والمعصية فعصى:
    أحرام علي حتى المعاصي أحرام عليَّ حتى جهنم؟
    عندما تحيل النحلة الزهرة إلى عسل فلا فضل كبير لها، وعندما يمتص البخار ما البحر ليحيله ماء عذبا فلا فضل له إلا في تحويل الأجاج إلى عذب.. ولكن عبقرية الشاعر عبدالله البردوني أنه قد جعل من المعصية طاعة ومن الجحيم جنة.ومن الإبداع ما يقهر الموت. عاش الثلاثينات بائساً كأبناء قريته وبلدته- اليمن- وقرأ معارف عصره وتهيأ للفتوى كعلماء بلدته، ولكن بصيرته كانت تستقرئ ما وراء الواقع عرف سليمان منطق الطير ولان الحديد الداود، وشقت عصا موسى البحر، واستطاع شاعر بردون أن يختزن الرعود والصواعق والبراكين والبروق ثم يمتشقها قوافي يدك بها ويزلزل عروش الطغيان ويدمر أعمدة الظلم.. وقلاع الجهل، لمع نجمعه في سماء الشمسية في ذمار واعتقل في 1948م بسبب شعره، كما تؤرخ ذلك صحيفة السلام التي كانت تصدر في “كارديف”.
    ثم انتقل إلى المدرسة العلمية في صنعاء وهي المدرسة التقليدية التي يتخرج منها القضاة والعلماء وتخرج من شعبة الغاية. وهو كتاب في أصول الفقه يعد من أهم المراجع في العصور المتأخرة.
    والبردوني الفقيه سلك درب المعرفة التي تستقرأ من كتاب الحياة، وتجارب ومعاناة الشعوب، اندغم بالفكر الحديث والثقافة الجديدة والإبداع الأجد. وكانت قصائد البردوني في الخمسينات توقظ الأموات وتحيي الرمم، وتدك معاقل وحصون الطغيان، وقصائد ديوانه الأول من ” أرض بلقيس” مكرسة للدفاع عن فلسطين وإدانة الاستعمار والصهيونية.
    كما أن في كثير من قصائده إدانه دامغة للاستعمار البريطاني، وتغني بأمجاد الكفاح الثوري التحرري ودعوة للحرية والوحدة والتقدم.
    كانت قصائد البردوني في الخمسينات والستينات وحتى السبعينات بمثابة المناشير السياسية، وكان الرجل يساريا بالفطرة والنشأة والبيئة والفكرة وكان دائما ما يقف على مسافة من الحكم، ولعل أهم ما يميز البردوني عن أبناء جيله هو النزعة والتوجه اليساري ووضع الثقافة في مواجهة يومية ودائمة مع السلطة والسياسة، فهو من المثقلين العضويين الذي يرون في استقلال المثقف والثقافة عن السلطة الخطوة الأولى والضرورية لبناء أسس المجتمع، المدني، ورغم أن دواوينه الاثني عشر نقد عميق وواع للأوضاع وفساد السلطة وانحرافاتها أي أنه أكثر ما تكون بعدا عن المابشرة والجهر والتسطيح.
    فقصيدته تحافظ على نمطٍ عالٍ من الفنية والإلغاز والإيجاز والترميز والحذف وقد أفاد كثيراً من تجربة الشعر الحر رغم عدائه الظاهري معه. لقد كان قارئا متعمقا. استوعب تجربة القصيدة الكلاسيكية، واعُتبر واحداً من أهم مجدديها على النطاق العربي إلا أنه أيضا تواصل مع المناهج النقدية الحديثة وتجلى ذلك في العديد من دواوينه التي تنيف على الاثني عشر ديواناً. وديواناه من أرض بلقيس وفي طريق الفجر يمثلان التجديد المحدود في الشكل الكلاسيكي للقصيدة العمودية، ولكنه ومنذ ديوانه مدينة الغد فالسفر إلى الأيام الخضر إلى عودة الحكيم على بن زايد فإن التجديد قد طال العمود والوزن الصورة الشعرية والرمز وأصبحت قصيدته رغم المحافظة على التفعيلة ذات علائق وصلات بالقصيدة الحديثة والبردوني من أبرز مجددي الشعر الكلاسيكي ونقاد القصيدة الحديثة، كما ترك ثروة فكرية وثقافية تدل على معارفه الموسوعية، وسعة اطلاعه. فقد صدر كتابه “رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه” مطلع السبعينات، كما أصدر قضايا يمنية، وقضايا يمنية هي مجلة إذاعية كان يصدرها الفقيد الكبير، وكانت من أهم برامج إذاعة صنعاء، كما أصدر اليمن الجمهوري وهو مكرس لمقالاته وتحليلاه السياسية والثقافية الشعبية والثقافة والثورة، ومن أول قصيدة إلى آخر طلقة. وهي دراسة مثيرة للجدل في شعر الزبيري، والبردوني صاحب معارك تبدأ ولا تنتهي فكما كانت قصائده تثير غضب الحكام وسخطهم وحتى هلعهم فإن مقالاته السياسية وتحليلاته كانت تثير انتقاداً وردود أفعال حادة وقوية وكانت اجتهاداته حول 48م وتجربة الثورة وتقويمه للأشخاص غالباً ما تثير غبار النقع. وبالتأكيد لم تكن كلها صائبه أو صحيحة، وأزعم أنني من أكثر تلاميذه خلافاً معه حول كثير من الأحكام والتقييمات التي ليست بالضرورة دقيقة.
    ولكن ما يميز البردوني أن الخلاف معه لا يتحول إلى حقد أو ضغينه، فرغم الخلاف حول العديد من مقالاته ودراساته وأبحاثه، فقد كان منزله كقلبه مفتوحاً، ولعل آخر لقاء معه أجريته والزميل خالد الحمادي، وأكد فيه أن الخلاف لا يفسد للود قضية، وقد كان وداً لا يفسده الاختلاف بحال. وتجربة البردوني الشديدة القسوة في الحياة، وخبرته بها وبالناس والحكام والمحكومين قد علمته كنوزاً من المعارف والخبرات وصقلته السجون المتكررة والقمع والاضطهاد والمعاناة وتجلت تلكم الخبرة أكثر ما تجلت في عمق تجربته الشعرية فقد توقع سقوط ليل الإمامة في قصيدته (عيد الجلوس). كما تنبأ برحيل الاستعمار البريطاني ورحيله من الجنوب اليمني.
    للشعب يوم تستثير جراحه
    فيه ويقذف بالرقود المرقد
    ولقد تراه في السكينة إنما
    خلف السكينة غضبة وتمرد
    تحت الرماد شرارةٌ مشبوبةٌ
    ومن الشرارة شعلة وتوقد
    بين الجنوب وبين سارق أرضه
    يوم تؤرخه الدماء وتخلد
    الشعب أقوى من مدافع ظالم
    وأشد من بأس الحديد وأجلد
    هذه القصيدة كتبت قبل ما يقرب من خمسة أعوام من قيام ثورة سبتمبر 1962م كما توقع سقوط نظام 5 نوفمبر 1967م الذي ناصبه البردوني العداء سافراً، واعتبر سلام ما بعد نوفمبر بأنه سلام معتد.
    واستقبل انقلاب 13 يونيو الذي قاده المقدم إبراهيم الحمدي بقصيدة نارية.
    يا عم.. دبابات ماذا ترى
    هذا انقلابٌ جدتي عارفة
    وأذكر أنه بعد مقتل الحمدي أُجري لقاء مع المقدم أحمد حسين الغشمي وكان البردوني والبياتي ضمن عدد كبير من الأدباء والمثقفين موجودين.. وقد سخر البردوني من الحاكم الجديد بقراءة أبيات من الشعر الشعبي للخفنجي فقد جعل من شخصية أشبه ببرهان الدين قراقوش في كتاب أبن مماتي الشهير.. ويومها أندهش البياتي من قدرة اليمنيين على السخرية من حكامهم فقلنا له تلك معجزة البردوني التي تفرد بها وتحاور بها مع الطغيان الإمامي، كما سخر بها من عتاة العسكريين” والبين بين” وهي تسمية كان يطلقها البردوني على انقلاب نوفمبر. كان البردوني أكثر شجاعة وجرأة بالقلم واللسان شعراً ونثراً في مقارعة الطغيان والانحرافات، وعندما وقَّع القاضي الشهيد عبدالله الحجري رحمه الله تجديد اتفاقية 1934م كتب الشاعر قصيدته الشهيرة
    فظيع جهل ما يجري
    وأفضع منه أن تدري
    وهل تدرين يا صنعا
    من المستعمر السري
    غزاة لا أشاهدهم
    وسيف الغدر في صدري
    وقرأ القصيدة النارية أمام القاضي الحجري الذي كان حينها رئيساً للوزراء فهمس الحجري في أذنه: الحياء في العينين، ولم يكن موقف البردوني من حكام الجنوب أخف وطأةً وانتقاداً من حكام الشمال، فقد كان شديد النقد للتشطير وللانحراف والممارسات الخاطئة وكان يرحمه الله أول رئيس لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وهي المؤسسة الوحدوية الثقافية التي تحدت التشطير، والمشطرين، وساهمت في بناء اليمن الجديد وتحقيق وحدته في فجر الثاني والعشرين من مايو 1990 وكان حاد الذكاء شديد الانتقاد لمجايليه وبالأخص من رموز الحركة الوطنية، فقد أشهر سلاح نقده ضد حركة 48 واتهم بعض رجالها بالعمالة للإنجليز ونال أبو الاحرار محمد محمود الزبيري الكثير من سهام نقده وعندما استشهد الزبيري في إبريل عام 1965 م رثاه البردوني بقصيدة بعنوان” حكاية السنين” وهي من أجمل قصائد البردوني، ولكنه واصل انتقاده ل 48 وهو ما شكاه القاضي عبدالرحمن الارياني في بعض رسائله الموجهة لصديقه أحمد المعلمي.
    وللبردوني رؤيته الخاصة في نشأة وتطوير الحركة الوطنية ورموزها. لا تتفق في جوانب كثيرة مع الرؤى السائدة لدى دارسي تاريخ هذه الحركة.. وكان يرحمه الله سليط اللسان في نقد الشعراء والأدباء والمثقفين من مجايليه وكانوا يخافون أشد الخوف. وهو في مجالسه الخاصة أكثر تحرراً في سلخ جلودهم، والتمسخر بهم.
    ويروي البردوني قصة أول اعتقال له. فقد ألقى قصيدة أمام الإمام يحيى فطلبه الإمام فقابله. وعندما خرج من عنده احتشد من حوله أهل ذمار يسألونه عن يد الامام التي لا مسها، فقال لهم: لحم في عودي، وكانوا من شيعة الإمام فصاحوا به لحم في عودي يا يهودي، وطافوا به شوارع ذمار. وهم يرددون: “لحم في عودي يايهودي” فقد طعن عندهم في قدسية الإمام، وكان نافذ البصيرة يديم التأمل في الأحداث الكبيرة، ويتابعها باهتمام شديد. وكان في غرفته يحتفظ براديو قديم جدا يتابع من خلاله الاذاعات، وأحداث العالم.
    وكان في تحليله ورؤيته أقرب ما يكون إلى اليسار بالمعنى العام، ولم يلتزم لأي حزب سياسي.. ولكنه قريب جداً من تيار العلمنة والعقلانية بل هو رمز حقيقي من رموز العلمنة، وخاض معارك ضد القوى المتخلفة والكلامية، وكان يُتهم بالشيوعية والإلحاد. ويرد بطريقته الخاصة.
    قال له ذات يوم داعية إسلامي كبير: أنت شيوعي يجب قتلك رد عليه: حافظ على حياتي فأنا مصدر رزقك لأنك تخوِّف بي دول الجوار. وترعبهم بالشيوعية، ليغدقوا عليك المال، وضحك الناس في الشارع من الداعية.
    ويتمتع البردوني بشهرة ذائعة في اليمن والوطن والعالم، فأول ديوان له صدر عن المجلس الأعلى للآداب والفنون بالقاهرة عام 1961م ومنذ مطلع السبعينات وبعد إلقاء قصيدته الشهيرة في المربد عام 1972م أبو تمام وعروبة اليوم، تبوأ البردوني مكانة مرموقة في الأوساط الأدبية والفكرية والثقافية العربية وتناولت الصحف والمجلات والدراسات والنقد دواوين البردوني ليصبح واحدا من أهم شعراء العربية في خاتم القرن العشرين، إنه كالجواهري ونزار القباني من أعمدة القصيدة النيوكلاسيكية ويمتاز البردوني بالاهتمام الفائق بالشعر الحر وقراءة ومتابعة تياراته والإفادة منها والغموض الفائق الذي طبع أشعاره في مرحلة مابعد السبعينات يشي بهذه الخاصية.
    والبردوني كتاب مفتوح عرك الحياة وأمتلأت نفسه بتجارب عديدة ومتنوعة وشديدة السخرية بكل ما حوله، يكره البلادة والنفاق والاستحذاء، ويمقت المتمسك بأعتاب الحكم ، عاش شظف العيش وفقراً إلا من حب الناس له، والتفافهم حوله، وواصل حتى النفس الأخير كتاباته الزاخرة، وبين الفينة والأخرى يصب وابلاً من الغضب على رفاق دربه ممن عملوا معه أو كانوا معه في قيادة الاتحاد الأدبي.
    إنه شخصية عصامية وصدامية بكل ما تحمله الكلمة من معان ودلالات.
    و” نكت” البردوني و” قفشاته” تحتاج إلى أكثر من وقفه فهو قادر على الضحك بملء شرقية، وعلى السخرية في أكثر المواقف صرامة وجدية، وكثيرا ما مازج بين السخرية والجدية، وما أسرع انعطافاته الخطرة من السخرية والضحك إلى الجدية والصرامة، وعميق الفكرة فهو كالبحر الهائج سرعان ما يهدأ ولكنه أيضا قابل للتحول الصاخب في أي لحظة.
    كان زاهداً، وحياته في منزله كالراهب في صومعته، يتابع الإصدارات الجديدة في الحياة الأدبية والفكرية والثقافية، وإلى حدٍّ ما السياسية، ويمتلك ذاكرةً قل أن نجد لها نظيراً فهو شديد العناية بالتفاصيل الصغيرة التي يتقصاها، ويخلق بها ومنها وعليها عوالم سحرية حتى خرافية أحيانا، وربما لا يتفوق عليه في هذا الجانب الا الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، فكلاهما يتذكر سن الطفولة، ويذاكرن حياتهما شاملاً كاملاً، لكأنهما يقرآن من كتاب وإن كانت ذاكرة الجواهري حسب سيرته أكثر حفظاً وإدهاشاً.
    لم يدخر البردوني في حياته المديدة شيئا من المال والجائزة التي حصل عليها. جائزة العويس أنفقها على إعادة طباعة كتبهوعلى أصدقائه، لم ينجب البردوني ولداً ولكنه أنجب اثني عشر ديوانا تحتل مكان الصدارة في الإبداع الشعري في القرن العشرين كما أنتج عشرات الكتب في الحقول المعرفية المختلفة وكتب مئات الأبحاث والدراسات والمقالات التي تشكل موسوعة ثقافية وأدبية. وكان شديد الاعتزاز بالنفس، فلم يقصد حاكماً في حياته لغرض خاص به، إلا إذا كان لخدمة أصدقائه الذين يتفانى في خدمتهم.
    وله سرعة بديهة كومض البرق يستحضر التعليق والرد والقفشات وكأنه يتنفس. كنا معه فزاره صديق شاعر ينافسه في الحفظ بل يتفوق عليه، ما أن سلم وقبل أن يجلس سأله البردوني من هي نخلة بنت عبدالله فرد عليه الشاعر إنها صحابية، وسرد قصتها، وبعضاً من حياتها لما يقرب من ربع ساعة، وبعد أن انصرف الشاعر انفجر ضاحكاً أرأيتم ماذا صنع صاحبكم اقسم بالله العظيم أنه لا وجود لا مرأة صحابية بهذا الوصف ولكن اختلقتُ له الاسم ليختلق هو الحكاية الخرافية من أولها إلى آخرها، وذهبنا ننقب في كتب السيرة والتاريخ والجرح والتعديل فلم نجد المرأة الصحابية المفترى عليها، واكتشفنا مرة أخرى أن نخلة هي جدة البردوني التي جعل منها فخاً لصديقه ” اللدود”
    وكان حبه للمعرفة يفوق أي تصور فوقته كله مكرس لها، فهو يستيقظ مبكرا نسبياً ليجد صديق عمره محمد الشاطبي قد جهز الكتب المطلوب قراءها ، وتبدأ رحلة القراءة ثم يخصص وقتا للكتابة، وبعد الغداء ينام ساعة، ثم يستيقظ لمواصلة القراءة والكتابة. إلا زيارة أصدقائه وتلاميذه والمقابلات الصحفية التي بدأ يتخفف منها في العشر السنوات الأخيرة، كما أنه مواظب على استماع الراديو وبالأخص البي- بي-سي، وقد داهمته المنية وهو يستعد لكتابة المواضيع الأسبوعية التي يزود بها الصحف والمجلات وبعضها تتحول إلى إصدارات جديدة.
    وقبل وبعد ، فإن خسارة الأمة العربية واليمن وأهل الثقافة والفكر والأدب في مفكر ومجدد كالبردوني لا تقل هولاً عن أي كارثة من أي نوع وإن موته لنقص في الزمان والمكان والناس.
    ملحق صحيفة الثورة الثقافي

  • 410 البردوني.. شاعر الأسئلة.. الدكتور عز الدين إسماعيل

    >  البردوني.. شاعر الأسئلة.. الدكتور عز الدين إسماعيل

    يقول علي الجندي في تقديمه لديوان البردوني المسمى (من أرض بلقيس): (إنه- أي شعر البردوني- بعيد عن التقليد، مستقل بمبانيه ومعانيه، لا تستطيع أن تقول إنه متأثر بشاعر آخر، أو أنه نموذج مكرر لقديم أو محدث، اللهم إلا لمحات هنا وهناك، تدل على أنه ذو نسب قريب بالعباس بن الأحنف، وإبراهيم ناجي، وأبي القاسم الشابي، وإنه يجري في حلبتهم دون أن يكون ظلالاً لهم أو صورة منهم).
    وهذا القول يؤكد شيئاً بالغ الأهمية، ألا وهو خصوصية هذا الشعر، وهذه المزية هي الضمان لاهتمام الناس بهذا الشعر، حيث لا يغني عنه غيره من قديم أو حديث، وهي تغري الدرس الأدبي به، للوقوف على تجليات تفرده، وعلى أسرار هذا التفرد.
    وانطلاقاً من اقتناعي بخصوصية هذا الشعر وتفرده، سأحاول هنا أن أقف على خاصية أراها أساسية في شعر البردوني، بل لعلها أول ما يميز هذا الشعر عن سواه، ألا وهي الاعتماد في مبنى هذا الشعر ومعناه على السؤال، كيف كان ذلك؟
    السؤال بطبيعته جدل مع النفس ومع الآخر على السواء، ومن هنا كان السؤال وجوابه ركيزة أساسية تميز الخاصية الدرامية في أي عمل أدبي، سواء كان شعراً أو قصصاً أو مسرحاً، فحيثما كان هناك تصادم أو تفاعل أو مجرد مواجهة بين طرفين يستخدمان اللغة في هذه المواجهة، تتحقق الدراما، أو لنقل يتحقق الفعل ورد الفعل، على النحو الذي يجسد صور الحياة؛ إذ المتأمل في حياة البشر في جملتها يدرك أنها أفعال أحياناً وردود أفعال أحياناً أخرى، ولا مفر لها من ذلك.
    وقد كان ارتباط القصيدة بأنا المتكلم (سواء أكانت هي أنا الشاعر أم أنا مصطنعة له) من شأنه أن يجعلها أحادية الصوت، متعالية على الواقع الحيوي الذي يجمع بين الأنا والآخر، ومنعزلة على نحو ما- عن درامية الحياة.
    والبردوني – كما هو معروف- شاعر قصيدة بهذا تتكلم دواوينه الشعرية التي تضم عشرات القصائد، ولا شك في أن تقاليد هذا الجنس الأدبي ومقوماته المتوارثة منذ الزمن القديم قد شغلت حيزا كبيراً من ثقافته الشعرية، وبديهي أن التراث المتراكم عبر الزمن لهذا الجنس لم يكن كله أحادي الصوت، وإن كانت هذه الأحادية هي الأغلب، وفي هذا المنطق- على وجه التحديد- يمكن الوقوف على النقلة الجوهرية التي حققها البردوني في قصائده، حيث توارى إلى حد بعيد صوت الأنا المفرد، وصارت الغلبة في هذه القصائد، في الأعم الأغلب للصوت والصوت الآخر، للأنا والأنا، أو الأنا والأنت، فانتقلت القصيدة بذلك من “الغنائية” إلى “الدرامية”.
    وعلى سبيل المثال هناك قصيدة بعنوان “سندباد يمني في مقعد التحقيق” وردت في ديوان “وجوه دخانية في مرايا الليل” ص42 للشاعر، تقوم على صوتين: صوت الأنا الشاعر، وصوت الآخر، المحقق، ويمكننا أن نقراها عندئذ على النحو الآتي:
    ش: كما شئت فتش! أين أخفي حقائبي.
    أتسألني من أنت؟
    ق: أعرف واجبي.
    أجب! لا تحاول! عمرك؟ الاسم كاملاً؟
    ش: ثلاثون تقريبا.. (مثنى الشواجبي).
    ق: نعم، أين كنت الأمس؟
    ش: كنت بمرقدي.
    وجمجمتي في السجن، في السوق شاربي.
    ق: رحلت إذن، فيم الرحيل؟ أظنه جديداً.
    ش: أنا فيه طريقي وصاحبي.
    ق: إلى أين؟
    ش: من شعب لثان بداخلي.
    متى سوف آتي! حين تمضي رغائبي.
    ق: جوازاً سياسياً حملت؟
    ش: جنازة حملت بجلدي فوق أيدي رواسبي..
    من الضفة الأولى رحلت مهدماً
    الى الضفة الأخرى حملت خرائبي.
    ق: هراء غريب لا أعيه.
    ش: ولا أنا.
    ق: متى سوف تدري؟
    ش: حين أنسى غرائبي.

    هذا الكلام هو بنصه كلام الفقرة الأولى من القصيدة، لم يزد ولم ينقص، ولمن شاء أن يرجع إلى الديوان ليقرأها.. في نسقها التقليدي.
    وما دمنا في باب التمثيل فلنقرأ كذلك الفقرة الثالثة من هذه القصيد:
    ق:وماذا عن الثوار؟ حتما عرفتهم!.
    ش: نعم، حاسبوا عني، تغدو بجانبي.
    ق:وماذا تحدثتم؟
    ش: طلبت سجارة- أظن- وكبريتا.. بدوا من أقاربي.
    شكونا غلاء الخبز.. قلنا ستنجلي.. ذكرنا قليلاً موت “سعدان مأربي”.
    ق:وماذا؟
    ش: وإنسانا الحكايات منشد:
    “إذا لم يسالمك الزمان فحارب”.
    ق: وحين خرجتم، أين خبأتهم؟ بلا مغالطة!.
    ش: خبأتهم في ذوائبي.
    ق: لدينا ملف عنك.
    ش: شكراً، لأنكم تصونون ما أهملته من تجاربي.
    هذا هو نص الفقرة بلا زيادة أو نقصان وقد عرضناه في صورته الحوارية الطبيعية والأمر في هذا النص وذاك لا يتعلق بالصورة الحوارية إلا بقدر ما تحقق هذه الصورة الخاصية الدرامية في هذا الحوار، إن تحليل العبارات المتداولة بين الطرفين هنا من شأنه أن يكشف عن بعد مهم في هذا الحوار، يتمثل في موقف الطرفين أحدهما من الآخر، أعني الموقف الشعوري الذي يكشف عن نوايا المحقق العدائية من جهة، وصلابة موقف الشاعر من جهة أخرى، من الواضح أن هناك مواجهة حادة إن لم نقل صراعاً بين الطرفين، فالحوار وحده ليس ضماناً دائماً لتحقق الدراما، وإن كان من أكثر أشكال الأداء اللغوي ملاءمة لها، ومن ثم يتعين فرق بين حوار البردوني هنا وحوار شاعر آخر، كعمر بن أبي ربيعة مثلاً، ذلك بأن حوار البردوني مؤسس تأسيساً درامياً من الطراز الأول، تكشف فيه الأسئلة والأجوبة عن الدوافع الخفية والتيارات المتعارضة، التي تحرك الطرفين أحدهما إزاء الآخر.
    وهنا لا بد أن نلاحظ انه إذا صح أن الشعراء قد يستخدمون في الأغلب الأعم بنية السؤال/ الجواب في بعض قصائدهم فإن هذا الصنيع لا يشغل في المعتاد إلا حيزاً يسيراً من القصيدة، فضلاً عن أن النص/ السؤال وجوابه يأتي في صيغة السرد الملحمي (قلت لها.. قالت، أو قالت.. فقلت لها) كما هو الشأن عند عمر بن أبي ربيعة في القديم، وعبدالله الفيصل في الحديث، أما البردوني فالمواجهة عنده مباشرة، تعلن عن نفسها في الأبنية اللغوية التي كان “برتولد برخت” الكاتب المسرحي المعروف يراها محققة للمشهدية الدرامية، والتي ميزها هذا الكاتب عن سواها من الأبنية اللغوية بما يسماه الgestus حيث تقترن الكلمة بالفعل، ولا تكون مجرد حكاية له.
    من هنا يمكننا أن نقرر أن بنية السؤال/ الجواب في صورتها الدرامية قد ملأت فضاء القصيدة، محققة “المشهدية الدرامية” (المواجهة العيانية) على مستوى النص كله، على نحو لا يمكن أن تحتمله القصيدة الغنائية، وقد كان لهذا أثره الواضح في الصيغ اللغوية التي ملأت فضاء القصيدة والتي قد يرى البعض من منطلق تقليدي أنها لغة فقيرة في شعريتها، أو مجافية لمألوف اللغة الشعرية، وأن هذا يصدق على هذه القصيدة كما يصدق على غيرها، ومن أمثلة هذه الصيغ قول الشاعر: “أين كنت الأمس” تحديت بالأمس الحكومة من الكاتب الأدنى إليك؟وماذا تحدثتم”.. والخ، وإنَّ هذه الصيغ وأمثالها قد تبدو جاسئة في السياق الشعري، لأنها تضحي بالجمالية الشكلية التقليدية للغة الشعر، لكنها تكتسب- في مقابل هذا- حيوية الأداء الدرامي.
    وسأكتفي هنا- على مستوى السؤال- بتسجيل ظاهرتين أسلوبيتين ترتبطان على وجه الخصوص بالأداء الدرامي: الأولى تتمثل في صيغة السؤال الذي لم يتم، والأخرى تتمثل في صيغة السؤال التقريري الذي خلا من أداة الاستفهام، أو لنقل في إيجاز إنها تتمثل في العبارة التقريرية التي هي- مع ذلك- سؤال- ومن الواضح أن صورة السؤال على هذا النحو أو ذاك لا تحقق الصورة النموذجية لصيغة السؤال، بل تحدث خُرماً فيها، مرة من خلال عدم اكتمال العبارة، ومرة من خلال غياب الأدلة الدالة على السؤال.
    وعدم اكتمال العبارة- سؤالاً كانت أو غير سؤال، وإن كان أكثر انتشاراً مع صيغة السؤال- يرتبط على وجه الخصوص بالحوار الدرامي، فما أكثر ما نقرأ في النصوص المسرحية أسئلة ما تكاد تبدأ حتى تنتهي، وإنما يحول دون اكتمالها مبادرة الطرف الآخر بالكلام، وكأنه عرف الصورة التي كان من المفترض أن ينتهي إليها السؤال في حال اكتماله، والمعنى الذي يهدف اليه السؤال في هذه الحال، ولأن اللغة في الدراما تكون خاضعة أساساً لمطالب الدراما، أي لما يستجيب لحالات المواجهة بين الأطراف المتقابلة، والمتصارعة، فإنها تكون على استعداد للتضحية بالصيغ المعيارية Standard للغة في مفهوم “موكارجو فسكي” والشيء نفسه يقال عن الجمل التقريرية التي تتحول إلى صيغ استفهامية، فهذا الطراز من الجمل مألوف في التعامل المباشر بين الناس في الحياة، ومألوف – من ثم- في الأعمال الدرامية، وفي حال ورود مثل هذه الجمل في نص كتابي لا بد لمعرفة أن الجملة استفهامية وليست تقريرية من قرينة، وفي حال تلقي النص مؤدى على المسرح تكون طريقة نبر الممثل لكلمات الجملة كفيلة بتحويلها إلى جملة استفهامية.
    وسنكتفي الآن- نظرا للحيز المتاح- بالوقوف مع البردوني في قصيدة واحدة له بعنوان”بين الرجل والطريق” من ديوانه “وجوه دخانية في مرايا الليل” لنرى أمثلة لتحقق هذين الطرازين من صيغ السؤال الدرامية، في إطار هذه القصيدة القصيرة نسبياً (17 بيتاً) في الفقرة الأولى من القصيدة يقول الشاعر:
    يا براميل القمامة إلى
    أين تمضين؟ إلى دور الثقافة
    كل برميل إلى الدور؟ نعم
    وإلى المقهى..؟ جواسيس الخلافة
    ثم ماذا؟ ورصيف مثقل
    برصيف، يحسب الصمت حصافة
    في السطر الأول هنا سؤال موجه إلى “براميل القمامات” إلى أين تذهب، وجواب عن هذا السؤال يحدد المكان الذي تذهب إليه بدور الثقافة، وإذا كنا نعرف أن المتحدث في القصيدة هو الذي يطرح السؤال فإننا لا نعرف من المجيب، فقد يكون شخصاً آخر، وقد يكون هو السائل نفسه، فليس غريباً أن يدور السؤال والجواب بخلد شخص واحد، ذكراً كان أو أنثى، وعلى كل فالشاهد الذي يعنينا هنا هو عبارة “كل برميل إلى الدور؟” فهي عبارة تقريرية في بنيتها اللغوية ومع ذلك أريد لها أن تكون سؤالاً؛ أي أن تتحول من الخبرية إلى الإنشائية، دون أي تعديل فيها، ودون إدخال أي أداة استفهام عليها، وبديهي أن وضع علامة للاستفهام بعده لا يزيد عن أن يكون مجرد مؤشر لضرورة قراءتها كما لو كانت سؤالا لكن ما يحمل حقا على عدها سؤالا هو القرينة المتمثلة في الإجابة: “نعم”.
    ثم يأتي الشطر الثاني من البيت: “وإلى المقهى؟ جواسيس الخلافة” فنجد أن شبه الجملة (الجار والمجرور) المتمثل في “وإلى المقهى؟” قد صار سؤالا وهو صيغة في إطار اللغة المعيارية- أبعد ما تكون عن الدلالة على السؤال، إن القرينة تفرض على القارئ أن يكون شبه الجملة هذا سؤالاً فقد عرفنا من قبل أن “براميل القمامات” (من الواضح أنها تورية عن أدعياء الثقافة) قد ذهبت إلى دور الثقافة فلما جاءت عبارة “وإلى المقهى؟” عطفناها عليها، فأصبح السؤال هو: إذا كانت براميل القمامات قد ذهبت إلى دور الثقافة فمن ذا الذي ذهب إلى المقهى؟ يؤكد هذا ان يأتي الجواب: “جواسيس الخلافة”.
    وعلى خلاف العبارات التقريرية التي قامت بوظيفة الاستفهام يأتي السؤال في مستهل البيت الثالث: “ثم ماذا..؟” وتتشكل بنية هذا السؤال- كما هو واضح- من حرف عطف (ثم) وأداة استفهام ( ماذا ) ولا شيء سوى هذا. ومعروف أن أداة الاستفهام تدخل على الكلام لتجعله سؤالا، ولكن لا كلام هنا، ومع أن جسم السؤال غائب فإن المتلقي يدرك أن هناك سؤالا، وأنه يستطيع في ضوء السياق العام- أن يملأ ذلك الفراغ، وأن يصنع للسؤال حضورا كاملا بأن يتصوره على نحو: “ثم ماذا هناك بعد أن ذهبت” براميل القمامات إلى دور الثقافة وذهب جواسيس الخلافة إلى المقهى؟” وإذا كنا نعرف أن اختزال كل ما يمكن اختزاله من الكلام سمة درامية من الطراز الأول، فهاهنا تتحقق هذه الدرامية من خلال اختزال الشاعر هذه الجملة الطويلة في حرف عطف وأداة استفهام.
    وفي الفقرة الثانية من القصيدة يقول الشاعر:
    ههنا قصف، هنا يهمي دم
    ربما سموه توريد اللطافة
    ما الذي؟ من أطلق النار؟ سدى
    زادت النيران والقتلى كثافة
    وهنا يأتي السؤال: “ما الذي؟” وكان الأولى أن يكون: ” ماذا؟ ” أو “من ذا الذي؟”. وعلى كل فالسؤال متروك للمتلقي، لكي يمارس في إيجاده أو تصوره تفاعلا حقيقيا يبادره به الشاعر، لقد بدت هذه الصيغة المختزلة وكأنها تقول للمتلقي: أنت قادر على أن تدرك جسم السؤال فما الحاجة إذن لذكره؟ وهذا التعويل على يقظة المتلقي وذكائه يمثل سمة درامية أخرى: في الكلام، تستفز نشاط المتلقي العقلي وفاعليته، وفي هذه الفقرة نفسها يَرد قوله:
    وزحام السوق يشتد، بلا
    نظرة عجلى، بلا أي انعطافة
    لم يعد للقتل وقع؟ ربما
    لم يعد للشارع الداوي رهافة
    فنلتقي في الشطر الأول من البيت الثاني بمثال آخر للجملة التقريرية “لم يعد للقتل وقع” وقد أريد بها أن تقوم بدور السؤال دون أن تدخل عليها علامة استفهام.
    والفقرة الثالثة من بيتين، هما:
    ما الذي؟ موت بموت يلتقي
    فوق موتي.. من رأى في ذا ظرافة؟
    نهض الموتى، هوى من لم يمت
    كالنعاس الموت؟ لا شيء خرافة
    حيث تجتمع الظاهرتان الأسلوبيتان: في صدر البيت الأول يرد السؤال المختزل إلى ما يقرب من درجة الصفر “ما الذي؟” وفي الشطر الثاني من البيت الثاني ترد الجملة التقريرية “كالنعاس الموت” ليراد بها أن تكون سؤالاً.
    ومرة أخيرة نقرأ في الفقرة الرابعة الختامية:
    ههنا ألقى حطامي؟ حسنا
    ربما يلفت عمال النظافة
    فتواجهنا الجملة التقريرية “هاهنا ألقى حطامي” التي لم تعد بعد تقريرية حين أريد بها أن تكون سؤالاً.
    إن العبارات التقريرية من قبيل “ههنا ألقي حطامي” و”كالنعاس الموت” و”لم يعد للقتل وقع”.. الخ، هذه العبارات التي أريد لها أن تتحول من التقرير إلى السؤال، تثير لدينا بالضرورة السؤال عن السر في استخدامها على هذا النحو الذي يجعلها ظاهرة أسلوبية لدى الشاعر، وفي تقديري أن هذه الظاهرة تعكس الموقف العقلي لدى الشاعر من الأشياء، أو لنقل إنها تعكس موقفه من الحقائق بعامة، فالأشياء التي تبدو صلبة في بادئ الأمر ما تلبث أن تتزعزع، والحقائق التي يلوح أنها من قبيل المسلمات ما تلبث أن تؤول إلى البطلان،وعندئذ يصبح كل شيء وتصبح كل حقيقة موضعاً للظنون أو الشكوك أو للتساؤل على أقل تقدير: هل القتل لم يعد له وقع حقاً؟ وهل الموت كالنعاس؟ وهلم جرا، وإن دل هذا أخيراً على شيء فإنما يدل على حالة من القلق تهيمن على رؤية الشاعر لنفسه، وللآخرين، وللحياة بعامة.
    على أن الأسئلة، الكثيرة المنتشرة في فضاء شعر البردوني لا تقتصر وظيفتها على مجرد الدلالة، على ذلك البعد النفسي أو الوجودي، بل كان لها إلى جانب هذا وظيفة بنائية بارزة فيما يتعلق بتكوين القصيدة وتطورها، وعلاقة أجزائها بعضها ببعض.
    وفي وسعنا الآن أن نقدم نماذج لأشكال القصائد التي أدت فيها الأسئلة لدى البردوني وظيفة بنائية محددة، تتجلى في نسق القصيدة وإن ظلت مجسدة لحمولتها الدلالية، والنموذج البنائي الأول يتمثل في القصائد التي تستهل بالسؤال ليعود السؤال فيبرز في نهايتها وكأنه يدور في فراغ، ومن ذلك قصيدة “فراغ” من ديوان “وجوه دخانية في مرايا الليل” ص87 حيث تبدأهكذا:
    ماذا هنا أفعله؟
    يشغلني.. أشغله
    أعطيه نارَ داخلي
    ما عنده يبذله
    يجرحني، أحسه
    يشربني آكله
    يمتصني، أذيبه
    يحرقني، أشعله
    يذهلني عن عدمي
    عن عمقه أذهله
    من الواضح أن صيغة السؤال الاستهلالية هنا تنسحب على الجمل التقريرية التي وردت بعدها، وكأن السؤال عن “الفعل” “أفعله” إطلاقاً يتكرر ضمنا في تعينات لهذا الفعل تحدده مرة بعد أخرى، هي: ماذا يشغلني؟ ماذا أعطيه نار داخلي؟ ماذا يجرحني.. شربني؟ ماذا يمتصني.. يحرقني؟ ماذا يذهلني؟ فكل هذه العبارات إذن عبارات استفهامية وإن لم تدخل عليها أي علامة استفهام، لكنها صارت استفهامية بحكم توالدها من السؤال الأول: ” ماذا هنا أفعله؟ ” ولذلك صح أن نجري عليها جميعاً هذه الصيغة الاستفهامية، ويعزز هذا النهج أن الشاعر نفسه في الفقرة الثانية عاد فأبرز صيغ السؤال في موضع مماثل، حيث يقول:
    ماذا هنا؟ أرفضه
    ماذا هنا أقبله؟
    من ذا هنا؟ يقتلني
    من ذا هنا أقتله؟
    وكان في وسعه أن يستغني عن تكرار صيغة السؤال على نحو ما ورد في المقطع الأول في مثل: يجرحني- أحسه، يشربني- آكله، يمتصني- أذيبه، يحرقني- أشعله، يذهلني.. أذهله.
    وفي الفقرة الأخيرة من القصيدة- وهي من بيتين- يعود السؤال الأول:
    ماذا أقول ياهنا؟
    وما الذي أعمله
    لينتهي الموقف كله بمفارقة صاعقة:
    ماذا؟ ومثلي ميت
    هذا الذي أسأله
    فقرة واحدة من الفقرات الأربع المشكلة لهذه القصيدة هي التي خلت من الأسئلة في صورتها الظاهرة أو المقدرة، لتقدم إلى القارئ أربعة أبيات تقريرية من الطراز الأول، مخالفة بذلك إنشائية سائر الفقرات، تقول:
    الوقت لا يمضي ولا
    يأتي، خوت أرجله
    قدامه رؤوسه
    رؤوسه أسفله
    أمامه وراءه
    آخره أوله
    لا ينتهي لغاية
    لأن لا بدء له (87/88)
    والقصيدة تحمل عنوان “فراغ” والفراغ هو المقابل المضاد للامتلاء، وهو معنى يدركه الإنسان على المستويين المادي والمعنوي، كما يكون العدم مقابل الوجود، فالوجود يدرك من خلال الموجود، سواء كان هذا الموجود عينيا أو وجوبياً، والموجود العيني يلزم لتعينه بعدان: مكاني وزماني، شأن كل حدث من أحداث الحياة، والعمل أو الفعل حدث، لأنه يمثل واقعاً في المكان وحركة في الزمان، والفقرات الثلاث التي تحمل أسئلة القصيدة تتعلق فيها هذه الأسئلة بالحدث في بعديه المكاني والزماني.
    في بداية الفقرة الأولى نقرأ:
    ماذا هنا أفعله؟
    يشغلني، أشغله
    وفي بداية الفقرة الثانية:
    ماذا هنا أرفضه؟
    ماذا هنا أقبله؟
    فإذا عبرنا الفقرة الثالثة إلى الفقرة الرابعة والأخيرة رأيناها تبدأ هكذا؟
    ماذا يقول ياهنا؟
    وما الذي أعمله؟
    وعندئذ تنفرد الفقرة الثالثة بالكلام عن البعد الزمني وحده، أي عن الوقت، وإذا كان الشاعر يبحث عما يخرجه من حال الفراغ القاتل إلى حال الفعل فإنه ما يلبث أن يدرك أن الزمن قد فقد خاصية الانسياب، وخاصية الحركة التي تعين “الفعل” في المكان.
    في فقرات الأسئلة الثلاث تدور الأسئلة عن الأفعال الممكنة وردودها، عن ثنائية يمثل الشاعر أحد طرفيها، أما الفقرات الخاصة بالزمان فمقصورة عليه، حيث تنعدم الحركة في هذا الزمان، فهو لا يذهب ولا يجيء وآخرن هو أوله، فلا نهاية له ولا بداية.
    لقد كانت الأسئلة منذ بداية القصيدة تفترض شأن كل الأسئلة طرفا آخر يتجه إليه السائل التماساً للمعرفة، أو يدخل معه في حوار صراع يحقق من خلاله الوجود في أكثر صوره امتلاء، لكن هذا الذي توسمه السائل ما يلبث في الفقرة الثالثة من القصيدة أن يصطدم بتقرير حاسم لا يقبل المراجعة أو المفاوضة (الوقت لا يمضي ولا يأتي) وفي هذا الإطار يتبين أن المسؤول لم يكن في حال أفضل مما كان عليه السائل، فكلاهما في ذلك الفراغ ميت (ومثلي ميت هذا الذي أسأله).
    هذه الأسئلة جميعها في القصيدة، المنتشرة فيها منذ بدايتها حتى نهايتها، لم تكن برغم كثرتها وهيمنتها على ثلاثة أرباع القصيدة هي الهدف المحوري الذي تسعى القصيدة إلى تأكيده، بل كانت هذه الأسئلة أداة لتكريس معنى الفارغ مادياً ومعنوياً، الذي دل عليه توقف الزمن، بقدر ما كانت أداة ترابط بين أجزاء القصيدة، وإحكام لحركة توالدها وتطورها، في بنية دائرية يعود آخرها ليلتئم مع أولها، وليفضي- من خلال هذه الحركة الدائرية- بحمولتها المعنوية الدالة على الدوران في فراغ.
    وننتقل الآن إلى النموذج البنائي الثاني في شعر البردوني، الذي يؤسسه السؤال في حال وقوعه في مفصل القصيدة.
    وتتكون القصيدة التي يقوم بناؤها على أساس هذا النموذج من مقدمة تجريدية، تشغل فقرة من القصيدة، ويغلب عليها التعميم، في هذه الفقرة التمهيدية تكون المعاني كلية وعامة، والرؤية شمولية ولا ظهور فيها للأنا في حالة تساؤل أو دون تساؤل، بل يتعلق الحديث بالآخر، وهذا الطراز من التمهيد شائع في القصيدة العربية منذ القدم (نتذكر هنا- على سبيل المثال- بائية أبي تمام في فتح عمورية)، ولا طرافة في هذا، ثم يأتي بعد ذلك سؤال الشاعر أو أسئلته المنبثقة من تلك المنطقة التجريدية والمنعكسة عليها في الوقت نفسه، فيكون ذلك بمثابة الانتقال من الكلي العام إلى الفردي الخاص،وعلى هذا النحو تصنع هذه الأسئلة في موضعها مفصلاً مركزيا للقصيدة، حيث تعود فتتحكم في حركة المعنى في القسم التالي من القصيدة.
    ويمكننا – للتمثيل على هذا – أن نرجع إلى قصيدة البردوني المسماة (في الغرفة الصرعى) في ديوانه (وجوه دخانية) ص59.
    في مستهل هذه القصيدة فقرة من خمسة أبيات على النحو الآتي:
    شيء بعيني جدار الحزن يلتمع
    يهيم، يخبر عن شيء، ويمتنع
    يريد يصرخ، ينبي عن مفاجأة
    لكنه- قبل بدء الصوت- ينقطع
    يغوص، يبحث في عينيه عن فمه
    تغوص عيناه فيه، يقتفي، يدع
    عما يفتش، لا يدري، يضيع هنا
    يقوم يبحث عنهن وهو مضطجع
    يومي إلى السقف، تسترخي أنامله
    تمتد كالدود كالأجراس تنزرع
    وهي ترسم صورة رجراجة ومبهمة، توشك أن تكون “سيريالية” أو “عبثية” لكنها تنضح على الرغم من هذا، أو قل نتيجة لهذا بمعاني الخوف والقلق والضياع،وعندئذ يأتي السؤال المفصلي في مستهل الفقرة التالية:
    من أين ياباب يأتي الرعب؟ تلمحه
    من أي زاوية يعشوشب الوجع؟
    ومن هذا السؤال تتناسل كل المعاني التي نطالعها في سائر أبيات هذه الفقرة وفي الفقرة القصيرة التالية لها، وكلها تفصيل لحالات “الرعب” ومشاعر الألم. وفي ختام القصيدة تأتي فقرة من بيتين تقول:
    في هذه الغرفة الصرعى أسى وقلق
    يطول كالعوسج النامي ويتسع
    الحزن يحزن من فوضى غرابته
    فيها ويفزع من تهويشه الفزع
    فإذا بنا أمام صورة قاتمة، يخيم عليها الحزن والقلق والفزع، تعيدنا مرة أخرى.. ولكن في وضوح إلى مرائي جدار الحزن في فقرة الاستهلال.
    أما النموذج البنائي الثالث في شعر البردوني، المؤسس على عنصر السؤال، فنجد مثاله في قصيدته المسماة “غريبان” من ديوانه “السفر إلى الأيام الخضر” ص 81 حيث ترد صيغة السؤال في مستهل كل فقرة لتكون الفقرة نفسها امتداداً وتوليداً لما يستبطنه هذا السؤال.
    الفقرة الأولى من هذه القصيدة تبدأ بهذا السؤال:
    من ذلك الوجه؟ يبدو أنه “جندي”، لا بل “يريمي” سأدعو جد مبتعد..ثم تمضي أبيات الفقرة بيتاً بعد الآخر لكي تجلو صورة هذا الوجه، أي صورة صاحبه، ثم يأتي السؤال في مستهل الفقرة الثانية:
    من أين يا ابني؟ ولا يرنو، واسأله
    عن (مجلة الكويت العدد 227 الصادر في 1سبتمبر2002)

  • 411 الموسيقى في شعر البردوني.. الدكتور سالم عباس خدادة

    >  الموسيقى في شعر البردوني.. الدكتور سالم عباس خدادة

    كانت الموسيقى، وستبقى، عنصراً جوهرياً في بنية الشعر، والشعراء الكبار أشد حرصاً على حضور الموسيقى المتميز في شعرهم، والشاعر عبدالله البردوني هو أحد الشعراء البارزين الذين منحوا الشعر عطاءً، يشار إليه عند من يقدرون الشعر حق قدره، وكانت الموسيقى في شعره نهراً متدفقاً حيناً آخر، حملا في كلا الحالين سفائن شعره، في رحلة مفعمة بالخيال والدلالة، خيال الشاعر الأصيل، ودلالة صاحب الرؤيا في موقفه من الحياة المتموجة والناس المختلفين.
    لا يستطيع منصف أن يتجاهل أهمية العنصر الموسيقي في الشعر عموماً وفي الشعر العمودي على وجه الخصوص، بل إن أنصار ما يسمى بقصيدة النثر راحوا جاهدين يصرون على شيء من ذلك حين أكدوا دور الإيقاع في بنية القصيدة، وإن لم تسعفهم الأدوات النقدية لرصدها الرصد الموضوعي المقنع لارتباط طبيعة التجربة الشعرية في هذا اللون من الكتابة بمفهوم التجريب المستمر، والتعبير عن التجارب المتموجة والحياة الجديدة على حد تعبير أحد الشعراء النقاد.
    ومن يتصفح ديوان الشاعر البردوني في جزأيه يجده ثريا بأغنيات شجية، لحنُها ولأول وهلة قد لا يكون غريباً لقارئ دواوين الشعراء الكبار، فالشاعر عزف ألحانه على إيقاعات البحور المشهورة كالبسيط والرمل والخفيف والمتقارب والكامل والطويل والسريع والمتدارك وبعض المجزواءت، وهو في كل ذلك، لا يتجاوز الإيقاع المعهود في ظاهر الأمر، ولكن واقع النصوص الشعرية للبردوني تقول غير ذلك، لأمرين: أولهما أن لغة كل شاعر أصيل تضيف ملامحها الخاصة على الإيقاع من خلال اختياره المتميز للألفاظ والتراكيب، وثانيهما أن البردوني- كما سنرى بعد قليل- حقَّق للقصيدة العمودية ما لم يحققه الآخرون، بفضل معالجته المتميزة لكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية، وهي معالجة تعتمد الحوار على نحو لافت.. وإذا ما تجاوزنا هذه المقولات العامة إلى شيء من التخصيص الكاشف لأبعاد الموسيقى في شعر البردوني، فإننا سنلحظ أمراً مهماً هو التكرار، التكرار بشتى صوره، تكرار الحروف،وتكرار الكلمات، وتكرار التراكيب على نحو يحدث ضربا من الإيقاع المتميز، وهو إيقاع يشتبك مع العناصر الأخرى في التجربة الشعرية فيمنحها الشعرية التي تليق بشاعر كبير مثل البردوني.
    أما تكرار الحروف- والحرف هنا ليس بالدلالة النحوية، فهو مما تقوى به موسيقى البيت الشعري وبخاصة إذا كان لتكرار هذا الحرف علاقة بصوت القافية أو الكلمة المشتملة على صيغة القافية فكيف إذا كان هذا الحرف بيت القصيدة ووصلها في الوقت نفسه لنقرأ هذا النموذج:
    اليوم أرض مأربَ
    كأمها موجهة
    يقودها كأمها
    فأر وسوط (أبرهة)
    فما أمر أمِّها
    ويومها ما أشبهه
    تبيع لون وجهها
    للأوجه المموهةْ
    (تموز) في عيونها
    العانس المولهة
    والشمس في جبينها
    كاللوحة المشوهة
    فانظر إلى حرف الهاء وتكراره في مواضع بعينها، إضافة إلى ضرب من التوازي اللافت في البيتين الأخيرين حيث نجد جملة اسمية خبرها شبه جملة متصل بتشبيه بواسطة الكاف، والمشبه به معروف باللام في الحالين، وموصوف في الحالين أيضاً.. وقريب من هذا أن تتضمن بعض الكلمات القريبة من القافية حروفاً تتصادى محدثة إيقاعاً لا يخفى، كحرف الشين وحرف الحاء مكسورة في قوله:
    “حبيب” تسأل عن حالي وكيف أنا
    شبابة في شفاه الريح تنتحب
    وحرف الراء في قوله:
    إذا امتطيت ركاباً للنوى فأنا
    في داخلي.. أمتطي ناري واغترب
    وقوله المتضمن حرف الخاء:
    قبري ومأساة ميلادي على كتفي
    وحولي العدم المنفوخ والصخب
    إلى غير ذلك وهو كثير في شعره، أما تكرار الكلمات، فلعل ذلك أن يكون بأشكال مختلفة أبرزها ما يتصل بفن رد الإعجار على الصدور، وهو فن بلاغي حدد مواضعه السكاكي في “مفتاح العلوم” وهي مواضع تحدث جرساً في البيت الشعري إذا مَا بَعُدَ الشاعر عن التكلف، وشاعرنا البردوني أبعد ما يكون عن التكلف والمتكلفين..
    إن التصدير أو رد الإعجاز على الصدور مما شاع في شعر البردوني. ففي قصيدته “الفاتح الأعزل” يفتتحها بتصديرٍ في قوله:
    ساه.. في مقعده المهمل
    كسؤال ينسى أن يسال
    ويختتمها بتصدير أيضاً:
    فيعود يشكل ما ألغى
    أو يمضي يمحو ما شكَّل
    وبين الافتتاح والختام كان للتصدير حضور فعال كما في هذه الأبيات المتتابعة تقريباً:
    فيشم خطى الفجر الآتي
    في منتصف الليل الأليل
    ويضيع جمالا مبذولا
    في الكشف عن العدم الأجمل
    يشدو للزاوية الكسلى
    ويصيخ إلى الركن الأكسل
    وقد يتضمن التصدير أحياناً ضرباً من الجناس وإن كان البردوني لا يلح عليه كالذي نجده من الجناس غير التام في قوله:
    قالوا هم البشر الأرقى وما أكلوا
    شيئاً.. كما أكلوا الإنسان أو شربوا
    أما تكرار التركيب، وهو تكرار يدخل في إطار التوازي، فإنه كثير لدى البردوني ولو قرأنا مقطعاً من قصيدته “الغزو من الداخل” لأدركنا شيوع هذا الأمر:
    فظيع جهل ما يجري
    وأفظع منه أن تدري
    وهل تدرين يا صنعا
    من المستعمر السري؟
    غزاة لا أشاهدهم
    وسيف الغزو في صدري
    فقد يأتون تبغا في
    سجائر لونها يغري
    وفي صدقات وحشيٍّ
    يؤنْسنَ وجهه الصخري
    وفي أهداب أنثى في
    مناديل الهوى القهري
    وفي سروال أستاذ
    وتحت عمامة المقري
    وفي أقراص منع الحمل
    في أنبوبة الحبر
    وفي حرية الغثيان
    في عبثية العمر
    وفي عود احتلال الرأس
    في تشكيله العصري
    وفي قنينة الويسكي
    وفي قارورة العطر
    ويستخفون في جلدى
    وينسلُّون من شعري
    وفوق وجوههم وجهي
    وتحت خيولهم ظهري
    غزاة اليوم كالطاعون
    يُخفى وهْو يستشري
    يحجر مولد الآتي
    يوشي الحاضر المزري
    فظيع جهل ما يجري
    وأفظع منه أن تدري
    فهذا المقطع الذي ذكرناه كاملاً من القصيدة المذكورة يتضمن ملامح أساسية للإيقاع في شعر البردوني، فتكرار العبارات تَواصَل على مدى مجموعة من الأبيات مشكلاً إيقاعاً آخر يضاف للإيقاع العروضي الذي جاء على مجزوء الوافر، ومن الملحوظ أن الأبيات لا تبدأ به، وإنما ولدت هذه العبارات نسقا من التعبير خرج على بداية النص، واستمر، ثم خرج الشاعر إلى ضرب من المقابلة، والمقابلة تحدث نوعاً من الموسيقى أيضاً، ثم ختم المقطع بما بدأ به مكرراً البيت نفسه.. إن البردوني بهذا الصنيع يشكل موسيقاه الخاصة التي لا تخصه إلا لدواعي تجربته، ورغبته في التعبير عن أزمة حقيقية يعيشها الإنسان اليمني، والعربي بشكل عام، ومن ثم جاء تكرار البيت الأخير على غير المعتاد ليكرس الدلالة التي يرمي إليها من خلال إعادة الأصوات التي صرخ بها في البداية.
    ولعل البردوني كان أبرز الشعراء الذي أعادوا للقصيدة العمودية شبابها، وحيويتها، وكان جهده الجلي من أجل ذلك هو إثراء النص الشعري بالحوار، وقد يسأل سائل وما علاقة الحوار بالموسيقى؟ نقول علاقة وطيدة، وبخاصة في القصيدة العمودية حيث الوزن يحاصر الشعراء، والقافية تقطع عليهم التدفق في الخطاب، وهذان الأمران: الحصار والقطع، وهْمَان أسقطهما البردوني على نحو لم يسبقه إليه شاعر آخر، وفي هذا ما فيه من علامات على موهبة أصيلة، فهو يتحكم بالوزن كما يشاء ويدير الحوار كما يريد وبمرونة منقطعة النظير.. لننظر في قصيدته “سند باد يمني في معهد التحقيق”:
    كما شئت فتش.. أين أخفي حقائبي
    أتسألني من أنت؟.. أعرف واجبي
    أجب، لا تحاول، عمرك، الاسم كاملاً
    ثلاثون تقريباً.. (مثنى الشواجبي)
    نعم، أين كنت الأمس؟ كنت بمرقدي
    وجمجمتي في السجن في السوق شاربي
    لقد جاءت هذه القصيدة على وزن مشهور،وشائع لدى القدماء بل هو الأشيع على وجه الإطلاق في الشعر العرب القديم: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن.. وصورته هذه هي أكثر استعمالاً لدى الشعراء.. والبردوني لم يخرج في حقيقة الأمر عن هذا الإيقاع فالقصيدة من أولها إلى آخرها تعتمد عليه، ولكن البردوني لجأ إلى الحوار في معالجة موقفه من التحقيق والمحققين التافهين ومن سمع البردوني، ومن قرأ له هذه القصيدة القراءة التي أرادها الشاعر من خلال الوقوف عند نهايات الجمل التي حددها بعلامات الاستفهام والفواصل وغير ذلك، سيجد أن طريقة البردوني تشكل إيقاعاً خاصاً يضاف إلى إيقاع الطويل، بل إن التوقف عند مقاطع معينة واللجوء للتنغيم، قد يشعر المتلقي بإيقاعات جديدة قد لا تسمح بتواصل إيقاع الطويل، بل قد تعطل ذلك التواصل فيه، والقصيدة تحتاج إلى وقفة نقدية متأنية وهذا ما سوف نقوم به في وقت قريب بإذن الله.
    (مجلة الكويت العدد 227 الصادر في 1سبتمبر2002)

  • 412 البردوني قامة في الشعر، وموسوعة في الأدب.. الدكتور عبدالرضا علي

    >  البردوني قامة في الشعر، وموسوعة في الأدب.. الدكتور عبدالرضا علي

    في السبعينات تعرفته رسماً وصوتاً لكنني لم ألتق به شخصياً وظلت أمنية اللقاء مؤجلة حتى التسعينات. حين زرته في بيته كان الفضل في اللقاء يعود إلى تلميذي النجيب الشاعر علوان مهدي فقد رتب الزيارة تاريخاً ووقتاً فوجدت الرجل متواضعاً يحدثك مع ابتسامة دائمة ونكتة مناسبة ترد بين الفينة والأخرى ضمن أحاديثه الممتعة ثم تكررت اللقاءات وإن كانت متباعدة لكنني كنت أحرص فيها على توجيه بعض الأسئلة إليه وبخاصة تلك التي تتعلق بالعملية الإبداعية أو أقرأ له رأياً لي مكتوبا غير منشور قد يخص موقفاً أو ظاهرة أدبية فيصغي على نحو يشجعك فيه على الاستمرار ثم يزيد بأن يطري المقروء وكان يستمع في الوقت نفسه إلى الشباب الذين يجيئون إليه ليعرضوا عليه بعض شعرهم بالدقة نفسها دون أن ينسى المزحة والطرفة والنكتة. شاركته في بعض الندوات الأدبية أو اللقاءات لا سيما تلك التي عقدتها وزارة الثقافة والسياحة كالندوة المكرسة لإحياء الذكرى الحادية والثلاثين للشاعر محمد محمود الزبيري في 1/4/96م والمهرجان الخاص بالجواهري سنة 1997م. واللقاء التلفزيوني على الفضائية اليمنية (هذا العام/ 1999م) فخرجت بانطباع من تلك الندوات يتمثل بالآتي:
    1- حين يتحدث البردوني يسترسل فيطنب كثيراً لأن المعلومات التي يحفظها عن المبدع أو التاريخ الأدبي العام كثيرة جداً لهذا لن تجد منهجية في حديثه فقد يخرج عن الموضوع إلى موضوعات أخرى ولا يعود إليه إلا بعد أن تظن بأنه نسيه.
    2- كان أديباً موسوعياً بكل معنى الموسوعة ففضلا عن كونه شاعراً كبيراً من شعراء الكلاسيكية الجديدة إلا أنه ناقد ذو منطلقات جريئة وتجد تلك المنطلقات في العديد من كتبه وبخاصة: “رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه” و”فنون الأدب الشعبي في اليمن” و”من أول قصيدة إلى آخر طلقة” دراسة في شعر الزبيري وحياته. كما أنه مقالي معروف لكن بعض مقالاته تميل إلى الإسهاب أيضاً لكثرة ما يختزن في ذاكرته من معلومات؟
    3- حين يتحدث في الندوات لا يميل إلى الاستشهاد بالشعر وإذا ما فعل ذلك من النادر لأن التاريخ يستغرقه بأحداثه ومواقف الرجال وهو حريص على ذكر تلك الأحداث والمواقف، مؤرخة بالسنة والشهر واليوم أحياناً، كما في إيراده في سبب سجن الزبيري، وخروج الجواهري من حجابة الملك فيصل الأول.
    أما انطباعي عن إنجازه الشعري فليس سهلاً أن يرد في بضع كلمات لأن البردوني قمة عالية من قمم شعر الشطرين وهو يكتب هذا اللون بروح المعاصرة والإيمان بدور الخوف في الإثارة أو التغير أو الرفد وقد نشر اثني عشر ديواناً خلال سنوات عمره الإبداعي بداءة بديوان “من أرض بلقيس” ونهاية بديوان “رجعة الحكيم بن زايد” وفي تلك الدواوين ظواهر فنية عديدة ومضامين موضوعية لها خصوصيتها اليمنية. ففي الجانب الفني يميل إلى استخدام التراث تاريخاً ورموزاً ونصوصا ومدنا وجبالا وحوادث لها مغزاها ولعل هذا الاهتمام دعاه لأن يكتب قصيدة القناع التي تجلت في “تحولات يزيد بن مفرغ الحميري الذي قاده مزاحه الشعري إلى المطاردة والسجن في قوله:
    ألا ليت اللحى كانت حشيشاً فنعلفها خيول المسلمينا
    حين شاهد الريح تلعب بلحية والي (سجستان) عباد بن زيد. كما أن البردوني يميل إلى استخدام تقنية السرد الحديثة كالمنولوج الدرامي والديولوج والراوي العليم وغير ذلك ولعل في “السلطان.. والثائر الشهيد” خير مثال على هذه التقنية إْذ جعل الثلاثة والثلاثين بيتاً الأولى على لسان السلطان الأخرى على لسان الشهيد الذي يبعث من جديد في نهاية القصيدة:
    كالبذر دفنت هنا جسدي
    والآن البذر هنا أورقْ
    فلقلب التربة أشواق
    كالورد وحلم كالزئبقْ
    بدماء الفادي تتحنى
    لزفاف مناه تتزوقْ
    أما أهم ما في شعره من مضامين أو أبعاد موضوعية فيتجلى في الدعوة إلى الوحدة ونبذ الفرقة والدفاع عن الوطن والتغني بصنعاء وتمجيد ثورتي سبتمبر وأكتوبر 62-1963م.و السخرية الشديدة من الطغاة المتجبرين وأدعياء النضال ومروجي ثقافة القصور وبائعي الذمم وسراق الشعوب والمتاجرين بالحرية.ولعل قصيدته “بنوك.. وديوك” خير ما يمثل هذه السخرية الحادة:
    لنا بطون.. ولديكم بنوك
    هذي المآسي نصبتكم ملوك
    لنا شروط ولكم شرطة
    تخط بالكرباج (حسن السلوك)
    أنتم تحوكون الذي لا نرى
    وتستشفون الذي لا نحوك
    رحم الله عبدالله البردوني لقد كان قامة كبيرة في شعر الشطرين وكاتباً ذا دراية موسوعية الأدب، وعزاؤنا في تلك الآثار الإبداعية والنقدية التي تركها لتدل على بقائه بين أهله وأصدقائه ومحبيه حيًّا
    ملحق الثورة الثقافي عدد (12717).

  • 413 عبدالله البردوني.. حادي المنعطفات.. الأستاذ عباس بيضون

    >  عبدالله البردوني.. حادي المنعطفات.. الأستاذ عباس بيضون

    عبدالله البردوني بمعنى ما معجزة الشعر كما كان المعري من قبل وطه حسين من بعد معجزة النثر فهذا الرجل لم يحملرحل البردوني الشاعر الذي فاجأ العرب في يوم وهو يسخر في مهرجان أبي تمام من نفسه وعاصمته وبلده.كان وجهاً أعمى ولكن وجها بلا عينين، وربما خطر لنا أنه لم يكن أعمى لكنه ببساطة بلا عينين وإلا فيم كانت هذه القصائد وهذه المطولات والتواريخ، وهذا الشغف الجامح والحماسة الداخلية.
    فيم استطاع البردوني أن يعيش عالمه وعصره بدون عوائق ولا أستار، لو كان يفتقد حقاً النظر؟ فيم تسنى له هذا التمام لو كان بحواس ناقصة؟
    ورث البردوني بدون شك تراث الشعر اليمني وهو بالتأكيد عريق بقدر ما هو فاعل، فاليمن بلد لعبت النخبة المثقفة فيه أدواراً طالما ذبحتها العلاقات السائدة والبردوني شاعر المنعطف اليمني وما كان لشعراء المنعطف أن يكونوا شعراء فحسب، إذ الشاعر الذي يزال منشد الجميع وحادي القافلة ليس شأنه أن تكون مغنياً فقط إذ أنه شاعر الشدة والضيق وشاعر الأمل المغدور وشاعر النخبة المهجورة وشاعر الشعب المهان وهو أخيراً بدون تحفظ فارس، إذ ينبغي أن يرشق بحجر الكلمة أو مقلاع الكلمة الجبابرة، وأن يتهددهم وهو في سجونهم، وأن يضحك منهم وهو يساق من قلعة إلى قلعة، وأن يهجوهم وهو تحت سيوفهم، إنه فارس الأمل لا المريض به، وفارس الكلمة التي ترتجز لا على متن الجواد ولكن في قرارة السجن.
    من كان يرى البردوني يحسبه راجعا من قرون مضت، لكنه بلا عينيه كان بالتأكيد عند منعطف القرون، يمني عربي بدون فرق ولكنه عريق في يمانيته إلى الحد الذي غدا به لسان اليمن وعلمها: شاعر جزل متين في آن معا. كأنما يذكر بسلف معجزة أخرى هو بشار بن برد، أو بأبي العتاهية، أو بشعراء الخوارج والشيعة المناضلين، سلس قوي بسيط يذكرك بالقدامى لكنك تشعر أنه على نحو ما ابن يومه ولحظته فهذا الشاعر بالتأكيد معاصر لليمن واليمن معاصر فيه إنه شعر اللحظة اليمنية. من هنا لا تحس أنه متنزل من الدواوين، ولا تشعر أنه معارضة للقدامى. ليس محاكاة فحسب ولا حنيناً إلى ماض مفارق فهو بحق ابن المدينة اليمنية والصحراء اليمنية والسهول والصخور اليمنية.
    ليس شعر البردوني بهذا المعنى تمريناً على العمود ولكنه ابن “الواقع” اليمني -إذا كان لهذه الكلمة من معنى -من هنا كانت لشعره نضارة وقربى وألفة وماء ورواء لا تجد مثلها في عموديات الشعر الراهن. ناهيك عن أن هذا الشعر الذي هو ابن بداوة لم يعف عليها الزمن. بداوة الحاضر، تتحول في قراراته إلى نقد البداوة ونقد المخيلة البدوية أي أنه فيما يتكلم لا يتورع عن أن يهجو نفسه “مليحة عاشقاها السل والجرب”.
    يعلم عارفو البردوني أنه بلا عينيه هاتين لم يتنكر لشيء ولم يخف شيئا بسببٍ يجهله، لم يتنكر للمحدثين ولا الطليعيين ولا الرافضين ولم يحرجه هؤلاء ولا وجد فيهم تهديداً له أو لقاعدة ذهبية للشعر وغير الشعر قبل كل شيء لا عن ملاطفة ولكن عن علم، كما فوجئ محدثوه بإلمامه الواسع بتفاصيل وأسماء ويوميات للثقافة والشعر في أقطار العرب المختلفة لم يكن محنقاً ولا ساخطاً وهو يتابع مسار للشعر والثقافة فاته ولم يفته، كان راضياً مرضيًا رحباً فسيحاً قابلاً بالآخر حين استحال الشعر كله آخر والثقافة كلها أخرى، أليس هذا درساً رائعاً لأباء رائعين يبقون في منازلهم ومراتبهم وأعمارهم ولا يخرجون منها لاغتيال الأحقاد.
    حكيماً وغاضبا ومتمردا عاش البردوني في شيخوخته، كما عاش في طفولته، وفي المرات النادرة التي التقيته فيها كان نسابة ومؤرخاً وسياسياً، ففي صدره اجتمع التاريخ اليمني برمته وفي داخله كانت اليمن الخصبة، وهو شاعرها ومثقفها، ومن غيره حادي المنعطفات؛ يعرف كيف يمثل بلداً لا زال تاريخه وحياته وثقافته على المنعطف.
    صحيفة السفير – بيروت.

  • 414 فصول من مسيرة البردوني الحياتية والشعرية.. الدكتور رشيد الخيون

    >  فصول من مسيرة البردوني الحياتية والشعرية.. الدكتور رشيد الخيون

    لا يملك الأدب العربي الكثير من نماذج التعبير النابع من ظلمة البصر وضياء البصيرة، أو العمي الفيزيائي والرؤية العبقرية الشاسعة التي يعجز عن مضاهاتها كثير من المبصرين، والشاعر اليمني عبدالله البردوني خير تقاليد زرقاء اليمامة، حيث تنكشف في مخيلته تلك المشهدية التراجيدية التي تنغلق على سواه، وحيث السخرية المريرة هي العماد المركزي في شعر يقيم على أرض البشر يمانيين وعرباً، ويلامس وجدانهم في معيش الروح وهاجس الجسد، وفي اكتناه التاريخ في الحياة اليومية والحياة المرشحة للرسوخ في الذاكرة.
    كلما وقعت عيني على اسم بشار بن برد في أخبار الاعتزال أو في أخبار أشعاره أسرعت مخيلتي إلى عبدالله البردوني، فإذا كان الشعر والعمى والتمرد على بعض الأطر هي أعذار مخيلتي في ما تراه من تشابه بين الشاعرين والموقفين، وكان لا بد من المماثلة فالأقرب أن تتوافق هذه العلاقة مع شاعر المعرة فهو الأدنى من عصر البردوني، وهكذا اختصرت مخيلتي العصور ولا أدري أيهما عندما مقترن بالآخر؟ وحتى يكون الاقتران أكثر توفيقاً تصورت البردون ييجلد ويموت كما مات شاعر البصرة، على يد حاكم توهم الناس كلهم “زنادقة” إلا من غنى وغرد له وتعمد إلى ذلك حتى تصدق مخيلتي على ما ذهبت إليه من توافق بين الشخصين. وعندها سيقبل عذره بأنه لا يميز بين شروق وغروب كما رفض عذر ابن برد.
    تمرد بشار على عصره، فعند خروجه من الاعتزال نفاه المعتزلة عن البصرة، وبعد أن فسر تمرده بإدمان الخمرة والزندقة ألقوا عليه القبض متلبساً في مناجاة الله على غير الوقت المعتاد، وعندها جلده المهدي العباسي حتى الموت، كذلك تمرد البردوني على عصره بالمشاغبة المتواصلة على السلطة، فالواقع السياسي اليمني في نظره:
    فظيع جهل ما يجري
    وأفظع منه أن تدري
    وهل تدرين يا صنعاء
    من المستعمر السري
    يصف البردوني البردوني بقوله:
    وأرتاد واعتصر الأزمان مكتبه
    واستجمع الشهب في كفيه منظار
    فهل يجرؤ ناقد ويقول أنه يبالغ في تعظيم نفسه؟ لقد كان البردوني منصفا لتلك الظاهرة التي أينعت من واقع وإمكانيات أقل ما توصف بأنها حقبة من حقب تاريخ القرون الوسطى، ويشكر البردوني عماه في وجده وتفوقه الأدبي والثقافي بقوله.
    “والله لو لم أكن كفيفا لكنت مثل اخوتي فلاحا أو راعيا أو مغتربا في إحدى دول الخليج”
    ولكن كيف يكون كفاف البصر عاملا رئيسيا في هذا الوجود والتفوق كما يصفه صاحب العلاقة؟ هل يعني به العمى العبقري؟ فهناك عميان لا يستدلون طريقهم حتى مع دليلين وعصا، بينما هناك من عادل عماه ملايين العيون المبصرة والمفتوحة على مصراعيها. دعونا نقول إنها ظاهرة ” العميان العباقرة” والتي ينتمي لها عبدالله البردوني بكل ثقة عندما وصل عبدالله البردوني إلى العراق للمشاركة في مهرجان أبي تمام عام 1970م لم يعجب البعض هيئته وملابسه البسيطة فوجهة “مجدر” و” دشداشته” لا تليق بالمناسبات الرسمية كما يرى البعض ذلك، لكنه لم يكن رسميا في يوم من الأيام سواء مع أهل السلطة أو مع العامة، تتفجر ضحكته مع الأعماق متى ما أعجبه ذلك، حتى قيل همسا” بدون من الصحراء” وهذا أقل ما يقوله هذا النوع من المثقفين وندما أعتلى المنصة وقال بائيته مخاطبا أبا تمام ومطلعها الذي شاع في العراق بسرعة.
    ما أصدق السيف إن لم ينضه الكذب
    وأكذب السيف إن لم يصدق الغضب
    وعندها سكت من أستاء من هندام البردوني ولم يتطاول أكثر وفي هذا المهجران طلبت منه الشاعرة العراقية المعروفة لميعة عباس عمارة أن يقرأ في اليوم الأول لأهمية شعره، فهي عارفة بدبلوماسية مثل هذه المؤتمرات، وقد تكون بساطة البردوني من ثياب وهيئة عاملا في تقديم غيره من الشعراء المتأنقين، لذلك هرولت إلى وزير الثقاة العراقي آنذاك شفيق الكمالي طالبة منه ضرورة أن يقرأ البردوني في اليوم الأول من أيام المهرجان لعلو شأن الشاعر، وفعلا حصل ذلك رغم أن البردوني لا يفاضل بين الأيام.
    عرف البردوني نسبة إلى اسم بلدته بردون وقد ميز اسمة بتشديد الدال حتى لا ينسب خطأ إلى إتباع المفكر الاقتصادي الفرنسي بردون، الذي وصف من قبل الماركسية ب ” البرجوازي الصغير” لذلك يوصي بهذا التشديد ذاكراً تلك النسبة فهو من بردون- الحدا- ذمار.
    التقيت بأحد رواة وكتاب البردوني عبدالإله القدسي، وهو موظف بوزارة الثقافة، وقد التقينا في منزل البردوني بصنعاء عام 1992م وكما يبدو أنه كان المتحدث الشخصي بتاريخ وشعر البردوني، فقد حفظ عن ظهر قلب كل أزمات البردوني وخلجاته وشعره وسيرته، ومنه علمت أن شيخه عمل محاميا في المحاكم الشرعية بعد أن تعلم الفقه في المدارس الدينية، وعلى سبيل النكتة سألته: وهل دافع البردوني عن متهم سياسي؟ وكان سريع البديهة برده: ” وهل حصلت في البلاد محاكمة سياسية يسمح للمتهم أن يختار محاميا له” وينقل القدسي طرفة من طرائف البردوني السياسية فيقول أنه كان جالسا في مجلس حكومي رفيع المستوى وسأله أحد الحاضرين: لماذا لا تكتب يا أستاذنا عن الديمقراطية. فرد البردوني الغيبة حرام”
    يعد البردوني من الندرة الذين مازالوا يتمكنون من ارتجال الشعر، ومازال محتفظا بقوة شعرية كبيرة فعمره الشعري يربو على خمسين عاما وبذلك يمتلك تجارب واسعة، أما في التأليف المنثور، فقد ألف في موضوعات مختلفة تنصب على الهم الثقافي اليمني، ومنها يتشعب إلى قضايا عربية وعالمية، فقد أرخ للفنون الشعبية، وأبدع في تجذير الأدب الشعبي اليمني موضحا صلته بعالم الأسطورة الشعبية والدينية، كذلك أرخ للشعر اليمني وشعرائه في كتابه، ” رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه” الذي يعد موسوعة في هذا المجال ، ومن الكتب الأخرى التي صدرت له في مجال الثقافة كتاب” قضايا يمنية” و”اليمن الجمهوري”
    لقد اعتمد عبدالله البردوني في تكوينه الثقافي والفكري علىقواه الذاتية، مستلا من مأساة التخلف التي تحيط به قدرات معاصريه، وبما أنه لم يتتلمذ في معهد أو جامعة عربية أو أوروبية ظل مخلصا لفطرته متجاوزا قيودها إلى عالم أرحب، وبلور نهجا خاصا به معتمدا بالأساس على نقد واقعه، ومن حسناته أنه لم يتأثر بمنهج ما، وهذا هو عمق الأصالة في أعماله الشعرية والثقافية بشكل عام، إن عبقرية البردوني تكمن في حصانة إبداعة الثقافي من التأثيرات فهو نموذج من الإبداع الفطري، وعبقريته تأسست على دراسة بسيطة في اللغة والفقه، وعند المقارنة مع طه حسين كنموذج آخر للأعمى المبدع، فإن البردوني ظل مشدودا إلى قيود معاناته بينما نفذ منها طه حسين إلى مجال متنوع وواسع، وتخلص من تأثير تلك الفطرة عندما درس في الأزهر ثم في السوربون بفرنسا، ووجد من تضع خطوته في محلها، ونعني بها السيدة الفرنسية التي أصبحت زوجته فيما بعد كذلك لاوجه للمقارنة بين مصر طه حسين ويمن عبدالله البردوني، ولكن في المقاييس المجردة من تأثير تطور البيئة واعتبار الشهادات وتعلم أصول البحث يبرز البردوني مدرسة قائمة بذاتها لها إيجابياتها وسلبياتها.
    عن صحيفة الشرق الأوسط.

  • 415 مجالس البردوني الأدبية.. الأستاذ عبدالله علوان

    >  مجالس البردوني الأدبية.. الأستاذ عبدالله علوان

    رحيل الأستاذ الجليل عبدالله البردوني ترك فراغا ثقافيا واسعا لا على مستوى الساحة الثقافية اليمنية؛ بل والعربية فقد كان الشاعر الجليل لسان حال الأمة العربية وضميرها الثقافي، وكان مع هذا وذاك ضمير الإنسانية التواقه إلى الانعتاق من عذابات الأنظمة الاستبدادية الطاغية كان البردوني صوتها الصارخ في وجهه الظلم وكان شعره ونثره صوت العدالة الاجتماعية، والحرية.
    حكاياته لون وضوء عرفته
    كشعب كبير وهو فرد من الورى
    بسيط “كقاع الحقل” من كل البقاع لأنه
    يجود ولا يدرون، من أين أمطرَ
    يغيم ولا يدرون، من أين ينجلي
    يغيب ولا يدرون من أين أسفرَ
    وقد يعتريه الموت مليون مرة
    ويأتي وليداً، ناسياً كلما اعترى..
    ذلك هو الجليل البردوني يضيء بشعره الروح ويهديه إلى منابت الحب والفداء فيصير شعبا كبيرا في عطائه الأدبي، مع أنه واحد من الناس: بسيط كالضوء وسامٍ كالشمس.
    جواد وكريم. فبيته مفتوح لكل الناس، دون الفوارق الطبقية، أو العرقية التي يفتعلها الأوغاد وجيبه مبذول لكل محتاج وهو الغيم والمطر، وهو الشمس والقمر.
    الجليل البردوني هو الحياة في مقارعة الموت، وهو الخصب في مقارعة الجدب، يرفض الموت القسري، أي الصمت.. أو السكون.. لأن الصمت صفة للموتى؛ ولأن السكوت صفة الجبناء، لذا عاش ضد الموت والظلم، ومن أجل الشعب والإنسان.
    تمتصني آهات هذا الليل في شرهٍ صموت
    وتعيد ما بدأت وتنوي أن تفوت ولا تفوت
    وتثير أوجاعي وترغمني على وجع السكوت
    وتقول لي: مت أيها الذاوي فأنسى أن أموت
    لكن في قلبي دجى الموتى.. وأحزان البيوت
    ونشيج أيتام بلا مأوى.. بلا ماء وقوت.
    هذا القصيدة (أنسى أن أموت) هي من مؤثرات جلسائه الذين يساومونه على الكلمة فيأبي. ومع أن أمواج الليل عبارة ممنوحة من ليل أمرئ القيس (وليل كموج البحر أرخى سدوله) إلا أنها هنا إشارة إلى قوى سلطوية غاشمة، حاولت توجيهه إلى وجهة غير الحق، فصدها.. رغم الأوجاع، فوجع السكوت عن قول الحقيقة أقسى من أوجاع الواقع وليس هذا الواقع سوى قلب الجليل عبدالله البردوني، وعواطفه الحميمة، والحانية على أحزان الفقراء والمساكين المقهورين على أمرهم المسلوبي الحقوق.. أحزان البيوت، نشيج الأيتام، وأنين المدينة المسلوبة؛ تلك الأوجاع تحثة على قول الحقيقة بصورة أقوى من هراوات الرفاق اللينة، ووعيد النظام القمعي..
    كانت مجالس البردوني مصدراً من مصادر شعره فلمجالسته أثر شاعري قوي لأنه لا يجالس أصدقاءه أو أعداءه أو زواره، وفي يده هراوة البابوية.. بل كان يحاورهم بالكلمة الصادقة يقبل ويرفض، ويسمع ويتكلم، يعارض ويقول رأية بهدوء وأدب حتى وإن شط محاوره، وهرج عليه كل هذا نجده في شعره، وبشكل حوارات.
    أتقول أعياك القياس وإنما
    هاتيك غاشمة وهذي الغاشمة؟
    هذا البيت من مشهد حواري مع (مأرب الأغلى) وهو لا بد وأنه ترميز إلى صديق كان يحاوره، حول الفوارق بين حضارة الأمس، وحضارة اليوم، يقول مخاطبا جليسه، وقد مهره أسما عزيزاً عليه(مأرب الأغلى)
    يا مأرب الأغلى.. أتى (اليوم) الذي
    يغني بدغدغة الأكف الناعمة
    سميت سيل الغيث أمس عرامة
    أسيول نفط اليوم ليست عارمة..
    بالأمس كنت على التجارة حاكما
    واليوم أصبحت التجارة حاكمة
    كان شعر البردوني منذ ديوانه الأول (من أرض بلقيس) وحتى ديوانه الخامس (السفر إلى الأيام الخضر) يقوم على أحوال المجتمع ووقائعة السياسية والثقافية، وعلى الصراعات الاجتماعية والقومية والوطنية، أو على وقائع الثورة وأحلامها وأوجاعها، لكنه أدخل عنصري الحوار الدرامي، وجعله في مشاهد متساوقة كما في قصيدة (وجوه دخانية) التي هي مشاهد درامية من واقع الطبقات الاجتماعية ودورها في خدمة الحياة المدنية، لكن القصائد التي تعتمد على مايدور في مجالسه تأتي أقوى في ديوانه (زمان بلا نوعية) و(ترجمة رملية)، وقصيدة (سباعية الغثيان الرابع) حوار مكشوف حول نظرية الثورة العالمية بشكل عام، وهي نظرية مؤلفة من عدة مصادر اقتصادية واجتماعية وفلسفية.. لذا تجدها:
    إما أنها رأسٌ يسكن في قدم حاملة وأما عوسجة بلا جذور.. أو هي شعارات بلا عقل متكامل.
    لها قامة العصر.. لكن لها
    رؤوس كاخفاف يوم الجمل
    فهي نظرية حديثة، بلا جدال ، لكنها محمولة على رؤوس بلهاء، لا تدري ماذا تريد.. وهكذا يدور الحوار بينه وبين رفيقه متنقلا من موضوع إلى موضوع، ولكن في الإطار السياسي المعاش، وهو سياسي هزيل بلا نظرية وبلا وعي، وبلا مقياس دقيق أو حس سليم.
    أجاءت مفأجاة..؟ كل شيء
    خلا الجو- من عكسه محتمل
    هل أنبت عن جذعها كل جذر
    أفي الوجه أم في المرايا الخلل
    ثم يعزف على هذه الأسئلة، لأنها تواجهه بالإرهاب الحديث:
    لماذا أسائل إن الجواب
    هيب يحذرني لا تسل
    لأن عيون المقاهي صقور
    لأن القناني خيول الملل
    لأن النقيض التقى بالنقيض
    ولا يعرف البعد كيف اتصل
    ودار ابن لقمان باعت صبيحا
    فجاء الذي منذ ألف رحل
    له ساعد من حديد يمد
    لقتل الخزامى يد من يصل
    في هذا المشهد يفصح البردوني، عن جوهر النظريات المستوردة، فهي ليست سوى وسيلة للتجسس، كما في عيون المقاهي وإلا وسيلة للهيمنة والإرهاب، وإلى حد أصبحت هذه النظريات الملفقة مؤسسات أمنية وسياسية تعمل على قمع الشعوب العربية واستغلال أسواقها ونهب ثرواتها، وباسم المبادئ الوطنية والقومية والعرقية.. والتحديث.. الخ.
    قصيدة (سباعية الغثيان الرابع) مشاهد درامية، أصلها مجالس البردوني الأدبية..كما في قوله من قصيدة (من ذا بقى) في ديوانه(رجعة الحكيم ابن زايد):
    وكان (حضور) إلى (الحيمتين)
    يبث حكايات (وادي ضمد)
    و(علوان مهدي) يصفي يضيف
    إلى ما سيسرد فصلا سرد
    علوان مهدي الجيلاني، واحد من تلاميذ البردوني كان يجلس معه وبعض قراء البردوني مثل أمين العباسي والحارث الشميري، وتوفيق الحرازي ، كان هؤلاء قبل القراءة يديرون حواراً مع الجليل عبدالله حول وقائع اجتماعية وسياسية منها ما تشكل عنصرا، في موضوعة الشعري كما في المقطع أعلاه.. ومنها ما تكون موضوعا جماليا لوحد كما في قصيدة (زائر الأغوار) في ديوانه (رواغ المصابيح)
    فزائر الأغوار شخصية ليبرالية تدعي القومية القحطانية وعلى ذلك يدور الحوار بين الشاعر والسبئي الذي ما سبا، أو الهاشمي الذي ما هشم:
    سبئي وما سبا
    هاشمي وما هشم
    هنا يتهكم الشاعر من ادعاء جلسائه لأنساب، ربما ليس لها من التاريخ سوى المساخر.. أو المواقف الهزلية.
    المهم.. عند قراءة شعر البردوني ، يجب التوقف عند مشاهدة المواقف الدرامية وإرجاعها إلى مجالسه، فمجالسه مجالس علم وأدب ومجالس سياسية واعية، تدرك ليس أسرار الكلام السياسي وحسب، بل وتحلل كل موقف سياسي.
    من هذه الأسرار قوله لي شخصيا، وحكمه على أن ليس هناك أحزاب سياسية في اليمن أو في الأقطار العربية، بل مجرد تجمعات سياسية مرهونة بلحظات سياسية تمليها السياسات الدولية على هذه التجمعات، وهي مع ذلك أحزاب ليس لها أي أرضية اجتماعية ولا لها نظرية في الحكم.. بل مجرد عملاء من طراز حديث.
    وفي حديث دار بيننا حول مقاطعة المعارضة للانتخابات، قال إن لم تقاطع المعارضة الانتخابات ستسقط سقوطا مريعاً، ولذا كانت المقاطعة ذريعة لتحاشي السقوط.
    قلت له: إن هذه تجربة ديمقراطية تنشدها المعارضة فيكف تعادي مبادءها..؟ ولماذا لا تخوض الانتخابات وتمتحن قواها.. أو تدرب أعصابها على تداول السلطة كما تدعي..؟
    قال المقاطعة ذريعة لتحاشي السقوط.. ودعوتها إلى تداول السلطة بالطرق السلمية ذريعة أشنع من المقاطعة.. هذه ليست أحزاب يا علوان واهجع.. لا تشعبني.
    كان الحوار شاقا بيننا.. وكان في الجلسة علوان مهدي الجيلاني، وأمين العباسي.. فتركت مجلسه بعدما أغضبته ولكنه ودعني على أمل اللقاء لوحدنا ومن ثم الحديث حول أمور افظع من ذلك.. خرجت وأنا أردد قوله.
    فظيع جهل ما يجري
    وأفظع منه أن تدري..
    ثم قوله.
    ما لا يجري معلوم
    الجاري غير المعلوم
    تلك هي السياسة العربية كما يفهمها الجليل عبدالله البردوني.
    محلق “الثورة” الثقافي

  • 416 البردوني ساردا.. الزبيري رائيا.. الدكتور عمر عبدالعزيز

    >  البردوني ساردا.. الزبيري رائيا.. الدكتور عمر عبدالعزيز

    توطئة:
    لا يشترك عبدالله البردوني ومحمد محمود الزبيري في كونهما شاعرين ومجايلين لبعضهما بعضا، بل أيضا في كونهما يخرجان من أساس وتضاعيف ثقافة شاملة وجدت في الشعر مساحة للتعبير عن ما يتجاوز الشعر!!، وفي هذه المداخلة أود الإشارة بطريقة مختزلة ورمزية إلى تلك المحطات والأفاق التي تسم كلا الشاعرين الكبيرين بالثقافة السردية والرؤياوية، وسأركز على البعد السردي عند البردوني، والبعد الرؤياوي عند الزبيري معتبرا أنهما يتشاركان في كلا البعيد، ويؤكدان على نموذج المثقف الشامل الذي يستبطن مختلف الأحوال والأنماط الفنية في إطار إبداعه.
    هل كان البردوني والزبيري يستجليان تلك الخصائص توصيفا وتصنيفا ومفاهيم؟ أم أنهما باشرا الممازجة الإبداعية ضمن تلقائية الرائين الكبار والمحلقين الأفذاذ؟
    هذه المداخلة تتوخى قراءة الشاعرين ضمن أفق يستدعي مقولات علم الجمال، ويبحث عن النص بوصفه قيمة تتجاوز تخوم النوع الفني الواحد، تأكيدا على أن الثقافة الشاملة اصل في الإبداع الكبير.
    البردوني ساردا
    يعرف الشاعر العربي الراحل عبدالله البردوني كرمز معاصر من رموز الشعر العربي الموصول بتاريخ البيان والبديع القادمين من أساس الموسيقى الشعرية، بمحدداتها المعروفة عبر القافية والتفعيلة، ويعرف أيضا بوصفه الشاعر الذي استطاع أن ينزاح بمفرداته الشعرية صوب شكل من أشكال التطوير والحداثة بالرغم من استمرار إقامته في الكتابة ضمن أنساق العمود والقافية، فقد كان البردوني يتمتع بحصيلة لغوية فذة استمدت وهجها من ذاكرة “البصير” الذي طور أدواته السمعية وذاكرته المعرفية بصورة قل أن نجدها عند المبصرين بعيونهم، فقد كان موسوعة تتحرك على الأرض، وحالة استعادات وامضة للتاريخ البياني العربي بشعره ونثره قل أن يكون لها مثيلا.
    وما لا يعرفه الكثيرون عن البردوني تلك الإمكانيات الاستثنائية التي كان يتمتع بها كسارد حقيقي، ولقد تجلّت تلك الإمكانيات في عدد من المستويات كما سنبين هنا:
    · في الشعر: كتب البردوني سلسة من القصائد المحايثة للتاريخ والسير والحكايات الشعبية ممازجا بين الشعرية والنثرية، وقد شكلت مجموعة القصائد ذات النفس التاريخي السردي قيمة استثنائية في مشهد الشعر العربي الذي عرفناه خلال العقود الأخيرة من القرن المنصرم، وقد اشتملت تلك القصائد على أسماء الرموز والأماكن،وكانت تستقرئ الحاضر من خلال الإسقاط التاريخي ممسكة بالمزاج الشعري مما لفت أنظار النقاد العرب إلى موهبة فذة تجعل الإبداع والمعني يتساوقان بصورة استطرادية.
    · الأحاديث الإذاعية: من يستمع إلى سلسلة الأحاديث الإذاعية التي قدمها البردوني في الإذاعة اليمنية يقف على منهج سردي، وتوتر رشيق في الخواطر، وقدرة استثنائية على محاصرة المعلومة وضبطها زمنيا، وإمكانية خاصة في استنتاج أحكام القيمة الموضوعية، مع قدر كبير من التوصيف والتصنيف الذهني الذي يتبدّى كشكل بنائي محكم الضبط، والملفت أن هذه البنائية النصّية الشفاهية تتقاطع إيجابا مع استطرادات الذاكرة والتنويعات المدارية للأفكار، والربط بين المعلومات حتى يخيل اليك انك أمام فن للفنون الممزوجة، فقد حبا الله البردوني بقدرة على ممازجة المعارف وتطويع النصوص الشفاهية والمكتوبة، والتدليل على أن كل نص شفاهي أو مكتوب يحمل في طياته نصوصا بصرية وموسيقية. لا أستطيع وصف تلك الحالة إلا باعتباره سردا غنائيا وبالمعنى الواسع للكلمة، فالشعرية في مثل هذه الحالة تتقمص أبعادا تتجاوز الشعر بالمفهموم الذي نعرفه ونألفه، تماما كما هو الحال عند أبي حيان التوحيدي صاحب “الإشارات الإلهية” الذي انزاح بالنثر إلى آفاق شعرية متقدمة، وتماما كما نلاحظ عند جبران خليل جبران الذي وصفه البردوني بأنه الشاعر الذي “نثر الشعر وأشعر النثر”. والشاهد إن البردوني قام بعكس ما فعله أبي حيان، فاذا كان أبو حيان سارد شاعر، فان البردوني شاعر سارد.
    · الكتابات الصحفية: كان البردوني يتواصل مع قرائه أسبوعيا عبر جريدة 26 سبتمبر اليمنية، وكان يحررا صفحة بكاملها، والذين قرأوا تلك الصفحات الثرية بالمعلومات والفنون لاحظوا كيف تنساب المعاني برشاقة ودون قلق، وكيف تنتظم التفارقات والتمفصلات، وكيف يستغرق المتلقي في لجة التداعي الناعم مع الرؤى والأفكار التي تنساب كالماء الزلال.
    تلك الميزة النثرية الشاعرية لم تكن مقيمة فقط في مدى الكلمة وأبعادها الدلالية والاشارية، بل أيضا في كامل النص المرصوف بانتظام يتحدّى التداعيات والخواطر، بل ينزاح بها إلى آفاق سردية واضحة المعالم، وبأنساق تجعل من التفارقات قيمة واحدة.
    تلك واحدة من الإحالات السردية المبهرة للبردوني،وهو أمر يتطلب استقراء وإعادة قراءة متجددة للشاعر في أفق غير الذي عرفناه وألفناه

    الزبيري رائيا متعددا
    الشاعر محمد محمود الزبيري مات مستشهدا برصاص غادر في منطقة”برط” اليمنية بعد أن بذل جهودا كبيرة للمصالحة الوطنية عندما كان الاصطفاف على أشده بين أنصار الملكية وأنصار الجمهورية.
    تلك المأثرة الإصلاحية لم تكن جديدة في حياة الزبيري وهو الذي كان قد اقترب كثيرا من نظام الإمامة في شمال اليمن محاولا إصلاح النظام من داخله، غير انه باء بالفشل، وتأكد له لاحقا أن العادة أقوى من الحقيقة، وان الوهم اكبر من الموضوعية في النظر إلى الأمور، وان نظام الإمامة كغيره من أنظمة الجور والظلم ليس بوسعه مغادرة مرابع طمأنينته بصورة طوعية واتساقا مع حكمة التاريخ ونواميسه.
    هكذا علمتنا سنوات العرب العجاف، وتاريخ الويلات والانقلابات التراجيدية، فالأنظمة تنهار تحت وطأة المظالم، والتحولات تأتي بصورة قسرية عسيرة حتى يختلط فيها الحابل بالنابل، وتتهاوى فيها المحاسن والمساوئ معا !!.
    بذل الشهيد الزبيري قصارى جهده للإصلاح من الداخل، وكانت النتيجة أن تعرض للمطاردة والهجرات المتتالية، ابتداء من عدن التي كانت حينها مستعمرة بريطانية، مرورا بباكستان حيث تعرف على آداب المتصوف والشاعر الباكستاني الكبير محمد إقبال، وحتى مصر عندما أصبح على تماس بحركة التنوير العربية الكبرى مساهما فيها وحاضرا في أساس مفاعيلها الإبداعية الإحيائية، فقد قدم شعرا متساوقا مع كبار شعراء الإحياء، فيما تاق إلى التغيير في اليمن، وكان إسلاميا رشيدا،وسطيا أشعريا بامتياز.
    تعرف على أفكار الأفغاني ومحمد عبده وطه حسين ومحمد حسين هيكل وحبيب جاماتي والمازني والطهطاوي وعلي احمد باكثير والعقاد، سواء بصورة مباشرة أو عبر مؤلفاتهم، وكانت اليمن تواكب جملة الآراء والمنطلقات الحالمة لرجالات النهضة والتنوير،وكان الزبيري يحتل مكانة مفصلية في هذا المشهد.
    دهرية الزبيري: بداية أفضل أن أقوم بتعريف إجرائي لما اقصده بالدهرية حتى لا يختلط المفهوم الروحي بالجانب الابستمولوجي، فاستبعاد الميتافيزيكا في هذا الجانب ليس إلا أمرا إجرائيا لا ينكر المثال، ولا يتنطّع على النص القرآني الذي وصف عرب الجاهلية بقوله تعالى: “إن هي إلا حياتنا الأولى نموت ونحيا فيها”.، وكذلك دهرية اليهود الذين قالوا لموسى عليه السلام: “أرنا الله جهرة”.
    لذلك فإنني اعتمدت ذات المسار الذي انطلق منه بعض علماء البرهان والمنطق الرياضي الجبري ممن بحثوا في تجليات العلوم خارج الميتافيزيقا دون أن يقصدوا نكران الدين، أو يخلطوا بين الدين والدنيا.
    فالدهر هنا رديف للزمان والمكان، فانا استعير هنا مفهوما طالما تكرر في الآداب النقدية والإبداعية العربية المعاصرة تحت مسمى “الزمكانية” محايثا بينه والدهر، فالدهر زمان ومكان، غير أن دهرية الإبداع تتجاور مع الزمان المفتوح، وتنخلع عن المكان المعلوم مما يصوغ القول بان للإبداع زمنه الخاص الذي يتخطّى مفهوم الزمن الفيزيائي.
    قيل لأبا يزيد البسطامي: صباح الخير يا أبا يزيد.. فرد قالا: لا صباح ولا مساء !! فأبا يزيد مخطوف بزمنه الخاص الذي تتقاطع فيه الأزمنة كلها، فالماضي والحاضر والمستقبل في حالة من الاعتمال والتصارع المؤكد..لذلك أوجز وكثّف حينما سأله احدهم: من أنت يا أبا يزيد، فقال: أنا شيخ الوقت !!.
    إذا، زمن الإبداع لا ينتمي لدهر الحدث أو دهر الثبات بل ينتمي لدهر التحوّل بامتياز، ذلك أن زمن الإبداع تبشير بالقادم “دهر حدث” ورفض للسائد “دهر ثبات” وانتماء لمشروع التغيير “دهر تحول” وابحار في اللامكان واللازمان “دهر الدهور”.
    من هذا المنطلق أرى أن الزبيري يجمع هذه الدهور في ذاته، مثله مثل كل المبدعين والرائين الكبار، فيما سنأتي عليه تفصيلا وتباعا، ولكن قبل ذلك لا بأس من الوقوف أكثر على ماهية الدهر. يقول الزبيري:
    يوم من الدهر لم تصنع أشعته شمس الضحى بل صنعناه بأيدينا
    وفي هذا بيان لمفهوم الدهر عند الزبيري بوصفه مفهومازمكانيا، وهو بهذا المعنى يتخطّى دهرية “أخيل” الإغريقي الذي التقطه “هوميروس” في ملحمته وقدمه بوصفه النموذج الأقصى للحالة الأبيقورية المترعة باللذة وفلسفة الوجود الموصول بالظاهر المباشر، قد كان “أخيل” محاربا صنديدا، يعيش البطولة بوصفها التعبير عن الانسحاق في الأنا المنتصرة ، أو الذوبان في العدم الذي يأتي من انتفاء الحياة الدنيا دونما معرفة لما بعد ذلك، بل دونما عناية بما يلي الحياة.
    تلك النزعة البطولية الدهرية وسمت القوم قبل الإسلام ومنهم على سبيل المثال لا الحصر أمروء القيس وعنترة ابن شداد، فقد قال امروء القيس تعيرا عن نزعته الدهرية:
    أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب
    فالغيب لديه قائم في المستحيل، بل هو افتراض لا يمكن إدراك كنهه، فلماذا يرهق نفسه وجسده من اجل ذلك الغيب المجهول.
    وعند ما قيل للمهلهل وهو في سكرته اليومية: لقد قتل أخاك كليبا، رد قائلا: اليوم خمر وغدا أمر، فاستبعد بهذا القول أي قلق يقض مضجع لذته وانسيابه في دهر الحدث اليومي، بل الأبيقورية المترعة بالتبرير والمنعة الذهنية ترجمانا للحال وتماشيا مع المقال.
    وقال امرؤ القيس عندما أحسّ بان رفيقه في رحلة السفر إلى قيصر قد أصيب بالجزع والفزع بعد أن طال بهما الدرب.. قال:
    بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن إنا لاحقان بقيصرا
    فقلت له لا تبك ويحك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
    دهرية الجاهليين والأغارقة المشابهين لهم كانت لا ترى من الوجود سوى البعد الذي يتماهى مع الأنا السوسيولوجية والسيكولوجية، لأنهم كانوا لا يؤمنون بالغيب إلا لمحا، ولا يرونه إلا عارضا عابرا كما أومأ امرؤ القيس، غير أنهم كانوا على درجة كبيرة من الحرية الفردية، وقدر وافرمن النبل البطولي، فقد كان الدهري الجاهلي يقدس خصمه المصروع ويقول فيه:
    حاسيته الموت على استفّ اخره فما استكان لما لاقى ولا جزعا
    تماما كما فعل “أخيل” الإغريق الذي بكى خصمه “هكتور” بعد أن صرعه بحربته، لكأنه يعيد تدوير مقولة الشاعر الجاهلي:
    ونحزن حين نقتلكم عليكم ونقتلكم كأنا لا نبالي!!
    لم تكن دهرية الزبيري بطولية فقط كحال عرب الجاهلية والاغارقة المشابهين لهم، بل كانت إلى ذلك سابحة في فضاءات اخرى ألخصها فيما يلي:
    · دهر الحدث: لأنه كان مهجوسا بالتغيير،ساهم في التمهيد لثورة 26 سبتمبر، ذلك الحدث الزلزالي الذي غير مرجعية الحكم والياته في اليمن الشمالي، ثم أفاض بحضور واسع في جنوب اليمن،فقد كانت سبتمبر بمثابة المقدمة التاريخية والموضوعية للكفاح المسلح في الشطر الجنوبي، وكان الزبيري احد صناع “دهر الحدث”.
    · دهر الثبات: كان الزبيري حاول تغيير نظام الإمامة من داخل النظام فلم يفلح كغيره من الحالمين الكبار بألفية جديدة ومتجددة، فوجد نفسه في نهاية المطاف رافضا لنواميس واليات الإمامة التاريخية، مما جعله ثوريا انقلابيا يرفض الثبات ويقول بالتحوّل ، ومن هذه الزاوية كان ضد “دهر الثبات”
    · دهر التحول: ولأنه تاق للتغيير،فقد كان من الطبيعي أن يلتحق بحركة “الأحرار اليمنيين”، وان يشكل ثنائيا إصلاحيا مع النعمان، وان يتأسى بأفكار الورتلاني، وان يتأثر بالشواهد العصرية التي رآها في عدن الاستعمارية، وان يواكب الجدل الفكري الإبداعي في مصر، وبهذا المعنى كان الزبيري إحيائيا بامتياز، فقراءة نصوصه الشعرية الأكثر تعبيرا عن شاعريته ترينا كيف انه كان يتموضع بامتياز في خانة كبار شعراء الإحياء العرب، تلك الحركة التي تاقت لإعادة إنتاج الماضي
    · دهر الدهور: نحن هنا أمام حالة تستدعي قراءة ما وراء الظاهر أو التنويع على ذلك البعد الذي استقاه الزبيري من منبعين: الأول يتعلق بصوفية محمد إقبال ذات النزعة العملية الفاعلة في المجتمع، والثانية تتعلق بصوفية محي الدين ابن عربي ذات الطابع المفتوح، مما يتجلى في تنويعه الشعري على إحدى قصائد “ترجمان الأشواق”.
    وقبل أن نقتبس بعض فقرات القصيدة الزبيرية التي على روي وقافية قصيدة الشيخ محي الدين لابد من الإشارة إلى أن هذا النوع من التساوق لم يكن من قبيل المعارضة الشعرية التقليدية، بل كانت حالة من التواصل الذوقي والروحي، ما يجيز القول بأن الزبيري كان يتلمّس الخطى في الدهر السابق واللاحق للدهور الاعتيادية التي اشرنا إليها سلفا. يقول في قصيدته:
    ذكريات فاحت بريا الجنان فسبت خاطري وهزّت كياني
    عمر في دقيقة مستعاد ودهور مطلة في ثواني
    فكأن الماضي تأخر في النفس واسترجعت صداه الأماني
    وبعد هذه القصيدة بالذات تستحق وقفة مطولة لاستسبار عوالم الرؤية الفوق شعرية للزبيري مما يتسع له المقام والمقال.
    ** مدير تحرير مجلة الرافد.. خاص ب(عناوين ثقافية).

  • 417 بناء القصيدة في شعر البردوني… الدكتور عبد الله البار

    >  بناء القصيدة في شعر البردوني… الدكتور عبد الله البار

    ممّا لا شكَّ فيه عند العارفين بالفنّ أنّ لكلّ نوعٍ من أنواعه طرائق في البناء خاصّة، وأشكالاً من المعمار لا تتشابه. وهم يذهبون إلى أنّه مهمٌّ جدّاً في هذا الشأن أنْ لا يكون للفنّ – كائناً ما كان نوعه – مناصٌ من ذلك البناء وذلك المعمار، أو أصبح الفنّ هلاماً لاشكل له، وانساباً منسرحاً دون ضابط يضبطه، وتشكّلٍ يقيم كيانه.
    ولقد يجد المرء في كتاباتٍ كثيرةٍ أقاويلَ عن تفكّك البناء في القصيدة العربيّة القديمة، وانعدام المعمار فيها، وجميعها قائمٌ على الاستقراء السريع المتعجّل، وعلى شيء من الغرض لا يخفى. أمّا تدبّر القصيدة القديمة بعينٍ منصِفةٍ متوسّمةٍ فيفضي إلى جلاء ظواهر من البناء الشعري فيها تدلّ على إحكامٍ في النسج واثقان في التشكيل.
    وللقصيدة الحديثة طرائقها في البناء تنماز من طرائق البناء في القصيدة القديمة وتنبو عنها. لا أقول ذلك عن قصيدة (التفعيلة) خاصةً، ولكنني أضمّ إليها القصيدة المنظومة على البحر الواحد والقافية الواحدة اللذيْن نظمت عليهما القصيدة العربيّة القديمة. وهذه مسألةٌ تتجاوز(علم العروض) من حيث هو علمٌ محصورٌ في معرفة صحيح أشعر من منكسره كما قال علماؤه في تعريفه، لتتصل بسمات (الحداثة) عند الشعراء الملتزمين بالبناء العروضيّ القديم ذي البحر الواحد والقافية الواحدة. والشاعر الكبير عبد الله البردّونيّ واحدٌ من هؤلاء.
    فكيف بنى قصيدته؟ أعلى النمط التقليديّ الموروث؟ أم نَهَجَ بها نهْجاً حديثاً؟
    أكان بناؤه إيّاها بيتاً بيتاً؟ أم كان بناؤه إيّاها وحدةً وحدةً تتنامى حتّى تستقيم كياناً متّحد الأجزاء؟ وهل تداخلت في بنائه الشعريّ الأجناس الأدبيّة فتراءى متنوّعاً سرداً ودراماً وغناءً؟أو انفرد بطريقة في البناء غالبة عليه؟ وهل لتعدّد الأصوات وتداخلها في شعره صلةٌ بسمات البناء الشعريّ في قصائده؟ وما دلالة كلّ ذلك وسواه؟
    أسئلة تنفتح على مزيدٍ من الأسئلة، ولا سبيل للعثور على الأجوبة إلا بالوقوف على قصائده وتحليلها ما أمكنت الاستطاعة من ذلك، وإنّي متخيّرٌ لهذا المقام قصيدة “لعبة الألوان” من ديوانه (زمان بلا نوعيّة) لجلاء بعض مظاهر بناء القصيدة في شعر البردّونيّ.
    تفتتح القصيدة بجملة خبريّة تحمل يقيناً قاطعاً لا شكَّ فيه، ثمّ تتلوها جملٌ إنشائيّةٌ تدلّ على حيرةٍ وقلقٍ ورجاءٍ.
    كان هذا ما جرى، ماذا سيجري
    ماالذي يا ليل سل أوجاع فجري
    إنّما أرجوك قل لي ما اسمه؟
    هل له رائحةٌ يا ليل تغري؟
    لا تشمّ الآن؟ قل ما لونه؟
    لعبة الألوان أضحت لون عصري
    كيف يبدو؟ كلّ ما ألمحه
    أنّ شيئاً آتياً يشقي ويثري
    ههنا إذاً راوٍ يروي ما حدث ويخبر عنه، لكنّه يتحوّل من كونه راوياً سلبياً إلى (بطلٍ) يعيش صراعاً بين المتناقضات فيخرج من يقينٍ لاشكَّ فيه إلى شكٍّ لا يقين له، وتلك سمة البطل المعاصر عند العارفين. ومن هنا حيرته، والتماسه النجاة من الآخرين من خلال الاستفهام عن جوهر القادم المجهول من أعماق الزمان ( ماذا سيجري؟ ما الذي يا ليل؟ قل لي ما اسمه؟ هل رائحة تغري؟ قل ما لونه؟).
    وهنا يبني النصّ الأبيات بناءً خاصّاً فيُحدث لها نوعاً من الترابط والاتحاد.فترانا نخرج مع المتكلّم في النصّ في البيت الأوّل من نورٍ مبينٍ دالٍّ على يقينّ (كان هذا ما جرى)، إلى ظلامٍ دامسٍ باعثه الشكّ والحيرة والجهل بما يدور ( ماذا سيجري؟).ثمّ تتراءى لنا شبهة أملٍ في الخروج من تلك العتمة حين هتف الليل (سل أوجاع فجري) وكأنّه جهينة التي عندها الخبر اليقين،لكنّ المتكلّمَ ذاهلٌ عن ذلك منغمرٌ في حيرته وقلقه ورغبته في الكشف عن المجهول،فكثرت الأسئلة وتعدّدت، ولا جواب إ لاّ في حالين،أوّلهما حين كان محتوى الاستفهام لون القادم المجهول،فتراءى الجواب حادّاً كالنصل (لعبة الألوان أضحت لون عصري). وهو جوابٌ يحمل يقيناً مظلماً أسود تبدو فيه الحياة ختلاً ومراوغة تكون سبباً في الإصابة بالعمى والعجز عن التمييز بين المتناقضات،فلا تستبين جوهراً لأمرٍ ولا حقيقةً لغايةٍ.
    وثانيهما حين كان الاستفهام عن شكل القادم المجهول فكان الجواب نبوءةً بأحوال الأحياء في قادم الأيام، وتراءى ذلك القادم من المجهول جحيماً لأقوام كما هو نعيمٌ لآخرين. وهنا تتجلّى مقابلةٌ سياقيّةٌ يفرزها النصّ حين يقول: (إنّ شيئاً آتياً يشقي ويثري)، حيث قابل بين (الشقاء) و(الثراء). وفي الأصل أنّ (الشقاء) يقابله لفظ (السعادة)، و(الثراء) يقابله لفظ (الفقر). لكنّ (الفقر) سببٌ في (الشقاء)،و(السعادة) نتيجةٌ (للثّراء)،وعلى هذا استخدم الشاعر المقابلة بين سببٍ ونتيجةٍ، أو بين شيء ومقارب ضدّه كما يقول الطرابلسيّ.
    وكلتا الإجابتين تبعثان على الرهبة وتسوّغان القلق.
    وإنّ التأمّل في لغة الخطاب هنا يكشف لنا أنّ استخدام الاستفهام تكرّر سبع مرّات في أربعة أبيات يشي بالقلق الداخليّ والحركة التي تنمّ عن حيرةٍ تبحث عن هداية، وشكٍّ ينقّب عن يقين. ولا يخلو استخدام (المقابلة) في الأبيات من تلك الدلالة. وهذا وذاك كانا وسيلة الشاعر في تجسيد النزعة الدراميّة في بناء النصّ، وهنا تنتفي الغنائيّة،وتخبو النجوى، وتصبح القصيدة أداة التعبير عن الرؤية والموقف لا تجسيداً لإحساسٍ وانفعالٍ. وإنّما تمّله ذلك من خلال بناء النصّ بناءً درامياً يجسد صراعاً ويقابل بين المتضادات.
    ولتحقيق هذه الدراميّة في بناء القصيدة يعمد إلى تطوير الشخصيّات الفاعلة في قصيدته، فيتراءى (الليل) في المقطع الثاني منها بطلاً يصارع آخر يتقحّم هُدوءََه بقلقه، ويستفزّ صمته الناعم بأسئلته الضاجّة، فإذا الليل يشكو حالاً، ويحتار في أمرٍ، ويقر صورة عالَمٍ لم تكن مشهورةً من قَبْلُُُُ:
    أيّها العفريت نم أقلقتني
    ابتعد عن سرّتي، ماذا التجرّي؟
    أصبَحَتْ سرّيّتي لافتةً
    فوق وجهي،وجداراً فوق ظهري
    كيف أُخفي والقناديل هنا
    وعلى وجهي وكالات التحرّي
    كلّ مستورٍ تعرّى، إنّما
    سرق الأنظارَ تزوير التعرّي.
    ولا يخفى (البعد الوجودي) في تشكيل شخصيّة (البطل) في هذا الموضع وسواه من القصيدة، وتلك سمةٌ في شعر البرد وني لا تغيب عن لبيب، غير أنّي منصرفٌ عنها لأنظر في طرائقه في بناء القصيدة من خلال قصيدته هذه.فأراه يعي أنّ البناء الدراميّ لا يستقلّ عن سواه من أنماط البناء الشعريّ، وإنّما له أنْ يمتزج معها لينمو (الحدث) ويمضي إلى غايته.وهو إنّما يصنع ذلك في قصيدةٍ لها من حيث هي جنسٌ أدبيٌّ عناصر تكوينها، وعلاقاتها الخاصّة. فيلتحم (البناء السرديّ) بالبناء الدراميّ في مواضع من القصيدة كما نجد في قوله:
    هذه سيّارةٌ تدهمني
    تلك أُخرى، في يد الشيطان أمري
    متّ فوراً، كان قبري داخلي
    غبتُ فيه لحظةً، واجتزتُ قبري
    وهو إنّما يصنع ذلك تمهيداً لحدثٍ، وللانتقال من حالٍ إلى حالٍ آخر، ممّا يسهم في تطوير حدث القصيدة، والصعود بها إلى ذروتها المقصودة. ولذلك أضاف في المقطع الثالث شخصيّة أُخرى إلى ما قد سلف من شخصيّاتٍ، ورأينا بطل القصيدة وهو يتلمّس عند (الثريّا) يقيناً لا تجده هي في الأصل:
    ليت شعري ا ثريا ما الذي
    سوف يأتي بعد هذا؟ ليت شعري
    فهي في حيرةٍ من أمرها، يملؤها الإحساس بالمتقابلات الضديّة، ويوهن من عزمها التأمّل في الاحتمالات القادمة، فلا تجرؤ على الجزم بالقول بحقيقةٍ واحدة:
    ربّما يأتي الذي يُخمدني
    ربّما يأتي الذي يشعل جمري
    ربّما فاجأني ما أشتهي
    ربّما لاقيت أزرى بعد مُزري.
    وتلك هي الخطوة الأولى للاستسلام والرضى بالموجود دون قدرة على الثورة عليه،أو الإصرار على الظفر بالمشتهى ونيل المنشود. وهنا يتراءى(البعد الوجوديّ)ظاهراً في تشكيل شخصيّة البطل في شعر البردوني كما قد سلف. على أنّ لتكرار استخدام الحرف (ربّما) بمعنى الشكّ والظنّ والرجحان دلالته الأسلوبيّة ههنا.
    والنص يخرج من(الإخبار) إلى (الإنشاء)،أو قلْ من (السرد) إلى (الدراما) دون أنْ يخلي (الخبر) من موقفٍ ذاتيّ يتمثّل في الانفعال بحال الآخر أو السخريّة منه، أو الاتحاد به في الرؤية والموقف:
    الثريّا آه مثلي تمتري
    قل لها يا (مشتري) ماذا ستشري؟
    وإنّما يكون الفزع إلى الآخر طلباً للنجاة، لكنّه يتجلّى ههنا عن مفارقةٍ بندو فيها المستجير (بالمشتري) كالمستجير من الرمضاء بالنار، فالجرحان من ألمٍ، والدمعان كم وادٍ.
    ربّما بعت مداري ليلةً
    واشترى يوماً مهبّ الريح سرّي.
    فتتماهى الشخوص في الموقف والرؤية، وتكتمل دورة الحدث الأولى فكان لابدّ من خلق شخصيّات أخرى مضادة لها في الهيئة والحال، فقال:
    هذه نظّارةٌ ترنو إلى
    وجه غيري وهي تشويني وتفري
    جمرها يقرؤني من داخلي
    وأنا في خارجي امتصّ حبري
    وهنا يتداخل (السرد) و(الدراما) ثانيةً، وفي هذا ما ينبئك أنّ البردّونيّ لا ينظم صوراً متفرقة متبعثرة، وإنّما ينسج كياناً مترابطاّ متماسكاً وإنْ تراءت وحداته أشتاتاً.
    وفي هذا الموضع تتداخل علاقتا (التشابه) و(التداعي) كما تداخل البناء السردي والبناء الدرامي في آنٍٍ.فيلجأ الشاعر إلى الصورة، ومنها ما كان بناؤه كنائيّاً رامزاً كقوله: (نظّارة ترنو إلى وجه غيري…)، وهي تتداعى مع صورة المخبر وهيئته كما تجلّت في العصر الحديث. ومنها ما كان بناؤه استعارياً كقوله: (تشوي وتفري، لها جمرها، الجمر يقرأ، ولامتصاص الحبر ههنا دلالته). وإنّ الإيغال في بناء الصورة الاستعاريّة شرط لازم لازبٌ لمقاربة البعد الشعريّ للقصيدة، والبعد بها عن روح السرد وخصائصه كما أوضح جاكوبسون بعض ذلك في أحاديث له تنظر في مظانها، أمّا أنا فيهمّني الالتفات إلى خلق هذه الشخصيّة في هذا الموضع من القصيدة، ودورها في حركة القصيدة واكتمال البناء.وإنّها شخصيّةٌ فاعلةٌ، وفاعليّتها كامنة في حثِّ (بطل القصيدة) على الخروج من حال الشكّ والحيرة إلى حال اليقين. فهذه (الشخصيّة النظّارة) بترصده وتتهدّده في صمتٍ، لكنّه صمتٌ حارقٌ يغزو أعماق البطل ويملؤه رعباً فيلجأ إلى آخرين يحررونه من حيرته وشكّه وجهله بالقادم من أعماق الغيب:
    ما الذي يا ريح؟، مثلي لا تعي
    ما الذي يا برق؟ يرنو وهو يسري
    ما الذي يا آخر الليل ترى؟
    ما الذي يا فجر؟ يومي سوف تدري
    وهنا تبلغ الدرامية ذروتها، وتتراءى الأشطار جملاً متقابلة منشطرةً بين خبرٍ وإنشاء، فينبثق الاستفهام منها، ويسطع الجواب في آنٍ. ويتكرّر تركيب الكلام في نسقٍ متشابه يكسره الشاعر بما أومأ به (الفجر)، وهو آخر شخصيّات القصيدة ذات الفاعليّة الظاهرة، فظهرت جملته (سوف تدري) أملاً يقود إلى مشارف يقينٍ ومعرفةٍ نقّب عنهما بطل القصيدة في تعبٍ وضنى.ف ماذا لقيَ بعد ذلك؟ لقد وجد يقيناً لكنّه مشوبٌ بالظنّ، وهو ما لاقى هوى في نفس البطل لأنّه يتماهى مع رؤيته للحياة، وجوهر تلك الرؤية أنّ التحوّلَ لا يحمل مجداً، ولعلّه يكون سبباً في المهانة والازدراء:
    ربّما أصبحت شيئاً ثانياً
    تزدري ما كنت قبل الآن تطري
    فارتضى البطل تلك النبوءة مستسلماً وقد هدّه البحث المضني عن حقيقة ذلك القادم من أعماق الغيب كيف يكون؟ وبدا اليقين صورةً من صور الحيرة التي كابدها بطل القصيدة من أولها حتّى منتهاها:
    حسناً، من أسأل الآن؟ إلى
    أيّ أكتاف الربى أحمل صخري؟
    وهنا تُختتم القصيدة بالاستفهام كما اُفتتحت به. ومنه انبثقت الحيرة والشك والعجز عن الوصول إلى جوهر الأشياء وحقائقها، وإليها انتهت. وكأنّما أراد البردّوني لبناء قصيدته أنْ يكون منفتحاً لتنثال الأسئلة في أفئدة المتلقّين يجيبون عنها كما شاءوا وشاء لهم الوعيُ والإدراك. وفي هذا ما فيه من إتقان للصنعة الشعريّة، وإحكام البناء.
    والسؤال الآن هو: إلى ماذا قصد البردوني حين بنى قصيدته على ذلك النحو من البناء؟ أتراه رام الدلالة على عبقريّةٍ في النظم وقدرةٍ على التشكيل؟ إنّ كان ذلك مبتغاه فهو عابثٌ لاهٍ، ولم يكن البردوني في شعره بالعابث اللاهي قطُّ.وعندي إنّه إنّما تغيّا من خلال هذا البناء بثَّ رؤيته وموقفه من أحداث زمانه وبلاده في عامٍ ملأ النفوس بالحيرة والشكّ، وحاصر الأفئدة بالقلق والظنون، فتراءى اليقين الجازم حلماً لايطال.فتماهت طرائق التعبير عن الرؤية في القصيدة مع حركة الوعي في المجتمع، وتراءى بناؤها صورة من صور الواقع المعيش يومذاك.
    وتلك واحدةٌ من خصائص كلّ شاعرٍ عبقريّ عظيم. وما البردوني إلاّ واحدٌ من هؤلاء.

  • 418 گائنات الشوق الآخر (قراءة في دلالة السؤال والنداء): عبد الودود سيف

    >  گائنات الشوق الآخر (قراءة في دلالة السؤال والنداء): عبد الودود سيف

    “كائنات الشوق الآخر” الديوان التاسع لشاعر اليمن عبد الله البردوني. ويأتي صدوره مع نهاية عام 1986 بعد مضي ما يقارب أو ينيف الأربع سنوات على صدور ديوانه الثامن ” ترجمة رملية الأعراس الغبار” ومعنى ذلك أن الديوان يشكل حصاده الشعري على امتداد الفترة الماضية، منذ صدور ديوانه الثامن، ويحوي إحدى وعشرين قصيدة، غالبيتها – إذا لم أخطئ – تنشر في الديوان لأول مرة.
    وكائنات الشوق الآخر” عنوان قصيدة في الديوان، استعير عنوانها للديوان كامل كما هو الحال عادة في كل دواوين البردوني – تقريباً – التي تختار عناوينها من عناوين قصائد مخصوصة تتضمنها.
    ومرة أخرى يعيدنا هذا العنوان إلى عناوين دواوين البردوني الأولى (في طريق الفجر) (مدينة الغد)، (السفر إلى الأيام الخضر) في حين أن الدواوين التالية لها كانت قد نحت منحى آخر وجعلت من عناوينها دلالات على رؤية الواقع المعاش (وجوه دخانية في مرايا الليل) (زمان بلا نوعية) ترجمة رملية لأعراس الغبار.
    ولا شك أن قسمة العناوين بهذا النحو الثنائي المتعادل -تقريباً- بين الواقع والواقع الآتي مع المستقبل، أو بالأحرى بين الدلالة على ما يرى في السطح، والدلالة على ما يتشكل في الأعماق، أمر بالغ الأهمية، خاصة لمن يطمح في مسايرة تجربة البردوني الشعرية ورصد أبعادها.
    ولا تزمع هذه السطور العجلى أن تتابع رصد المسار المذكور، ولكن تطمح إلى التعريف بالمعنى الخاص الذي يسبغه الديوان على “كائنات الشوق الآخر”، من خلال قصيدته الرئيسية الحاملة للعنوان المذكور.
    وأهمية القصيدة المذكورة لا ترجع فقط لكون الديوان قد استعار عنوانها الخاص، ولكن ترجع أهميتها في جانب آخر أيضاً، لموقعها الخاص بين قصائد الديوان.. حيث يلاحظ أن الديوان قد افتتح بقصيدة (غير ما في القلوب)، وجعل من القصيدة / العنوان أولى قصائده وكأنه يشير بذلك إلى أن القصائد التالية لها تفصيلات منوعة في تجربتها الخاصة، وتشكل ما يشبه سباقاً واحداً يصب في تأكيد معناها المميز الذي يمثله الديوان ككل.
    القصيدة تتكون من سبع وستين بيتاً، في واحد وعشرين مقطعاً، لا تزيد عدد أبيات أطول مقطع منها عن سبع أبيات، كما في المقطع الخامس عشر، ولا تقل أبيات المقطع الواحد عن بيتين كما تكرر ذلك في أكثر من مقطع.
    والسمة المميزة للقصيدة أنها لا تتخذ نفس الطابع البنائي المعتاد لقصيدة البيت، ولكن تبني نفسها بطريقة خاصة، من داخل محتواها الخاص.
    ومحتواها لذلك ينسجم نفسه بطريقتين: التساؤل والإخبار عن نفسه، بالاستناد في إخباره على التساؤل. ومن ممازجة السؤال بالإخبار تنمو القصيدة تدريجياً حتى تستكمل قوامها ومن ثم بناءها الخاص.
    ورغم أن السؤال يستحوذ على القسم الأكبر من أبيات القصيدة، حيث يتداخل في نحو ما يقارب أربعين بيتاً من مجموع عدد أبياتها المذكورة، إلا أنه لا يخرج عن ثلاث صيغ رئيسية كما سنرى. بل أن الصيغة الأولى والثانية تنحصر فقط على ديباجة القصيدة المتمثلة بالاثني عشر بيتاً الأولى، والصيغة الثالثة تتحدد في بقية أبيات القصيدة المكملة.
    والصيغة الأولى تنحصر بدورها على المقطع الافتتاحي المكون من ثلاث أبيات، والصيغة الثانية تحتل الثمان أو التسع الآبيات الباقية من أبيات ديباجة القصيدة.
    ويمكن تسمية الصيغة الأولى بالصيغة المركبة، والقصد من معنى التركيب هنا الجمع بين التقرير والسؤال في آن معاً في صيغة واحدة، وظاهر الصيغة السؤال. ومضمونها الفعلي التقرير. ولذا تتخذ الصيغة أداة التساؤل (ل ماذا )، فيبدو القصد من السؤال، معرفة سبب ما يتضمنه السؤال في محتواه من معنى، بينما القصد الفعلي للتساؤل هو تغطية مضمونه المقرر فيه بصيغة السؤال ليس إلا. كإن السؤال، هنا، وجود زائد.
    وحين نحذف أداة التساؤل “ل ماذا ” من أبيات الافتتاح التالية، يظهر لنا معنى الحقيقة المرة التي تنطلق منها القصيدة وبني عليها موضوعها اللاحق، ولكن تتخفى على حقيقتها المرة بالسؤال لهدف بلاغي بحث، هو عدم نقل القارئ إلى جوها المفعم بالسوداوية والقنوت قبل الأوان. فكأن الغرض البلاغي للسؤال إذن تخفيف أثر الوقع على القارئ:
    (ل ماذا ) المقطف الداني بعيد عن يد العاني؟
    (ل ماذا ) أزهر آنيُّ وليس الشوك بالآني؟
    (ل ماذا ) يقدر الأعتي ويعيا المرهف الحاني؟
    والمعنى الخاص الذي تنطلق منه القصيدة – في البدء – أن من يعاني عادة ليس هو من يجني قطاف معاناته دائماً، لأن. المعاناة تفضي – فيما تفضي إليه من النتائج – إلى الرهافة والحنو.
    والأقدر على التنصل من نبعات المعاناة هو الأوفر حظاً في تحقيق الجنى.
    ولا يخلو المعنى من البساطة كما لا يخلو بحال من أثر التأمل.وهذا الجانب الأخير هو الذي يعطي للمعنى عموميته. غير أن ما يهمنا هنا هو تتالي الثنائيات في التعبير عن المعنى. ثنائية العاني واللاعاني. والمرهف الحاني والأعتى. والزهر والشوك….. الخ.
    أي أن هناك طرفين يتنازعان ” القطف ” يترتب عن تنازعهما أن يحظى صاحب الورد بالشوك، وصاحب الشوك بالورد.
    وهي في كل الأحوال نتيجة غير طبيعية وعكس لقوانين المنطق الإنسانية والعقلية.
    والصيغة الثانية من التساؤل تستند على نتائج لا منطقية السياق السابق، فيصبح هدف التساؤل فيها مُنصباً على ترسيخ المعنى السابق، وذلك من خلال رفع “اللامنطقي” إلى مصاف ماهو “منطقي” والتساؤل من ثم عن جدارة أي منهما وأن يوضع الاثنان في مصاف واحد، فهذا يعني ضمنياً التقليل من شأن المنطق وإعطاء الأهمية لما ليس منطقياً. لكن أن يتجه السؤال إلى التساؤل عن جدارة أي منهما، فمعناه البلاغي الضمني أن العقل بدأت تساوره الشكوك بنفسه، وابتدأ من ثم معها يتساءل ويبحث عن منطق اللامنطق، ويغفل قوانين المنطق الاعتيادية.
    وأكثر ما يلاحظ أثر هذه الصيغة على المقطع الثاني والرابع:
    أيستسقي الدم الصادي ندىً أم خنجراً قاني.
    أيخشى الرعب رجليه أيحذر كفه الجاني.
    أيدري السوق والعجلات من ذا يحمل الثاني.
    ومن أهدى إلى الأجدى خطى المضنى أم الضاني.
    وهل سجادة الأفعى نقيض المرقد الزاني.
    والاستسقاء أو السقيا في: أيستسقي.. تصب في نفس فكرة ” المقطف “التي ابتدأت بها القصيدة، وتوضح بالتحديد معنى معاناة العاني المذكور. و”الدم ” – في السقيا- تزيد معنى ” المعاناة: وضوحاً وتخصيصاً أكبر. كما أن الندى “يصب بدوره في معنى” الورد ” ويصب ” الخنجر ” في معنى الشوك.
    ومن الوجه الآخر فإن السوق والعجلات ” وانقلاب المقاييس – في السؤال – على أي منهما يحمل الثاني، يشكل النتيجة الطبيعية لاختلال الموازين واختلاط المنطق باللامنطق.
    كل ذلك في نتيجته النهائية يمهد لابتداء القصيدة، بعد أن انصرفت الأبيات السابقة للتوطئة لها. ومع دخول القصيدة لموضوعها يظهر الشاعر بضميره المخصوص ” أأستفتيك ” في البيت الثالث عشر.
    وهذا يعني على مستوى السؤال انتقاله من التعميم إلى التخصيص ومن إلقائه مجرداً عن التحديد إلى تحديد طرف بذاته يلقي عليه.
    وهذا بالضبط ما تتولاه الصيغة الثالثة، التي أهم ما يلاحظ عليها اقترانها بالنداء.
    غير أن النداء قد يلي السؤال، وقد يتقدم السؤال.
    فإن تقدمه السؤال انتفى معنى السؤال، وأصبح مجرد مناسبة للإخبار. كما نلاحظ من الأبيات:
    أأستفتيك يا أشجار؟ فوقي غير أغصاني
    كومض الآل إيراقي كلغو السكر اعلاني
    وكالحدبات أثدائي وكاللصقات ألواني.
    أتستسقي أروماتي متى يطلعن أفناني
    أريد مدى اضافياً ثرىً من صنع اتقاني
    وتاريخاً خرافياً أعلق فيه قمصاني.
    أيمكن كل مرفوض وهذا الشوق إمكاني.
    وموضوع الأخبار هنا: إخبار عن واقع هذا الواقع يتمثل في: شجرة تحمل غير أغصانها فتومض وتلغو وينقلب ظهرها بطنها. وباختصار أنه واقع غربة.. يصنعها أو يصنعه الأساس السابق الذي يجعل من ” المقطف ” ثمرة لمن لم يعان في بذرها ولم يحن على أشجارها.
    ان الأشجار في ذلك ” المقطف ” أشجار بلا ثمار. تومض بأثمارها من بعيد كالبرق وتلغو لتعلن عن إثمارها فلا يتحقق منها شيء وإن أثمرت فتثمر ثماراً غير طبيعية لأن أغصانها التي عليها ليست أغصانها. وكما يغترب المقطف / الأساس عن ذويه، ويصبح ملكاً لغير ذوي الشأن، تغترب أشجاره عن نفسها، وتصبح بدلاً من أن تكون أثداء للإرضاع تصبح حدبات شائهة على ظهور الأرض. تصبح ” سدراً ” لا يدل في حقيقة سوى على كونه بديلاً لشجرة أصلية ضائعة.
    وينتقل الإخبار من الواقع إلى الأخبار عن الحلم: الواقع البديل. ويتخذ أسلوب الإخبار صيغة الاشتهاء ” أريد “وماذا يريد؟ يريد ما تريده الشجرة عادة من تربة ومناخ. جواً إضافياً تتفيأ فيه. وتربة حقيقة تترسخ فيها. وبذلك تؤكد ذاتها وتصنع تاريخها الخاص. بل وستصنع لنفسها تاريخاً خرافياً يحقق المعجزات.
    وينتقل النداء ليحل محل السؤال. ويحل السؤال محل النداء
    وذلك في السياق المكمل:
    أيا بستان هل تصغي؟ لمن، والقحط سلطاني؟
    أليس الموت كاللاموت والمشدود كالواني؟
    ونلاحظ هنا التدرج من المقطف إلى الأشجار إلى البستان والمقطف كان مستلباً، والأشجار كانت تشي بحالة تبدل شبيه بالتبدل الذي أحال جنتي سبأ إلى أشجار لا أثمار فيها. وها هو البستان محكوم بسلطان القحط اللانهائي. أو محكوم بالموت المهيمن الذي يبدو كالموت. لقد وصل الموت إلى ذروته. وتساوى فيه معنى الموت بالحياة. حتى أصبح يظن ما هو موت بأنه حياة. وذلك أنكأ أنواع الموت.
    هنا يعيدنا السياق إلى موقف الشاعر الجاهلي الذي كان يمر على بيوت أحبابه الداثرة، ويسائلها ويبكي على أطلالها وقد حدث الشيء ذاته. مسائلة الأطلال وبكاء الديار:
    ألست بيوت أحبابي ولكن أين سكاني؟
    أتذكرهم هنا كانوا عناقيدي وريحاني
    على أحضانهم أصبو ويستصبون أحفاني
    لماذا جئت تشجيني أأنت رسول نيساني.
    أتنكر نكهتي؟ كلا تلوح كبعض عيداني
    لقد تحول المقطف إذاً إلى حلم، وتحول الحلم إلى ذكرى وأصبحت هذه الذكرى كذكرى عيد النيروز و”شم النسيم” ولكن بدلاً من أن تكون عناقيد وريحان أصبحت “كبعض العيدان ” اليابسة.
    ويتجه التساؤل إلى البستان:
    ترى هل ينمحي وضعي إذا أعلنت كتماني.
    لماذا يغتدي طيري وأثوي خلف حيطاني.
    ألا يا ليتني نهر وكل الأرض بستاني.
    ولما لم يعد جواب السؤال لا من الأشجار ولا من البستان تحول السؤال إلى الوجهة النقيض وهو ” المقهى ” مقبرة الوقت والضياع على سطح الأرض العربية.
    والمقهى يلبسها السياق وجه بيوت الأحباب التي كانت تلوح قبل قليل كالأطلال ولذا فهو يستبكيها كما كان يستبكي تلك الأطلال، ليكتمل الوجهان بكاؤه وبكاؤها:
    أأستبكيك يا مقهى بقلبي غير أحزاني
    وأنكى ما أعي أني أنوء بحمل بنياني.
    وأني – بعد ما ولى بنو عثمان – عثماني.
    أمامي ظهر أيامي وخلفي وجه سجاني.
    وهكذا يعود الإخبار إلى طابعة القديم. شكوى الغربة مرة ثانية. وإن أصبح موضوع الشكوى هنا مختلفاً عن السابق.. حيث كانت الشكوى هناك تتحدث عن تحول جديد طرأ على الواقع، بينما موضوع الشكوى هنا تتحدث عن واقع قديم عاد إلى نفسه مجدداً.
    وبمثل ما أدت مخاطبة الأشجار في السابق الوقوف على ديار الأحبة ومساءلتها أدت هذه المسآءلة في شقها الثاني، الأطلال / المقهى إلى البحث عن بيوت الأحباء حيث تكون. ولأنها في الواقع أطلال خواء، فقد أخذ البحث عنها هذه المرة يتجه إلى القلب:
    أيا بيتاً هنا في القلب كيف أبث تحناني
    إليك أصيخ: هل تحكي أضعت هناك تبياني
    أقول، يقول عني السقف غير لغات أركاني
    لأن أباك ” عنسي ” وخال الأم ” باذاني ”
    أتذكر كنت بنياً ولون الباب رماني
    وكان السور قاتياً ومرأى الصحن مرجاني
    وكنت تشير ” بالكاذي ” وبالورس الغويداني
    وكنت مؤزراً بالطيب كالفجر الحزيراني
    وبالأحباب معموراً وكنتَ أحب جيراني
    تنث الشدو ” سعدياً ” وأحياناً ” قمنداني”
    أمن قلبي إلى سمعي تمد غرام ألحاني
    أمن صدري على صدري تلم فلول أزماني
    هل استوقدت أعراقي؟ أم استنفرت جدراني
    أحس تهدمي يهفو إلى نزعات شيطاني
    أشم عبير تاريخي وأسمع نبض عمراني
    فلا طيفي ” نجاشي ” ولا طيري ” سليماني ”
    أطعت زمان إسكاتي أأعصي الآن عصياني.
    وقد كان السياق يخاطب من قبل (بيوت الأحباب) وأصبح هنا يخاطب (بيتاً) بذاته وكانت غير محددة المكان تماماً فأصبحت هنا في موضع “القلب” (أيا بيتاً هنا في القلب) كما كان الحديث عن تلك البيوت يجري من خلال الحديث عن أصحابها الذين غيرهم الدهر، فأصبح الحديث عن هذا البيت من خلال صاحب القلب المخصوص، أي الشاعر، ومن خلال ذكرياته الخاصة عن صورة ذلك البيت الذي عرفه وغيره الدهر أيضاً فيما غير من المتغيرات.
    والبيت وصاحبه شيء واحد في الأصل، لكنهما ينفصلان إلى “منادي” و” منادى”. البيت منادى، ومع ذلك فهو يتحدث إلى الطرف الآخر فيما هو يصغي إليه. وهذا الذي يؤدي بهذا الطرف – المنادي – إلى اكتشاف نفسه واكتشاف واقعه واكتشاف أسباب انفصاله عن بيته الساكن / المسكون فيه.
    لقد اتخذت الغربة من قبل في السياق أشكالاً متعددة، وكانت تشكل موضوع شكوى متعددة الجوانب لكننا لم نطلع أثناء ذلك على ما يشير إلى أسبابها.
    وهاهي الأسباب تفصح عن نفسها الآن بصوت أحجار البيوت وبصوت ما تبقى من ذكرياته المسكونة فيه (أقول، يقول عني السقف..).
    وهي أسباب يلخصها سبب رئيسي واحد هو انفصام هوية الانتماء إلى الواقع وضده في آن معاً.
    وقد اختزل السياق التعبير عن حالة انفصام الهوية هذه بتشاطر النسب إلى الأبوة والخوؤلة المتضادين.
    الأب في طرف عنسيٌ وخال الأم في طرف باذاني:
    لأن أباك عنسي وخال الأم باذاني
    والعلاقة ما بين العنسي والباذاني علاقة تضاد تاريخية. لا يمكن لأحدهما أن يتعايش في ظل الآخر وبالتالي على أحدهما أن ينفي الآخر – بالقتل طبعاً- إذا أراد أن يثبت وجوده إثباتاً فعلياً.
    واثبات الوجود هنا لا يتم لمجرد إثبات الوجود المجرد بل للاستحواذ الضمني معه على مقتنيات وكنوز الطرف الآخر.
    وأول هذه الكنوز كنز ” أزاد” الثمين. درة الصولجان وقلادة عرش أرض سبأ.
    وقد اقتنى العنسي قلادة أزاد واستحوذ على وجوده بعد نفي وجود الثاني فكان سبباً لانتصار المقتول ونفي القاتل. وهكذا فقد أثمر هذا التضاد تضاد انتماء مكمل له. انتسب الواقع إليه / إلى هويتهما الواحدة المزدوجة. فأصبح الأب عنسياً والأم باذانية وتوزع في اتجاههما معاً وعاش على بقية انقسامه على نفسه.
    وإذن أي بيت هذا الذي تفتتحه الخصومة ويؤسس بنيانه انقسام هوية الانتماء؟ إنه متوازع في كل الجهات.
    والشاعر يبحث عنه في نفسه من خلال أطياف الذكرى ويحاول تذكر وجهه الذي كان فيمنحه أحلى ما في الوجود من الصفات. البن، الرمان، القات، المرجان، الورس الغويداني، الطيب، الغناء السعدي، الغناء القومنداني، وهي صفات كلها ذات خصوصية يمنية بعضها اكتسبت خصوصيتها اليمنية تاريخياً (المرجان، الورس، الطيب) وبعضها معاصرة (البن، الرمان، الغناء) وبعضها اكتسبت خصوصيتها اليمنية في القصيدة من قافيتها (الغويداني، القومنداني) مما لزم معه إيضاح دلالتها المقصودة بهوامش إضافية على النص، (راجع النص).
    وبصرف النظر عن توفيق السياق في تحويل كل أو بعض هذه الدلالات الخاصة إلى رموز عامة كما هو الشأن في توفقه في رمز العنسي وباذان السابقين، أم عدم توفقه فإن القصد من الحشد السابق يمكن أن يفهم منه على أنه توظيف لمعنى المحلية في رسم جنة خاصة يستهدف رسمها السياق وتأخذ تفصيلاتها من اليمن التاريخي والمعاصر معاً.
    أو لنقل بمعنى آخر أنها جنة بمعناها ودلالاتها التاريخية ولكن صورتها بالمكونات المذكورة آنفاً تقربها إلى صورة صنعاء البردوني التي تفجع عليها – في أشعاره مراراً – مما ألم بها من قحط وخواء 00 باسم التحديث والعمران 0
    وينصت السمع لرجع صدى الذكريات ويمعن في تنصته بالسؤال ولكن من دون جدوى. فقط يحس صوت التهدم الداخلي الذي يتفجر في أعماقه باسم العمران وباسم شيطان “المدينة”.
    ويتلفت من يمين ومن يسار فلا يرى شيئاً لا طيف نجاشي ولا طير سليماني. كل شيء في هذا الواقع المنفصم الشخصية يفتقد شخصيته بما في ذلك حتى الغزو المادي والروحي يفتقد شخصيته أيضاً.
    ويتعاضد – مع نهاية فقرة القصيدة الرئيسية – الإخبار والسؤال فيدلي الأول بحقيقته ” أطعت زمان إسكاتي ” ويكمل الثاني مؤداها ” أأعصي الآن عصياني “.
    ولو جاز أن نحصي – في آخر الأمر – ما أثمر عنه انقسام الهوية من نتائج فإن هذه النتائج تتلخص في كون ذلك البيت كان يدخل إلى القلب على شكل جنة ويخرج الآن – مع نهاية المعنى – بشكل سؤال يردد نفسه ” أأعصي الآن عصياني” ويعود السؤال ثانية للتقدم عل النداء في أول الفقرة الجديدة:
    أأدنو منك يامرسى شئوني ليس من شأني
    أتقرؤني أما تبدو فصولي غير عنواني
    لأن البحر غير البحر في قدميه أشجاني
    فلا كفاي من أهلي ولا الأمواج خلاني
    بحكم الوضع والعادات ألقاها وتلقاني
    بودي أن أحيل البحر وشماً تحت أرداني
    وأرحل تاركاً خلفي لأِّم الرمل أدراني
    وقد كان السياق ينادي من قبل بيتاً في القلب وكان السؤال التالي له يتجه إلى أكثر من معنى وأكثر من جهة في وقت واحد وتقدم هنا السؤال على النداء حاصراً تقدمه عليه بمعنى رئيسي واحد وألحقه من بعد سؤال ثان في معرض الإخبار واتخذ المنادى دلالة المرسى.
    وبذلك يسلمنا السياق إلى منادى خامس بعد المناديات الأربعة السابقة (الأشجار، البستان، المقهى، البيت).
    والمرسى من الرسو نقيض الإبحار أو إلقاء قلاع الإبحار والتوقف عن السير في البحر. وهذا المعنى الجديد يسلمنا إلى دلالة جديدة تضيء معنى السياق السابق وتجعلنا نتصور الرحلة السابقة من الأشجار إلى البيت عبر البستان والمقهى إبحاراً متواصلاً في مشوار رحلة واحدة.
    ومن الوجه المكمل تحيلنا هذه الدلالة الجديدة إلى دلالة أخرى أخذت تظهر في السياق التالي لها وهي دلالة البحر.
    والبحر – في السياق – يبدو بصورتين صورة أصلية تآلف الشاعر معها وأصبح يعرف البحر من خلالها وصورة أخرى مختلفة طرأت عليها بعض التغييرات وهي الصورة المجسدة في السياق سوى تغيرها.(لأن البحر غير البحر… إلخ).
    وفي ظل هذه الصورة المتغيرة يرى البحر غير البحر. وأداة التعريف ” ال ” للبحر في السياق أداة التعريف العهدية.. فكأن معنى التعريف المعطى للبحر هو البحر المعهود الذي سبق معرفته ذات يوم على نحو ما. وهذا هو البحر الجديد ذو قدمين لأن البحر غير البحر في قدميه، وذو أمواج (فلا كفاي في أهلي ولا الأمواج خلاني). والقدمان موضع لرمي الأشجان وبالتحديد أشجان الشاعر. وهذا يعني أن تلك القدمين كانتا تؤديان وظيفة محددة قبل التغير الذي طرأ على البحر، وأصبحتا الآن تؤديان وظيفة أخرى، تلقى تحتها الأشجان ، وهكذا بدلاً من أن تكون القدمان وسيلة للسير وقطع المسافات تحولتا إلى ما يشبه المكان الذي تلقى فيه الزوائد التي لا حاجة لها. أي أصبحتا متوقفتين وأصبح التوقف لا يخلو من تأسٍ.
    ومع هذا التغير بدأت تتغير كذلك الأحاسيس وأصبح الشاعر بدوره يغترب عن نفسه ويتنكر حتى لأطرافه ذاتها وينفي انتسابه أو انتسابها إليه (فلا كفاي من أهلي).
    ومن الوجه الآخر فإن الأمواج وهي سر ملكوت كون البحر واصل حركة مده وجزره التي تشكل كل شيء فيه، لم تعد كما كانت من خلان الشاعر ورفقته. غدا الشاعر واحداً في جانب وغدا البحر وأمواجه منفصلين عنه في جانب ثان.
    وهذا التحول هو الذي أفضى بدوره لكي يصبح الشاعر فصولاً لا تمت إلى عنوانها بصلة. أي أن هذا التحول في أبسط معانيه امتداداً لحالة الطلاق السابقة بين نسب الأب ونسب الأم المشار إليه، إنه الثمرة الطبيعية لمسخ المخلوق عن هويته.
    ولذا فإن السياق وهو يستخدم – كما رأينا – “لأن..”التعليلة” في معرض تحديده لأسباب الغربة في قوله:
    “لأن أباك عنسي..” يستخدم هنا كذلك ” لأن.. ” التعليلية في قوله لأن البحر غير البحر “.
    والتعليل الأول ” لأن أباك..” كان يرد عوامل الغربة في انفصام هوية الواقع عن نفسه إلى ازدواجية نسب الأب والأم وتناقضهما في التعبير عن معنى الحقيقة الواحدة فيهما، بينما التعليل – الثاني – هنا يرد هذه العوامل إلى علاقة المبحر ببحره والشاعر بقضيته والمواطن بوطنه.
    وهي في مدلولاتها جميعاً تصب فيما يمكن تسميته بعلاقة البنوة أو الوجه الآخر المكمل للهوية.
    والسؤال في بدايته ” أأدنو منك يا مرسى..” أي هل آن الأوان لكي ألقي شراع إبحاري كشاعر وأسكت؟
    وهو تماماً نفس السؤال السابق ” أأعصي الآن عصياني “.
    إن مضمون السؤالين يجعلنا نؤلف من شقي دلالتهما الوحدة دلالة أخرى ضمنية، وهي أن الشعر بمعنى من معانيه ” عصيان”. عصيان القبول بالأمر الواقع وعصيان مهادنة النفس على قبولها بالأمر الواقع.
    والعصيان بهذا المعنى هو الحل، الوجه الآخر النقيض للواقع، ذاته. هو الرغبة في نسف الواقع المشوه من جذره وإعادة تشكيله من جديد.
    والشاعر وهو يعاني من انفصام ” بنوته ” بذلك البحر الذي لم يعد غير البحر الذي عرفه وأحبه وأكسبه هوية الانتساب إليه، لا يسلم كما هيئ لنا في البداية بذلك السؤال: أأدنو منك يا مرسى؟ وإنما يطالعه شوق آخر مضاد:
    بودي أن أحيل البحر وشماً تحت أرداني
    وأرحل تاركاً خلفي لأم الرمل أدراني
    انه يعي بأن تحول الأشجار – السابق – عن وظائفها في الحياة وأن قبول ” البستان ” بسلطان القحط، وأن التغرب عن الذات بكل مظاهره المختلفة، ماهي سوى ” أدران ” تعْلَق بالنفس أو بالوجه أو بالأصابع من جراء ” عرق” الإنسان في معاناته للوصول إلى الحلم، ولذا فإن الحلم حين يصبح ” بحراً أو ” وشماً ” يرسم تحت ” الأدران”، ولنلاحظ في ذلك التشابه اللفظي بين المتضادين، فإنه وحده الكفيل بتطهير مظاهر تلك الأدران المستنقعة.
    وعند هذه النقطة يحدث التفات من السؤال إلى النداء ويقدم النداء ويؤخر السؤال على هذا النحو:
    ألا يا كائنات الشوق أين ترين شطآني
    أناديكن: من لبّى؟ ومن يا صمت ناداني؟
    وهل هذا الذي أجتر كالأنقاض جثماني؟
    أيا هذا لمن تهذي؟ أهذي صخر إذعاني
    أما استنطقت أشباحاً بل استنطقن إمعاني
    أتسأل طالباً رداً؟ أليس الحل إنساني
    أما للموج طوفان؟ وهذا الهجس طوفاني.
    وقد اشتق عن النداء الرئيسي ” ألا يا كائنات الشوق ” ندائين إضافيين. أحدهما ” ومن – ياصمت – ناداني “. والنداء هنا اعتراضي. والثاني ” أيا هذا لمن تهذي.. !! ” تعبير عن نوع من الحوار الداخلي مع النفس.
    ” وكائنات الشوق ” إيقاع سادس في نفس جوقة النداءات السابقة.. وقد نشأت فكرة النداء هنا كرد فعل على نداء ” المرسى ” السابقة.
    وفيما كانت فكرة (المرسى) تطرح نفسها كتعبير عن حالة من السآمة المؤقتة، تطرح (كائنات الشوق) نفسها كتعبير نقيض يتجه إلى المستقبل البعيد، والتعبير الضمني أثناء ذلك عن الاستعداد المفتوح في الانتظار، ولكن مع حث الأشواق على التسارع والتعجيل بمجيء الآتي المرتقب.
    و ” المرسى ” كان ينطوي على معنى التوقف عن الإبحار، ولم ينطو في نفس الوقت على أي تحديد لمعنى هذا التوقف. أما النداء في الفقرة الأخيرة فيربط تساؤله اللاحق بتحديد الشواطئ التي ينتهي عليها الرسو (ألا يا كائنات الشوق أين ترين شطآني). والشواطئ تشير ضمنياً إلى معنى الوصول للجهة – أو الجهات – المقصودة بالإبحار، وهي الحلم.
    والسياق لا يطلعنا على معنى (الكائنات) المناداة، في الوقت الذي نطالع في هذا السياق معنى (الشوق) بصور متعددة من خلال مضامين السؤال المتتالية فيه: أين ترين شطآني؟ من لبى؟ ومن.. ناداني؟ وهل هذا الذي أجتر جثماني؟ …..إلخ.
    غير أن الشوق يحدد ضمنياً معنى (كائناته).. وقد رأينا كيف أن هذا الشوق تلبس – في بادئ الأمر – أحلام (الأشجار) في العودة إلى أغصانها، وفي كتابة تاريخها – الجديد -الخاص، كما توسوس به رغباتها. ورأينا – ثانية – أن هذا الشوق يمتزج بمعنى (البحر) ويتطلع إلى حالته إلى (وشم) يطهر بمائه العذب ” (أدران ” الرمال الآسنة.
    وهاهو (الشوق) – ثالثة – يتداخل بمياه بحره / حلمه الواسع، ويصبح منتهى غايته رؤية (شطآنه) من غب هذا الحلم المتداخل فيه، ليلقي على ضفافها مرساه.
    أي أن ” كائنات ” هذا ” الشوق ” هي كائنات بحره حلمه الواسع من حوله، وأنه فيما يتطلع إلى ” شطآنه ” يتطلع إليها بعيون كائنات بحره الواسع كلها. وإن كانت المسألة التفصيلية التي يعني بها السياق هي التساؤل عن من لبى من هذه الكائنات نداءه، وعن من ناداه فيها، ليقيس في ضوء ذلك المسافة – النهائية – الفاصلة بين العيون المتشوقة وأحلامها.
    وفي نهاية الأمر فإن المدلول الكلي لسياق القصيدة الكامل يصب في بلورة معنى ضدي نقيض، هو ما يشير إليه عنوان القصيدة بالاسم (كائنات الشوق الآخر). ولإيضاح هذه المسألة تماماً يمكن النظر ثانية إلى الصيغة الخاصة التي تآلف فيها السؤال بالنداء، وشكلا من خلالها صيغة السؤال الثالثة التي سبق الإشارة لها مع بداية الموضوع.
    لقد ارتكز السياق – كما رأينا -على ستة محاور، شكلت مجتمعة صيغة تآلف السؤال بالنداء على امتداد السياق.
    واتخذ التآلف المذكور هذه الصورة المجملة:
    أأستفتيك يا أشجار؟
    أيا بستان هل تصغي؟
    أأستبكيك يا مقهى؟
    أيا بيتاً هنا في القلب كيف أبث تحناني؟
    أأدنو منك يا مرسى؟
    ألا يا كائنات الشوق أين ترين شطآني؟
    أي أن الفقرات الست في نهاية الأمر هي مؤالفة السؤال بالنداء من خلال تقديم أحدهما على الآخر، في كل مرة من المرات الست. وقد تقدم السؤال في المرة الأولى، وتقدم النداء في المرة الثانية، وعاد ليتقدم الأول، ثم تأخر.. وهكذا.
    والمحصلة الإجمالية تقدم السؤال على النداء اتخذ هذه الأحوال:
    ا أستفتيك..؟ ا أستبكيك..؟ ا أدنو منك…؟
    والمنادى في هذه الأحوال على التتالي: الأشجار، المقهى، المرسى.
    والمحصلة الإجمالية لتقدم النداء على السؤال أتخذ هذه الأحوال أيا بستان..، أيا بيتاً…..، ألا يا كائنات الشوق… !
    والسؤال فيها على التتالي:
    هل تصغي؟ كيف أبث تحناني؟ أين ترين شطآني؟
    وموضوع التساؤل في الصيغة الأولى:
    الاستفتاء.
    الاستبكاء.
    الدنو.
    وموضوع التساؤل في الصيغة الثانية:
    الإصغاء.
    بث الحنان.
    رؤية الشطآن.
    ومن خلال لفظ السؤال، في هذه الأسئلة جميعاً، نستطيع تحديد شكل من أشكال العلاقة بين السائل والمسئول. والعلاقة بين الأشجار المستفتاة والشاعر المستفتي هذه الأشجار علاقة (إفتاء) أو (استنصاح)، فكان المفتي يمثل قيمة نموذجية مرجعية و(المستفتي) مستنصح يستهدي بنصحه.
    وسبب الاستفتاء هنا شكوى واقع الحال التي غدا معها الشاعر / المستفتي يرى نفسه (شجرة) تحمل غير أغصانها من جهة، وفي ذات الوقت يرى نفسه، بما هو فيه، قابلاً على أن يحقق معناه وذاته المنشودة بأوسع ما في نفسه من الأحلام، من جهة ثانية.
    وموضوع السؤال / الاستفتاء في هذه الحال هو كيفية تحقيق الوجهين: استعادة الذات وتحقيق حلمها. وقد اكتست الشكوى واكتسي الإفصاح عن الحلم في السؤال طابع العلاقة المعنوية المشتركة بين السائل والمسئول، والمنتزع من معنى الأشجار. ومعنى ذلك في نهاية المطاف أن السائل والمسئول يمثلان شيئاً واحداً في حقيقة الأمر، والغرض من السؤال إيضاح ما تعانيه الأشجار في الواقع من أنواع التغريب، وما تكتنز به رغم ذلك من دفئ الأحلام.
    والعلاقة بين (المقهى)، الطرف الثاني في السياق، وبين الشاعر هي (الاستبكاء)، أو طلب البكاء. واستبكاؤك الشخص طلبك البكاء منه لأي سبب من الأسباب.
    وسبب طلب البكاء هنا كان – كما رأينا لامتلاء قلب الشاعر بالأحزان التي استعاد معها أحزان الماضي، وأصبح حزنه لذلك مضاعفاً من حزن الحاضر والماضي على السواء.
    والمقهى لا يمكن استنتاج دلالاته الدقيقة في السياق تماماً، ولكن المقهى أثيرة في شعر البردوني على الدوام، ويتم تردادها والإكثار منها لمرادفتها لمعنى الفراغ والتجوف واللغط الأبله بدون طائل.
    وهي بهذا المعنى تساوي تلك الأغصان الطارئة الشاذة التي كانت تحملها الأشجار السابقة، وتنطبق عليها نفس صفاتها الخاصة (كومض الآل.. وكلغوا السكر)
    وفيما يستبكي الشاعر المقهى على أحزانه الخاصة، يستبكيها ضمنياً على أحزانها في ذات الوقت بل قد يكون الاستبكاء هنا مقصوداً به الطرف الأخير… لأن وجودها الطارئ في الحياة اليمنية لا يمثل علاقة على التطور للأفضل، ولكن يعيد إلى الأذهان ذكرى بني عثمان ” الآيلة، ويثير في النفس مجدداً أحزان الماضي ثانية.
    وليس ثمة علاقة مباشرة بين (المرسى) الطرف الثالث في السياق – وبين الشاعر، إلا من حيث كون ” المرسى” مضاداً “للبحر” الذي تربطه بالشاعر علاقة خاصة.
    والسؤال أأدنو منك يامرسى ينطوي ضمنياً في معناه على سؤال – آخر – يكمل الأول (أم لا أدنو؟ ) والباعث على السؤال التغير الطارئ في علاقة البحر بالشاعر. وهو تغير يحمل في ثناياه نفس ملامح التغير السابق في الأشجار.
    وكما كان الشاعر يشعر بأنه شجرة تحمل غير أغصانها في السابق أصبح الآن يشعر بأن أشجانه لم تعد هي أشجان بحره السابق، ولم يعد لذلك كما كان – موجة في أمواج بحره لقد أصبح موجة على الرمل الذي يطمح أن يطهر أدرانه. ومعروف بالطبع ماذا يؤل إليه شأن موجة على رمل في النهاية. وباختصار: فقد أدى هذا التغير بشقه الثاني – إلى إفقاده محتواه الخاص الذي كان يدل عليه من قبل.
    أي أنه جرد في السابق من معناه كشجرة، وجرد لاحقاً من انتمائه لبحره. وفي السابق كان هو المستهدف، وأصبح المستهدف لاحقاً بحره. وبذلك تكامل الوجهان، واستلب في ذاته وانتمائه معاً.
    ولئن كان يشوق في السابق لاستعادة انتمائه، فيصبح حلمه مزدوجاً. خاصاً وعاماً. أي يصبح كغربته الخاصة والعامة المزدوجة تماماً.
    وهكذا يمكن القول: أن الغرض الرئيسي من تقديم السؤال على النداء يستهدف بدرجة رئيسية الوصول إلى هذه الغاية، غاية شكوى الواقع وتجسيد مظاهر الغربة فيه. وغاية تجسيد الحلم، الوجه النقيض ، في ذلك الواقع، للغربة.
    ومن الوجه الآخر فإن لفظ السؤال في صيغته تقديم النداء على السؤال ، قد اتخذ في حالاته الثلاث السابقة الدلالات الآتية: الإصغاء، بث الحنان، رؤية الشطآن.
    وهي دلالات تنم عن انمحاء الفواصل بين طرفي الخطاب الرئيسين: المنادي والمنادى. أو الشاعر والظرف المتوجه إليه بالسؤال.
    والمنادى في الحالات الثلاث، كما رأينا، كان بهذا التتالي: البستان، البيت، كائنات الشوق. ومعنى ذلك أن ثمة علاقة خاصة ما، يمكن ملاحظتها ما بين المنادى هنا والمنادى في الصيغة السابقة، وتتخذ هذا النحو من التداخل الأشجار / البستان، المقهى / البيت، المرسى/ كائنات الشوق.
    والعلاقة بين الأشجار والبستان علاقة جزء بكل، بحيث لا يمكن فصل الثاني عن الأول، لأنه لا يكون إلا به ويمكن تصور مجموعة من الأشجار في أي مكان، وقد لا تكون بستاناً ولكن من الاستحالة تصور بستان من دون أشجار. وعلى حين تكون الأشجار أساساً لتكوين البستان، فإن معنى البستان يضفي عليها خصوصية أكثر تحديداً، ويضفي على دلالتها معنى السقي والتشذيب والاعتناء والرعاية… الخ.
    والأشجار قبل أن تصبح بستاناً في سياق القصيدة كانت تحمل غير أغصانها ولا تعطي ثماراً ذا نفع أما وقد تحولت في السياق إلى بستان فإنها أصبحت تعاني من قانون القحط العام. والقحط هو عدم الإثمار بسبب الجدب وقلة أو انعدام الماء.
    وهذا يعيدنا ضمناً إلى معنى البحر لأن البحر في آخر المطاف هو الماء. وهكذا فسبب القحط، وبالتالي تساوى الموت واللاموت التي نوه إليها السياق، كما رأينا، راجعة في أساسها إلى كون البحر لم يعد بحراً، وهكذا بدوره أدى إلى القحط وإلى شل الحياة.
    وحالة الموت المذكورة الناجمة عن تغير البحر، أفضت بدورها في السياق، كما رأينا أيضاً، إلى تحول البيوت إلى أطلال يقف الشاعر عليها متسائلاً عن سكانها، وعن عناقيد ذلك البستان ورياحينه.
    أي أن الرحيل عن الديار لم يتم في الأصل إلا بعد أن هيمن القحط، وكف ذلك البستان عن أن يثمر بشيء، وهذا بدوره يعيدنا إلى قصة تبدد ” أيادي سبأ ” في الأرض، بعد خراب جنتيهم التي يسميها السياق هنا بستاناً.
    واذن فالأشجار / البستان ثنائية معنوية يستهدف السياق التعبير بها في شقها الأول (الأِشجار) عن الحاضر ويستهدف بها في شقها الثاني ” البستان ” التعبير عن الماضي والمعنى الضمني لتزاوج الماضي بالحاضر.. يمكن استنتاجه من خلال معنى (الحلم) الذي وإن ورد كما رأينا في السياق، كمضاد لمعنى الغربة في الحاضر المشكو، إلا أنه تطلع في ذات الوقت لاستعادة الماضي المجسد في صورة ” البستان “. كما يصبح شكوى الحاضر هنا، لا يستهدف الغربة في دلالتها الحاضرة وحسب، ولكن يستهدف الغربة من حيث هي أسباب معرقلة للحلم المتطلع إلى استعادة الماضي ووصله بالحاضر.
    وحين يتقدم السؤال على النداء فإن صيغة النداء تتخذ (يا أشجار) وذلك لقربة من المنادى، وكونه يعيش معه في دائرة الحاضر القريب. أما حين يتأخر السؤال ويتقدم النداء فذلك يعطيه الفرصة لمد صوت النداء (أيا)، والوصول بواسطة هذا المد إلى الماضي البعيد “بستان” والاستفتاء وأن صبت دلالياً في توحيد الطرفين المنادي والمنادى ببعضهما، إلا أنها تنطوي كذلك على معنى تباعد المنادي عن طرف المنادى، فيصبح هذا الأخير بمنزلة أعلى من منزلة المستفتي، وذلك بسبب أن الواقع غرب من فيه وألبس الطرف الأخير وجهاً غير وجهة الحقيقي وجعله يتعامل مع الأول بغير حقيقتهما الواحدة.
    في حين أن الشاعر هو يخاطب ” البستان ” أو يناديه، يشعر بقدر أعلى من الاستئناس، ويخاطبه رغم بعده كمن يخاطب نداً له في مجلس واحد، بقوله ” هل تصغي ”
    والعلاقة بين (المقهى) والبيت علاقة تضاد.المقهى لا تلجأ إليه إلا في حالات خاصة من السأم وطلب الاسترواح، والبيت مقر استئناسك الدائم بنفسك. والمقهى في دلالته المشار إليه سابقاً نقيض لمعنى البيت الذي يعني التأصل والتجذر في الأرض. وبعد ذلك فالمقهى يندس في أي زاوية أو مكان ما من أماكن المدينة الواسعة، ولكن البيت المخصوص في القلب، كما قرأنا في السياق.
    والأهم أن المقهى يرد في السياق كمناقض لمعنى الأشجار السابقة له، ويرد تالياً لها بقصد تأكيد غربتها الخاصة في واقعها. وترد البيت من الجانب المقابل كامتداد لمعنى (البستان) السابق له. بل أن خصوصية البيت المشار إليه مستمدة من ترابطه بمعنى البستان. وقد رأينا السياق في معرض تفصيله لذكرى هذا البيت لا يلتفت تقريباً إلى وصفه من الداخل، ولكن يصفه من خلال البستان الذي حوله، فيصبح البيت وبستانه شيئاً واحداً.
    وفيما يكون موضوع سؤال المقهى هو ” الاستبكاء “، يكون موضوع سؤال البيت هو الحنان. وقد اتخذ الأول الهمزة أداة للسؤال، وأصبح المعنى أأستبكى أم لا استبكي وجعل الثاني أداة سؤاله ” كيف “، لانطوائها على ما لا يحصى من طرق بث الحنان ”
    واتخذ النداء الأول (يا) للقريب، واتخذ الثاني أيا لنداء البعيد… رغم أن المقهى في الخارج، والمنادى البعيد الثاني في القلب.. تدليلاً على كونه منادى حلم.
    وقد انتهى سؤال الأشجار والمقهى إلى سؤال طرف ثالث يمثل حالة وسطى، تضع حداً نهائياً لثنائيتهما المتضادة، وهو ” المرسى ” وانتهى سؤال البستان والبيت إلى سؤال طرف ثالث يكملهما، وهو كائنات الشوق “.
    وهكذا فقد أدى تقدم السؤال على النداء إلى تضاد المنادى التالي له الأشجار/ المقهى وجاء المنادى الثالث ” المرسى ” ليكون بمثابة نهاية لتضادهما، في حين أدى تقدم النداء على السؤال إلى تكامل حلقات المنادى التابع له البستان / البيت / كائنات الشوق.
    وبينما كانت أداة النداء في الصيغة الأولى للقريب “يا” ولفظ السؤال ينم عن انفصال المنادي عن المنادى الاستفتاء / البكاء / الدنو، فإن أداة النداء في الصيغة الثانية تنم عن البعد ولكن لفظ السؤال “هل تصغي؟ كيف أبث / أين قرين ” ينم عن القرب.
    على أن النداء في الصيغة الأخيرة يتخذ شكل حركة من الخارج إلى الداخل، فيبدأ في أول الأمر بالنداء البعيد إلى الخارج ” أيا بستان هل تصغي ” ويرتد إلى الداخل ” أيا بيتاً في القلب كيف أبث تحفاني ” ثم يرتد ثالثة إلى التطلع في الأفق الخارجي البعيد الذي لا يعرف اتجاهه أو مكانه على وجه التحديد، ولذلك يتغير شكل النداء هنا، وتسبق ” ألا ” الدلالة على التنبيه أداة النداء ” يا.. ” كما يتخذ السؤال أداة ” أين ” التي تدل على اللاتحدد المكاني، وبالتالي تنطوي ضمنياً على اللاتحدد الزماني.
    وفي ضوء دلالة البستان والبيت الأخيرة التي رأيناها تفصح عن نفسها – مؤخراً -، يكتسب الشوق من خلالها بعداً إضافياً جديداً إلى بعده المنوه إليه آنفاً، ويصبح شوقاً لاستعادة (جنة) الماضي التي حالت الغربة في الحاضر دون ” قطافها “.. رغم المعاناة وسقيها بأشواق الدماء، كما رأينا ذلك في بداية مطلع القصيدة.
    وفي المؤدى الأخير فإن الشوق إلى تلك ” الجنة ” يبدو هنا شوقاً (آخر) مختلفاً عن الشوق الذي كان، وأدى فيما أدى إلى سقوط الحاضر مغترباً في نفسه، للأسباب التي تتساءل عنها القصيدة في بادئة أمرها، وتجلوها من ثم بشكل أوضح في سياقها اللاحق.
    وهو شوق آخر جديد لأنه سيصل المستقبل بالماضي، بصورة يتم فيها تجاوز الحاضر، ويندمج فيها الشوق بالحلم، كما تتواصل فيها الأشجار ببحرها، فتسترد أغصانها الحقيقية المتغربة، ويخضر من ثم البستان العظيم ويعود للبيت المهدوم أركانه وباختصار: يصبح في ظله المستقبل امتداداً للماضي وتطويراً للأجمل فيه، وليس محاصراً بانقطاع أرومة النسب، ويعاني كالحاضر من انفصام هوية الانتماء للذات وضدها في آن معاً
    وإذا كانت الصيغة الأولى من السؤال تمهد، كما رأينا، لموضوع القصيدة الرئيسي، ولكن بصورة يضطلع فيها السؤال بالتخفيف من حدة التقرير الذي ينطوي عليه التمهيد، وتواصل بعدها الصيغة الثانية فكرة التمهيد ذاتها، مع إجابتها الضمنية على الأسئلة السابقة المطروحة، بردها إلى قوة اللامنطق المسيرة للوجود والحياة الإنسانية، فإن الصيغة الثالثة من السؤال تواصل ظاهرياً سياق الصيغة السابقة لها من جهة وتلجأ أثناء ذلك إلى تفصيل مظاهر قوة (اللامنطق) في الواقع المخصوص للشاعر، وإلى البوح برغباته المضادة لما في الواقع بشكل حلم.
    ومن الجهة الأخرى تلجأ إلى تذكر الماضي الجميل الذي كان.
    وهناك يصبح لمعنى تذكر الماضي قيمة مزدوجة، حيث ينطوي معناه على المفارقة مع ماهو قائم، وهذا بحد ذاته يعمق من معنى الغربة المشكوة في الحاضر، وفي ذات الوقت ينطوي معناه الجميل على بلورة وجه الحلم الذي كان يفصح عن نفسه بصورة مباشرة من قبل، مما يجعل من الوجهين، الحلم المفصح عنه والحلم الضمني في الحنين إلى الماضي، يشكلان شيئاً واحداً يصب في معنى ” الشوق الآخر ” المقصود في العنوان
    ومن خلال تمازج صيغ التساؤل الثلاث ببعضها تأخذ القصيدة في نهاية الأمر قوامها وأبعادها التفصيلية ومن ثم بناءها ووحدتها الكلية.
    ويمكن اختصار كل ما سبق بالتعبير عن صورة بناء القصيدة على هذا النحو:
    تساؤل مركب (سؤال ظاهري = تقرير ضمني)
    تساؤل بسيط (تعميق صيغة السؤال السابق + إجابة ضمنية على السؤال، أو الأسئلة السابقة)
    تمازج النداء بالسؤال (سؤال + نداء) = (صورة الواقع + صورة الحلم) + (نداء + سؤال) = (الماضي المضاد للحاضر + الماضي المكمل لحلم الحاضر)
    والقصيدة بصورتها التي رأيناها توضح الطور التجريبي الذي وصل إليه البردوني في محاولاته المختلفة لتطوير قصيدة البيت، كما تؤكد بصفة تامة ما سبق تكراره من قبل عن نزوعه إلى إثبات مقولته النقدية – الشائعة – عن إمكانية التجديد الشعري خارج لعبة الشكل الخارجي للقصيدة. أعني التجديد حتى في ظل الشكل القالبي البيتي للقصيدة.
    ولا شك أن البردوني قد أفلح في هدم الموضوع التقليدي لقصيدة البيت وحلق هو يعبئ قصيدته بموضوعه الخاص الجديد كما يحلق أي شاعر آخر مقتدر. والدليل على ذلك أنني كقارئ للقصيدة قرأت ما قرأت فيها من الدلالات. وهذا بالطبع من حقي، كما هو من حق أي قارئ آخر للديوان أن يقرأ فيه ما يريد قراءته منه، بما في ذلك حتى لا يقرأ منه شيئاً إذا أراد.
    ولكن السؤال الذي قد يطرحه من يرى أن القصيدة البيتية لم تخلق إلا للغناء، قد يكون على النحو التالي: هل أفلح البردوني مع ذلك في أن يحتفظ لقصيدته بنفس جماليات وشاعرية قصيدة البيت الغنائية المعتادة؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي فإن السؤال المكمل الذي قد لا امتلك الإجابة عليه هو:
    هل يمكن أن تتم قراءة دلالة القصيدة أي قصيدة – بمعزل عن جماليتها التي تصنع دلالتها، انطلاقاً بالطبع من أن التلقي والقراءة والدلالة أمور لا يمكن فصلها عن بعضها؟
    ورغم أنني قد قرأت القصيدة مخلصاً وانتهيت إلى ما انتهيت إليه من دلالتها الخاصة إلا أن المسألة التي لا يمكن أن أحسمها مطلقاً، مع نهاية هذه القراءة، هي:
    ما إذا كان قد تشابك أثناء قراءتي للقصيدة – دلالة حب البردوني بغيره من الدلالات الأخرى المقروءة في النص. رغم حرصي الشديد على الفصل بين الشاعر وأثره (أقصد نصه)
    وأن يكن قد حدث التشابك المذكور، رغماً عني، فهذا يقوي، بلا شك، الاعتقاد الذي يذهب إلى القول بصعوبة الفصل بين النص وكاتبه وقارئه.
    عن صحيفة (الثقافية).. “من كتاب عن البردوني للكاتب”

  • 419 الكتابة النقدية عند البردوني “سماتها وتوجهاتها العامة”… الدكتور حيدر غيلان

    >  الكتابة النقدية عند البردوني “سماتها وتوجهاتها العامة”… الدكتور حيدر غيلان

    مثل تميزه في الشعر كان للبردوني تميز في الكتابة النقدية عن معاصريه من النقاد، سواء أكان هذا التميز ايجابيا أم سلبيا، المهم أن للبردوني في جهوده النقدية ملامح بارزة على مستوى الاسلوب وعلى مستوى القضايا والآراء، وسوف أحاول في هذا الحيز تقديم لمحة موجزة عن هذه السمات العامة في كتاباته النقدية بشكل خاص والنثرية بشكل عام.
    تعدد مصادرتها النقدية:
    فقد اقترب البردوني من الاتجاه الرومانسي والمنهج النفسي في اهتمامه بتفسير عملية الابداع، من خلال الحديث عن مراحل الإبداع، ودور المبدع والمحفزات الإبداعية فهو يؤكد أن للإبداع محفزات منها: الطبيعة بما تحمله من مؤثرات وعوامل الحزن والفرح والكبت والتعويض والتوتر، ولكنه يرد الاستجابة لهذه المؤثرات إلى ملكة الاستجابة لدى المبدع فقد يستجيب لمؤثر ولايستجيب لآخر. وتناول غموض العمل الإبداعي وردها إلى عوامل نفسية في المبدع، ونظر إلى العمل الإبداعي بعد صدوره من المبدع على أنه كائن آخر، فلايستطيع المبدع تفسير الحالة التي قال فيها إبداعه، ولايجوز له تعديل هذا العمل لأنه أصبح خارج لحظة الإبداع “1”.
    واهتم بالعلاقة بين الأدب والمجتمع لكنه لم ينطلق من ايديولوجيا محددة في التزامه الأدبي، فهو -أحيانا- يرى أن الأدب انعكاس للمجتمع يصور مايدور فيه -وأحيانا- يرى ان الأدب يؤدي إلى التغيير والإصلاح، ومرة يراه تابعاً لتغيرات المجتمع. وقد كانت تطبيقات البردوني النقدية مترجمة لهذه الرؤية فجاءت معظم مقالاته وفصول كتبه تتناول المضامين “الاجتماعية” “2”.
    ومن خلال قراءة البردوني -كما يبدو- لافكار تين وسانت بيف، حول أهمية البيئة وأثرها في الأدب، نجد أنه ومنذ مطلع السبعينيات يقدم رؤية حول أهمية المكان في الشعر واستمر في الكتابة عن تأثير المكان في كتب ومقالات متعددة، ولم يقف عند المكان، بل امتدت معالجاته لتشمل الخصائص التي يمتاز بها أدب مافي مكان وزمان محددين “الاجتماعية” “3”.
    وإلى جانب هذه التوجهات نجد تأثرا واضحاً بالنقد القديم ونقاد عصر الاحياء – كما سنلاحظ لاحقا.
    الجرأة في طرح الآراء وإثارة المعارك الكلامية:
    يمتاز البردوني بالجرأة في طرح القضايا والآراء الخلافية التي أثارت معارك نقدية، وكانت أهم الآراء التي أثارت ردوداً واسعة للنقاد في اليمن رأيه عن الخصوصية المحلية في الشعر اليمني وخاصة شعر الزبيري. وأراؤه في التجديد والقصيدة الجديدة، وتعليقاته على بعض الكتابات الشعرية والنثرية.
    فقد كتب البردوني مقالة ذكر فيها ان الشعر اليمني وخاصة شعر الزبيري يخلو من الخصوصية المحلية ولايشم قارؤه روائح اليمن، ونشر ماتحتويه هذه المقالة من آراء ضمن كتاب “رحلة في الشعر اليمني”، فتوالت الردود مفندة هذه المقالة وتذكر الأدلة التي تثبت خطأ البردوني الذي قام بدوره بتناول اهمية الخصوصية المحلية وقيمتها في الأدب في كتابات متعددة “1”.
    وقد شكل البردوني أحد اطراف الصراع بين القديم والجديد “2” فكانت آراؤه في القصيدة الجديدة تثير ردوداً واسعة من قبل شعرائها ونأخذ مثلا قول البردوني في إحدى المقابلات الصحفية: ان المصابيح الكهربائية تدلت على شوارع العاصمة في الستينيات وبدأت السيارات تعبر شوارعها في الستينيات ايضا إذا صح أن هذا تغير فسوق يتغير شكل شعرنا في السبعينيات لأن الجديد مازال مجرد شكل، والأشعار الجديدة التي ظهرت ليست من بيئة اليمن وإنما من أثر التعليم في الخارج “3”.
    فتوالت ردود شعراء القصيدة الجديدة متهمة البردوني بالوقوف ضد التجديد، وأنه بدأ يشعر بغربة الشكل التقليدي.
    ويعلق البردوني على هذه الردود قائلاً: أصحاب الشعر الجديد مايزالون غير واثقين بفنهم على تمكنه وجودته لهذا فهم يبحثون عن الاعتراف الكامل به، فهم يحسون أن الشعر المرسل قد أصبح فن العصر، وعندما تفاجئهم مناسبات اجتماعية يلاقون الإقبال الجماهيري على القصيدة العمودية الجيدة فيحسون أن فنهم مايزال يلاقي منافسا قوياً من الشعر العمودي، والحقيقة ان الشكل غير هام في الشعر وإنما المضامين الاجتماعية هي موضع الاهتمام وغاية رسالة الشعر وإلى جانب المضمون الأسلوب الشعري الدال على الاصالة بكامل معناه وهذا موقفي من الجديد. “4”
    وقد كان للبردوني بعض الآراء التي تثير أصدقاءه وزملاءه النقاد وتدعوهم للرد على مايطرحه من آراء في كتبهم، يقول الدكتور عبدالعزيز المقالح في رده على الحلقات التي نشرها البردوني متناولا كتابه “شعر العامية في اليمن” وقد كان بيني وبين الصديق الكبير مداعبات خفيفة على البعد، ويبدو أن القرب سوف يزيد من تلك المداعبات ويوسع من دائرتها.. وقد رحل الصديق الكبير في كتابي خمسة أيام وكان حصاد هذه الرحلة خمس نقاط نشرها في ستة أعمدة من الصحيفة وفيها -أي تلك النقاط الخمس- من الخلط والتغابي مايدفعني إلى وقفة قصيرة.. “1”.
    أما الشاعر أحمد الشامي فقد نشبت بينه وبين البردوني معركة كلامية أسفرت عن تأليف كتابين هما “من الأدب اليمني نقد وتاريخ” سنة 1974م و”مع الشعر المعاصر في اليمن” سنة 1980م، تناول في الكتاب الأول كتاب “رحلة في الشعر اليمني” للبردوني وفي الثاني عرج على شعر البردوني.
    ويبدو أن آراء البردوني في كتابه “رحلة في الشعر اليمني” عن شعر أحمد الشامي هي التي دفعته للرد، يقول البروني: وأحمد الشامي من مدرسة الزبيري كماقلت، وإن كان أقل انتسابا إلى القديم البعيد، فآثار العصر أغلب عليه موضوعاً وأسلوباً لكنه كما توحي مقدمة ديوانه “النفس الأول” يجمع بين السلفية والعصرية والتواضع والغرور، ولعل الغرور اصدق عليه من التواضع، فبعد أن تكلف التواضع بانبائنا بان شعره لم يؤد مافي نفسه وبعد أن أثبت شعراء ونفاهم في نفس الوقت أخذه الغرور فقال “لقد قلت شعراً” يستحق النشر، قرضوه إن شئتم بالألسن أو بالأنياب والملاحظ على هذه المقدمة بقلم الشاعر أنه يقول: إن قصائده لم تؤد مافي نفسه لكن كيف يمكن للشاعر الأصيل أن يذكر الحالة التي قال فيها كل قصيدة؟ “2” ويقول البردوني عن الشامي في مكان آخر من رحلته:.. وقد كان له “اي الشامي ” قبل سجن حجة قصائد تعد بشاعر ممتاز.. ولما استضاف سجن حجة “أحمد الشامي” في من استضاف وجدنا شعره يخفت ويغمض كثيراً، وقد تحدث عن هذا في مقدمة ديوانه “النفس الأول” فقد أحس ان اشعاره لاتنقل مشاعره ونحن نحس معه أن ألفاظه لا تدل ولاتوفي وأن جهوده المتواصلة لم تؤد ثمارها المرجوة على أوراقه “3”.
    ويواصل الحديث عن شعر الشامي قائلاً: اننا نقرأ قصائده وبالاخص الطوال فتنظر متى سيتجلى هنا؟ أو متى سوف يلوح؟ وينظر هل هو غامض العبارات؟ وما سبب الغموض؟ ان الغموض يأتي من امتلاء النفس بالمشاعر أو من خلو الرأس من الافكار “1”
    ويصل إلى هذه النتيجة: تدل نصوص أحمد الشامي على انه يريد ان يقول شيئاً فلا يقول المراد ولا يومي إليه على طول مرانه وحبه الشديد للشعر “2”.
    وهذا ما يفسر رد الشامي العنيف الذي تناول البردوني شاعراً وكاتباً وانساناً ، فهو يقول على سبيل المثال: بل لمست ان البردوني قد بدأ يحس بخلو الميدان من فرسان البيان في اليمن.. فحدا به الظن إلى الاعتقاد بأنه أمير شعراء اليمن وانه مغرية وطه حسينه وبشاره وهومبروسه.. وظللت فترة طويلة مشغولاً عنه بنفسي وبالتأليف والضرب في مناكب الأرض، وإذا قرأت اسمه في ذيل قصيدة مررت عليها مرور الكرام ثم تجاوزتها إلى صفحات أخرى اغراز للوقت.
    ويعلق على كتاب البردوني “رحلة” قائلاً: لقد كانت الرحلة ممتعة وكنت أظن أنها ستكون في ربوع اليمن فقط فإذا بها تطوف بي اصقاعاً أخرى، حقاً إنه كتاب ممتع، قرأته للمرة الأولى، وإذا بها تشدني إليه، فقرأته ثانية وثالثة وظللت أرجع إليه بين الفينه والأخرى ولكن بألم، وأسى، وكأن البردوني لم يحاول في “رحلته” مراجعة الأصول الأدبية قديمها وحديثها ولذلك فقد فاته ذكر ما ينبغي ان يذكره من نصوص وأسماء.
    اقتراب لغة نثره احياناً من لغة الشعر:
    ومن سمات الكتابة النثرية عبدالبردوني بشكل عام، اقتراب لغة نثرة من لغة الشعر، ومن خلال تتبعي لهذه القضية في كتابات البردوني، وجدت أنها تكثر في بدايات كتبه ومقالاته وعند الحديث عن عملية الابداع لكنه عندما يتعدى مقدمات موضوعاته، وكتبه، يبدأ بتناول قضايا الأدب والنقد تبدأ لغة البردوني الشاعر بالاختفاء وتعود عندما تقابله مسألة تتعلق بأهمية الأدب أو بعملية الابداع.
    ونكتفي بأمثلة بسيطة من تلك الكتابات، فهو مثلاً يفتتح كتابه”رحلة في الشعر اليمني” بقوله: “هذه الأرض التي تشمخ جبالها حتى تتكئ عليها النجوم.. والتي تمتد سهولها حتى تتعب أسفار العيون في اجوائها وهذه الأرض التي تخصب وتخضر حتى تورق الصخور وسطوح البيوت والتي تجف حتى تعتصر الريح لعابها،وتحتسي الشمس ظلها، هذه الأرض المتقلبة الاجواء المخضرة المكفهرة الشامخة الممتدة، توحي الشعر ودواعيه بتقلباتها إذا لاقت الحس الشاعري الأصيل، لأن منبع الشاعرية منتزع من تقلب النفوس وتغيرات الاحوال.. هذه اليمن اتهمت بالشعر حتى كان كل مافيها شعر وشاعر،واتهمت بانعدام الشاعرية حتى كأن ليس فيها قلب ينبض ولسان يترجم””1”.
    ولكن عندما بدأ البردوني بتناول العصور الأدبية قلل من استعمال هذه اللغة الشاعرة وفي حديث البردوني عن النص الفني وأثره في المتلقي يستعمل هذه اللغة الفنية التصويرية ومع هذا نجد أنها لاتفتقر إلى الدقة في تقديم الفكرة، يقول: “تبتكر صورة النص في نفس المتلقي صوراً منها،و مختلفة عنها كما تفعل الأرض حين تحول البذرات اليابسة إلى عوالم من الخضرة، أليست صور الزروع والنخيل والكروم مغايرة لحبات بذورها التي ربتها الأرض وأرضعتها السماء؟ اذن فالنصوص في النفوس الانسانية كالبذور التي تخرج من تيبسها عشرات الالوان البهيجة.. فكما أن غاية الأرض والمطر هو الانبات والادرار، فإن غاية الثقافة العليا أن تعيد صياغة النفوس وتبتدع عوالم الملكات حتى يصبح البديع مبدعاً في غيره مغايراً لأصله..””2″
    كثرة الثنائيات والموازنات
    ومن سمات الكتابة النثرية عند البردوني ،ولعه بالموازنات، فلايكاد يخلو مقال من مقالاته أو كتاب من كتبه من هذا المنحى،ويبدو أن البردوني كان على اطلاع بما كتب قديماً وحديثاً عن الموازنة وبخاصة قول الآمدي الذي أشار فيه إلى ضرورة اجادة الموازنة لكي يصبح الناقد ناجحاً في نقده،ولاتقتصر الموازنات عند البردوني بين الأدب العظيم والأدب الجميل، والموازنة بين الأدب الضروري والأدب الكمالي،والموازنة ين الآني والخالد من الأدب، والموازنة بين العام والخاص في الاساليب القولية ،والموازنة بين الخطرات الأدبية والأحكام النقدية، وبالاطلاع على عناوين البردوني في الجدول الآتي ندرك مدى ولعه بالثنائيات”1″ التي توحي بالموازنة أوالبحث عن علائق أواستعراض شيئين متناقضين أومتشابهين أومكملين لبعضهما بعضاً أومشتركين في سمات معينة أومختلفين في سمات ومشتركين في أخرى:
    ويمكن ملاحظة هذه الثنائية من خلال عناوين كتبه مثل”رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه” وكتابه”الثقافة والثورة في اليمن وكتابه “من أول قصيدة إلى آخر طلقة”.
    ولا يأتي هذا الولع بدراسة النظائر والمتشابهات ومدى الاختلاف والاتفاق بين الظواهر وبين الشعراء وشعرهم محض مصادفة إنما يأتي من إيمان البردوني بأهمية الموازنة، يقول: الموازنة والمقارنة تكشف المزايا وقسمات الشخصية إلى جانب أنها تثري البحث عن طريق لمس العلائق الأدبية بين القديم وبين المعاصر والأكثر معاصرة(1)
    بل ان الدراسة لا تحقق عمليتها عند البردوني إلا بالبحث عن أصول الظواهر ونظائرها واشباهها:”إن كل دراسة تنبتر عن أصولها وتخرج عن نظائرها تجانب روح العلم وروحيه الفن الشعري ” (2)، ولايستطيع الناقد الكشف عن عبقرية المبدع
    ـ في رأي البردوني إلا بموازنته باسلافه ومعاصريه: “من السهل أن نقول فلان عظيم ومن السهل أن تقول الحركة الفلانية تقدمية، لكن من ذا يقبل هذا بدون استخلاص العظمة من حياة العظيم ومكوناته الزمنية، ومقارنته بأسلافه ومعاصريه، حتى تبين هل هذه العظمة ظاهرة تاريخية أو فرادة شخصية “3”
    ومن الموازنات الطريفة عند البردوني موازنته بين ظواهر الأدب الشعبي وشعرائه وظواهر الأدب الفصيح وشعرائه فقد اتخذ من كتابيه(فنون الأدب الشعبي في اليمن) و(الثقافة الشعبية..) وسيلة للموازنات والمقارنات بين الأدب الفصيح والأدب الشعبي وبين الأدب الشعبي في اليمن وغيره من الشعوب، يقول عن الكتابين “..فإن بين الكتابين اشتراك في مقارنة أقاويل الشعب اليمني بأقاويل الشعوب الأخرى، وبأقاويل شعرية ونثرية من نتاج العصور الأدبية كلها، فكما أن الكتاب الأول عني بالأشباه والنظائر في الفنون، فإن هذا الكتاب عني بالأشباه والنظائر من أقاويل الشعوب في كل العصور لمعرفة اشتراك الشعوب في التجارب والتعبير عنها…” (4)
    الكتابة الموسوعية(الاستطراد)
    أدت ثقافة البردوني الموسوعية وولعه بالموازنات كما ذكرنا إلى كثرة الاستطرادات (5) في كتاباته، وهي سمة تظهر في معظم مؤلفاته! عندما تقرأ كتاباً أو مقالة للبردوني تجد فيها الأدب، والتاريخ، والسياسة، وينقلك من القديم إلى الحديث، ومن الحديث إلى القديم، فلا تنظر أن يقف بك عند حدود عنوان المقالة، أو الكتاب ويبدو أن هذه الاستطرادات كانت، نتيجة لتأثر البردوني بأسلوب الكتاب القدامى، فهو يعد هذه السمة سمة الاستطراد من السمات المهمة التي يجب على الباحث الالتزام بها حتى يعطي الظاهرة حقها من الدراسة والتحليل. يقول عن كتاب(الثقافة والثورة في اليمن) الذي يجمع فيه الأدب والتاريخ والسياسة:
    “فهذا الكتاب يعترف بكثرة استطراداته، ويعرف قيمة هذه الكثرة لأنه حاول أن يكشف كيف فهم الثقافة وكيف ينبغي أن يفهمها المثقفون، وكيف يجب أن تؤديها الكتابة ذات الطابع البحثي” (1)
    ويعتبر الوقوف عند الظاهرة وعدم تجاوزها عيباً من عيوب الكتابة:
    “ان التعريف بحادثة لايكلف الحبر الذي يراق عليه إذا لم يؤد ذلك التعريف إلى معرفة تهدي إلى معارف، وقد لاحظنا الكتب التي تتوخى التغيير إلى الافضل كيف تستكثر من ضرب الامثال وتجلية الحجج وايراد نظائر كل حدث واشباه كل قضية” (2)
    بل إن البردوني يجعل إثارة القضاياالعامة عند تناول القضايا الأدبية الخاصة دليلاً على إخلاص الناقد لمهنته:”نقدت بإخلاص وأظن القارئ الجاد سوف يرى الاخلاص حتى من وجهة نظر واحدة هي إثارة القضايا العامة عند دراسة كل شاعر لأن القارئ لايهتم بالثناء، ولابالقدح وإنما يهتم بما أثير من القضايا العامة التي هي موضع تساؤل وأظنني وفقت في إثارة القضايا فرجعت في كل قضية إلى أصولها الفنية ومايحيط بها ويمتد إليها من ظواهر الأدب المعاصر والقديم، لأن الفنون متصلة ببعضها متصلة الماضي بالحاضر..” (3)
    ومن هنا يصبح الابتعاد عن الموضوع الذي يتناوله أمراً دعت إليه الضرورة العلمية، يقول:”وقد ابعدني قليلاً عن ديوان حكاية الصحاب تتبع النظائر في تاريخ أدبنا لأن تداعي الخواطر، وإرضاء الذوق الأدبي دعياإلى هذا التقصي” (4) مع اعترافه بأن طول المقدمات دليل على سقم النتائج (5)، فإنه راح يبحث عن مسوغات لاستطراداته، قد تبدو غير مقنعة، ومنها فلسفته عن المقالة: “هذا يرجع إلى أكثر من سبب منها فلسفتي عن المقالة: عندي أن المقالة الحقيقية هي ماتشكل نواة كتاب أو مشروع كتاب، وكل ما يكتبها هو المزيد من التفاصيل على أساسها والإكثار من بسط الإجمال” (6)
    ومع هذا فإن للبردوني مقالات تتسم بدقة في وضع العنوان ولايكثر فيها من الاستطرادات، وتبدو اكثر ترابطاً(1)
    قلة الإهتمام بالمنهجية في العرض والتناول:
    ونعني هنا بالمنهجية في العرض تنسيق المادة، وعرضها بطريقة تظهر ترابطها ببعضها، يبدو أن البردوني لايهتم بهذه القضية كثيراً لاسباب قد تعود إلى إعاقته البصرية وثقافته الكلاسيكية، ففي كتابه(رحلة في الشعر اليمني الأول) الذي أصدره عام1972م، لايقسم الكتاب إلى ابواب أو فصول وإنما يقسمه حسب العصور الأدبية مكتفياً بوضع العناوين الآتية لتشكل تقسيماً داخلياً للكتاب
    (العصر الجاهلي، عصر الخطورة، عهد الاجترار، عهد النهضة، عهد الثورة، الشعر الشعبي، فنونه وأطواره)، فضلاً عن أن الكتاب يفتقر إلى التوازن بين مادة عصر ومادة عصر آخر، فقد كان نصيب العصر الجاهلي سبع صفحات فقط وكان نصيب(العصر الإسلامي) ويشمل الأموي تسع صفحات و(عصر الخطورة) الذي يعني به العصر العباسي سبع صفحات وعهد الاجترار الذي أطلقه على عصور الانحطاط إحدى عشرة صفحة، بينما احتل عصر النهضة وعهد الثورة مائتين وأربعاوثلاثين صفحة، وبهذا يكون الكتاب بالاعتماد على محتواه، مكرساً لتناول الشعر اليمني الحديث، أما العصور السابقة للعصر الحديث فبالإمكان عدها تمهيداً لهذه الدراسة، وهذا ما ذكره البردوني عن كتابه، وقد تناولنا تعليقه على بعض الآراء التي طرحت حول كتابه هذا في الفصل الأول.
    هذا بالنسبة للعنوانات الرئيسة في الكتاب، أما العنوانات الفرعية فلم تصنف حسب ظواهر الشعر في كل عصر من العصور ومع هذا اتخذ من دراسة الشعراء وسيلة للتعريف بالشعر وخصائصه في كل عصر من العصور ومع هذا لم يتناول إلا القليل منهم بل إنه أحياناً يكتفي بالحديث عن شاعر واحد ليكون دليلاً على الشعر اليمني في ذلك العصر، كما فعل في تناوله للعصر الجاهلي ، حيث اكتفى بالحديث عن الشاعر عبديغوث الحارثي(2)
    وللبردوني كتابان عبارة عن مقالات نشرت في الصحف والمجلات وأذعت من إذاعة صنعاء الأول (قضايايمنية) صدر سنة 1977م والثاني (اشتات) صدر عام 1996م
    ـ وتتوزع موضوعات هذين الكتابين بين الأدب والتاريخ والسياسة، ويذكر البردوني في مقدمة كتابه(قضايا يمنية) الأسباب التي جعلته يعزف عن تبويبه قائلاً: لقد كان في مقدوري أن اسمي كل مجموعة فصلاً فأضع فصلاً للفكر الثوري وثانياً للفكر السياسي وثالثاً لثقافة الثورة ورابعاً للأدب الثائر وخامساً للأدب الثوري…الخ ولكنني لااريد أن اعقد ما يصعب عقده أو مالا حاجة إلى افتعال انعقاده فجاورت بين الموضوعات المتقاربة… لأن كل مقالة كانت تسطر نفسها بمقدمة تشكل ستاراً رقيقاً بينها وبين سابقتها أو تاليتها
    وفي الحقيقة إننا لانجد توافقاً في ترتيب مقالاته في هذا الكتاب، ومع أن الأسباب التي وضعها لعدم تبويبه لهذا الكتاب قد تكون مقبولة إلا أنه يعود ليقلل من أهمية التبويب في هذا الحوارمع كتابه:
    ـ “من الجائز ان اعتبرك كتاباً من ناحية شكلية إذا كان بالضرورة تقسيم الكتاب إلى أبواب وفصول فاين أبوابك وفصولك؟
    ـ وهل تسأل عن ابواب في عصر الانفتاح؟ إني أرفع مبدأ سياسة الانفتاح أو مبدأ الأبواب إذا كانت لاتؤدي وظائفها.
    ـ هذا مزاح دبلوماسي، إذا لم تضبطك أبواب فهل تقيدك روابط فصول؟
    ـ نعم وليس بالضرورة أن أقول: فصل كذا، لأن القارئ أذكى مني وغاية الغباء تجاهل المعلو” (2)
    ومن هذا الحوار نستنتج أن البردوني لايرى أهمية كبيرة للتبويب،
    بل إنه يعدها عملية شكلية فقط حين يعتمد في حواره السابق على القارئ ليضع لكل مقالة فصلاً مستقلاً، مع أن الغرض من الفصول والأبواب هو تنسيق المادة وترتيبها وليس لمجرد التسميات ومع هذا فالبردوني في كتبه التي تلت هذا الكتاب اعتمد على تقسيم كتبه إلى فصول ففي كتابه اليمن الجمهوري يقسم الكتاب إلى أحد عشر فصلاً ويقسم كل فصل إلى مباحث، ويبدو هذا الكتاب اكثر انسجاماً من حيث ترتيب المادة العلمية لولاأنه يجمع بين التاريخ والأدب والسياسة وقد يكون السبب الرئيس ان هذا الكتاب لم يجمع من مقالات منشورة في الصحف والمجلات.
    وفي كتابه(الثقافة والثورة) الذي أصدر عام 1991م يقسم مادة الكتاب إلى فصول لكن هذه الفصول تفتقر إلى الترابط والتناسق في ترتيبها وتعدد مجالاتها.
    أما كتاب(من أول قصيدة إلى آخر طلقة، دراسة في شعر الزبيري) فقد وزع مادته على سبعة وعشرين فصلا، ومن الواضح أن عدد هذه الفصول يدل على خلل في التقسيم، حيث كان بامكانه أن يجمع الفصول التي تتناول قضايا متقاربة تحت باب واحد فمحتوى الكتاب يتوزع بين الحديث عن حياة الزبيري، وبين الابعاد الموضوعية والفنية في شعره، ومن الاسباب التي أدت إلى القصور في ترتيب فصول هذا الكتاب، وتعدد العنوانات التي كان يمكن أن تدمج تحت عنوانات رئيسة، أن معظم فصوله كانت عبارة عن مقالات نشرت قبل طباعته في الصحف والمجلات فنذكر منها هذه العناوين التي نشرت في صحيفة “26سبتمبر” قبل طباعة الكتاب ثم أصبحت فصولاً في هذا الكتاب.
    فالكتابة الصحفية ، والتأثر بثقافة النقاد القدامى ، وتقليده لبعض النقاد في عصر النهضة مثل: طه حسين، والعقاد ، وسلامة موسى ، ومارون عبو، وغيرهم كما ذكرنا إلى جانب حرمان البردوني من نعمة البصر ومن الدراسة الأكاديمية في الجامعات كل هذه الأسباب كانت وراء القصور الذي نجده في تنسيق كتاباته النقدية أؤ النثرية.
    ـ غياب الهوامش وفهارس المصادر والمراجع من كتاباته النقدية:
    وأدت هذه الأسباب أيضاً إلى بروز ظاهرة أخرى تمثلت في غياب الهوامش من كتاباته النثرية فلا تجد في كتبه ومقالاته هامشاً واحداً ، مع أن البردوني كان يكثر من الهوامش في دواوينه الشعرية فيشير إلى معاني الكلمات الغامضة للقارئ ، أما في كتاباته النقدية وغيرها من الكتابات النثرية ، فقد كان يشير إلى المصادر أو المراجع في ثنايا المتن في حالات قليلة لأن البردوني لا يرى أهمية كبيرة لإثقال البحوث بالهوامش ، فهو يقول في مقدمة كتابه قضايا يمنية في حواره مع الكتاب: حكاية المراجع تستدعي وقفة: هل عملية الكتاب تتبع من أسلوبه وصحة عرضة ورهافة رؤيته؟ أم ترجع مئات الهوامس؟ علمية الكتاب لا تأتي من المراجع وحدها لأن المرجع الخاطئ يجعل تبنيه أكثر خطأ وأنا لا أدعى علم الدنيا ، فأنا عصير قراءة وثمرات ملاحظة ولم أتشكل من لا شكل وانما أنا أوراق اخضرت من أشجار ، وتعنقدت من أكثر من كأس وانبثقت من آثار القراءة والملاحظة ويحاول البردوني اقناعنا برأيه هذا بإعطاء بعض المسوغات منها انه كان شاهدا على عصره وانه جاري في ذلك نقاداً قدامى ومحدثين ،يقول: “صحيح لم اثقل أوراقي بالهوامش ، ولكنن تضمنت الروايات وذكرت المراجع بالاسم في ثنايا البحوث ، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فأنا سجلت أحداث عصري على مختلف عقوده، وهذا العصر أنا وأمثالي شهادة ميلاده وسجل وقائعه إذا لم أشر إلى مراجع أخرى فلأني وأمثالي مرجع المراجع.. لم يلمح الجاحظ إلى مرجع وكتبه اليوم أهم المراجع عن أدب عصره وثقافة جيله أو أجياله وأدبيات طائفته “المعتزلة”.. وهل لي أن أمثل بالمعاصرين؟ فمن ذا يكتب من السبعينيات إلى ماشاء الله دون أن يكون العقاد ومارون عبود وميخائيل نعمية أخصب مراجعه مع ان كتبهم لا تشير إلى المراجع في الهوامش ولا تسحب أذيالاً، لأن عملية الكتاب تتلألأ من عرض الكاتب ومنهجه التحليلي..
    وفي نهاية هذه المقدمة يعطي البروني مسوغاً قد يكون مقبولاً أما ما ذكره من أسباب لعدم اهتمامه بهوامش المراجع ،فلا يمكن التسليم بها، ولعل العذر المقبول يتمثل في فقدانه للبصر فالبردوني لا يقرأ متى يشاء ولا يكتب متى يشاء، وانما يعتمد على مخزونه من قراءات غيره، التي تلعب فيها الذاكرة دوراً كبيراً لكنه يحتفظ بالفكرة ولا يستطيع الاحتفاظ بالنصوص والصفحات والمراجع ، يقول البردوني على لسان كتابه: على ان هناك من هو كثير القراءة قليل التأليف، أو قليل المقروء كثير التأليف ، مثلك ياصحبي فأنت لا تقرأ متى تريد وما تريد ولا تكتب في وقت حس الكتابة، لأن الغير من ضرورياتك، وأنت مواطن صغير لا تنسق لك سكرتارية، فإذا قدمت جهد المقل فهو منك فوق المنتظر.
    فإذا قصر البردوني في ترتيب مادته العلمية وصنع الهوامش فالسبب الأساس يرجع إلى أنه لا يستطيع القيام بكل ما يريد وفي الوقت الذي يريد ومع هذا فقد كان البردوني كما قال عن نفسه قليل القراءة، كثير التأليف وقد قدم الكثير للنقد والأدب والثقافة في اليمن على الرغم من عدم التزامه ببعض الضوابط المنهجية ، فما ذكرناه لا يقلل من أهمية ما قدمه البردوني فهناك فرق بين طريقة عرض المادة العلمية وبين المادة العلمية نفسها ، فقد كان لشاعرنا وكاتبنا ظروفه ومبرراته الخاصة كما ذكرنا.
    – عن صحيفة الثقافية

  • 420 حداثة البردوني الشعرية.. الأستاذ علي أحمد جاحز

    دراسات >  حداثة البردوني الشعرية.. الأستاذ علي أحمد جاحز

    قراءة في استثمار الشاعر للوسائط الفنية العصرية وملامح الواقع
    (الحداثة المضادة لوحشية الحداثة المادية.)
    ظاهرة البردوني:
    مقدمة للوصول إلى سر الرؤية المغايرة:
    لم يعد الحديث عن دور الأستاذ الشاعر عبد الله البردوني في خروج العمود الشعري على نطاقاته التقليدية والمألوفة وانطلاقة إلى فضاءات الحداثة الشعرية الإنسانية لم يعد ذلك الحديث جديداً على متلقي ومنظري ونقاد عصره فهو أمر مثبت في أكثر من دراسة..
    ولكن الحديث عن أسرار وأعراض وكيفيات ذلك الدور ومنطلقات ومنابع الإبداع ومواضع المغايرة والخصوصية في تفاصيل أعمال الشاعر وفك شفرات ذلك اللغز الشعري الذي ما يزال يشكل هالة من الغموض والدهشة في داخل أبنية وصور النص الشعري.. الخ ، هو ما ينبغي أن يكون وصولاً إلى التعرف على ملامح ونقاط تنظيرية تشكل في مجملها محددات منهجية للاتجاه الذي اتجهه / البردوني / كشاعر وكمدرسة شعرية أيضاً تتفرد بخصوصيتها الفنية والفكرية..
    لن يتأتى ذلك إلا من خلال التناولات المنهجية لتفصيلات التجربة !! البردونية!! وسبر أغوار الرؤية الشعرية لديه ومقاربة مجالات الدلالة وحقول الصورة وآليات البناء وفنيات تسخير اللغة وكسر رتابتها والتمرد على مألوفها البنائي والتأليفي وتطويعها للرؤية وتطويع الفكر لها وتطويعهما معاً لإنتاج الفن الشعري.. وكذلك الوقوف على حدود الاتجاه الفكري ومدى تحرره من الأيديولوجيا ووصوله إلى مستويات التلقي الإنساني كأدب مشترك يقع ضمن سلالات الآداب العالمية ذات الخطاب المشترك.
    إن تناول نص من نصوص البردوني ليس بالسهل..كما أنه ليس بالمستحيل فمثلما تأتي نصوصه مشحونة بالمزايلات والمتغايرات وجامعة بين الحسي والمعنوى وموافقة بين نار العاطفة وماء اللغة ، وساخرة حزينة، واقعية وفنتازية في ذات الوقت..فإن الوقوف عليها أيضاً يحتاج إلى قدرة واسعة على اقتحام العوالم الرؤيوية والتحليق في فضاءات الدلالة وذلك يحتاج إلى امتلاك العديد من الملكات القرائية والمرجعيات الفكرية والحاسة الذوقية ليمكن اكتشاف العلاقات والدوال والمسوغات وصولاً إلى حدود المرامى الدلالية وأبعاد الرؤية.
    لم يكن يؤخذ في الاعتبار عند تناول البردوني كشخصية أدبية أو كشاعر كونه بصيراً، رغم أن ذلك يحيل إلى استقراء الخصوصية التي تميز بها من حيث تأثير الرؤية البصرية على تكوين الرؤية للمعنوي والمحسوس ، واستبصار العلاقات بينها وتمثلها حالة الدفق الشعري ، وهذا يقودنا إلى زاوية هامة في التجربة البردونية مفادها أنه من الممكن أن يكون لفقدان الرؤية الحسية عند البردوني أثر جوهري في خلق تلك الرؤى الجديدة وذلك من خلال النظر إلى آلية الإدخال المعلوماتي والثقافي والطريقة الخفية التي يتم بها استيعاب المدخلات والكيفية التي يرى بها الحياة والواقع ، وجميع العوامل والمؤثرات التي تطرق ذهنه أو تثير اهتمامه كمكفر وعواطفه كشاعر…فإنه يتجلى لنا الفارق بين النظر في حالة فقدان الرؤية الحسية وبينه في حالة الرؤية الخفية المتمثلة في البصيرة وذلك الفارق يحدد بؤرة الاختلاف والتميز اللذين يتمتع بهما شاعر وأديب كالبردوني.
    إذن ما دمنا توصلنا إلى أن الرؤية الحسية لها أثرها في استقبال ما يدور حول الإنسان وطريقة وكيفية تفسير الظواهر وخلق العلاقات أو إدراكها وفقاًُ لذلك.. فإن مخرجات الكتابة تنشأ وفقاً لتلك الرؤية وبدرجة عالية من التناسب.. حيث أن أفق التخيل يتجدد وفقاً لما هو مشاهد أو مكون من عناصر مستمدة من المشاهدات.. وبما أن البردوني لا يتمتع بالبصر من زمن طويل قبل الإدراك والوعي فإن أعماله وبخاصة الشعرية تنفرد برؤية جديدة ونكهة جديدة تحددها آلية الرؤية الخاصة للحياة حوله.
    وعلى ذلك فإن من الضروري عند تصنيف ملامح هذا الشاعر وبلورة شخصيته الأخذ في الاعتبار الحرمان من الرؤية الحسية ، ولكي لا يكون الحكم من وجهة نظر منحازة للمبصرين فقط فإن من العدل استقراء واستيضاح مدى التشابه والتغاير بين رؤيته ورؤية المبصر ومن ثم الوقوف على مكامن والغاز النفور والغموض الناجم عن وجود عوالم تخييلية تتجلى في ذهنية الشاعر ويضعها للمتلقي دون أن يأخذ في اعتباره محدودية الرؤية لدى المتلقي ومدى وصوله إلى مكامنها.
    بإمكاننا الوقوف على هذه الظاهرة والإحاطة ببعض ملامحها وأعراضها والتدليل عليها نظرياً من خلال دراسة نصية واسعة تأخذ في طياتها اعتبارات ومعايير مختلفة وتستفيد من تراكمات القراءات المستفيضة لمراحل التجربة وما كتب حولها في إطارها وتأخذ في الاعتبار المرجعيات الفكرية والثقافية والمصادر الأدبية والاجتماعية والسياسية ليتنسى لنا الوقوف على ظاهرة مغايرة استطاعت كسر رتابة اللغة واعتيادية السبك والبناء.
    ولعل الحديث والدراسة للتجربة البردونية بعد رحيله جسماً وغيابه عن مستجدات الحياة والواقع يختلف رؤية وجرأة عن الحديث والدراسة في حياته فقد ترك رحيله فراغاً أدبياً في قلب الجديد والمتجدد الأدبي.. كما أن رحيله لم يكن ليمحوه من ذاكرة تتشبث بكل مفردة من إبداعاته بقدر ما كان رحيله يقظة هادرة أدت إلى الالتفات وإعادة النظر في تراثه الممتد على مساحة الأدب الإنساني والمتجذر في قلب الواقع المسكون بصمت أدبي وسياسي مهين.
    حداثة البردوني الشعرية:
    ظل التجديد ومن ثم التجريب داخل القالب العمودي هاجساً مثالياً..أد ى إلى قنوط مفرط في الحركة الشعرية التجديدية على مستوى الساحة الثقافية العربية.
    وهذا القنوط استحال –بفعل الانصراف عن الاشتغال الجاد داخل قالب العمود والتطرف في التمسك بالأساليب البنائية والبلاغية والتقليدية على ظهور دعوات نقدية وتنظيرية لحداثة بعيدة عن الموسيقى تحت زعم اعتبارها إحدى معوقات التحليق في فضاءات الحداثة والتجريب ومن منطلقات شبه منحازة إلى اليسارالحداثي المتطرف في الثورة على كل ما يحمل مظهر القديم.. وتلا ذلك اتجاهات نقدية تنتهج الإفتاء الجازم بعدم صلاحية العمود الشعري لاستيعاب التغيرات المتسارعة في عجلة الواقع وامتصاص تشعبات وتناقضات وتداخلات أعراض الحداثة الإنسانية ومايسمى ” العالم الحديث “.
    خلال تلك التحولات التي تلت الثورة على الرومانسية وأحلامها الباهتة وبقايا الكلاسيكية وأفكار الصنمية كان ثمة من يعد لثورة مفاهيمها جديدة ترمي لتأسيس مدرسة وسطية داخل الحداثة الشعرية وترد المفاهيم المغلوطة للحداثة الشعرية إلى نصابها.
    ذلك هو الأستاذ الراحل الشاعر والناقد/ عبد الله البردوني الإنسان الذي استطاع أن يهدم تلك النظيرات التي تقول بعدم صلاحية العمود لاستيعاب الحداثة الإنسانية ومتغيراتها المتسارعة وتفنيد مبرراتها الهشة دون جدل.. وذلك بقدرته على إنتاج مفهوم جديد للعلاقة بين النص والقالب بكونهما شيئين منفصلين إذ أن النص كائن في أي قالب وهو عند البردوني كذلك غير أن الشعر في نظره يكتسب قوته من حداثة الرؤية أولاً والموسيقى بكونها عنصراً فنياً وجمالياً ثانياً.
    وظل البردوني يشتغل على النص داخل القالب المنسي وهو يعي أن ما يكتب حوله داخل العمود لا يرقى لمستوى مجاراة الحداثة الإنسانية وثورة العلم والمعلومات والاتصالات والإعلام والأمور التي أصبحت تؤدي دور الشاعر القديم من وصف ورثاء وهجاء وتوثيق وتحميس وتهدئه…ألخ.
    وفي ظل وعية بكل هذا استطاع أن يتفرد بالاشتغال الجاد – رغم ما واجه من اتهامات – على مجاراة كل ذلك واستيعاب ما يستجد واختزال متناقضات ومتباينات ما ينتج في داخل الحداثة الحياتية وما ينجم عنها من مفاهيم.. إضافة إلى إيمانة بأن القالب لا يقيم النص ولا يوازيه ولكنه لا شيء – شعرياً – إذا تحدث النص.. والقافية لا تمثل حجر عثرة في طريق الترائي الشعري والدفق الهجسي.. ولكن على العكس تماماً كلما كثف الشاعر التصوير وكانت درجة التخييل عنده عالية في بنائيات كلما كانت إمكانية استحضار القافية أسرع وأما إذا كان الشعر تصريحي البناء والدلالة فإن الشاعر يصبح محاصراً بواحدية الدلالة ومن ثم ضرورة اللجوء لمفردة تخدم تلك الدلالة الوحيدة في القافية وهذا يحاصر الشاعر ويشغله عن المتن الفني والشعري.
    لذا أثبت البردوني ابتداء من ” أرض بلقيس ” وحتى ” رجعة الحكيم ” أن العمود الشعري هو أجدر القولب الشعرية استيعاباً وجمعاً للحداثة والقوة الشعرية.
    وقبل أن يكون البردوني أنموذجا مغايراً داخل الحراك الشعري الحداثي لم يكن ليصادر أو يقاطع أو يتعصب.. مهما كانت الاتجاهات، بل نجده قارئاً ومتذوقاً من طراز نادر ، وناقداً حاذقاَ لكل ماهو جديد وإن لم يلتفت إلى جمودية وأكاديمية المصطلح النقدي.
    منطلقات الرؤية البردونية للحداثة:
    لقد انطلق البردوني في رحلته مع الحداثة في العمود من منطلقات رؤيوية وبنيوية جديدة كل الجدة، ولعل بؤرة هذه المنطلقات هي رؤيته الفلسفية للحداثة الإنسانية نفسها ومدى تأثيرها على الإنسان وفطرته والطبيعة وروعتها والقيم والمبادئ..إلخ. وهو ما خلق لديه قدرة على التحاور مع ما يدور وما يمكن أن يحدث بلغة العصر ومن خلال مظاهرة ومراوغة رتابة الأداء والبناء وفقاً لما تعكسه مرايا الواقع من متناقضات وتصادمات مع القيم والمفاهيم الإنسانية ليكون الإنسان بعموميته وخصوصيته هو هاجسه الأساسي ، مع أن ما يكتب سواه لم ينصرف كلياً عن الهم الإنساني.. غير أنه كان أكثر شعراء العصر ملامسة ً لمواضع الوجع الإنساني وأكثر استشفافاً لما وراء المحسوس وأحد من لملم أشلاء القضية الإنسانية وأختزلها في عبارته الكثيفة:
    من ذا هنا غير الأسامي الصفر تصرخ في خفوت
    غير الفراغ المنحي.. يذوي..يصر على الثبوت
    غير انهيار الآدمية وارتفاع البنكنوت
    وحدي الوك صدى الرياح وارتدي عري الخبوت
    (لعيني أم بلقيس)
    هكذا يبدو في ذروة التألق الحداثي ، مواجهاًَ لما تحدثه وتنتجه الحداثة الإنسانية.
    التقدم العلمي والصناعي في جسد الإنسانية.. مستخدماً وسائطها في مواجهتها..

    ولعل سر هذه التجليات يكمن في استثماره لمخرجات هذه الحداثة المتوحشة ذات الوجوه المتعددة من حيث لغتها وأساليبها وعلاقاتها وتراكيبها وأيضاً تأثيراتها على الإنسان وقيمه وإنسانيته عموماً.
    السوريالية التي لا تخلو منها ثقافتة ناتجة عن وعيه بما يتطلب التلقي الأتي والتلقي القادم بحركيتة وتغير تذوقه للشعر محاكاةً لما هو حاصل في تداعيات الأحداث وغموض منطلقاتها ومسبباتها، وسوريالية كينونتها في الواقع.
    ومفارقاته تأتي من جديد العلاقات بين مكونات الواقع الإنساني الناتجة عن وجود انحرافات في آليات التعامل مع العصر ومكوناته ووسائطه وأساليب التعايش في ظل هذا السياق الحداثوي. لذا تأتي صور العلاقات في شعر البردوني على هيئة دوال مختلة غير منسجمة المتغيرات ” انهيار الآدمية- ارتفاع البنكنوت ” مثلاً.. وأيضاً ” الفراغ المنحني- يذوي – يصر على الثبوت “.
    وهو في ظل استيعابه لكل ما يدور ويجري ويتحول في الواقع الإنساني يشتغل على اختزال رؤيته ومواجهته مستخدماً لغة الواقع نفسه وأدواته للوصول إلى النص الحداثي الموازي لحداثة الواقع المادية.
    وتتعدد آليات التحاور مع الجديد وصده والتصادم معه بتعدد منطلقاته ومواقفه منه، وأيضاً تأثره وإحساسه بما ينجم سلباً عن تطور أدوات الحياة ومظاهرها من حوله:
    القناديل يا دجى منك أدجى
    المنايا أم شرطة الليل أنجى
    وأيضاً:
    هل تعي يا دجى لماذا تحابي؟
    ذاك تعميه ذاك تعطيه وهجا
    وأيضاً
    القناديل لا تُري الشعب نهجاً
    وتُري قاتليه عشرين نهجا
    رواغ المصابيح
    اتخذ البردوني من وسائط الحياة وتمظهراتها وحداثة علاقاتها ومفاهيمها مجالاً رؤيوياً وحقلاً خصباً لثنائية، التخييل – التخيل، في قصائده.. حيث تنطلق الصورة من حقل دلالي وتصويري متشعب الملامح ولكنه يعكس ملامح الحضارة العصرية ويدور في فلكها.
    تماماً كالمصابيح في نص (رواغ المصابيح) التي جعل الشاعر منها حقلاً دلالياًُ للصورة الأم ذات الدلالة الفنية العميقة للمخاتلة ومضايقة الحقيقة.. وللزيف المسيطر والمغالط وذلك في كونها وسيلة ترفيه تحمل في حقيقتها مفارقات ، “ذلك تعمية- ذلك تعطيه وهجاً ” ، ” لا تري الشعب نهجاً – تري قاتليه… “. وهذا يحيل إلى مدى قدرة الشاعر على تسخير مجال التخيل “الضوء الصناعي ” في إنشاء دوال نصية تصل إلى ذروة الحداثة التعبيرية في استثمار مجال حداثي أو مظهر حداثي مادي في خلق صورة شعرية حداثية توحي بأن الشاعر يسعى لخلق حداثة شعرية موازية.
    قبل أن ألج إلى مفاصل التناولة القرائية أرغب في طرح بعض التساؤلات مثل:
    – البردوني لم يكتب في الحب والغزل والمرأة المحبوبة.. ولا يظهر أنه دار في فلك الأغراض الشعرية التقليدية.. هل ذالك يعني أنه يرى الحداثة في الخروج عليها؟ !
    – البردوني لم يتعصب لفكر أو اتجاه سياسي أو عقيدي أو..الخ. داخل البنية الفكرية المكونة للعملية الشعرية.. فهل كانت الاستقلالية الفكرية ومجانبة الانتماءات والاتجاهات الإيديولوجية الحداثية والماضوية ملمحاً حداثياً في نظره؟!
    – البردوني اتخذ من الشكل العمودي قالباً يصب فيه رؤيته ويشكل عبره صوره ومشاهده في الوقت الذي كان التهافت على كسر القالب واستبداله حلاً أخيراً في نظر شعراء جيله للخروج إلى أفق الحداثة.. فهل كان وعيه بمعاكسة الاتجاه والتمسك بالقالب عند الخروج إلى أفق الحداثة ملمحاُ من ملامح حداثته وفرادته؟!
    – البردوني في موائمته بين الاحتفاظ بالمرجعية والاننفتاح على الحديث والأجد.. هل كان يعي بأن ذلك الانسجام سيعطيه فرادة الشاعر المغاير في موكب الحداثة الشعرية.؟ !
    ربما تكون المحاور التي سوف أنشر حولها تفاصيل هذه القراءة محتوية على إجابات موضوعية إلى درجة ما..على هذه التساؤلات.
    أولاً: مخرجات الحداثة البشرية والقيم الإنسانية (علاقة عكسية):
    أسلفنا أن من أبرز ما يميز شعر البردوني هو اتخاذه من مظاهر ومخرجات الحداثة البشرية المادية وتأثيراتها منهلاً يستمد منه المادة الأساسية المكونة للرؤية الفنية للشعر سواءً على مستوى المفردة أو الصورة أو الدلالة الكلية والجزئية.
    والحداثة في ذلك تكمن في الاستفادة من مكونات وملامح المحيط الإنساني لتكوين اتجاه شعري مصادم ومكافئ لم ينجم عن التطور المادي في حياة البشرية.، وذلك كانتفاضة روحية يتزعمها الشعر ، ولذلك نجد من خلال ما قرأنا “أن النص البردوني ينطوي على رؤى عميقة تفلسف قيم الواقع الاجتماعي وتصطرع مع تمظهراتها بعد استلهامها ومحاورتها بهدف رجرجتها والخروج بها من سكونيتها واعتلاليتها وهنا تكمن عمقيتها، وتتجلى حركية ثوريتها المتجهة صوب المستقبل” (1)..
    وفي ذلك الصراع المحتدم مع الواقع الإنساني لا ينسى البردوني أن ثمة فرقاً يظل نصب عينيه بين الاصطراع مع الجديد بلغته ووسائطه المأخوذة منه وبين الاصطراع معه بوسائط عفا عليها زمن غابر:
    عالم كالدجاج يعلو ويهوي
    يلقط الحب من بطون القذارة!!
    وأيضا:
    بوح كالحبل المسترخي
    تحت الأثواب المبلولة !
    ويرى أن العمود – بجعله قالبه الشعري – هو منطلق الفرادة والتميز الحداثي في حلبة للصراع بين الدفاع عن قيم الإنسانية ومفاهيمها التي بدأت تتخذ منحى منحرفاً ، حيث يقبل السيء ويرفض الحسن ويستحسن القبيح ويستنكر الجميل والجمال في كليته، ولذا وكون العمود الشعري واحداً من تلك القيم الجمالية التي يرفضها دعاة التجديد.. فإنه من خلال تمسكه به، وتقليده أوسمة الحداثة ورؤية العصر ، وإعطائه نكهة الجدة والإبداع.. استطاع التمسك والتجديد معاً مزايلاً ومغايراً.. وهو لم يتخل عن قيمه وثوابته حين جدد في الرؤية والصورة والاسلوب داخل العمود- كما اعتقد من جايلوه من شعراء العمود في اليمن واتهموه بالهذيان- ولكنه رمى كل ما هو غير مجدَ وكل ما يخص أزمنة أو حضارات انقرضت وعياً ونظاماً وحضارة ، فاستغنى عن تمظهراتها ووسائطها الفنية اللغوية وقضاياها التي لم تعد ترتدي ذات الثياب فاستبدل ثياب رؤيته إليها.
    وفي ذات الوقت أثبت أمكانية الاحتفاظ بقوة الشعر العمودي المتمثلة في عدم قابليته لأدعياء الشعر.. مع ما يمكن أن يكون عليه الشاعر من قدرة على استيعاب مظاهر التجديد واختزالها.. وذلك أمر لا يسهل إلا للشاعر اللبيب:

    مثلما تعصر نهديها السحابة
    تمطر الجدران صمتاً وكآبة
    يسقط الظل على الظل كما
    ترتمي فوق السآمات الذبابة
    يمضغ السقف وأحداق الكوى
    لغطاً ميتاًَ وأصداء مصابة
    مزقاً من ذكريات وهوى
    وكؤوساً من جراحات مذابة
    تبحث الأحزان في الأحزان عن
    وترٍ باك وعن حلق ربابة
    (عينة جديدة من الحزن)
    في هذا النص الذي ينحدر من أعالي التهاجس السوريالي المشحون بالتعابير الحركية ابتداءً من العنوان وحتى نهاية النص.. نجد البردوني قد أوغل في استخدام واستثمار مجالات جديدة للدلالة. وذلك من خلال الحقول التصويرية التي يدور التخييل الشعري في مدارها والتي هي مأخوذة من مشاهد عصرية.. ولو أنها هامشية وبعيدة أحياناً عن بديهة الشاعر العادي ” سحابة تعصر نهديها – ظل يرتمي على ظل – وترٌ وربابة ٌ باكيان”.، وإسقاطها على دلالة جديدة “الصمت العصري- المهانة البشرية – الخوف العصري – الحيرة والحزن المخنوق ” ولعل أكثر ما جعل ذلك الدفق الشعري الإنساني يبدوا ظاهراً كسمة في شعرية البردوني هو اختلافه في طريقة إنتاج الصورة وإسقاطها. ” حيث يتوحد في إطار ثورية الفعل الشعري ، الموقف الفكري مع الموقف الفني مما يؤكد جدلية التلاقح بين الشكل والمضمون في النص الشعري البردوني حتى في استجابته للهيكلية التقليدية المتوارثة على نحوٍ يثبت عبقرية البردوني الشعرية” (2)
    ومن هذا المنطلق نستطيع العبور إلى رؤية البردوني الشعرية للحداثة، ومن كونه يرى أن الحداثة المادية في تمظهراتها الهشة إنما تأتي كدالة عكسية للقيم الإنسانية وعلى حساب سلامة مفاهيم الحياة وأذواقها:
    بيع مخمور وشراء
    لزج كالمضطجع الزاني
    تصنيع ذيول.. أدمغة..
    تسويق مناع وأماني
    البيت الأبيض في عيني
    فحميّ.. والهندي غالي
    إنساني لا لوني
    وعلى العدواني عدواني
    يا وجه الزيف أعد بصري
    يبست عيناك بأجفاني
    أختار أنا يازيف يدي
    تشكيلي وجهي ولساني
    !!وجه الوجوه المقلوبة!!
    إن الإسقاطات النعتية التي يستخدمها البردوني عند وصفة لمظاهر الواقع تدخل في سياق الفن المشاكس المشاغب ” بيع مخمور- شراء لزج – تصنيع أدمغة -البيت الأبيض فحمى “… ” وذلك يندرج ضمن الرؤية المضادة لمخرجات الحداثة المادية في الواقع وتصادمه معها بواسائطها أو بصفاتها وتمظهراتها المريبة فالصورة الوصفية عند البردوني تضج بالحركة إلى أن تصبح في بعض الأحيان مشاغبة مكشوفة ضد الواقع المتحرك بقدر.. “(3)
    وتأخذ رؤيته المشاغبة أو بالأصح التصادمية مع سلبية الحداثة المادية وتداعياتها ذات النتاج الهش منحى التصريح والشفافية أحياناً حيث يستخدم في بعض الأحايين البنائيات القائمة على دوال بوحية منطلقة من السخرية كبؤرة جمالية قائمة بذاتها دون اللجوء إلى التمترس وراء فنيات الغموض التصويري:
    ما لذي أخبروا وما أضافوا
    بشروا تارة وحيناً أخافوا
    سمعوا ضجة وشاموا حشوداً
    ما دورا أهو مأتم أم زفاف
    إلى قوله:
    هل تدنى المريخ منا قليلاً
    هل حدا المشتري إلينا انعطاف
    المدارات أخطأت أم أخلت
    نهجهاً أم أدارها الاعتساف
    أم رقى الثرى إليها تفاعي
    فرقى في عروقها الانتزاف
    ثانياً الحيرة الكلية في فانتازيا الحقيقة (موقف الفانتازيا الفنية من الواقع):
    يرسم البردوني في معظم فلسفاته النصية صورة بشعة لحقيقة ما يحدث داخل المحيط البشري والبنية المجتمعية من صور كانت قبل محض فانتازيا وأصرت أن تستحيل واقعاً.. سواء على مستوى المحيط القريب للشاعر أو على مستوى المحيط الإنساني الكلي.
    إنه استجلاء الشاعر الحكيم للحقيقة الإنسانية البشعة في ظل وجود حيرة كلية وذلك يكون موقفاً فنياُ عميقاً وصادقاً يظهر في هيئة بنائيات تصويرية وفلسفية مستوحاة من إحداثيات الواقع المتخبط ذي النفحة الأسطورية والفانتازيا العلمية..
    الأمر الذي يتيح للشاعر ورود مورده الدفاق ليضع رؤيته ويضع صورة جديدة للشعر:
    ليس بيني وبين شيء قرابة
    عالمي غربة زماني غرابة
    وأيضاً:
    غريبة يا طارئات عني
    وتلتحفن قامتي وظلي
    من مقلتي تدخلن قبل فتحي
    ومن فمي تخرجن بعد قفلي
    تطبخن في قلبي عشاء موتي
    وتبتردن في يدي وأغلي
    وفي ذات السياق يظهر الموقف المناهض لتلك الحقيقة المشوهة وذلك التخاتل الإنساني الذي يحيل دوماً إلى حيرة كلية ذات ملامح قلقة يلوح ظلها جلياً في مشاهد بوحية شفيفة تعبر في أسلوبيتها عن الحيرة الإنسانية في عموميتها حيناً وعن حيرة الانتماء حيناً وعن حيرة الذات أحايين كثيرة.
    وعندما يتحد البردوني مع الهم الإنساني العام يتجه مباشرة إلى ممارسة هجوميتة الفنية من خلال تنصيبة لذاته – التي هي جزء من الإنسانية – ممثلاً لها في تساؤلاته وبوحيته:
    لماذا المقطف الداني
    بعيدً عن يد العاني؟
    لماذا الزهر آني
    وليس الشوك بالآني؟
    لماذا يقدر الأعتى
    ويعياً المرهف الحاني؟
    إلى أن يصل في تساؤلاته إلى:
    أأستفتيك يا أشجار
    فوقي غير أغصاني
    كومض الآل إيراقي
    كلغو السكر إعلاني
    وأحياناً نجدها حيرة انتمائيه تنطلق من قضايا وهم أمة ينتمي الشاعر إليها كالعروبة وفيها يحشد الشاعر وسائط فنية مأخوذة من داخل الحيرة القومية نفسها كأن يستحضر التاريخ أو الشعراء السالفين ويتحاور معهم أو يتصادم معهم بغرض الكشف الفني عن عورة الواقع وأحياناً يجعل ملامح الواقع العربي مرآة تصويرية ليستعرض فيها رؤية الفنية.
    عروبة اليوم أخرى لا يدل على
    وجودها أسم ولا لون ولالقب
    وأيضاً:
    ماذا جرى يا أباتمام تسألني
    عفواً سأروي ، ولا تسأل ، وما السبب
    يدمي السؤال حياء حين تسأله
    كيف احتفت بالعدا حيفا أو النقب
    وحيناً:
    من ذا يرد الكاسحات ومن
    فوق الخليج الأصفر احمروا
    جاؤا فلا هز العرار يداً
    ولا درى ما لونه التمر
    لا اهتجت يا بيت “الحسين” ولا
    عكرت نوم اللحد يا “شمر”.
    وتأخذ الحيرة سمة الخصوصية والذاتية والوطن/ الذات في تصويرات قلقة تمتد في اقصى حدها إلى المحيط القريب من الشاعر ومجتمعه حيث يأخذ الشاعر مجالاته التخييلية وحقول الدلالة من أجواء الشارع.. هموم البسطاء.. وجزئيات الحياة الحركية، وهكذا تأتي فلسفتة الفنية إزاء المجتمع:
    ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي
    ملحية عاشقها السل والجرب
    ماتت بصندوق وضاح بلاثمن
    ولم يمت في حشاها العشق والطرب
    إلى قوله:
    حبيب تسأل عن حالي وكيف أنا
    شبابة في شفاه الريح تنتحب
    كانت بلادك رحلاً ظهر ناجية
    أما بلادي فلا ظهر ولا غبب
    أرعيت كل جديب لحم راحلة
    كانت رعته وماء الروض ينسكب
    وفي نص آخر يقول:
    يا بلادي التي يقولون عنها
    منك ناري ولي دخان اتقادي
    إلى قوله:
    هذه كلها بلادي وفيها
    كل شيء إلا أنا وبلادي.

    ولعل تلك الحيرة تجاه الحقيقة الموجودة في شعرية البردوني – وحسب – تنعكس بشكلها الموحش داخلا البنية النصية التي تعتمد على قدرة الشاعر في اختزال الرؤية الواسعة لأفق المدلولات وترجمتها داخل بوتقة الفن الشعري.. ولا يغيب التركيز على أن هذه الأسلوبية المركزة في شعر البردوني بانزياحتها وسورياليتها عند تناوله اللهم الإنساني واستلهام حقيقة هذا الغموض من خلال تراجيديا شعرية غامضة تحاكي غموض الحقيقة وتلامس الحيرة الكلية تجاهها.. ولا يغيب التركيز على أنها من أ برز ملامح حداثة البردوني داخل العمود الشعري.
    ثالثاُ: الرؤية للقادم ” التنبؤ- الصيرورة” عبر مخرجات الحداثة المادية:
    لا أعتقد أن ثمة شاعراً حديثاً استطاع التنبؤ في سياقات النص بما سيكون ملامساً – إلى حد بعيد – أطرف التحقق وحدود ما سوف يحصل وذلك من خلال استنطاقة الحكيم لما تنتجه حداثة الإنسان – تكنولوجيا معلوماتية –سباق – تسلح – اقتصاد- سقوط قوة – بداية اتجاه فكري أو نهايته… الخ
    ولأن البردوني ليس منجماً ولا محللاً سياسياُ صرفاً فقد استقى رؤيته للقادم البشري من داخل السواد المعتم الذي يحيط به من كل اتجاه لأنه يرى غير ما يرى الآخرون ويسمع بطريقة تختلف عن الكل فإن استقراءه لمتقضيات ما يدور إنسانياً يبدو أكيداً من خلال إخراج رؤيته من دائرة الهذيان والتحليل الجاف إلى فضاء الفن الشعري الذي يجعل من تنبؤاته قيماً ثابتة ومقبولة تكتسب أكيديتها من قدرتها على سبك الصورة لتكون دالاً موضوعياً في داخله نكهة السخرية والأخلاقية والتوصيف الفني للأحداث والنتائج…
    يا طفل حربين تبدو زوج ثالثة
    لها بإبطيك خالات وعمات
    لعل مجيء هذا النص على إثر حرب الخليج الثانية فإن قيام حرب الخليج الثالثة بعد ثلاثة عشر عاماً من النص يوحي بمدى استفادة البردوني من وسائط العصر ومخرجاته وأحداثه في خلق حداثة شعرية والتنبؤ الجمالي واحد من سماتها.
    ويلاحظ أن صيغة الجزم لم تأت في سياق تصريحي جاف بل أتت داخل ديناميكية فنية مثلاً “زوج ثالثة- لها خالات وعمات ” وما وراء المفرد لا يقتصر على كونه ذات المعنى الظاهر بل يمتد إلى ما وراء التزوج واحتفاء المحتفلين تحت إبطي العريس “خالات وعمات ” لدلالتها على القرابة ومدى ملابستها لما حدث فعلاً في عام 1993م تلك الدلالة العمقية على مسببات وعوامل النجاح لذلك الزواج تحيلك إلى مدى إصابة المدرسة البردونية الشعرية للحداثة الحقيقة.
    وبما أن البردوني يرى بأن الظواهر الحداثية المادية وقسوتها في القضاء على الفطرة البشرية وطبيعتها التي أراد لها خالقها ليست أكثر من سباقات وحشية على القوة والسيطرة وأستهلاكات سافرة لمعاني الإنسانية وقيمها ولذا تأتي مواقف الفن الشعري البردوني في قمة شفافيتها وعمقها:
    قالوا هم البشر الأرقى وما أكلوا
    شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا
    وأيضاً:
    غير انهيار الآدمية وارتفاع البنكنوت
    وأيضاً:
    في حقولي ما في سواها ولكن
    باعت الأرض في شراء السماد!!
    فإنه وفقاً لذلك يرى ما وراء ذلك الاستهلاك من قادم متوحش.
    وتأتي سيقات التنبؤ بصيرورة الآن إلى آخر مختلف من داخل رؤية تحتم وقوعه ، فيبدو من خلال سياق النص وكأنه كائن فعلا ، وربما لأن البردوني في حقيقته الإنسانية وبتفاعل مع متغيرات العالم وديناميكيته يظل ” مأخوذاً بالتجاوز والإبداع والتغيير.. يريد للغة الشعرية أن تكون تأسيساً لحقائق جديدة متصلاً لوجه الإنسان البهي ومتجهاً بذلك الطموح العربي الجارف الذي ما يزال يتلعثم بحثاً عن النهج والطريق لاستئناف الإبداعية والخرق والتخطي يعارض في شعره ذهنية الثبات ويرسخ ديناميكية الحركة والتخطي “.(4).
    إن القارئ لشعر البردوني منذ زمان بلا نوعية سيجد أنه وخصوصاً في زمان بلا نوعية يكثر فيها التخمينات على طريقة ما يسمى بعلم “الجفر” ليس في شكل التنجيم أو قراءة الكف بل في شكل متساوق مع الأداء التصويري والبناء اللغوي الذي يقود إلى حداثة استخدام اللغة وأدبياتها:
    وقتاً وتعتاد الجماهير من
    جاءوا وتنسى كلمات النشيد
    ترى كأحلام بلا أعين
    كأعين في وجه حلم بديد
    يتلو نبوءات القبور الصدى
    يميع كالملح العرين الشديد.
    قد تأتي النبوءة مغلفة بالرمزية القائمة أحياناً ولكنها تظهر من خلل في جدار النص هو الأدوات التي يستعملها الشاعر مثل الإشارات الضوئية في وسط ضباب وهو الترميز” وقتاً وتعاد الجماهير- ترى كأحلام – يتلو نبوءات – يميع..” والفعل المضارع هنا دال على الاستقبال لا الحال لمجيئه في سياق التمهل ” وقتاً تعاد ” كون مفرده “وقتاً ” هنا ظرف للإمهال والتوعد وهو ما أعطى الأبيات نكهة التنبؤ.. وجعل من الصيرورة سمة رئيسية داخل النصية البحتة خارج التحليل السياسي الجاف.
    وقد تأتي الشفافية كوسيط فني للدلالة على التنبؤ وفي صورة صريحة تحتمل الفاظ ومتلازمات التنبؤ مع الاحتفاظ بفنية البناء الشعري:
    إنا بعون الله نرسم ما يلي:
    عن ما مضى بعدي وقبل تشرفي.
    النقطة العشرون تصبح رابعاً
    الخمس بعد العشر أمر موقفي.
    تمثل آلية التنبؤ في ترسم ما يلي كبوابة مؤدية إلى أبعاد الدلالة على رسم نبوءة ما مختفية خلف السياقات التصريحية التي أعتمدت في بنائها الفني على قلب مفهوم الصورة “مضي بعدي- قبل تشرفي- العشرون تصبح رابعاً ” لتدل في اسلوبيتها المأخوذة من لهجة تراثية هي غموض كلام المنجمين والسحرة كقيمة جمالية استثمرها البردوني داخل سياق النص لغرض جمالي يرمي به إلى التلويح بالمتنبأ به.
    وإليكم التفصيل يسقط عالم
    بسقوطه في كل قصر تحتفي
    وحضارة تعدو ويعثر نعلها
    بجبينها وبذا التلهي تشتفي.
    ختاماً: كان البردوني يعي طوال رحلته الفنية والفكرية كيف يجب أن تكون تفاصيل تجربته التي تقترب من مفهوم الدراما! الدراما الشعرية التي تتدرج من مواقفه المناوئ لحداثة مادية قائمة على استهلاك القيمة الإنسانية الفطرية:
    قالوا هم البشر الأرقى وما أكلوا
    شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا
    ومن ثم الغوص في تفاصيل وأعماق الهم الإنساني وتفاصيل كينونته الوحشية للوصول إلى غرض شفيف للحقيقة الموحشة.
    ليس بيني وبين شيء قرابة
    عالمي غربة زماني غرابة.
    ومن ثم استقراء وجه المستقبل الناتج حتماً عن هذه التفاعلات الحضارية واسشفاف ما قد يكون عليه حال الإنسان بشكل تصريحي مخصص المكان والذات أو بشكل غامض رمزي مطلق.
    ولكنه يبدو متفائلاً بعد هذا كله تفاؤلاً يتمثل في التفتيش عن خلاص مثالي قد يكون زمناً أو مكاناَ:
    أريد مدى إضافياً ثرى من صنع إتقاني
    وتاريخاً خرافياً أعلق فيه قمصاني
    وأيضاً:
    سوف تأتين كالنبوءات
    كالصيف كانثيال الغضارة.
    وقد يكون مخلصاً في صورة مهدي أو فارس أو حكيم!!:
    يا مصطفى يا كاتباً
    من كل قلب تألف
    ويا زماناً سيأتي
    يمحو الزمان المزيف..
    ————————–
    المراجع:
    1) عبد الرحمن إبراهيم – الصورة جدلية الثنائية الضدية في شعر البردوني للأستاذ / عبد الرحمن إبراهيم – الحكمة –ص88.
    2) المصدر اسابق
    3) وليد مشوح – الصورة الشعرية عند البردوني – ص209
    4) د: خالدة سعيد – ضمن دراسة ” جدلية الثنائية الضدية في شعر البردوني ” للأستاذ / عبد الرحمن ابراهيم – الحكمة ص88

  • 421 جمالية التكرار في شعر البردوني… عبد الله علوان

    دراسات >  جمالية التكرار في شعر البردوني… عبد الله علوان

    كثيرا ما نسمع أدباء الحداثة يرددون عبارة (لا جديد تحت الشمس) وهذه العبارة بصيغتها الحديثة تنكر التبدلات، ليس في الطبيعة وحسب، كما توحي بذلك العبارة، بل إنها تنكر، بطريقة غير مباشرة، التبدلات الاجتماعية والفكرية بما في ذلك الأدب والشعر على وجه التحديد.
    وإنكار التبدلات، أو اختلاف الظواهر المتكررة في ذاتها وصورها، هو إنكار لقانون التبدلات الكمية والكيفية، وإنكار لقانون الاختلاف بين الظواهر، أو الاختلاف في إطار الظاهرة الواحدة، مثل تعاقب الليل والنهار أو تعاقب الفصول، واختلاف الأجواء، واختلاف حركة الكواكب والأفلاك وما يترتب على حركتها من تحولات في العناصر الأولى واستحالة بعضها إلى بعض وأثرها على المناخ والكائن.
    وهناك مثل شعبي يقول (كل يوم وله شمس وريح) وهو مثل عفوي صادق، ويعترف بالتبدلات الكمية والكيفية، وباختلاف الظواهر المتكررة، ومن خلال ظاهرة التعاقب بين الليل والنهار والفصول، ومن خلال حركة الكواكب والأفلاك. وتأثيرها على المناخ والكائن، وهو من قوله تعالى (يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن…الآية 29 سورة الرحمن) وقوله تعالى من سورة الرعد الآية 39 (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) راجع تفسير الشوكاني للآيتين، وإقراره بالتبدلات الاجتماعية والتاريخية والطبيعية.
    ومن هذا وذاك ندرك أن قانون التكرار لا ينفي قانون التبدل والاختلاف، بل يؤكده، والعكس صحيح أيضا.
    قد يتشابه اليوم بالأمس، كما يشبه الولد أباه، أو كما يشبه الشخص نوعه، لكن الاختلاف هو القاعدة بينهما، فقانون التشابه والتمايز لا ينكر قانون التباين والاختلاف، وإنما لكل قانون مجراه، أو لكل مقام مقال، كما يقول البلاغيون.
    وفي أيامنا هذه انتشرت في أوساط الحداثيين نغمة شاذة تقول إن شعر البردوني متكرر، وذلك عند ما يكون الحديث دائرا حول شعر البردوني وأدبه، وغرضهم من ذلك ليس إغلاق أبواب النقاش عن البردوني وشعره وحسب، بل ولغرض إبعاد الجماهير عن شعر البردوني، بصورة خبيثة.
    وقولهم هذا، لا يختلف عن قولهم القديم (لا جديد تحت الشمس)، ولكن العبارة هنا موقوفة على شعر البردوني، وفي مجالس يكون فيها النقاش حول شعر البردوني وقوة إبداعه ومتانة شعره وصدقه الجمالي وحرارة القيم الجمالية فيه.
    وعندما تطالب هؤلاء العدميين بالدليل، أو بالبيان أو بالتحديد أو بضرب المثل وتقديم الشاهد، يعجزون عن إثبات ما يدعون أو بيان دعوتهم أو تحديدها. لا لأنهم يجهلون شعر البردوني، وأدبه وحسب، بل لأنهم يجهلون حقيقة الأدب وقواعده، ويقولون ما يقولونه ترديدا ببغاويا، أي أنهم يقولون ما لا يعرفون، أوهم يهرفون بما لا يعرفون……………..؟!
    والتكرار في الشعر ظاهرة لا ينكرها إلا جاهل، أما الأكثر جهلا فإنه الذي لا يقدر على تحديد الفروقات بين أمس الدابر، واليوم الحاضر، وما يعتور هما من تبدلات طبيعية، واجتماعية، وفكرية، وهم لا يعرفون ما الثابت من المتحول، أو المتحول في الثابت ولكنهم يخبطون العشواء.
    ومن الثوابت في الشعر تلك الظواهر الجمالية التي عالجها الشاعر الجاهلي بصورة فنية آسرة، كما عالجها الشاعر الأموي وعالجها الشاعر العباسي، وكما وقف عندها شعراء النهضة، على طريقتهم واستوقفت شعراء الرومانسية، وشعراء التفعيلة، ولكن بأساليب مختلفة اختلاف الأزمنة والأمكنة، واختلاف الأساليب العصرية، واختلاف مستويات الوعي، وتفاوت الشعراء، بل واختلاف الحالات الشعورية في ذات الشاعر الواحد، ونظرته المتبدلة من موقف لآخر، لأسباب يفرضها الواقع الشعري المتبدل.
    فالظاهرة الطللية في الشعر الجاهلي، هي من مظاهر الجمال الثابتة، هذه الظاهرة لم تنتف عن الشعر عبر العصور ولكن التعبير عنها اختلف من عصر إلى عصر ومن شاعر إلى آخر اختلاف أحوال ظاهرة الأطلال، فأطلال زهير ابن أبي سلمى، غير أطلال طرفة ابن العبد، وأطلال البحتري تختلف عن أطلال أبي تمام، والمتنبي، وعن هؤلاء تختلف أطلال شوقي وأطلال إبراهيم ناجي، وعن أطلال كل هؤلاء الشعراء تختلف وقفة البردوني الطللية، على بيته القديم في بستان السلطان:
    أيا بيتا هنا في القلب
    كيف أبث تحناني…؟
    أتذكر كنت بُنّيا….؟
    ولون الباب رماني…؟
    وكان السورقاتيا
    ومرأى الصحن مرجاني
    وكنت تشير بالكاذي
    وبالورس الغوايداني
    تبث الشدو سعديا
    وأحيانا قمنداني
    أحس تهدمي يهفو
    إلى نزعات شيطاني
    وهل هذا الذي أجتر
    كالأنقاض جثماني…؟
    (كائنات الشوق الآخر)
    وكالظاهرة الطللية، نجد الحب كظاهرة جمالية ثابتة، متكررة لا في شعر الأعشى والمرقش وامرئ القيس وكل شعراء الجاهلية بل في الشعر الأموي كذلك، فغزل عمر ابن أبي ربيعة، لا يختلف عن غزل امرئ القيس الجاهلي وحسب، بل يختلف عن غزل جميل بثينة، وعنهم يختلف غزل جرير، وغزل الأخطل يختلف عن غزل الشريف الرضي وعن هؤلاء يختلف غزل السياب، وغزل نزار قباني وغزل جرادة ولطفي جعفر أمان.
    وكما أن حكمة زهير بن أبي سلمى موضوع جمالي خاص به، إلا أن الحكمة شعرا لم تغب، لا عن الفرزدق ولا عن بشار بن برد، ولا عن صالح بن عبدالقدوس، وأبي تمام، ولاعن المتنبي والمعري، وشوقي ورشيد الخوري، وهي حاضرة في شعر البردوني حضور الحياة كلها كما في قوله من قصيدته (أغنية من خشب):
    تغل العواسج في كل آن
    وفي كل عام يغل العنب
    أما الشعر التفعيلي، فيكاد يخلو من الحكمة، إلا من لم اقرأ لهم. وهكذا قل في مواضيع الشعر الأخرى، كالبطولي، والفخر والمديح والهجاء والرثاء، والوصف….الخ.
    أما وسائل البيان والتعبير فهي من الظواهر الثابتة، وتختلف اختلاف الشعراء، كاللغة وأساليب البلاغة، من استعارة وتشبيه وتمثيل ورمز، فكل عناصر المجاز وسيلة بلاغية لبيان حقائق المعرفة الشعورية في كل عصر ومع كل الشعراء.
    وفي ثوابت اللغة وأدوات التعبير يكمن المتبدل والمتكرر في آن، فالتكرار ظاهرة ثابتة في كل الثوابت وفي كل المتغيرات.
    كذلك من الثوابت المتكررة في الشعر، أشكال التعبير، كالأوزان والقوافي، فلا شعر بدون الوزن والقافية، أو بمعنى آخر لا شعر بدون نسق بلاغي، محكم، لغة وتراكيبا ومعنى.
    قد تقوم الموهبة الشعرية بالتجديد في الأوزان والقوافي، بل وفي التراكيب اللغوية وأساليب التعبير، بل أن الموهبة مطالبة بذلك، ولكن…..ولكن في إطار ذلك الثابت، أما الخروج على أدوات التعبير وأشكاله، بذريعة الحداثة، فذلك هو الجهل الفظيع، أو التدمير المقصود لأشكال الثقافة العربية – الإسلامية كذلك قل عن ظاهرتي الشعر والشاعر.
    فالشعر ظاهرة ثابتة ومتكررة في حياة البشر، ولا تتجلى هذه الظاهرة المتكررة إلا عبر الشاعر…. فالشاعر شخصية متكررة مثله مثل الشعر، أو مثل الإنسان أو مثل الفصول والأيام.
    وإذا كان الشعر بكل مظاهره الفنية والمعنوية هو ظاهرة ثابتة ومتكررة، فإن التعبير عن تلك الظواهر هو ظاهرة متكررة، ولكنها تتكرر في صور مختلفة اختلاف الأزمنة والأمكنة واختلاف الأساليب والشعراء، فما هو متكرر في الشعر هو متبدل في صورته الشعرية.
    إن الشعر صورة أدبية، ولكنها صورة ذاتية متفردة، ومحكومة بخصائص الموهبة النفسية واللغوية، وبخصائص الموهبة الفنية والفكرية، حتى وإن تكررت هذه الصورة لدى الشعراء، كما يقو ل نقاد (التناص) أو تكررت عند الشاعر الواحد كما يقول النقاد بشكل عام.. وشعر البردوني، يخضع لهذه القاعدة الشعرية، فكل صورة شعرية قالها البردوني في مرحلته الرومانسية يرجع ويعيد صياغتها في المرحلة الواقعية، ولكن بتلقائية وبدون قصد، وإنما الموضوع الجمالي هو الذي يعيد حضوره في ذات الشاعر فيعيد الشاعر صياغته.
    فما كانت صورة غامضة في دواوينه الأولى تصبح صورة أدبية واضحة في دواوينه الأخيرة، وكل هذه المراجعات العفوية في الأدب، تخضع لعدة مواقف جمالية واجتماعية وتاريخية، ثم إنها تتبدل تبدل الواقع الشعري نفسه وتطور مستوى الوعي من مرحلة شعرية إلى أخرى. وأتساع المدارك وتبدل الوعي بهذه الحقيقة الجمالية أو تلك.
    والأهم من هذا وذاك، هو أن الثورة اليمنية، منذ حركة 1948م حتى وفاة الشاعر عبدالله البردوني، هذه الثورة هي واقع البردوني الشعري، وهذا الواقع الثوري، كان ومازال متبدلا، ومادام هذا الواقع متبدلا، فهو بالضرورة متكرر في الشعر بصورة متبدلة أيضا.
    على ذلك فنحن عندما ننظر إلى تكرار الصورة الشعرية أو تبدل موقف الشاعر من خلال شعره، ومن هذه الظاهرة الجمالية أو تلك، عندما ننظر إلى ذلك لا يحق لنا إنكارها على الشاعر لأن ذلك حقه وحده دون غيره.
    ولا يحق لأحد أن يتهم الشاعر بالتكرار الشعري، إلا بعد دراسة شعره ودراسة واقعه الشعري وما لازم ذلك من تبدلات في الواقع ذاته، وتبدلات في الصياغة الشعرية.
    ولا يحق لأحد اتهامه بالتبدل أو التراجع فذلك من حق الشاعر دون غيره، بل يجب النظر إلى هذه المواقف المتبدلة، أو المعاني الشعرية المتكررة، أو انقلابها إلى النقيض، من خلال الصدق الشعري أولا ثم من خلال صياغة الصورة الأدبية بلاغيا ولغويا، ثانيا، ثم ما داخل ذلك من صفات تخضع واقعيا وتاريخيا لمعايير الصدق والكذب، ولمعايير الصواب والخطأ، ولمعيار الإمكانية والواقع…. ومن موقع جمالي فقط.
    تلك حقيقة التكرار في الشعر على العموم وفي شعر البردوني على وجه خاص، فهو ليس عبدا للمدارس الجمالية ومبادئها…. وليس عيداً للشعارات الحزبية الكاذبة، أو السياسات المخادعة، ولكنه عبدالشعر وعبدالحب والجمال، إنه الرائد الذي يصدق أهله:
    أمي أتلقين الغزاة بوجه مضياف مثالي..؟
    لم لا تعادين العدى..؟ من لا يعادي لا يوالي
    إني أغالي في محبة موطني…. لم لا أغالي.
    ** ** **
    وفي شعر البردوني، لا يتكرر الموضوع وحسب، بل وتتكرر فيه أدوات التعبير الأولى، مثل اللغة والوزن، وأساليب البلاغة الأساسية كالاستعارة والتشبيه والتمثيل والإشارة والرمز، كل هذه الثوابت تتكرر في شعره، بل تتكرر الصور البلاغية، ولكن بصياغات مختلفة، فالشعر معنى يمارسه كل الناس في كل العصور، أو لنقف عند قول الجاحظ وهو أصدق علماء الكلام، قال الجاحظ: (المعاني في الطريق يصادفها العجمي والعربي، والحضري والبدوي، وإنما الشأن في الصياغة، فالشعر فن من النقش والتصوير، أو كما قال).
    والمعاني يقصد بها المواضيع الجمالية، وجملة في الطريق يعني أنها مشاعة لكل الناس، وبعبارة (الشأن في الصياغة) يقصد أن الشعر صورة بلاغية قوامها الأسلوب واللغة، وعلى أسلوب الشاعر ولغته تجرى الأحكام النقدية فقط.
    ولو تتبعنا مواضيع البردوني الشعرية، لوجدناها صورا تتكرر في كل أشعاره بأساليب أخرى.
    فالطلل ظاهرة نجدها في أكثر من قصيدة أهمها قصائده (ذكريات شيخين) و(مدينة بلا وجه) و(صنعاني يبحث عن صنعاء) ثم قصيدة (كائنات الشوق الآخر) وغير ذلك من قصائد أو أبيات، ولكن في صور مختلفة، فما كان موضوعا للدهشة في ذكريات شيخين، يصبح ظاهرة جمالية مستنكرة في قصيدتيه (مدينة بلا وجه) و(صنعاني يبحث عن صنعاء).
    وهذه الظاهرة الطللية، في (كائنات الشوق الآخر) تكون محل استنكار ورفض وإدانة لكل ماهو حديث، أو لكل معاول الهدم الحديثة، وتأتي هذه القصائد في بحور شعرية شجية مفعمة بأنفاس البردوني ونظرته الخاصة، رغم أن هذه البحور قديمة قدم الشعر، كالرمل، والطويل، أو من الكامل والهزج.
    وكذلك نجد التاريخ موضوعا جماليا في شعر البردوني، ويأتي بأسلوب سردي متكرر، فهو في (حكاية سنين) موضوعا يتوخى أصالة الحاضر، وقوامه البحر الكامل:
    فإذا الثلايا والبطولة
    يركلان شموخ صالة
    وهو في مسافرة بلا مهمة، موضوع قوامه البحر الخفيف، يقول فيه:
    أي شيء أريد ما عدت أغفو
    أقلق الدهر مرقدي وشخيره.
    ويتكرر التاريخ كموضوع جمالي في قصيدتي (جواب العصور) و(رجعة الحكيم ابن زايد) بأساليب تختلف عن قصيدتي (حكاية سنين) و(مسافرة بلا مهمة).
    وكذلك نجد (الثورة) موضوعا في كل أشعاره، أو معظمها، ابتداء من قصيدته (في طريق الفجر) حتى قصيدة (رجعة الحكيم ابن زايد).
    وفي استخدامه للرمز، نجد شخصية السبتمبري، شخصية متكررة، ابتداء من قصيدته (لص تحت الأمطار) مرورا بقصائده(مناضل في الفراش) و(ثرثرات محموم) حتى (بغيض العمشي) و(عواصف وقش) وغيرهن.
    وحتى المواضيع الجمالية التي تكاد تكون حكرا على البردوني، هي أيضا تتكرر، مثل موقفه من السياسة العرقية، فهو في قصيدة (حوار جارين) يسخر ويتهكم من سياسة الإمام أحمد العرقية، ونجد الموضوع يتكرر في قصيدته (زائر الأغوار) وهو أكثر مواضيع السخرية في قصيدته (من حماسات يعرب الغاراتي) المنشورة في ديوانه (ترجمة رملية لأعراس الغبار).
    وبقدر ما كان البردوني يمتدح الرومانسية في ديوانه الأول (من أرض بلقيس)، رجع ليهاجمها بشدة في ديوانه الثالث (مدينة الغد) كما في قصيدته (فارس الأطياف).
    ثم إن البردوني الذي كان – وظل- واقعيا حتى آخر يوم من حياته، رجع يهاجم الواقعية بشدة كما في قوله من قصيدة (ثرثرات محموم):
    قلت لي إنّ ذا أكيد ولكن
    أي شيء مؤكد يا حمادي…؟
    وكذلك موقفه من الحداثة، فهو لا يشيد بها، ولكنه يهاجمها بشدة فقد كان يتعامل مع الحداثة بجدية انتهت به إلى التحرر منها راجعا إلى عمود الشعر كما نلاحظ ذلك في قصيدته (وردة من دم المتنبي):
    من تداجي يابن الحسين؟ أداجي
    أوجه تستحق ركلا ولطما
    كم إلى كم أقول ما لست أعني
    وإلى كم أبني على الوهم وهما
    تلك مظاهر التكرار في المواضيع المتكررة وفي موقفه من المدارس الأدبية، ولكن لا بد من بيان الصورة الشعرية المتكررة وتحديدها عبر أبيات شعرية متكررة من حيث الشكل ومختلفة من حيث المضمون والموقف والصياغة.
    ولنأخذ أولا قوله من قصيدة (يقظة الصحراء) يصف الاستعمار القديم، قال يخاطب محمدا عليه الصلاة والسلام:
    يا رسول الحق خلدت الهدى
    وتركت الظلم والبغي حطاما
    قم تجد في الكون ظلما محدثا
    قتل العدل وباسم العدل قاما
    فقد أصبح العدل مقتولا باسم العدل، ومثله قوله من قصيدة (بغيض العمشي) يصف الاستعمار الحديث:
    غيم يعيق البرق لا يندى ويأبى أن يبارح
    ويتكرر هذا الوصف في قصيدة (رواغ المصابيح) في قوله
    يذبحون الرجا في كل قلب
    وينوبون عن بزوغ المرجَّا
    ثلاث صور بلاغية متكررة لمعنى، ليس واحدا، وإنما لموقف متعدد الأوجه، هو موقف الاستعمار أو الحداثة من الشعوب العربية.
    فالاستعمار يذبح العدل ويعمل من نفسه حكما على الناس، والاستعمار يمنع الغيث باسم الغيث، فلا هو يدع أمطار الله تهطل ولا يدع لنا الشمس تشرق.
    والحداثة تقتل آمال الناس، وتعمل من نفسها بوابة للتقدم مع أنها التخلف بكل صفاته وذواته.
    الصور مختلفة، من حيث الشكل والموقف، لكن الموضوع الجمالي، متقارب، ولكنه موضوع جمالي جديد خاص بالبردوني وحده.
    ثم نجد التكرار في صورتين مختلفتين، الأولى أخذتها من قصيدته (حوار جارين)ٍ وفيها إدانة واضحة للسياسي العنصري، والمتبجح بالسلالية، يقول البردوني يخاطب الشخصيات العرقية:
    أنت مثلي معذب فكلانا
    صورة للهوان نخزي الإطارا
    وتتكرر هذه الصورة في سياق آخر، بنفس الديوان (طريق الفجر) في قصيدته (أنا وأنت) بقوله:
    أنت مثلي مغفل نتلقى
    كل أكذوبة بكل سهولة
    الصياغة متشابهة، وقوامها التشابه الذي يؤكد التمايز ومن بحر شعري واحد، ولغة متقاربة، ولكن باختلاف واضح، هو اختلاف العذاب والهوان والخزي، في البيت الأول، واختلاف الغباء والجهل والغفلة في البيت الثاني. في البيت الأول يدين السياسة العرقية وتبجحها بالنسب، تبجحا يؤكد هوانها وخزيها وبؤسها.
    والبيت الثاني يدين شخصية حزبية انفعالية منبهرة بالحداثة أو بالمظاهر الاستعمارية المخادعة، دون وعي بها.
    وإذا كانت الصورة الأولى، تجسد معاني الهوان والذل للمتبجحين بالأمجاد العرقية والعنصرية، فإن الصورة الثانية تجسد حالة الغفلة والجهل في كل سياسي لا يقدر على معرفة الحقيقة، وينصاع للاستعمار والحداثة.
    كذلك نجد ضحالة السياسة العرقية في قصيدته (زائر الأغوار) فهو يصور شخصية عرقية من نوع. السبئيين، شخصية قحطانية تلفعت بالليبرالية شعارا لها وبقيت محتفظة بالقحطانية كدثار وكلاهما يخفيان حقيقة الإرهاب الليبرالي والتجسس على الشاعر:
    من هذا الملغز يا أهلي
    بل هذا المعجز يا صحبي
    يغشاني من رأسي حتى
    لا أدري قدمي من جنبي
    ورث (اللنبي) غازٍ أدنى
    وجها من عرقوب (اللنبي)
    سألت هنا دارا، قالت
    ما استنبح مقدمه كلبي
    من ذا تدعوه…؟ أخمنه
    سبئيا أضحى لا يسبي
    لكن أحيانا يفتخر البردوني بجذوره العربية عند الحق، وبصورة تجعل من سلالتي عدنان وقحطان، وحدة إنسانية متعاونة للخير والحب والعدالة الاجتماعية كما في قوله من قصيدة (مآتم وأعراس):
    ودفنا حكم الشذوذ رفاتا
    واحتشدنا نتوج الشعب حاكم
    والتقينا نمد للفجر أفقا
    من دم التوأمين (عاد) و(هاشم)
    لكن بعد الصلح الملكي الجمهوري، يتراجع الشاعر عن هذه اللفتة العظيمة، بلفتة تدين السياسة العنصرية بكل صورها، كما في قوله من قصيدة (يعرب الغاراتي) من ديوان (ترجمة رملية):
    نحن أحفاد عنترة
    نحن أولاد حيدرة
    كلنا نسل خالد
    والسيوف المشهرة
    أمراء وفوقنا
    عين (ريجن) مؤمرة
    وسكاكيننا على
    أعين الشعب مخبرة
    نحن للمعتدي يد
    وعلى الشعب مجزرة
    ليس فينا تقدمي
    سوى الفخذ والشره
    هكذا أمة العلا
    من علاها مطهرة
    فهذه القصيدة، أعلاه، إدانة صريحة للسياسات العرقية والقومية والوطنية والتقدمية، مع أن الشاعر البردوني عروبي وتقدمي، لكنه هنا يدين هذه السياسات، ويسخر من النعرات الطبقية، والقومية بصورة أكثر من سخريته بالسياسة الرأسمالية:
    هل الشيوعي أتى المالي كما قصدت
    محنية الظهر والثديين عطارا….؟
    كلا النقيضين كالأنقاض فارتجلي
    بأسرة الأرض زلزالا وإعصارا
    هل اتفقتم تجيئون الشعوب معا
    تزعمون عليه الكلب والفارا….؟
    (ثوار والذين كانو، جواب العصور)
    فالصورة هنا تتكرر بصيغة ساخرة من السياسة الحديثة وبالذات سياسة ما بعد جمهورية نوفمبر 1967 م وحتى وفاته.
    * * * **
    التكرار إذن يتجلى في معظم الظواهر الشعرية، فالتكرار في الموضوع الجمالي، ينشأ عن احتفاء الشاعر بذلك الموضوع وانشغاله به سلبا أو إيجابا، أو ينشأ عن قوة تأثير الموضوع على الشاعر.
    والتكرار في الوزن والقافية، واللغة، ظاهرة ملازمة للتعبير الشعري، فلا شعر بدون الوزن والقافية ولا شعر خارج اللغة.
    والتكرار يتجلى أيضا في أكثر من صورة شعرية، إما في القصيدة الواحدة، أو في البيت الواحد، أو في العبارة الشعرية الواحدة، أو في تكرار كلمة مستحبة ويجد الشاعر فيها لذة خاصة.
    وهنا سنقف أولا عند تكرار العبارة، ثم الكلمات.
    وهذا التكرار يكون إما استيفاءً للمعنى أو تحسينا لصورته، أو أن صورته الواقعية تبدلت في الواقع فأعاد الشاعر صياغته، خذ مثلا قوله يصف السياسة الحديثة، في قصيدته (عازف الصمت) من ديوانه (في طريق الفجر) عام 1963 م.
    1- تلحن حتى تراب القبور
    وتعزف حتى فراغ الكهوف
    فتلحين الرفات، كناية عن سياسة البعث، وعبارة تراب القبور إشارة إلى ذلك، وقريبا من ذلك العزف على فراغ الكهوف.
    وتتكرر هذه الصورة الشعرية، في قصيدته (سباعية الغثيان الرابع) من ديوانه زمان بلا نوعية في عام 1977 م.
    2- تسيس حتى تراب القبور
    وتقبر حتى جنين الأمل.
    فالبيت الأول كناية عن السياسة الرجعية، أما البيت الثاني فكناية عن السياسة الحديثة التي تدعي الإحياء وهي تمارس التقتيل والتنكيل وكذلك قوله يصف الايديولوجية الحديثة:
    1- لها قامة العصر لكن لها
    رؤوس كأخفاف يوم الجمل
    فالايديولوجية عصرية من حيث القوام الخارجي ولكنها بعقلية خفيفة أخف من عقليات زعماء معركة الجمل في معارضتهم علي بن أبي طالب بعد بيعتهم له.
    وتتكرر هذه الصورة، في قصيدته (مصارحة المأدبة الأخيرة) بصورة تجسد الإرهاب الأيديولوجي الحديث:
    2- لها دموية كالصقر
    تحت وداعة الورقا
    البيت الأول يصور فهاهة الحزبيين وجهلهم، أما البيت الثاني فيصور دهاء ومكر الحداثة وقوة فتكها بالشعوب تحت مظاهر التحديث والحرية والديمقراطية…الخ.
    كذلك نجد الشاعر يصف تلابس الحياة الحديثة، في قصيدته (ذكريات شيخين) من ديوانه (مدينة الغد):
    1- كل شيء صار ذو وجهين لا
    يدري شيء أي وجهيه أصح
    ثم تتكرر هذه الصورة في قصيدته (التاريخ السري للجدار العتيق) من ديوانه (وجوه دخانية)
    2- عجيبة يا ريح ماذا جرى…؟
    تشابه الميلاد والانتحار
    يبدو أن المعنى واحد، وهو الاغتراب عن الحقيقة الحياتية، وسياسة الزيف الثوري، ففي البيت الأول تغيب الحقيقة في الأشياء، أما في البيت الثاني فتغيب الحياة نفسها إلى حد أننا نفقد القدرة على التمييز بين ظاهرتين متباينتين، وهما ظاهرتي الميلاد والانتحار، فكل مولود يبدو كالمنتحر في ولادته، وكل منتحر يبدو مولودا، فالدفع بالطيبين إلى الحروب والمقاومة بدون أدوات صراع متكافئة، هو ضرب من الانتحار، والتراجع عن الحروب عند عدم تكافؤ أدوات الصراع، يظهر المتراجع وكأنه المجرم مع أنه يمارس عين العقل، ويفسر ذلك قوله في قصيدة (آخر الموت) من ديوانه (زمان بلا نوعية):
    أصبح القتل عادة واشتياقا
    أصبحت وحدها النجاة المعابة
    فانقلاب القتل من صورته الإجرامية إلى عادة وشوق، أمر خارج عن الحقيقة الحياتية، ومخالف للحياة.
    أما المحافظة على الحياة فهي عيب في نظر الأحزاب الثورية، وهنا تبدو الصورة الشعرية كلها محاولة لبيان الحقيقة عبر التكرار، إنه ضرب من استيفاء المعنى وبيانه، في عصر أصبح كله زيفا ونفاقا واستغلالا ونهبا وتقتيلا وتدميرا.
    كذلك قوله في قصيدة (صراع الأشباح) من ديوانه (في طريق الفجر).
    1- ودنوت منها فانتشت
    شفتاي، واخضر افتراري
    ثم تتكرر هذه الصورة في قصيدة (ثرثرات محموم) من ديوانه السفر إلى الأيام الخضر في قوله:
    2- أضحكتهم كتابة اسمي وفورا
    بيضت خضرة النقود مدادي
    فالفرح هو القيمة الجمالية في البيتين، لكن ثمة فرقا بين فرح الحبيب بالدنو من حبيبته واخضرار البسمة، وبين فرح المرتزق بالنقود مقابل تنازله عن هويته الوطنية.
    كذلك نجد الفارق بين قوله من قصيدة (الغبار والمرائي الباطنية) في ديوانه (وجوه دخانية)
    1- عجبا رغم التعري، تنطوي
    ذاتها فيها وذات الغير تظهر
    وبين قوله من قصيدة (لعبة الألوان) في ديوانه (زمان بلا نوعية)
    2- كل مستور تعرى إنما
    سرق الأنظار تزوير التعري
    فالبيت الأول يقدم صورة لحالة التنكر عن الذات، وادعاء ذات أخرى ليست منه، كالأحزاب القومية والليبرالية، مثلا، أما البيت الثاني، فيقدم صورة لحالة سياسية أخرى، تدعي الإفصاح بالحق، ولكنها لا تعمل به، وإنما تنافق به، أو تزاود به.
    وكلا البيتان صورة من أحوال الادعاء السياسي، والنفاق والتمويه والمواربة، وكلها قيم سياسية حكمت الأحزاب السياسية ورجال السياسة، في الفترة من بداية القرن التاسع عشر حتى هذا القرن الحادي والعشرين.، فهم يغالطون بعضهم بعضا، ويتنصلون عن أبسط القيم الأخلاقية في سبيل الحصول على امتيازات سياسية رخيصة، رخص سعيد المرادي، في (ثرثرات محموم).
    كذلك يجب التوقف عند هذه الأبيات الثلاثة، من ديوانه زمان بلا نوعية. يقول في البيت الأول من قصيدة (صنعاء في فندق أموي).
    1- زمان بلا نوعية ساق ويله
    متاخيم يقتاتون أفئدة الجوعى
    ويقول في قصيدة (زمان بلا نوعية) بنفس الديوان:
    2- أريد ماذا يا زمانا بلا
    نوعية لا يدري ماذا يريد
    ويقول مرة ثالثة من قصيدة (آخر الموت) بنفس الديوان
    3- يا زمانا من غير نوع تساوت
    مهنة الموت واحتراف الطبابه
    فالزمان الأول تعبير عن حالات الظلم إلى حد نجد فيها الإنسان يأكل أخيه الإنسان بصورة متوحشة.
    والزمن الثاني، تعبير عن حالات الجهل والعياء وعدم الدراية بصورة لم يعد فيها اليمنيون قادرين على إدراك مقاصدهم والتعبير عن أنفسهم.
    والزمن في الصورة الثالثة تعبير عن تجارة الطب وتوظيف العلم للاستغلال بدلا من التطبيب.
    وفي كل الحالات، هو زمن لا نوعية له، إنه زمن الاستغلال والنهب والغش والظلم، زمن الجهل والعياء.
    ونجد التكرار أحيانا في العبارات، كما في تكراره لعبارة ( ماذا جرى) كما في قوله من قصيدة (حكاية سنين): ( ماذا جرى…؟ من يخلف المرحوم من أتقى وأخشى)
    ثم يقول في قصيدة (زمن بلا نوعية)
    ماذا جرى….؟ عصر الرشيد انتهى
    واحتل مسرور محل الرشيد
    ثم يكرر هذا الاستفهام المذهل في قصيدة (رجعة الحكيم ابن زايد)
    1- ماذا جرى….؟ تحيون أعراسكم
    على دم ما حان أن يبردا
    والعبارات في كل الحالات تصور حالة الذهول من وقائع الثورات العربية واليمنية، ولوقائع التحالفات السياسية الغادرة.
    كذلك نجد الشاعر يكرر النداء، بصورة مسرفة، كما في قصيدته (فنقلة النار والغموض).
    فهو يكرر النداء إلى تلك الأماكن المعروفة في محافظة عدن كما نلاحظ ذلك في الأبيات التالية:
    يا (خور مكسر) يا المعلا
    لغة الجدال اليوم أعلا
    فيما التصاعق يا (معاشق)
    لا أرى للأصل أصلا
    يا (دار سعد) لفتة
    (يسعد صباحك يا المعلا)
    يا (شيخ عثمان) استجب
    ماذا ترى…؟ أرجوك مهلا
    (صنعاء) مفعمة بما
    أججت كيف تكون أخلى
    وصداك قهوة (لاعة)
    قات (الحديدة) و(المصلى)
    لم لا أسائل (صيرة)…؟
    يا (جولد مور) إجابة….؟
    قولي (كريتر) ما هنا…؟..الخ
    القصيدة قيلت أيام أحداث 13 يناير 1986 م، وهي أحداث غامضة الجريمة بشعة الأثر، ومن هذا وذاك اتجه النداء صوب المتناحرين، بل صوب مدينة عدن ومختلف أحيائها لبسالتها باستنكار مما جرى…؟.
    خلاصة القول، إن التكرار ظاهرة جمالية، مثلها مثل ظاهرة الشعر نفسه، أو مثل ظاهرة الشعراء، فكل جميل مستحب، وكل مستحب يستلذ تكراره وكذلك شعر عبدالله البردوني محكوم بهذا الجمال وتلك اللذة الشعورية العميقة، إلا من يكره الجمال فلا حكم له، كما قال المتنبي:
    ومن يك ذا فم مريض
    يجد مرا به الماء الزلالا.
    عن موقع (بيت الشعر اليمني).

  • 422 البردوني وشاعرية اليمن…وجه من قصة الخلود!!… الأستاذ حسن اللوزي

    >  البردوني وشاعرية اليمن…وجه من قصة الخلود!!… الأستاذ حسن اللوزي

    ونحن على مشارف الذكرى الرابعة الحزينة والمريرة للرحيل الأليم لمبدع الوطن الكبير الشاعر العربي العملاق عبدالله البردوني رحمه الله رحمة الابرار لا نملك إلاّ ان نقف بإمعان لمزيد من التعلم وتجويد استيعاب الدروس الابداعية التي جادت بها حياته الغنية علينا وعلى الامة العربية وثقافتها الحية والثقافة الانسانية بشكل عام وان نتقن التأمل في البصمات الخاصة التي ارادها الراحل له وحده ليحلق بعيداً خارج اقبية القافية الصماء!! وارتقاءً بها بعيداً عن المطروق المكرر والمغلق!!
    نعم لقد كان رحيلاً ضارباً بأثاره التي لا يمكن وصفها الا بلسان جوّاني يستنطق كل باطن تشجرت فيه معرفة الشاعر وألمت بابداعاته. ويبوح ويتغنى بكل ما يعتمل ويفيض في الاعماق.. وما يزال البعض منه يتشكل ليحيا في ذماء القلوب ورحاب الحشا وجعاً اسطوريا حميماً لا ينفك يقدح زناد المشاعر الاصيلة التي لايمكن ان تستوعب فداحة الفقد الا بإداراك حقيقة حتمية الاكتمال في لوحة الوجود المادي”الجسدي” في أو ان حاسم لا يتقدم ولا يتأخر ولايسمح بفتنة اقتراف الاخضرار والاثمار المستمرين..ليكون المتسع كله بعد ذلك للتوقد الابدي لمعنى الروح التي اراد الخالق سبحانه وتعالى استحالة ادراكها..كما هو الشأن بالنسبة لامر الشعر الذي يكاد لولا ان اللغة هي اداته المستوعبة والناقلة والمتحركة به.. ان يكون صنواً لها وهو ما جعله من امر الانسان يحيا به حياته الفاضلة عبر توالي الازمان.. وهو بذلك لا ينفك يباري الروح في مراقي الديمومة وفوق الهامات التي يتبرج على شرفاتها وجه الخلود!!
    وذلك وجه من قصة الخلود التي سطرها البردوني لنفسه بإقتداره.. وكفاحه وجدارته الابداعية وهي شريحة فريدة من نسيج قصة الشعب الحي الذي انجبه.. وهيأ له هذا القدر الانساني الذي سيبقى ساطعاً في مشكاة الابدية.. وقد اغترف من بحر الكلمات التي لا نفاذ لها وافاض.. ولم تعطل همته حبائل الزبد!! مضى مشرقاً بالناصع من فيض عطائه الذي لن يتكرر وليس له شبيه ولانظير فيما ابدعة شعراء القرن العشرين والذي صار متصدراً لقائمته العربية دون منازع فهو شاعر العروبة البار بها وبكل القضايا الثقافية والسياسية.. كما هو في العمق شاعر اليمن الطالع من ايقونة المهد ليقدم تجربة شعرية فريدة سوف تحتاج العروبة ونقادها والمختصون فيها وقتاً طويلاً من اجل الوصول إلى تقويم عادل ومنصف لها من حيث حقيقة الحداثة الاصيلة التي عبرت عنها.. ومن حيث عناصر التميز وميادين التفوق التي صال وجال فيها دون ان يقف امامه أي منازل ممن ينسجون على نفس المنوال حتى بدا وصار بلوغ ذروة سدرته ضربا من اجتراح المحال لمن اراد ان يجرب ويغرق في ذات الاسلوب ونفس التقنية ومنهاج المعالجة الابداعية اللغوية والرؤية الشعرية.
    ذلك أن من أعظم مميزاته الإبداعية انه استطاع ان يوظف الحوار شعرياً كما لم يفعل ذلك شاعر من قبل من يوم ان افترعت اللغة العربية فالتشخيص والتمسرح والوثوب إلى عمق الحياة البسيطة اجتلاءا واستكناها للرؤى الشعرية سمة بردونية لم يبلغها المستضون بعيونهم وفعلها الرائي بأحاسيسه الانسانية وأعماقه الفطرية القادرة على الالتقاط والجيشان وذلك ربما كان وفاءً منه لصلته العميقة بالشارع وبالارصفة التي ظلت خطواته تقرؤها على مدار العمر كله حيث لم يكن يستخدم السيارة التي امتلكها في العقدين الأخيرين إلا لماما وهو إلى جوانب كثيرة صارت من خاصيته ولا تتسع هذه المساحة لها قد اشعل ذائقة جديدة للشعر لدى المتلقي في الوطن اليمني والجزيرة العربية وعلى امتداد الخارطة العربية اللغوية والجغرافية ان القافية لديه لاتشكل اثقالاً أو أغلالاً أو بؤراً تحول دون التجلي الرائع بقلائده الابداعية المطلقة الروح والنافذة الايحاء والبوح على سعة التكون والتشكل والآفاق الادراكية والحسِّية بقوة إلتقاط الباطن والمستكن تحت طلب الصيد الذهني والحسي على حدٍ سواء وكل ماتحفل به الرسالة المنتجة في ماتطرحه وتثمره بل وتتفجر بينابيعه القصيدة البردونية.. وهي في مجموعها الباقي في تناسل غير مغلق محصلة يتسامى وزنها الفاعل في الحياة كلها وليس في حقول الثقافة فحسب لذات الاشراقات النابعة من فيض القصيدة البردونية ومن جوهر الالتزام بالقيم الخالدة التي سكنت واثمرت واينعت في مجمل ابداعه الثقافي وبخاصة منه الشعر الذي توزع على توالي المراحل الابداعية صعوداً متقناً في اثني عشر ديواناً بداية بباكورته (من ارض بلقيس) وبدون نهاية يحددها ديوانه (رجعة الحكيم ابن زايد) وقصائد اخرى لم تضمها دفتا ديوان بعد!!
    وهي ابداع مكتوب برؤيا الشعب والأمة والانسانية على حد سواء.. فالجغرافيا متكأ ومهد اما منتهى القصد فهو الانسانية التي يتعين عليها ان تتزيأ وتتقمص احلامها في مشكاة الضاد المجرة الاتصالية المخلدة التي لا بد لها ان تحيك سعادة الخلق وتبني تعارفهم وسلامهم على هذا الملكوت على اختلاف ميادين الثقافات وتنوع تراث الحضارات وخاصة وهو يدرك بأن الضاد موعودة بوجود لا ينقطع بنفخ الصور وقيام النشور.. ولقد عرف كيف ينحت وجهته فيه شعريا في عمق خضم لم يتشكل بعد!! أو قد أودع في مرايا الحروف التي صاغها جواهر بيانية متنامية بكل اسرار النجاة التي اراد عامداً ومجاهداً ان لاتبقى مطلسمة واغلالاً صدئه في توابيت تقليديه ترتع فيها الأوبئة وقد اجرى له نهراً يدل عليه.. مباح الابحار فيه دون أي ادعاء.. ولكن في جهاد دؤوب في التصدي ومواجهة المحيط المعتكر بالرواسب وطحالب الركام الزائف وقد كان له مايشاء، وفي الاساس والجوهر أن لا تدفن روحه المدعبة في ذات التابوت.. أو الجدث!!
    ولا شك انه في العمق مما فعل قد أشعل مساحةً سوف تبقى مخضلة ومخضرةً في شاعرية اليمن.. وكان دليلاً عملاقاً عليها.. وما يزال!!
    عن صحيفة 26سبتمبر

  • 423 المقابلة الصحفية مع صحيفة (26سبتمبر)

    عبدالله البردوني >  المقابلة الصحفية مع صحيفة (26سبتمبر)

    أجرى الحوار: نشوان محمد السميري
    نشرت قصة لهذا الحديث اليتيم لي مع الشاعر الراحل/ عبدالله البردوني في صحيفة “الشروق” التونسية بعد أيام قلائل من وفاته. وظننت حينها بأن نص الحديث مع البردوني لن ينشر قط خاصة بعد مرور عشر سنوات من إجرائه في تونس على هامش المؤتمر السابع عشر للشعراء والأدباء العرب المنعقد في ديسمبر 1990م. لكن هذا لم يحدث.. فبمجرد عودتي إلى صنعاء عثرت على مسودة الحديث كاملة ورأيت بعد قراءتها أنها أصبحت من جملة الإرث الفكري والأدبي للراحل البردوني تحدث فيها بلغة متأنقة عن الثقافة والمثقفين وعن جلد الأدباء وغيرها من الإشكاليات الأدبية والثقافية وحتى السياسية التي كانت مثارة في بداية التسعينات. ولعل الذكرى الأولى لرحيله تحسم ترددي في دفع الحديث للنشر مجدداً بناء على ما سبق طرحه وإليكم نص الحديث:
    – يدور النقاش حول علاقة الثقافة بالسياسة أو العكس.. فما هي العلاقة برأي البردوني بين السياسة والثقافة؟
    – ليس هناك سياسة بلا ثقافة وليس هناك ثقافة بدون تسييس أعلى من المباشرة لأن السياسة ثقافة باعتبارها خلاصة نظريات وعصارة بحوث وقوانين، فلأن السياسة تقوم على قاعدة ثقافية فلأبد للمثقف من معارف سياسية عن كل نظريات الحكم وعن كل مذاهب الاقتصاد وعن كل مذاهب التحولات الاجتماعية، قد لايشترط في المثقف الدراية بسياسة التنفيذ لكنه مشروط كمثقف بالإلمام بقاعدة التنفيذ ومصادر إصدار القرار ذلك لأننا في عصر الموسوعات فيجب أن يكون المثقف موسوعياً كإنسان ومثقفاً كموسوعي.
    – أزمة الثقافة التي يعاني منها مجتمعنا العربي اليوم هل هي أزمة عقل أم أزمة إبداع أم ماذا؟
    – هي أزمة مثقفين وليست أزمة ثقافة لأن المثقفين يرددونها عن الساسة كما يتلقفونها بدون تحديد مكان الأزمة أو مكمنها، فمن كل فرع من فروع الثقافة تنزل عشرات المطبوعات قد تكون متفاوتة في النوع لكنها غير متفاوتة في جملة النتاج الثقافي فإذا كانت صدرت في هذا العام (20) مطبوعة جيدة في الشعر والرواية والقصة والدراسة والمسرح والأغنية فهذا كثير بالقياس إلى الطاقة الإبداعية في عنصر الثقافة لكن الثقافة لاتصنع بالطاقات الآلية وإنما هي نتاج العقل البشري، فلا بد أن تكون أقل غزارة من الملابس الجاهزة وكذلك القارىء الذي يريد أن يرى العناوين يستقل النتاج الثقافي لكن الذي يقرأ ويتمعن وربما يعيد القراءة فسوف يلاحظ أن الثقافة غنية العطاء وليس هناك ما يسمى أزمة، وإذا كان هناك شح في معطيات هذا العام فيمكن قراءة مطبوعات العام الماضي لأن القراءة الثقافية ليست نزهة على شاطىء ولا رؤية بستان وإنما هي دخول في أدغال الكلمة وفي مرمى الإشارة وفي عالم العبارة وبالأخص ثقافة اليوم التي أصبحت اللغة فيها أقل العلامات عليها.
    – ما هو دور المثقف العربي حسب رأيك في الوقت الراهن في ظل ما يكتنف الأمة من تحديات؟
    – كلمة دور ليست من الكلمات الدالة على العمل الجدي وإنما هي أدل على الألاعيب على التحرك المسرح الذي لا يتقمص شخصية جدية فالمثقف من حيث هو إنسان لايتجاوز همه هم الإنسان العادي إلا أن الدوائر الرسمية هي التي تحمل المثقف ما تريد أن تحمل عن نفسها وليست الثقافة حل مشاكل يومية أو فض خصومات ومقاومة خصومات فهذا أقل أدوات الثقافة، إذا أردنا علاج القائم فأهم أدواته غير الثقافة السياسة المباشرة التي ترخص الأسعار أو السياسة المباشرة التي تتبنى شن الحرب أو منعها، ذلك لأن الأمور اليومية ليست من علاج الثقافة، قد تخطط ثقافة اليوم للأعوام القادمة وربما للقرن الآتي أما اليوميات بالأدوات اليومية عن تخطيط سبق اليوم وسبق وقائعه بمكاشفة احتمالها لأن مكاشفة الذي لم يكتشف هي جهة الثقافة الرئوية التي تلبس السياسة وتقف على قاعدة الثقافة.
    – في عصرنا العربي الحديث برز سؤال مهم يعني الكثير لمثقفينا خاصة في المرحلة الحالية.. هذا السؤال نوجهه لك: لماذا تكتب ولمن تكتب؟
    – أكتب لأن عندي شيئاً أحسه يتفرد بمهمات لا ألاحظ سواها فيما كتب فأنا أكتب لأني أسمع شيئاً يقول اكتب وأحس شيئاً يكتبني قبل أن يشم رائحة الحبر فلا اكتب تطوعاً ولا ترفاً وإنما بدافع شيء يكتبني هو لكي أكتبه أنا ولكي يكون الهو أو الآخر هو الكاتب والمكتوب وبين الرؤية والمرئي فما دام هناك من يكتب عن داع يكتبه فهو يخلق كتاباً ويفجر ملكات الكتابة لأن أجود أنواع الكتابات هو الذي يحرك الملكات إلى القول لا الذي يحشو الرؤوس بالمقررات المفروغ منها..
    أكتب للذي قالت لي الكتابة أكتبه لأن الحس بالآخر هو الذي تذيت في الأنا فأنا أكتب لهذا أحسه هجساً في الكتابة ويحسني خارجاً كجزء من داخله أي أني قلت عن صمته كما يقول نثيث الطبيعة هنا اخضرار وإنبات وهنا أنداء وظلال وشمس فلا شيء يقول غير ما في داخله ما تقول الريحانة أني من عنصر الطيب ويقول العرفج أني من الروائح السيئة وكل ينضح بما عنده عن إرادة وعن لا إرادة.. فأنى لهذا يريد ولا يحس ويكلف سواه أن يحس به وله.
    – صرحت قبل أكثر من أثني عشرا عاماً أن الأدباء يستحقون الجلد وأن الأدب لم يكن له دور في أي عصر من العصور.. من هم الأدباء الذين قصدتهم ولماذا قلت بسلبية الأدب.. وهل مازلت تدعو إلى جلد الأدباء؟
    – ليس القصد حرفياً وانما إيما إلى المعاناة التي يجب أن يعانيها الأديب لكي يحس غيره بمقدار حسه بذاته لأني لاقيت بعض الكتابات تشبه الترفيهات الجانبية ولم أجد الكتابة الضرورية التي يحس الناس الفاقة إليها فشعرت أن هناك أدباء من ورق ينتجون أوراقاً فبحثت في الأديب عن الإنسان المملوء بالناس والمعمور بخلجاتهم فأردت أن يعاني الأديب كما عانى أصحاب الشوامخ مثل: روسو وأميل زولا والمتنبي والمعري والشهر وردي وابن خلدون، فطموح المتنبي هو الذي أورده المهالك لكي ينجو كفارس ميدان الأدب وتذبذب ابن خلدون بين الطموح والزهد هو الذي جعل منه قلقاً يفسر قلق الناس وأسباب قيام الدول عوامل سقوطها لأنه كان يبحث عن عالم يغيره فوجد العالم الذي يفسره نتيجة معاناة تختلف عن معاناة المتنبي بين القرمطية وتاج الملك وبين حمل السيف ومدح السيوف الأخرى لكي يصل عن طريقها إلى السيف الذي يستبيح الدماء كما في فلسفة القوة عنده فلا بد للأديب من أي شكل من الضروري أن تختلف أشكال المعاناة لكي تختلف صورها فعندما دعوت لجلد الأدباء، دعوت أن يتغيروا لكي يغيروا لأنه لايغير إلا المتغير من الداخل عن فلسفة وعن تحرك من الواقع الذي لايستقر تدفقه.. ودعوة جلد الأدباء قائمة ما دام هناك الانسلاخ عن الكيف والتنصل عن لماذا لآن الأديب جاء لكي يفرض لا لكي يقبل كل ما وفد وإنما يجب أن يرد كل مورد لكي ينتقي إذ لا يمكن اختيار النوع إلا من كثرة الأنواع.
    – يشتد الجدل حول الحداثة والحداثيين.. فهل الحداثة تكمن في الشكل أم في المضمون؟ ثم ما حقيقة الصراع القائم بين الحداثيين والسلفيين في رأيك؟
    – ليست الحداثة شكلاً ولا هي مضموناً وإنما رؤيا داخلية تقع على الجديد الخارج وتنصهر به كما ينصهر بها لأن الرؤية الجديدة تجد المرأى الجديد بالضرورة فالثقافة هي رؤي وتجاوز دائم وهذا التجديد نجده في كل مجال كتابة التراث تحت رؤيا معاصرة جديدة إعادة تقويم الأشياء يغلف جدتها وكل ما ينبض ويشع تحت المنظور فهو جديد.. أما سؤالك عن الصراع (الجدل) بين الحداثيين والسلفيين فهو صراع أجيال يختلف باختلاف مركبات شخصية وباختلاف بيئات بيتية وثقافية ومع هذا فان السلفي لا يقدر أن يفر من تحت السماء ولا من فوق الأرض فانه في عصر لا بد ان يفكر فيه بأفكاره كما فكر أسلافه بمقتضى الشروط الموضوعية لتفكيره، لو عرف الجاحظ وابن المقفع فن المقالة اليوم لما أنكرها ولتمكن من كتابتها لأنه ما رأي شيئاً يثير كما أثارت كتبهم في عصرها لأن الكتابة فن لغوي لابد ان يتجدد ويتطور حتى يختلف في كل عصر عن سابقه، كتاب التوحيدي يختلف عن كتاب الجاحظ وكتاب الجاحظ عن كتاب عبدالحميد الجعدي وكتاب الجعدي يختلف عن خطابات نهج البلاغة ونهج البلاغة يختلف عن كتابات قس بن ساعدة (وشيبه!) يختلف عن أكثم بن صيفي لو سمع أمرؤ القيس قول المتنبي:
    على قلق كأن الريح تحتي تقلبني يميناً أو شمالاً
    لما أنكر هذا التشبيه لأنه ينتسب إلى أصل تشبيه في قوله:
    وليل كموج البحر أرخى سدوله.
    فالتطور لايخرج عن أصله وإنما يطوره منه حتى يكاد يختلف عنه ولا أحد ينكر هذا التطور في التوسع اللغوي في بعد اطراف التشبيه في بعد الماح الاستعارة في قيمة الكناية عن المكني عنه.
    هناك مشكلة بين السلفي والحديث، لايعرف الحديث السلفية ولا يعرف السلفي الحداثة ولو كان تواصلاً ثقافياً لما أنكر كل منهما الآخر.. قد يمكن أن السلفي يعرف من السلفية ظواهرها الشكلية دون أن يكون محيطاً بما وراء الإشارة وبما في باطن العبارة وإلا لكان في مقدور كل مثقف ان يعرف الكناية في القرآن مثل قوله تعالى:”رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت” فإنه كني بهذا عن ربات البيوت فذكر الأهل العمومية لكي تعمم على الخصوص وهذا دائر في اقلام المعاصرين كما كان دائراً في أقلام القدماء، فالجهل هو أهم الفواصل وليس في الثقافة ذاتها لا المعاصرة والسلفية.
    – الانتفاضة الفلسطينية دفعت بالمبدعين- إن لم نقل أجبرت بعضهم على المستوى العربي العالمي نحو التعبير عن نضال الشعب الفلسطيني شعراً ونثراً.. فهل عبر عنها البردوني وكيف؟
    – كل شاعر قال فيها كلمته وكل كاتب كتب عنها مقالته لكن تظل الانتفاضة إبدع البديعات كلها وما تفجرت لكي يقال عنها بل لكي تقول هي هذه غايتي حققتها أو كدت أما ما يقال عنها اليوم فلا يتجاوز كونه تغطيه صحفية وأما ما سيقال عنها من داخلها فيمكن في ما سوف يتحقق في الفعل الذي هو أبلغ من القول الذي استنطق الفعل الهائج.
    عندما تتحول الانتفاضة إلى تاريخ سوف تكون مصدر ملاحم وروايات ومسرحيات وقصائد أما ما يقال عنها فكمن يرسم الأمواج المتراكضة.
    – أين موقع الأدب اليمني المعاصر بالنسبة للأدب العربي؟
    – إنه في غمار تحركه قد يكون أقل اسماء ولكنه ينتج نفس النوع السائد من الأدب في اليمن نفس المدارس الأدبية التي في لبنان أو سوريا أو مصر بدليل أن المجموعات الشعرية اليمنية تقف إلى جانب مجموعات البياتي وادونيس وخليل حاوي، قد لا يوجد اختلاف في الجملة ولكن بعض الاختلاف في التفاصيل أو في الكم الذي لايمكن أن تعرفه إلا من خلال الكيف الكثير فبمقدار معرفة الكيف نعرف الكم الذي اخترت منه فلا كم بلا كيف ولاكيف بلا كم يتميز بعضه من بعض.
    – للشعر مدارسه التي يتفرع إليها.. لو قدر للبردوني أن يصنف نفسه ضمن مدرسة أدبية معينة فأيها يختار؟
    – اختار كل المدارس لأنها كلها مترافدة بعضها وبعضها متصل ببعض لأن المدارس وجهة عامة وليست سوراً مانعاً من الصلة بكل المدارس لأن الأدب محكوم بفن ينتظم كل المدارس الرومانتيكية موصولة بالواقعية الجديدة والجديدة موصولة بالواقعية الاشتراكية وهذه المدارس الجديدة موصولة الجذور بالكلاسيكية فالمدارس مجرد وجه عام وليست لذاتها ولا بذاتها لأن الجودة الأدبية سبقت التصنيف المدرسي وتحديد المذهب الأدبي فليست المدرسة إلا مجرد تقريب لا يصلح أن يكون تحديداً، تجد الواقعية الجديدة تحتاج إلى المباشرة بمقدار ما تحتاجه المباشرة إلى أقنعة شفيقة من غير الأقنعة الجديدة وكلها أواصر فنية تعمق الصلة بين المدارس سواء في الشعر أو فن النقد وسواء في الرواية أو الدراسة أو القصة أو المسرح لأن كلها واقعة تحت مظلة اسمها فن أو اسمها ناظم مشترك بين كل أشكال الكلمة الفنية التي يختلف تصورها عن صورتها.
    – كيف يقيم شاعر اليمن الكبير الأدب المغاربي عموماً والتونسي خصوصاً؟
    – إن للأدب المغاربي خصوصية كخصوصية الأدب الأندلسي في القديم هو من الأدب العربي في جملته وهو يختلف عنه في بعض السمات وبعض الإيحاءات هذا في القصة والرواية أما في الشعر فلعل الأدب المغاربي تتلمذ على كوكبتين الأولى النهضوية ثم الرومانتيكية والثانية الواقعية الجديدة فان المتتبع يحس تأثير السياب وخليل حاوي في أغلب الشعر المغاربي وفي شعر المغرب بصفة خاصة لأن الشعر التونسي مختلف حداثته عن حداثة شعر المشرق العربي لأن شعر المشرق العربي سبق من مطلع الخمسينات إلى صحوة الستينات على حين الحداثة لم تظهر في الشعر التونسي والجزائري إلا في مطلع السبعينات.

  • 424 المقابلة الصحفية مع صحيفة (الثقافية)

    عبدالله البردوني >  المقابلة الصحفية مع صحيفة (الثقافية)

    نشرت في العدد السابع الصادر بتاريخ 2 سبتمبر 1999م
    أجرى الحوار: محيي الدين علي سعيد
    – نقرأ اليوم اتجاهات متباينة في حركة الفكر العربي المعاصر.. حول مفهوم الحداثة لتجاوز الواقع الراهن.. فكيف ترون إشكالية الحداثة وهل تستحق البحث والدراسة أم أنها إشكالية زائغة وثقافية غربية منقولة إلينا بطريقة اتباعية؟
    – لاشك أن الحداثة نسبية من شعب إلى شعب لأن المجتمع متجرد فيتحدث بتحديث الأدوات التي يستخدمها فيفكر فيها كما نفكر فيه فليس هناك إشكالية في الحداثة وإنما الإشكال في كيفيتها هل تقوم على الأصالة أم تأتي مجلوة عن طريق المحاكاة أو التأثر بالقوى أو بالغلبة بقوته حتى تسود ثقافته لاشك أن تغير الأساليب الكتابية ترينا الحداثة فقد كانت القصة والرواية والمسرحية والقصيدة التفعيلية أحدث الواردات على الثقافة العربية التي تمكنت من استيعاب آخر الحداثة في الفنون القولية والتشكيلية يبقى السؤال عن جدوى هذه الحداثة هل هي إضافة تنويرية أم أنها تموه غير الحقيقي بلون الحقيقي؟ من هنا يتدخل السؤال هل هذه الأعمال قديمة تأصلت أم أصيلة قابلة للماضوية بوجود الأحداث لأن الكلمة الأخيرة أو الشكل الأخير غير وارد فإلى الآن لم تصل الأساليب المعاصرة إلى نهاية صياغتها إذ لانهاية لأية صياغة فنية لأن الجديد يؤصل التجديد كما يستحدث الأجد بفضل تطور أجهزة الثقافة وتطلع المثقفين إلى الأنفع فهاهو التلفزيون آخر صيحة ثقافية تكاد تبتلع الثقافات أو تلهي عنها ففي مطلع العام 93م استقال وزير الثقافة الفرنسية لأن ربع فرنسا لايقرأ وقالوا هذه أعنف كارثة أوروبية.. فأخذت الجهود تتجمع على التوازن بين الثقافة الكتبية والثقافة المشهودة وبدأت المؤسسات تزيد من الكم الثقافي الذي يبثه التلفزيون لكي تكون إفادته أكثر من إثارته أو لكي تتحول الإثارة إلى عوامل إفادة.
    – أين أنتم من الجدل “الدائر” حول القصة والرواية والمسرحية وهل هي فنون جديدة على العرب؟
    – منذ فجر النهضة إلى منتهى السبعينيات والجدال دائر على أشده هل القصة والرواية والمسرحية فنون جديدة على العرب؟ يرى البعض أن هذه الثلاثة الفنون بشروطها المعاصرة كانت مفقودة في الأدب العربي، ورأى فاروق خورشيد أن السير الشعبية تملك تفاصيل الرواية وشروطها وخلفيتها وعناصر تركيبها، والفرق هو تدخل التفلسف في الرواية المعاصرة على حين لايعتمد فن السيرة على التفلسف لأن أبطال السير من أبطال الواقع “كعنترة وسيف بن ذي يزن والأميرة ذات الهمة وحمزة البهلوان والشاطر حسن وعلي الزئبق” فهؤلاء كانوا أصحاب بوادر وخطرات.. لايكونون فكرة عن رؤية ولا رؤية عن فكرة وهذا ما تميزت به الرواية المعاصرة ويتبدى كتاب محمود ذهني الذي صدر في العام الماضي أحفل جميع الدراسات التي بحثت عن عناصر القصة والرواية والمسرحية لأنه دخلها من منظورين منظور السيرة عند العرب ومنظور الرواية عند اليونان ثم اختلافها في العصر اليوناني ثم انفجار أطوارها من أول عصر التجريب القرن الخامس عشر الميلادي إلى الآن وبهذا يبدو متفرداً بعلم الفنين عند العرب وعند الأوروبيين حتى أنه وقف عند رواية “دون كيشوت” مقارناً بين “سرفنتيس الأسباني” في روايته وبين “ابن اسحاق” شيخ المؤرخين وأول مبدعي السيرة النبوية فهذا الالتفات هو من اللمعات الذهنية الموفقة لأن كتب السير الشعبية كانت في عصر الانحطاط فوجد محمود نفس ابن إسحاق أقرب إلى مقياس اللغة القصصية.. ولم يسبق محمود ذهني من تقصي المسيرات الأدبية وعوالمها السماوية والأرضية والبشرية والعفاريتية المتعددة الأشكال والأغراض والإيحاء حتى يمكن القارئ أن يقتنع بعد قراءة هذا الكتاب بأن أصل الرواية العربية المعاصرة ينتمي إلى أصلها العربي في التاريخ العربي لكثرة ما أورد من مشاهد وشواهد درامية وأمثال وكلها مبرهنة مؤزرة بالاستقراء.
    – سمعنا أن لديك رواية غير مطبوعة هل هذا صحيح؟ ولماذا لم تخرجها إلى الناس؟
    – نعم هناك رواية لكنها غير مجمعة لطبع كتاب واسمها “العم ميمون” وهي مراجعة وجيدة وعندما تجد مخرجاً ستخرج إلى الناس لأنها تحتاج إلى فلوس أكثر مما ينبغي.
    – كان لكم رأي حول ثقافة الحاكم.. وقد تحدثتم حوله ذات مرة؟
    – الحاكم الذي أخرجته الكليات والمكتبات هو الذي يملك الشروط ويعرف أولاً: كيف امتلكها ثم يعرف ثانياً كيف امتلك بها أما الزعامات التي بلا شروط فهي تخاف من كل شيء وعلى كل شيء وتتصرف من خلال الخوف وما أشرس خوف الجاهل، على حين الحاكم العليم يعرف كيف ينوم الأحداث ويسكت الوساوس بحسن التسيير وأقول “التسيير” لا التسوير والتسويق والجر.. فما أبعد الفروق بين الذي يسير القطعان البشرية كالأعضاء الجسدية كل عضو يعرف موقعه وتحركه لأن حسن التسيير علم حسن السير.. إذاً فسوف يتدفق النبوغ عندما تولد السياسة النابغة الصاعدة من أعلى الكليات والراقية على المجتمع لكي تغير طريقه من أعاليها. لالكي تملأ طريقه بالمشكلات اليومية، ان النبوغ الوطني كنبوغ العصافير في الربيع كيف يختلف شدوها وصفيرها تحت بهجة الربيع وكيف كان انكسار العصافير في الشتاء.. فكيف إذا كانت فصول الأعوام شتاء يلي شتاء في ظل حكم الأغنياء الذين لم يعرفوا كيف يديرون حياتهم المنزلية فكيف يديرون ملايين البيوت في موكب وطني وفي اتجاه الغد بقلوب مشرقة تنجب المستقبل المشرف النابغ بالفنون الجميلة كلها..!
    – نعود إلى السؤال الأول.. هل يمكن للمثقف الحقيقي أن يعيش أكثر من حياته.. ولعل ما ذكرته عن سعد الدين وهبه “وأنه مات عن 72 عاماً كأنها عشرون قرناً لما جمع في يديه من ثقافة العصور والأقطار وأدب القلب والعقل”؟
    – كانت الفنون مختلفة التقدم والتخلف لأن الظروف لم تبلغ مدى الايناع وانما بكرت بعض الفنون كالذي صحا بعد نصف الليل متوهماً رؤية الصباح، وإذا به ينتقل من ليل إلى ليل من أجل أن يتوهج الشفق الآتي.. لكي تطل الثورة.. هكذا كان سعد الدين يتتبع كل فن كان يحضر ندوة الجمعة في بيت العقاد ويحضر عصرية محمود شاكر وكان أحسن ما يعجبه من شاكر رواية الشعر القديم لكي يكون معاصراً حقيقياً، لأن عصرنا خلاصة كل العصور وإنسان هذا العصر جمع عصور الأديان والفلسفات والآداب في مكتبة واحدة لقد كان إنساناً عظيماً لأنه حقق إنسانيته في ذاته وفي ذات غيره.. ما لاقى صديقاً إلا وأخبره عن مجموعته الشعرية التي صدرت قريباً أو عن روايته التي استهدفت النقد أو كتاباً نقدياً إلاّ ونظر فيه باحثاً عن النقد هل هو تبع للإبداع أم أنه له مساهمة فيه؟
    أما رحلاته فبعدد أقطار العالم ومات وهو في الثانية والسبعين كأنها عشرون قرناً.. بما جمع في يديه من ثقافة العصور والأقطار وأدب القلب وأدب العقل وما حضر مهرجاناً أو احتفالاً إلاّ وطرح معاداته للتطبيع بصوته العالي حتى لايأمن المرء من عدوان صهيوني لأنه كان يقول “الحياة شربة ماء بارد، تبرد ثم تحرق ثم تنفذ في حركة واحدة..” رحم الله سعد الدين وهبة حياً وميتاً.. لا.. ليس ميتاً إن الموت دخول مرحلة ثانية في صورة مختلفة عن التي كانت.
    – أستاذ عبدالله إلى أي الفرق الكلامية ينتمي البردوني؟
    – لم يعد هناك فرق كلامية.. هناك فرق سياسية.
    – وإلى أي منها تنتمي؟
    – والله أنا أنتمي إلى كل الفرق السياسية أو إلى خير ما فيها جميعاً.
    – هل أنت معتزلي؟
    – إلى حد.
    – شيعي؟
    – إلى حد.
    – هل تؤمن بالحزبية؟ وهل تعتقد أن التغيير يمكن أن يتم على أيديها؟
    – نعم الحزبية هي أفضل من التجمع العشائري ومن الأحزاب البيتية.
    – في ظل انكسار الفعل العربي نجد أن هناك تراجعاً للشعر بل للكلمة وبشكل مخيف لماذا؟
    – الشعر لم يتراجع إنما لأننا لانعرف كل الناس ولانعرف كل الاتجاهات فبمقدار ما نرى ما حولنا نقول تراجع، وليس هناك في الحقيقة تراجع وأعتقد لو أن لكل الناس معارف كاملة لعرفوا كل الناس السياسي يقول هذا ما يريده الشعب ولايعرف هذا السياسي في الحقيقة هل هذا مايريده الشعب أم لا، والمثقف العادي يقول: الجماهير بدأت تتراجع غير أنه في الحقيقة لايعرف كل الجماهير ولا خصوصياتها ولايعرف أسرارها الخفية ولا تفكيرها الذاتي، فالمسألة مجرد أقاويل منتزعة عن بعضهم البعض دون أن يكونوا على دراية كاملة أن الشعب يريد هذا أو لايريده، بدليل أنه توالت أنظمة ما أرضت الناس كلها أبداً جاءت النازية جاءت الفاشية جاءت الغابية جاءت الماركسية جاءت الفلسفة الوجودية كل هذه تؤدي دوراً ما في مرحلة وتجري كتيار واحد، ثم يأتي خلق جديد وجماعة جديدة فتخلق اتجاهاً جديداً على أساس من القديم وأحياناً عن انقطاع من القديم ونحن لاندري فحين لاندري نقول المسألة كذا وكذا ولو كانت على عكس الحقيقة نقول الشعب يريد الديمقراطية فمن عرف كل حاكم أن الشعب كله أو حتى أغلبه يريد الديمقراطية لكن الثابت أن الشعب يريد العيش بسلام ويريد اللقمة النظيفة والشربة النقية والمسكن المريح أما مسألة التفكير السياسي، فلايعرفها إلا من هو على دراية بالثقافة البشرية وبالإنسان كانسان وبالجماعة كجماعة.
    – برزت بعد حرب الخليج مباشرة توجهات قطرية وإقليمية تحاول تجاوز الأدب العربي.. بحيث يكون هناك أدب خليجي وأدب مغاربي وأدب شامي ما موقفك من هذه الدعوات والتوجهات؟
    – ليست المسألة موقفا هذه مسائل ترجع إلى سوء السياسة وإلى سوء الدعوات الاجتماعية فالانسان كان يقول عشيرتي بنو تميم وهذا يقول: عشيرتي قضاعة فتجددت هذه الادعاءات في صور جديدة وقال أحد بلادي “الحيمة” وقال آخر بلادي “تعز”.. وهكذا وجاءت الفلسفة العظيمة التي تقول أن بلدك هو البلد الذي وجدت فيه لا الذي ولدت فيه والبلد الذي أعطاك معارف كثيرة هو بلدك الحقيقي لأنك أصبحت جزءاً من الوجود الحي الفاعل المنفعل الخلاق، أما البلد الذي ولدت فيه فيكون أي بلد.
    – هل تعتقد أن الشعر العربي الحديث يعاني أزمة قبول وانتشار؟ وهل لك تشخيص لواقع الشعر العربي اليوم؟
    – تتمثل الأزمة اليوم في الكثرة والغثائية والندرة والجودة فكثرة الناس والمتعلمين منهم الآن أصبح مطلوباً من الشاعر أن ينزل للناس كل يوم بشعر جديد وبشعر يجيب على طلباتهم ويلبي أهواءهم والشاعر غير قادر أن يقوم بهذا العمل.. ففي الأربعينيات والخمسينيات كان القراء قلة ومن منتصف الستينيات كثر المتعلمون والقراء وأصبح معظم الناس يقرأون ولابد في كل فترة وفي كل شعب من وجود عدد محدود من المتفوقين يقول الناس عليهم لماذا لاينافح هؤلاء على هذا المبدأ؟ أما الشاعر فلايريد أن يجيب أو يلبي طلبات كل الناس وهم أصلاً على رغبات ونوازع مختلفة ثمة أزمة عندما كثر المتعلمون ونجم عن ذلك كثرة الشعراء فكان أي طالب أو طالبة ينهي الجامعة يريد أن يؤلف الشعر والأقاصيص أو مقالات أو دراسات وهذا الطموح يوقع صاحبه في الفشل، مثلاً عندي الآن عشر مجموعات شعرية كل واحد كتبها وبعث بها إليّ لأكتب له مقدمة، والمقدمة معناها تمجيد وتعظيم لهذا الشاعر وأنا في سن هؤلاء وفي مستواهم الإنتاجي ما كنت أنشر مثل هذا الشعر هم أغرتهم المطابع فأحب كل من يكتب الكلمة أن يراها منشورة ومطبوعة ويحب أن يقول فيها الناس: إنها إضافة جميلة إلى فن جميل هؤلاء عندهم غرور الشباب وطموحه يريد الواحد منهم من أول مجموعة شعرية أو قصصية أو غيرها أن يكون شهيراً وهكذا نرى مطابع تشتغل كل وقت صحفاً تنشر كل يوم واذاعات لايتوقف بثها فأصبح الاستهلاك الأدبي مثل الاستهلاك الاقتصادي، والإنسان ليس كالآلة لايشتغل على الكهرباء بل يشتغل بتفكير وبتأن يختار اللغة الجميلة والصورة البديعة والمعنى البعيد، والموضوع الخفي غير المطروق وهذا يستدعي أن يتأمل مما يعني تراخي الزمن.. الاستهلاك إذن هو الذي أغرى بالسرعة والسرعة في الإبداعات الفنية لاتصل إلى فن جميل.
    – لماذا نراك دوماً تربط مابين طه حسين والمتنبي؟ وما وجه التطابق بينهما؟
    – مر 25 عاماً على رحيل الدكتور طه حسين الذي ينطبق عليه قول ابن سعيد القيرواني في المتنبي “وجاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس” لأن المتنبي كان كثير الأعداء من ساسة عصره ومثقفيه ومن الذين ينعقون من كل ناعق فيقبلون آراء غيرهم بلا فهم عن صوابها أو خطئها، وكان الذي يعادي المتنبي مضطراً إلى قراءة شعره، والذي يحسده لايستطيع أن يبتعد عن أي قول قاله في كل مكان، وكان الساسة يشرئبون إلى امتداحه وكان لايضع مدحه في غير مكانه فما تخلى عن شعر المتنبي أي وراق أو أي سياسي أو أي طامح إلى المجد الأدبي.. أشرت إلى قول ابن رشيق في المتنبي لانطباق قوله على طه حسين “الذي” كان ينادي إلى تطوير الأزهر وإلى مجانية التعليم وإلى عدم احتكار التعليم الجامعي، وخصص كتاباً في نقد المنفلوطي من وجهة حزبية.. ولو تتبعنا لوجدنا أدب الشعوبية أهم أسباب الانتحال الذي نهجه طه حسين وبنى على الشك منهج البحث إلى اليقين فهاج المحافظون باغراء من القصر وقالوا: إذا كان الشعر الجاهلي منحولاً فسوف يمكن إنكار إعجاز اللغة التي نزل بها القرآن.. وكانت المظاهرات الأزهرية ومن يلي الأزهر تتسبب في إغلاق البرلمان لأن الوفد تعاطف مع طه حسين باسم حرية البحث وحرية التفكير والتعبير.
    – أين البردوني في دراسات الأكاديميين؟ وهل وجدت واحداً من الأكاديميين استطاع أن يغوص في نفس البردوني؟
    – أصدر اتحاد الكتاب العرب بدمشق كتاباً جديداً من تأليف الصحافي الشهير “وليد مشوح” والكتاب بعنوان “الصورة الشعرية عند عبدالله البردوني”. وقد وجد المؤلف في “عمى الشاعر” منطلقاً لخصائص صوره الشعرية فوظف التفسير النفسي تحت تأثير العمى.. واستدل على هذا بخمسة نصوص من شعر بشار يتمدح فيها بالعمى ولاسيما معرفة الجمال البشري إلاّ أن الأستاذ وليد لم يلتفت إلى ظاهرة أدبية في شعرنا القديم كله وهي: تحسين القبيح، فالذي يستجمل انطفاء عينيه، ويتمدح بذلك الانطفاء لايختلف عن تحسين القبيح في أية صورة.. غير أن هذا التغاضي عن ظاهرة أدبية لايقلل من جودة الكتاب وحسن غوص المؤلف.. فهو الكتاب الثاني من الدراسات الأدبية النضيجة بعد كتاب “ابن الرومي.. حياته من شعره”، وأكاد أظن أن كتاب “مشوح” امتداد متطور من كتاب العقاد عن ابن الرومي من حيث الوجهة الفرويدية والتفسير النفسي لكل ومضة بيت ويمكن أن أقول ويقول غيري أن وليد مشوح كان أغوص في قرارات المعاني، وفي توظيف العلم في التفسير الأدبي.. وحين أشار المؤلف إلى المراجع كان غائباً عنه كتاب “محمود طه إسماعيل “الصادر في القاهرة دار العلوم بعنوان “أعظم الشعراء” وكتاب محمد احمد القضاة سكرتير مجلة الجامعة بعمان بعنوان “بناء القصيدة عند البردوني”.. أما كتاب الدكتور محمد رحومة “الدائرة والخروج في شعر البردوني” فكان مركزاً على الدراما في شعر البردوني.. ولعل مشوح لم يقرأه جيداً فلم يمنعه ميله إلى “الدراما” من الولوج في غيرها “فأشاد” مشوح بمن أعانه قائلاً “وقد أعانني الصحافيون العرب في كل عاصمة، إذ حصلت ثلاثمائة تصوير مابين حديث عن البردوني أو دراسة قصيرة أو استجواب صحفي.. وهذه الثلاثمائة كانت أهم أدلائي إلى نفسية البردوني ومرارته من العمى فلم يقبل قول بشار “إن العمى من الذكاء” بل قال البردوني “ما وجدت عن البصر بديلاً إلى الآن، رغم صحبتي الأكيدة مع العمى 65 عاماً”. ولاقال كالمعري: “إن العمى عورة يجب سترها”.. والذي كان يأكل في أسفل القبو في داره خوفاً على ثيابه من قطرات الدبس التي تتساقط برغم الأكل.. وليت وليد مشوح أورد بيت المعري عن العمى لما فيه من حكمة تعليمية.

  • 425 خاتمة ثورتين

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  خاتمة ثورتين

    يا سبتمبر، قل لأكتوبر
    كل منا أمسى في قبر

    بين القبرين، نحو الشبرين
    أترى الحفار أطال الشبر

    أسرعت أنا، ولحقت على
    خط المجرى، طلقت الصبر

    نفس الشيطان، أخذ العنوان
    وأتى وحش في جلد الحبر

    أصللت كما، أريضت أنا
    وهنا كهنا، طوعا ً أو جبر

    فكلا القصرين، خبرالشطرين وأنا وأخي ، من قتلى الخبر

    سعي مشكور، صلح مزبور
    يا طفل سبأ، وقعت الزبر

    فهنا حدثي، وهنا جدثي يا حفرتنا: من ينوي السبر

    قالوا(شمسان)جافي(عيبان)
    ثم التقيا في منهى العبر

    هل وحدنا من الحدنا؟
    أو من أوحى وأجاد النبر

    يا سبتمبر، قل لأكتوبر
    كل منا أمسى في قبر

    يناير 1983

  • 426 المقابلة الصحفية مع صحيفة (الأسبوع الأدبي) السورية

    عبدالله البردوني >  المقابلة الصحفية مع صحيفة (الأسبوع الأدبي) السورية

    نشرت في العدد 717 الصادر بتاريخ15يوليو 2000م
    وأعادت نشره صحيفة الأمة في العددين 164،165
    أجرى الحوار: وجيه حسن
    في مقابلتين معه في بيته في صنعاء، وفي غرفته في فندق “هوليدي إن-الشارقة” يوم حضر لتسلم جائزة “سلطان العويس الثقافية” لفوزه بجائزة الشعر قال عن نفسه بكل ثقة واعتداد: “… أنا معروف بأني شاعر ومفكر، لأن الشعر هو الفكر” هذا الشاعر – المفكر التقيته مراراً في بيته في حي “الصافية الغربية” بصنعاء عاصمة اليمن وكلما ألتقيه كنت أزداد إعجاباً بشخصه وبأدبه وشاعريته المرهفة وابتسامته العذبة التي لا تفارق فمه المبصر وقلبه وعينيه الباصرتين المفكرتين. وأنت تتقدم من بيته “الصومعة” تغزوك مشاعر وسفائن مختلفة الطعوم والألوان تجتاح بحر نفسك وتجعلك تعيش حالة من التهيب والتوفز والخفقان. البيت لا حرس ولا بنادق ولا أسلاك شائكة هكذا بيوت الأدباء دائماً في الهواء الطلق بل لا أبالغ إذا قلت: إن كل حجر في صنعاء يدلك إلى بيت البردوني وهو المتربع في الطبقة الأولى من عمارة القصيدة العربية.
    تقرع الجرس… القلب يتلجلج بين الجوانح… إنها المرة الأولى…. يأتيك عبر جهاز “الأنترفون” ومن العلبة المعدنية الفضية اللون يأتيك صوت هو أجمل من الفضة وأحلى من الذهب وأنضر من ياسمينة بيضاء.
    تقول منادياً: أستاذ عبدالله موجود؟
    وبصوت العربي البدوي الخشن يقول حالاً وللتو: يا مرحباً تفضل….
    وتسمع خشخشة هاهو الباب ينفتح تلقائياً تدخل متوجساً متهيباً تقابلك أرض فسيحة مفروشة بحصيات بازلتية زرقاء بلون الحصيات وهذه وتلك موصولة بقلب الشاعر في صفائه ونقائه. ويمنة ويسرة تقع عيناك على شجيرات محببات.. وعلى أزاهير طيبة… وهذه وتلك تتمايل أمام عسكر الهواء وكأنها تقول لك كذلك تفضل يا مرحباً…
    وتسحبك قدماك متلهفة، تصعد ثلاث أو أربع درجات، وبحب تجده ينتظرك عند ذاك الباب الخشبي البني اللون يقودك من يدك ليدلك على الطريق، ومعاً تدخلان غرفة القراءة والكتابة ورفوف الكتب غرفة الشعر والأدب والحميمية في آن معاً. إنها وبلغة مقتضبة غرفة عادية إذ سيكون جلوسك على الأرض على الطراز العربي القديم فوق بساط عادي، وخلف منضدة خشبية عادية، كذلك يتربع الشاعر الكبير، وعلى المنضدة علبة فيها “تنباك” والذي يطلق عليه اليمانيون اسم “الشمّة” وعدد من علب الأدوية و”دلة قشر القهوة العربية بالهيل” و”دلة شاي” إلى جانب هاتف من النوع العادي جداً، وتهم أنت بتوجيه سؤالك الأول لكن هاتفاً يقطع عليك سيل الكلمات… ثم…. ثم يقرع الجرس… ثم….. ثم يرن الهاتف… وما هي إلا دقائق حتى تمتلئ الغرفة “الصالون” بلفيف من عشاق الحرف العربي والنبض العربي ويمتلئ الشاعر منك خجلاً من قمة رأسه حتى أخمص القدمين وهو الإنسان المرهف الحس لأنه لم يستطع تلبية طلبك في إجراء مقابلة ضمن هذا الزخم الكلامي، والحوارات الساخنة، ويشكرك شكران الأديب المثقل بعناقيد المحبة لأنك تكبدت مشقة التنقل والوصول.
    وفي مرتين – يوم كان حياً- كان هذا اللقاء الممتع المثمر الغني مع الشاعر العربي اليماني الكبير “المرحوم” (عبدالله البردوني) هذا المبصر في الزمن الأعمى.. في صنعاء والشارقة.
    س: سؤالي الأول هو السؤال التقليدي الروتيني من هو عبدالله البردوني؟
    ج: إليك بطاقتي الشخصية: أنا من مواليد العام 1929 في قرية “البردون”- بتشديد الدال- (منطقة الحداء) – محافظة “ذمار” وفي قريتي أصبت بالعمى ما بين الخامسة والسادسة نتيجة إصابتي بمرض الجدري والذي ما أزال أحمل آثاره على وجهي حتى الآن.
    وفي “ذمار” درست المرحلة الابتدائية، وفيها قرأت النحو واللغة والدين والفقه، وبعدها انتقلت إلى “دار العلوم” في صنعاء العام1949، حيث تخرجت فيها العام1953، منهياً دراسة 18 عاماً، وفي دار العلوم وبعد التخرج بقيت فيها مدرساً إلى العام 1962، ثم التحقت بالإذاعة مشرفاً على البرامج الثقافية بعد أن كان عملي فيها من خارج الوظيفة.
    س: أستاذنا الجليل: كيف تعلمت؟
    ج: كما قلت: إنني أعمى منذ الصغر تقريباً من الصبا الباكر في عمر السادسة تعلمت القراءة كلها على السماع بما فيها معرفة الحروف وأداؤها، ثم تعلمت القرآن الكريم كاملاً كتابة ثم ترتيلاً تم تجويداً ثم تعلمت العلوم، ثم علوم القرآن… ثم قرأت كتب اللغة، نحواً وصرفاً وكتابة بالسماع وعرفت قواعدها بالسماع وتعلمت العبادات والأحكام وأصول الدين بالسماع ثم تعلمت علم الكلام والفلسفة القديمة عن العرب: ابن سينا، والفارابي وابن رشد وإخوان الصفا وابن ماجه وابن طفيل.. ثم قرأت وقرأت… وهكذا اعتمدت على السماع، لأن السماع أوجد حاسة ثانية أو أذنا ثانية. الأذن التي تسمع الصوت وتلك التي تسمع صوت الصوت فأنا مثلاً لا أسمع صوتك كما يسمعه بعض الناس، بل أشعر أن له خضرة وحمرة وشفقية وبرتقالية وهذا حسب حالة الأذن الصوتية وإمكان الصوت كل فنان له حاسة وراء الحاسة سمع السمع قلب القلب، عين العين، إنه عادي وله زيادة أوجدتها فيه الحاسة الفنية، فالحاسة الفنية عند الأعمى أقوى لأنه لا يرى بالعين المجردة، ولكنه يتصور والتصور يستوعب ما لا تقع عليه العين، كما يستوعب الذي تقع عليه العين.
    س: أستاذ عبدالله بمن تأثرتم من الشعراء بخاصة والكتاب بعامة؟
    ج: كانت مرحلة التأثر لا تقتصر على شاعر بعينه أو كاتب بذاته فلا ينتهي التأثر بشاعر أو كاتب حتى ينهيه شاعر أو كاتب آخر لأن مرحلة التأثر حادة الحساسية ولعل الأكثر سيطرة عليّ في الأربعينيات هم “أبو العلاء المعري، الجاحظ أبو حيان، والمتنبي…” أما من بداية الخمسينات وحتى الآن فلم يعد التأثر شديد النفوذ إلى النفس لأن الأحداث المتعاقبة كانت أغزر إيحاء، ولم تعد الكتب إلا مجرد إضاءة على تحول الأحداث وتعاقب التغيرات، لهذا استكثرت في الخمسينيات من قراءة الكتب السياسية عربية ومترجمة، وحتى الأدب كانت لا تهمني قيمه الجمالية بمقدار ما كانت تهمني رؤيته السياسية، وشمول رؤيته الإنسانية، إلى حد أني لا أقرأ الشعر إلا إذا كان سياسياً أو متسيساً، وهذا ما جرني إلى قراءة الشعر الجديد لأنه ابن الثورات المعاصرة، ومرآة التحول الثقافي والاجتماعي.
    س: وأنتم بصدد الحديث عن قراءة الكتب، فما هي أبرز مطالعاتكم في بداية الأربعينيات؟
    ج: كانت الأربعينيات فترة تعليم، ولم يكن للمطالعة غير حيز ضيق في شهور الدراسة ولعل أهم مطالعاتي هي أربعة كتب: كتاب “الأغاني” للأصفهاني، كتاب “الموازنة بين الشعراء” للدكتور زكي مبارك، وكتاب “الشوامل والهوامل” لأبي حيان التوحيدي، وكتاب “مع المتنبي” للدكتور طه حسين.وأظن بأن أجودها لمعرفة الشعر ولغته هو كتاب الدكتور “المبارك” فهو فريد في معرفة السر الشعري في كل لقطة، والدخول إلى نسق القصيدة، وقد فاق كل الموازنات لأن الموازنات التي سبقته كانت تقوم على موازنة بين شاعرين كموازنة “الناشئ الأكبر” بين أبي العتاهية والعتابي، ثم موازنة “الآمدي” بين الطائيين البحتري وأبي تمام، أما الدكتور “مبارك” فوازن بين أكثر من ستين شاعراً، وازن بين أبي نواس وبين الدراج القسطلاني وبين البارودي والبوصيري وشوقي وبين جرير والفرزدق، وبين كثير وجميل، إلى آخر القائمة حتى عصر شوقي وكان أهم ما في هذا الكتاب هو تبيين الدقة اللغوية والسر الشعري الكامن في المفردة والتركيب اللغوي.
    س: وحول كتب التعليم المقررة وقتتئذ هل تسعفكم الذاكرة بالحديث عنها؟
    ج: كتب التعليم التي كنا نقرأها كانت شديدة التعقيد متداخلة الاستطراد، إذ كنا نقرأ في النحو كتاب “شرح ألفية ابن مالك” لابن عقيل، ثم كتاب “قطر الفاكهي” وننتهي ب”مغني اللبيب” لابن هشام، وكانت المراحل في تعليم النحو تبدأ من كتاب “الأجرومية” لابن دحلان، يليه “قطر الندى” لابن هشام، ثم ابن عقيل، كذلك كتب الفقه كنا نبدأها بكتاب “متن الأزهار” وننهيها “بالبحر الزخار” لابن المرتضى، كذلك أصول الفقه كنا نبدأ ب”كافل لقمان”،ثم “كافل الطبري” وكتاب “الغاية” للحسين بن القاسم، وكذا أصول الدين كنا نبدأه ب”الثلاثين المسألة الصغرى” يليه “الثلاثون المسألة الكبرى” ويكون الختام كتاب “الأساس” وكانت كتب النحو أسهل من كتب البلاغة أما الفقه والبلاغة فليس لهما قواعد لأن كل مسألة تقوم على قاعدة خاصة، وهذا انطبق على تعليم القرآن، إذ بدأناه من النصف الأخير، لأن حفظ السور القصيرة أسهل على التلميذ الصغير، وبعد هذا نقرأ أصول الفقه والنحو والبلاغة لكي نصل إلى تفسير القرآن، وكان الكتاب التفسيري المقرر علينا هو كتاب “الكشاف” للزمخشري، لهذا كانت هذه الدروس تستغرق كل أوقاتنا إلا أن هذه الكتب العلمية كانت تحمل بذوراً ثقافية لأن الشعر كان منبثاً في أثنائها كشاهد على صحة القاعدة الإعرابية، وعلى صحة القاعدة البيانية، لهذا فقد شكلت كتب التعليم أساساً ثقافياً بمقدار ما شكلت ضوءاً على بوابة ثقافة العصر.
    س: إن فترة الأربعينيات كانت موصولة بالعصور السابقة كيف ترون هذا في ضوء ثقافتكم؟ وهل كان الماضي الديني والأدبي والسياسي محور كتاب الأربعينيات؟
    ج. إن الأربعينيات في الوطن العربي كله اتجهت إلى منهجة الماضي الديني والأدبي والسياسي وفيها صدرت “عبقرية العقاد” و”حياة محمد” لهيكل، أما الماضي الأدبي فتناولته دراسة “العقاد” عن ابن الرومي “حياته وشعره” إلى جانب كتابه عن “أبي نواس” إلى جانب كتاب “الشعر في العصر الأموي” أما الحياة الفكرية فتناولها “أحمد أمين” في ثمانية مجلدات من “فجر الإسلام” إلى “يوم الإسلام” وهو أهم كتب في الحياة العقلية والجدل حول الفقه والأحكام.
    أما الماضي السياسي فكان أهم الكتب التي صدرت عنه هو كتاب الدكتور حسن إبراهيم “تاريخ الإسلام الثقافي والسياسي”، ولهذا كانت الأربعينيات فعلاً موصولة بالعصور السالفة تحت ضوء معاصر، وعن رؤية معاصرة، ولعل هذه المرحلة بدأت من العشرينات عندما أصدر طه حسين كتابه “في الشعر الجاهلي” وعلي عبدالرزاق “الإسلام وأصول الحكم” ثم توقفت الدراسة عن الماضي في عقد الثلاثينات ثم انتعشت في الأربعينيات، لهذا لم ننفصل عن الماضي تعليمياً وثقافة، وحتى كتاب “الموازنة بين الشعراء” فإنه لم يتطرق إلى معاصر من الثلاثينات أو الأربعينيات، وإنما بدأ من العصر العباسي، وانتهى، بالفترة النهضوية، ولم نشم رائحة العصر، إلا في كتب “جبران خليل جبران” و”أمين الريحاني” الذي كان يتجه اتجاهاً قومياً مبكراً.
    أما الثقافة اليمنية فكان أجد ما استحدثت هي مجلة “الحكمة” التي صدرت عام1939، واحتجبت عام 1941، نتيجة الحرب العالمية التي شكلت الأزمة في الحبر والورق معاً.
    س: كيف يرى البردوني واقع ونبض الحركة الشعرية على امتداد مساحة الوطن العربي بعامة وفي اليمن على وجه الخصوص؟
    ج: أولاً على مستوى الساحة اليمنية فإن الشعر في اليمن هو كغيره في باقي البلاد العربية من حيث المد والجزر، وليس هناك كبير مغايرة، أو تفاوت بين النبض اليمني، وبين النبضات الأخريات. والحقيقة فإن الحركة الشعرية لا تتضح بقوة، ويشعر المرء باندفاع أمواجها إلا في إطار المناسبات، والمهرجانات الشعرية في هذا البلد أو ذلك، فمثل هذه المنتديات الشعرية تؤكد في الأذهان أن الشعر موجود وأن الأدب بكل أجناسه موجود.
    س: كيف ترون مستقبل الشعر في وطننا الكبير؟..ثم ما موقفكم من شعر الحداثة، ثم ممن يسميهم البعض: بالحداثويين؟
    ج: الشعر من مطلع الخمسينات يتطور من شكل إلى آخر، ولكنه أبدا ينبع من الأصالة الواحدة. وفي اعتقادي فإن الشعر الحديث وقع في “مأزق” حرج لكنه استطاع أن يتجاوزه، وأن يتجدد ويتابع نشاطه، وأقولها صريحة: إن مأزق الشعر وأزماته واختناقاته دائماً إلى زوال بسبب ديناميكية الشعر نفسه، ليبقى على مر الأيام نابضاً حياً، متجدداً، دافقاً.
    س: ما آخر الدواوين الشعرية، وكتب الدراسات التي أنتجتها قريحة الشاعر الوقادة؟
    ج: آخر كتابين صدرا لي ديوان بعنوان “جواب العصور” وكتاب دراسة بعنوان “من أول قصيدة إلى آخر طلقة” والأخير هو دراسة في شعر المرحوم محمد محمود الزبيري، ويقع في “454” صفحة وهنالك كتاب صدر حديثاً بعنوان: “الجمهورية اليمنية” وهو امتداد لكتابي السابق “اليمن الجمهوري” والكتاب الجديد يعالج حكاية الوحدة منذ بدايتها عملياً وأصبحت الجمهورية اليمنية نظام الشطرين، وفيه كذلك أقدم فلسفة عن صعوبة توحيد الواحد، وإمكان واحدية الاثنين. قبل قيام الوحدة في اليمن ألقيت محاضرة بعنوان: “قبل الطوفان، يانوح” رصدت فيها الحساسيات القائمة واختلافات التركيب، ثم طمع الإنسان في شمالي اليمن في الاستيلاء وبعده عن الوحدة كمشاركة الوحدة.
    شعب واحد، تحت حكم رجل واحد، فسوف تتحول الوحدة إلى حكم واحدية الواحد وليس وحدة اليمن وإنما توحد الواحد في السلطة سواء أكان فرداً من “سنحان” أو حزباً في “عدن”. هذا الكتاب “الجمهورية اليمنية أريد أن ينزل إلى المكتبات قبل أن يصطلح المتحدون، أو أن يتمزقوا، والكتاب الآن قيد التجليد في المطبعة بدار الفكر المعاصر، في بيروت.
    كذلك هناك كتابان جديدان الأول بعنوان “رجعة الحكيم بن زايد” و”الحكيم” رجل هو رمز لليمن ولتجاربتها الزراعية والإجتماعية، والثاني هو كتاب “الجديد والمتجدد في الأدب اليمني” وهو كتاب من مجلد واحد بحدود “2300” صفحة يدرس الأدب اليمني من أيام الممماليك الأولى.
    س: وعلى مستوى الشعر هل هناك شخصية يمنية كان تأثيرها في بداياتكم الشعرية؟
    ج: لعل الشاعرين “محمد محمود الزبيري، وزيد الموشكي” أول من دفع الشباب اليمني في الأربعينيات إلى الشعر لأنهما تمحورا السياسة، والإيقاظ الجماهيري، وكانت أغلب قصائدهما توزع سراً، وتقرأ سراً كمناشير ثورية، مع أنها لا تتجاوز الدعوة إلى الإصلاح والحكم الدستوري.
    س: وشعراء الحداثة من منهم كان له بصماته في شعركم؟
    ج: كان “بدر شاكر السياب” أول من أثر على منتصف الخمسينات، ووجدت في شعره الحداثة الحقيقية والأصالة، لأنه كان على إلمام جيد بالشعر القديم وكان أغلب شعره من العمودي المتطور، لذا لفت انتباهي إلى قراءة “الشعر الحديث” فتتبعته من منتصف الخمسينات إلى الآن، بعد هذا اكتشفت أن الحداثة ليست مقصورة على الشعر المعاصر بأشكاله الأربعة، وإنما هي منبثة في الشعر القديم، لأن الحداثة تتكون من الرؤية الشعرية، ومن تجاوز التقاليد السائدة في أي عصر، ومن الشمولية في تركيب القصيدة، وصلتها بالوجدان الجماعي، وهذه موفورة في كل شعر من شعر العصور، إلا أنها في الشعر المعاصر أوفر وأجد ذلك الشعر الجديد لم يعد يقوم على حداثة واحدة، وإنما يحتاج إلى عدة حداثات: حداثة القاعدة الفلسفية، حداثة المنهج التعبيري، حداثة الرؤية، حداثة الشكل.
    س: ألا توافق أستاذنا الكبير بأنه ربما يتحول التأثر إلى التأثير لدى الأديب مع مرور الزمن؟
    ج: كل بادئ لا بد وأن يتأثر بأسلافه، ولا يمكن أن يظل المتأثر متأثراً لأن تأثيره سيكون فيه الأصالة إذا كان قد تلقى عن أصالة، أما الذي يظل متأثراً فهو لا يملك إضافة لأن التأثر يخلق الصوت الخاص للشاعر والكاتب، وهو بمثابة إضاءة بحث عن الصوت الخاص، وعن الملكات الخاصة، لكل شاعر لكي يتجدد الشعر ولا يظل مكرراً أسلافه أو معاصريه فالتأثر ضروري لأنه علامة الأصالة لكن إذا لم تتبلور الأصالة، وتحدث الرؤية الخاصة، والصوت المتميز، فإن المتأثر سيبقى مجرد ظل أو صدى.
    س: هناك أشكال برزت إلى السطح حول قضايا النقد وتخلفه عن الجانب الإبداعي، ما هي أسباب ذلك في تقديركم؟ وكيف يمكن خلق حالة من التوازن بين الإبداع والنقد؟
    ج: إنه من الضروري أن يكون المبدع أكثر تجاوزاً وأبعد نظرة من الناقد لأن الناقد يتعامل مع نصوص، بينما المبدع يخلق نصوصاً ويخلق عواملها من داخلها، ومن خارجها فلا بد أن يوجد فرق بين الناقد والمنقود، لأن الناقد يقيم أعمالاً جمالية، ومخلوقات بديعة، على حين أن الأديب المبدع هو الذي يخلق هذه الأعمال، فلا بد أن يكون المبدع أكثر تقدماً وفي كل التواريخ الأدبية نجد النقاد متخلفين مقارنة بالمبدعين.
    الآن يعنى النقاد بالتجارب الشعرية، أو التجارب الرؤيوية يعنون بالمذاهب الأدبية، يعنون بالمدارس هذا رومانتيكي، هذا واقعي من مدرسة الواقعية الجديدة، هذا من المدرسة الرمزية، هل هذا مباشر؟ هل هذا غير مباشر: هل هذا إيجابي؟ هل هذا رمزي؟.. إن النقاد دائماً يتعاملون مع ظواهر النص لكن المبدع مع خلق النص، فمن الضروري أن يكون عالم النقد أو فن النقد غير الفن الأدبي المنقود، ولو لم يوجد هذا التغاير لما وجد النقد، ولا يمكن أن يوجد نقد متخلف إلا في ظل أدب متخلف أيضاً، أو لم يكن متقدماً كما ينبغي. إضافة إلى أن النقاد يتعاملون مع مبدعين مشهورين، وقلما يتابعون المدارس الجديدة والناشئة الجديدة لأنهم يرونهم مجرد مجربين ولا يزالون في طور التجربة وبعضهم يسمونهم مغامرين.
    وفي الحقيقة أن الناقد الحقيقي هو الذي يخلص إلى روح النص، ويعرف السر الأدبي في الرواية وفي القصيدة ولا تكون الظواهر المذهبية، أو الظواهر المدرسية، إلا مجرد طريق لمعرفة سر الإبداع في النص.
    س: إلى جانب البيئة تعرف أن الوراثة كان لها دور كبير في تكوينك وبمعنى آخر لها دور في تكوين الإنسان ثقافياً فإلى أي مدى حدث الامتزاج بين البيئة والوراثة لديكم؟..
    ج: في كل قطر من الأقطار عدة بيئات لأن الواقع متعدد الجوانب، لهذا تلقنت من البيئة دراسة الفنون الشعبية، ومن الثقافة العليا طرائق البحث، واستغوار النصوص، وقد كانت بيئتي إبان ميلي إلى الشعر تتكون من تقاليد القديم، ومن تأثير التعليم الفقهي واللغوي، وكان التراث اليمني من دوافع الشعر، حتى إن كتب الفقه لا تخلو من المنطقية من مثل قوله: “الماء لا يطهر الماء” لأن الذي يطهر غيره لا يتطهر بجنسه، وكان في الفقه الشيعي مسائل أرسطية ومسائل فيثاغورثية بصفة خاصة، لهذا تعرفت إلى البيئة كقاعدة فلسفية أمكن معاصرتها، ودخولها فلسفة العصر التجريبية والعلمية، متجنباً الفلسفة الوصفية، فأكثر ما أفادتني البيئة والوراثة، هي البيئة التعليمية التي شكلت قاعدة التثقف، ومدتها بالمسائل الفلسفية والحصيلة اللغوية على أن الثقافة لا تكون الأصالة الشعرية، وإنما تصقلها وربما كانت الثقافة الضخمة عبئاً على الشاعر، وهذا ما ينبغي أن يفكر فيه الدارس، فمثلاً شعر العقاد، فإنه كان يرزح تحت “الفنقلة الكتابية” والفرويدية النفسية التي استعملها في دراسة العبقريات “ومعنى الفنقلة: أي الجدل القولي والكلمة منحوتة”.
    س: والمرأة في حياتك وشعرك أين هي؟
    ج: هي في كل حياتي هي أمي وأختي، وابنتي، لو كان لي أولاد.. هي جدتي وأرضي لأن الأرض أم جميع الخلق… وهي حبيبة وصديقة وطيف وحقيقة وتخيل… المرأة أشياء كثيرة… إنها أكثر من موقف وطني أو اجتماعي أو إنساني.
    ولا يظنن أحد أن المرأة والرجل شيء واحد ولا يظنن أحد أن المرأة مختلفة عن الرجل صحيح أن هناك اختلافاً فيزيولوجياً، وأنها تحمل وتلد، ولكن هذا بطبيعة الحال ليس تقليلاً من شأنها وإنسانيتها بل هو ميزة لها، والمهم أن يسعى الإنسان إلى تكوين ذاته وشخصيته.
    س: ما أجمل ديوان أو كتاب أبدعته قريحتك أستاذ عبدالله؟ وهل هناك قصيدة لها وقعها وحساسيتها في ذهنك أكثر من غيرها؟
    ج: لا أقول كما يقول الشعراء: كل قصائدي كأولادي، أو كل أعمالي الكتابية كأبنائي، أنا أرى أن أجود دواويني هو ديوان “زمان بلا نوعية” الذي صدر عام 1979م، وأجود كتبي: “فنون الأدب الشعبي في اليمن” والذي صدر عام 1981م، هذا من ناحية حسياسيتي نحو هذين العملين. أما وقع القصيدة فآخر قصيدة هي الألصق بالنفس، فكل قصيدة لدي جيدة حتى تنشأ الأجود أو الأحدث لأن العمل الأخير هو الذي يشعر صاحبه بأنه خلق شيئاً، وأما الذي مضى عليه وقت، فإن جدته تتلاشى، فيظل الشاعر محباً لأقرب النتاج بل وأكثر حنيناً إلى الذي سوف ينتج.
    س: المبدئية سمة واضحة في شعرك، كيف توظف هذه الأداة؟ ومن أي الينابيع استقيت “مبدئية” عبدالله البردوني؟ ولأي الأهداف الفنية والإنسانية تستخدمها؟
    ج: ما من شك أن لكل شاعر قضية والذي لا يرتبط بقضية كبرى فإنه ينتج جمالاً مجانياً ولعل التزامي ناشئ من الحس السياسي الذي تمحور الأدب وتناسج فيه. أما الأهداف التي أتغياها فهي التوق أن يكون الغد أفضل من اليوم، وأن يكون الإنسان أحسن حالاً مما كان لأن التغيرات التي تحول كل شيء إلى غيره قادرة أن تحول الإنسان مما كان إلى ما ينبغي أن يكون، وهذا يتطلب ثورة من الداخل على الداخل لكي تموت الأحاسيس الذاتية، ويندمج الإنسان في الوجود الكلي، والوجدان الجماعي.
    س: الأستاذ البردوني شاعر، وناقد، ومؤرخ، ولكن يحلو للبعض أن يشكك في قدراتكم النقدية والتاريخية ليخلو له الجو في هذا المجال بقصد توظيف النقد وكتابة التاريخ لخدمة السلطات، أرجو توضيح هذا الأمر بصورة شاملة.
    ج: أنا في الحقيقة كثير الشك في أعمالي، ولست حسن الظن بنفسي، وأنا أشكر هؤلاء الذين يشككون في كتاباتي، ولا أريد لأحد أن يقبل الأمور كقضايا مسلمة، يجب أن يكون هناك شك في كل ما هو قائم وما سيقوم، لأن التقبل المطلق يعطي غباء مطلقاً، فما من شك أن النقد جرح في المفهوم العربي، وأنه يحتاج إلى نقد فما ادعيت يوماً من الأيام أنني ناقد، وما ادعيت أنني مؤرخ، وإنما أتعامل مع الكلمة، ومع الكتابة، ومع القصيدة بالطريقة التي أحس أنها تؤدي عني وتشغل في بالي شيئاً يهم الناس، وأريد إيصاله إليهم، فلا بد أن الشك أو التشكيك في ما أكتب شيء مفيد، وشيء يسرني كثيراً، لأن هذا التشكيك دليل على أن كتاباتي تشغل أناساً فتجعلهم يقولون في الحق والباطل والتجريح والإشادة، وغيره، ولو لم تكن هذه الكتابة ذات أهمية لما حاولوا أن يشككوا فيها فكلما شكك البعض فيك أو ندد البعض فهو ما يسمى بالأدب الخطير، ولا بد من أن يتفهم الواحد أن التشكيك والاتهامات والتنديد دليل على الخطورة لأن العادي لا يعادى.
    س: وأخيراً ما نصحيتكم للجيل الصاعد من أصحاب الأقلام الواعدة؟
    ج: لا أظن أن المتجه إلى الثقافة، أو الغائص فيها يحتاج إلى وصية أو تعاليم، لأنه قادر على الإبداع والتفوق إذا ركب موجة العمل والنشاط، ولست من الذين ينصحون أحداً لأنني ما تقبلت نصح أحد.

  • 427 المقابلة الصحفية مع مجلة (المشاهد السياسي)

    >  المقابلة الصحفية مع مجلة (المشاهد السياسي)

    نشرت في العدد 183 الصادر بتاريخ12سبتمبر1999م
    أجرى الحوار: نوري الجراح
    رحل عبدالله البردوني الشاعر والشخصية الثقافية الكبيرة في اليمن. عاش 71 عاماً أمضى 65 سنة منها في
    الظلام. فقد أصابه العمى وهو في السادسة من عمره. لكنه مذ ذاك تحول إلى شعلة للشعر والأدب والوطنية في بلاده اليمن التي عرفت خضات كبرى وثورات وظروفاً اجتماعية أليمة. عرف عن البردوني حبه الجم للناس، وتواضعه، وحماسته لكل جديد، فضلاً عن ثقافته الشعرية الرفيعة ومعرفته العميقة بالتراث، وتضلعه بالأدب الشعبي في اليمن، وفوق كل ذلك أمانته وموضوعيته. فهو وإن كان من شعراء قصيدة العمود الجديدة التي برز فيها عمر أبو ريشة خصوصاً، إلا أنه كان باستمرار إلى جانب الشعراء في اختيار الأشكال الشعرية الأنسب لهم، والأكثر استجابة للتعبير عن تجاربهم الروحية والجمالية. كان لقائي به في سنة 1983م خلال زيارة لي إلى صنعاء. ولدى لقائي به قلت له: لو رجعت من صنعاء ولم ألتق بك لكنت اعتبرت زيارتي ناقصة. كان معلماً حقيقياً من معالم بلاده، وشخصية حرة ذاقت المرارات وعرفت السجون بسبب مواقفها الوطنية.
    في لقائي به الذي نشرت جزءاً منه في تلك السنة نفسها، وظل أكثره غير منشور تركت البردوني يتكلم على سجيته، ونادراً ما سألته، فقد كان راغباً يومها في أن يقول شيئاً لزائر عربي، فكيف إذا كان هذا الزائر شاعراً. قلت: إنني سعيد أن أجلس إليك في هذه الغرفة ولم يكن طولها يزيد عن ثلاثة أمتار، أما عرضها فمتر ونصف المتر، على أكثر تقدير، مازلت إلى اليوم أذكر تلك الغرفة التي وقتني لظى حرارة الصيف بينما كنت في الطريق إلى بيته في وسط صنعاء.
    في تلك الرحلة كنت صحبة شاعرين صديقين قاسم حداد من البحرين، ومحمد بنيس من المغرب، وكان الشاعر عبدالعزيز المقالح قد استضافنا بكرم كبير، وجعل لنا تاكسياً وسائقاً يمضي بنا أنى كانت الوجهة التي نريد، فقضينا معاً اسبوعين من الزمان في صحراء مأرب، وحواري صنعاء، وجبال حجة كانت أياماً جميلة مثل الخيال فقد افتتحناها بلقاء الرئيس الراحل عبدالله السلال أول رئيس للجمهورية اليمنية، واختتمناها بالوقوف فوق الغيوم في جبال حجة الشاهقة.
    قلت للبردوني: زرت حجة وقلعتها
    فقال: سجنت هناك في تلك القلعة في عصر الإمامة.
    اللقاء بالشاعر عبدالله البردوني -بتشديد الدال وضمها نسبة إلى قرية بردون اليمنية- لقاء ينطوي على عالم يضج بأنوار البصيرة، تفيض بما سمعت وأحست ولمست، وبما تشكل وتراءى لها في أبعاد ومستويات تتصل على نحو شفيف، وحاد، ومبدع، وقوي الشكيمة، بالعالم الخارجي.
    في غرفته الصغيرة المعتمة التي يصل المرء إليها بواسطة دهليز، أشد عتمة، تصل أرضه بسقفه ربطات الكتب، جلست إليه، وفي غضون كوب من الشاي، وقليل من الدقائق، بينما الشاعر يدخل ويخرج تارة “بترمس” الشاي، وأخرى بكتب كان منذ ما قبل مجيئي يداول أمره بها، رحت اتفحص المكان. كان شديد الضيق، لاتبدو أشياؤه مستقرة، ما خلا الرسم الزيتي في أعلى النافذة للبردوني بريشة أحد الاصدقاء.
    ها أنا في بيت شاعر كفيف البصر، مدهش البصيرة، كما سوف يتبين لي بعد حين.
    أهلاً بك في بيتك -قال الشاعر- كانت النافذة مفتوحة، وأشار إليّ لمساعدته في اغلاقها، لأن الضجة تنبعث من خارج، وبات علي أن أتلمس طريقي في شبه عتمة إلى مفتاح النور فأضيء لنفسي الغرفة، ولألمح ما يشبه ابتسامة، أو طيفها يرف على محياه.
    كوب آخر من الشاي، وبعض دعابات من الشاعر، ولايلبث الحديث أن يدور، فتستحيل الغرفة إلى عالم مليء بالشخوص والأسئلة والقضايا. لقد بدد البردوني الإشكال الكبير الذي وجد نفسه فيه بسبب عماه وهو في سن السادسة، من خلال ذلك النهم الذي جعله يُقبل على العالم الخارجي تاركاً لحواسه الجائعة إلى الرؤية في اللمس بالأصابع، والمعرفة أن تتخاطب وتتفاعل فتنتج حاسة عليا جديدة، هي الأكثر عنفاً ورغبة وفرحاً بنفسها وبما يحيط بهذه النفس.
    أسهم البردوني من خلال عطائه الشعري والنقدي، في إغناء حركة الشعر العربي بصوت ذي خيارات فنية وفكرية شكلت إضافة إلى حركة الشعر العربي، خصوصاً ببعده الكفاحي الاجتماعي والإنساني، فضلاً عما شكلته هذه الظاهرة الشعرية من مصباح مضيء في الشعر خصوصاً، وفي الأدب اليمني بصورة عامة.
    – على رغم قيام محاولات نقدية جادة للتعريف بالحركة الشعرية والأدبية في اليمن، بعضها قام بها د. عبدالعزيز المقالح، وأخرى قمت بها أنت، خصوصاً في كتابك “رحلة في الشعر اليمني” فإننا مانزال نجهل الكثير عن هذه الحركة، لاسيما ما آلت إليه في السبعينات والثمانينات من هذا القرن؟
    – لعل مطلع الستينات هي بداية حركة الشعر الجديد في اليمن، لأن تلك الفترة، هي فترة التمخضات، فترة بزوغ البراعم، وفترة انفتاح الزهور التي تبرعمت في الخمسينات.
    لا أجزم أن بداية حركة الشعر الجديد مقرونة بفجر الستينات، وإنما أقول أنها بدأت تتضح أكثر منذ بداية الستينات، أو أن القصائد التي كتبت في الخمسينات انتشرت في مطلع الستينات وفي منتصفها وأواخرها، فتحديد أوائل الستينات يتعلق بمعرفة هذه الحركة وظهورها، لكونها بزغت قبلاً، ومن العجيب أن الحركة الشعرية التي ظهرت في الستينات، ظهرت بشكلها العمودي المتطور، الذي كان طابع الشعر الجديد منذ أواخر الاربعينات عند بدء شاكر السياب في “انشودة المطر” وعند نازك الملائكة في “شظايا ورماد” وعند صلاح عبدالصبور في “الناس في بلادي” وعند خليل حاوي في “نهر الرماد” وعلى ظهور هذا الجديد علامات استفهام عدة، وتساؤلات، منها: هذا الجديد هل هو ناشيء من اليمن، ومن تربة الواقع اليمني، أم أنه كان مسترفداً أنفاسه وتركيباته من قراءة الشعر العربي الجديد الوافد من مصر ولبنان وسورية والعراق؟
    أغلب الذين مارسوا القصيدة الجديدة، سواء استمروا في انتاج الشعر، أم لم يستمروا، مثل الشاعر ابراهيم صادق، أول من نشر قصيدة جديدة في منتصف الخمسينات، وكانت قصيدته أقرب إلى الشعر العمودي المتطور، لأنها تعتمد على بحر المتدارك. وعلى غير تواتر هذا البحر واضطراده. مثلما يقول:
    (هذي صنعا ليست صنعا
    هذه صنعا ذيب يعوي
    فأس في اشجار يهوي
    أزهار في كم تغوي)
    في هذه القصيدة تقريباً لاتلمس خروجاً بيناً على العمود القديم.
    – بمعنى أن ليس هنا ثمة خروج حاسم، لكن هذا ما نراه الآن، نحن الذين شهدنا الانجازات اللاحقة التي جاءت بها حركة الشعر الجديد، إنما ما تستشهد به، ربما شكل في حينه تطوراً أساسياً ومهماً؟
    – بالتأكيد، ونحن نرى نظيره في “أشباه ونظائر” و”قارب على الخليج”، و”رسالة عن مقبرة” و”شباك وفيقة” لبدر شاكر السياب، فالشعر الجديد من الخمسينات إلى قسم من الستينات كان شعراً عمودياً متطوراً، وإبراهيم صادق هو الشاعر الأول الذي مارس بنجاح هذا النوع من الشعر في اليمن. صحيح أن هنالك شعراء مثل علي عبدالعزيز نصر، زاولوا القصيدة العمودية المتطورة لكنهم لم يحققوا نجاحاً كالنجاح الذي حققه ابراهيم صادق في منتصف الخمسينات أو في العام 1956م تحديداً.
    لقد ظلت القصيدة هي الفاتحة إلى مطلع الستينات، وهناك توالت القصائد الجديدة، من عبده عثمان الذي كان يدرس في القاهرة وسعيد الشيباني الذي كان أيضاً يدرس هناك.
    وتساءلنا: هل هذه القصائد ثمرة المطالعة والتأثر؟ أم هي ثمرة تحولات يمنية؟ أم ثمرة تحول واقع عام في كل من اليمن وفي القاهرة؟
    – هل هناك مايمكن أن نسميه فواصل بين الواقع الثقافي والواقع الاجتماعي والسياسي؟
    – الواقع الثقافي قد يكون متقدماً احياناً وقد يكون الواقع الاجتماعي متأخراً أو أدنى إلى التأخر في بلادنا العربية هذه المسألة من أصعب المسائل لأن عملية التناغم الحميم بين الواقع الاجتماعي والواقع الثقافي هي أن يشمل التطور كل المناحي الاجتماعية والثقافية. القصائد اليمنية الجديدة ظهرت من طلاب كانوا يدرسون في القاهرة من أمثال الشاعرين اللذين ذكرت قبلاً لكن هنالك شعراء أبدعوا القصيدة الجديدة وهم لم يغادروا اليمن، كالدكتور عبدالعزيز المقالح.
    – هل تقصد أن المقالح بدأ كتابة الشعر الحديث قبل أن يغادر كطالب إلى القاهرة؟
    – بالضبط. فهو كان هنا في بداية الستينات، لكن ربما يكون قد خرج من اليمن في تلك الفترة في زيارة قصيرة إلى السودان وإلى القاهرة في رحلة إنما في مطلع الستينات عندما بدأ يزاول قضايا الشعر، كان مقيماً في اليمن، وكان من العاملين في الحقل الاعلامي هنا، وبدأ يكتب القصيدة الجديدة بشكلها العمودي.
    – هل تقصد أن المقالح لم يكن حتى ذلك الوقت قد حسم أمره، وحدد خياراته الجمالية؟
    – هذا أمر يصعب الجزم فيه، لكن قصائد المقالح الجديدة لم تظهر إلا في مجموعة “لابد من صنعاء” التي صدرت في القاهرة عام 1970م في ذلك الحين كان المقالح مقيماً في مصر، هذه المجموعة يمكن وضعها في ثلاث خانات: “العمودي المتطور”، “العمودي الخالص”، ذو الرؤية الجديدة و”الجديد” بمعناه التفعيلي، وليس بمعناه المنفلت أو النثري. وإنما المضبوط القواعد، سواء في عموديته، أو في عموديته المتطورة، أو في قصائده الجديدة.
    كذلك ظهرت سنة 1971م مجوعة “مأرب يتكلم” وهي مجموعة مشتركة في شطرها الأول كانت لعبده عثمان وفي شطرها الثاني للمقالح، الذي تولى طبعها وتنقيحها وتصحيحها. هذه المجموعة أظهرت قصائد لعبده عثمان مابين منتصف الخمسينات وأوائل السبعينات، ولقد اتضح أن عبده عثمان يشبه المقالح في جملة القصيدة الجديدة، إما عمودية متطورة، وإما جديدة، وإما عمودية. لكن الفروق بين الشاعرين تكمن في أن المقالح كان أكثر تجويداً في القصيدة العمودية. وعبده عثمان يجيد العمودية المتطورة والقصيدة الجديدة. أكثر منه إجادة في العمودية الخالصة. والمقالح في جملة القول، كان يجيد في الاشكال الثلاثة. وهذا يدل على أن عبده عثمان كان أقرب إلى منبع الجديد، وإلى المعارك الجدلية حول القديم والجديد، وإلى تحمسه حول الجديد والقديم، فكان في الجديد أجد وأوفر إبداعاً منه في العمودي، لكن القصيدة الجديدة عند عبده عثمان لاتخلو من كسرات، ولاتخلو من انعدام الضبط عند الذين يتشددون في النظام العام للتفعيلات، فأنت تجد في قصائده الجديدة بعض تسامح في تواتر النغم. أو في تجاوب النغم، أو في تداخل الكسرات هنا وهناك، وربما كانت هذه ظاهرة من ظواهر الشعر الجديد.
    لقد اهتممت كثيراً بشعر عثمان والمقالح، باعتبارهما الطليعة بالنسبة للشعر اليمني، وإن كانا لايمثلان الطليعة في الشعر العربي الجديد عامة. يمكن أن تضع المقالح وعبده عثمان في صف صلاح عبدالصبور وعبدالمعطي حجازي، وأمل دنقل، واحمد سويلم، وفتحي سعيد لكن الذين نجد لهم الريادة المحلقة، والقيادة الصاعقة بمعانيها الجمة هم: السياب، كحاوي، ودرويش، فهذان يمثلان الطليعة بالنسبة للشعر العربي عموماً. إنما أظن أن الذين بدأوا في الستينات أو في منتصف الخمسينات لم يشكلوا طليعة، بل امتداداً للطليعة أو يمكن أن نقول أنهم عصافير في حديقة واحدة.
    – ماذا عن الأسماء الشعرية الجديدة التي ظهرت لاحقاً في اليمن؟
    – منذ مطلع السبعينات لمعت أسماء جديدة في الشعر اليمني وبدأت من عواصم عربية ثقافية خارج اليمن. فكما كان عبده عثمان وسعيد الشيباني وعبدالعزيز المقالح طلاباً في القاهرة عندما نشروا قصائدهم كذلك ظهر حسن اللوزي كشاعر يكتب القصيدة الجديدة بحساسية حادة.
    – هو اليوم وزير الاعلام والثقافة؟
    – نعم، وقد بدأ في القاهرة العام 1968م فالذين تألقوا في السبعينات لابد أنهم لاحوا وتلامحوا في الستينات، والذين تألقوا في الستينات لابد أنهم تلامحوا في الخمسينات، وهكذا فإن الفترة الزمنية ليست قيداً على البداية. وماحصل بالنسبة لجيل السبعينات الشعري، هو أنه ظهر من خارج اليمن، فاللوزي كان طالباً في جامعة الأزهر عندما بدأ ينشر القصيدة الجديدة، كذلك بدأ في أوائل السبعينات عبدالودود سيف، ويحيى الارياني، وعبدالله سلوم ناجي، وعبدالرحمن فخري، واسماعيل الوريث، وجنيد محمد جنيد وجلّ هؤلاء كانوا طلاباً في جامعة دمشق.
    – ما رأيك في القصيدة الجديدة التي ظهرت في سورية؟
    – القصيدة الجديدة حديثة العهد في سورية، لم تتبلور إلا في منتصف الستينات وقصائد ادونيس في الخمسينات كانت عمودية، أمثال “قصائد أولى” و”نداء الأرض” و”إذا قلت ياسورية”. الخ.. ادونيس عندما أصدر “أوراق في الريح” كان ثمرة البيئة البيروتية، أكثر منه ثمرة البيئة الدمشقية.
    – هل يمكننا أن نجزم بأن الحركة الشعرية اليمنية في بعض رموزها. تشكل صدى للحركة الشعرية العربية؟
    – قد تكون في معجمها الأول في جملة رؤاها مشابهة للشعر العربي، لكن ظهور القصيدة اليمنية جاء على فترتين، الأولى قصائد غير متواصلة، والثانية مجموعات متواصلة. فترة الستينات حفلت بقصائد غير متواصلة، أما السبعينات فحفلت بمجموعات متواصلة، وفترة تبازغ شعراء جدد كما أشرت.
    إنما شعر السبعينات تشابهت ملامحه ورؤاه حتى كاد المرء يفقد السمات المحددة، والخصوصيات التي تشير إلى فلان وتدل على فلان.
    – هذا الكلام ينسحب على كم كبير من النتاج الشعري في المنطقة العربية عموماً وفي الفترة المشار إليها؟
    – صحيح، إلا أنك لاتقدم اثنين أو ثلاثة من الشعراء يملكون أصواتهم الخاصة وخصوصياتهم الذاتية والثقافية والفكرية، ممن امتلكوا معجماً خاصاً، وحساسية مختلفة، وإجادة شعرية.
    – ترى ماهي أبرز الهموم على المستوى الفني في القصيدة اليمنية الجديدة، أيضاً أبرز الهموم التي تتضمنها المستويات الفنية المتباينة في هذه القصيدة؟
    – لاشك في أن الهموم الوطنية هي أبرز الهموم، لكنها متعددة الإيماءات والسمات والقسمات وهذه الهموم هي الأصعق والأكثر سيطرة على النفس طبعاً في ذلك يندرج الخوف على الوطن، والخوف من الوطن على النفس، الخوف من الجيران على الوطن، الخوف الوطني، والحب الوطني والفدائية الوطنية، هي الغالبة على القصائد بشكل عام. إلاّ أن الوطنية ليست قوقعة. إنما هناك رؤيا إنسانية، ففي القصائد الوطنية بعد إنساني، وبعد تاريخي، فاليمني يحس أن مأساوية وطنه هي مأساوية كثير من الأوطان. ومأساوية التخلف العام، هي مأساوية الصراع العنيف الذي لانملك مواقعه، ولانملك أسلحته، ولو أردنا أن نستشهد على الهموم الوطنية في شعرنا اليمني فقصائد الذين ذكرت اسماءهم من الشعراء تحفل بها. والمجموعة الأولى للبردوني اسمها “من أرض بلقيس” أي اليمن، تلتها مجموعة المقالح العام 1970م “لابد من صنعاء” تلتها مجموعة عبده عثمان والمقالح “مأرب يتكلم”، هذا ما يتصل بالمجموعات الأولى، كذلك تجد مجموعات محمد سعيد جرادة، وهو شاعر كلاسيكي مجيد. “لليمن حبي” وعلي عبد عفيف “لليمن كل حبي” وهكذا تجد اسم اليمن أو مأثرة من مآثر اليمن، أو إشارة تاريخية توميء إلى اليمن بمثابة عناوين لمجموعات شعرية.
    كذلك هناك عناوين لقصائد بهذا المعنى. هذه مجرد دلالة على الهم اليمني لدى الشاعر، وأؤكد أن الشعر اليمني ينظر إلى الوطنية من مطل إنساني، ومن خلال حس حضاري، ومن خلال بعد تاريخي، وحلم مستقبلي أيضاً.
    – هل شكل البعد السياسي في القصيدة اليمنية في وقت من الأوقات مقياساً لجودتها ومرجعية قيمية ينتفي معها الحديث عن الشروط والمستويات الأخرى المكونة للقصيدة؟
    – لاشك في أن القصيدة فن شعري أولاً، وموضوع سياسي ثانياً، وموضوع قومي ثالثاً والقصيدة أول شروطها أن تكون شعراً، ومعنى أن تكون قصيدة، أي عند القصد، وذات مبدعة لقصد. شروط القصيدة ليست في موضوعها السياسي أو القومي أو الوطني. شروطها تكمن في قيمتها الفنية. ثم إن تعدد الشروط الفنية للقصيدة، لم تعد مقيدة ببلاغة التشكيل، أو الاستعارة أو المجاز، لقد تطورت أساليب البلاغة، وتطورت أدوات الفن، كما تطور البحث عن أرهف الأدوات الفنية التعبيرية. فكيف نضع للقصيدة شروطاً من خارجها؟ لابد أن تكون شروط كل قصيدة من داخلها، مع مراعاة سعة المساحة للتطور الفني لغوياً وبيانياً ورؤيوياً. هذه القصيدة تكون جيدة لأن لها لمحاً رؤيوياً، لها قاعدة فلسفية، لها موضوع وطني مثلاً، هذه القصيدة جيدة لأنها عبرت عن رؤيا غريبة، وأشارت إلى غرابة في العالم، وأعادت صياغة المرئيات العادية إلى مشاهد غير عادية، هذه القصيدة جيدة، لأنها مزجت الفلسفة بالشعر، والشعر بالتفلسف، وكونت من الفكر والشعور كياناً فنياً يفيد ويثير، ويثير لأنه يفيد والعكس صحيح.
    التقويم من جهة واحدة لم يعد قائماً، وذلك لسعة مساحة اللغة، ومساحة الشروط الفنية، التي تطورت بتطور البلاغة، التي تحولت من مجاز إلى رمز ومن تشبيه إلى إشارة ومن كتابة إلى كناية تاريخية، أو إلى مانسميه رفضاً، أو أي شكل من أشكال الرفض، فالتطورات البلاغية، والتطورات في اللغة الأدبية، حسب تطورات لغة المجتمع، ولغة القواميس تبعاً للغة المجتمع، لابد أن تُرى.
    مثلاً، قد أرى قصيدة محمود درويش جيدة لكن هذا يحدث من آفاق عدة لا من أفق واحد، أنما لا أشترط أن ينظم محمود درويش على طريقة أدونيس ولا أدونيس على طريقة سعدي يوسف، ولا سعدي يوسف على طريقة عبدالعزيز المقالح، لابد من أن تتعدد الأنماط بتعدد الصيغ، وتعدد الموضوعات وتعدد البيئات التي تنتج الشاعر وشعره.
    – المسألة الفلسطينية شكلت، منذ نشأتها، واحداً من أبرز هموم الانسان العربي، وبرزت هذه المسألة في نتاجات المبدعين العرب على اختلاف بلدانهم واتجاهاتهم الفكرية والأدبية، كيف نتلمس انعكاس هذه المسألة على الانسان والمبدع في اليمن؟
    – القضية الفلسطينية من أفظع القضايا النفسية بالنسبة لليمني وهي من أكبر الهموم لديه. حتى أننا نرى في تخلفنا الاجتماعي والاقتصادي واحداً من الأدلة على وجود الاستعمار الذي احتل فلسطين، لو كانت أمتنا تملك أمرها، لما أمكن احتلال فلسطين فأصل القضية ليس احتلال فلسطين، وإنما هو انهيار الأمة الذي شكل سبباً رئيسياً في احتلال هذا الجزء الغالي من الوطن العربي.
    عندما أفكر في مأساوية بلاد العرب، في التخلف، في الانحطاط السياسي، في الوحشية، أتأكد من أن هذا التخلف هو السبب في احتلال فلسطين، وسيكون السبب في احتلال أجزاء أخرى، سيكون مصيرها كفلسطين وقضية فلسطين هي هّم فلسطيني عربي، إنساني، بشري، تاريخي، حضاري، ولا أظن أن هناك إنساناً ينظر إلى الجوهر التاريخي للإنسان إلاّ ويرى في اغتصاب فلسطين جريمة من أفظع الجرائم البشرية.
    ولو لاحظت الشعر اليمني، لرأيت في كل مجموعة من مجموعاته، قصائد كثيرة، قد تشكل نصف المجموعة، وقد تشكل ربعها هي بمثابة قصائد عن فلسطين، كذلك قد تجد مجموعات كاملة، تعنونت بعنوان فلسطين، مثلاً المجموعة الأولى للشاعر عبده عثمان عنوانها “فلسطين في السجن” صدرت العام 1967م، كذلك تجد في مجموعات عبدالعزيز المقالح ما لايمكن حصره من قصائد تتصل بالمسألة الفلسطينية، ففلسطين هي الحريق الدائم، في المصابيح الشعرية، سواء كانت بمفهومها المباشر أو بمفهومها الرمزي، أو بمفهومها العام، لأن احتلال فلسطين هو الصورة الصارخة لوحشية الاستعمار على أوطاننا، وعلى ضعف أوطاننا أمام التوحش الاستعماري، وهذا كله يحثنا للبحث عن مكامن القوة لتجاوز هذا الواقع السيء.
    – لديّ تساؤلات حول حركة النقد في اليمن هل يمكن القول أن في اليمن حركة نقدية؟ ماهي أبرز اتجاهات هذه الحركة، كذلك صلتها بحركة النقد في الوطن العربي؟ ومن ثم أبرز إنجازاتها. وعلى المستوى الشعري هل استطاع بعض النقد استشراف وقراءة النصوص الشعرية الجديدة بلغة توازي تطور هذه النصوص؟
    – إن وجود حركة جديدة في الأدب اليمني أو في غيره من الآداب العربية، يحتم بالضرورة وجود النقد، لأن النقد مرتبط بالنتاج الأدبي، سواء كان شعراً أو كتابة أو خطابة، فكل قول إنشائي يعكس سخطاً أو رضى والمشكلة أن أدبنا ينطلق من هاتين النقطتين. لهذا كان النقد في اليمن، وفي غيره من الأقطار العربية مجاملة أصدقاء أو قدحاً لأعداء، هاتان النقطتان هما أهم منطلقات النقد سواء كان هذا السخط شخصياً بين الناقد والمبدع، أو كان بين مدرسة أدبية ومدرسة أدبية أخرى، لكن الناقد بطبيعته كالشاعر، لابد أن يتخلص من ذاته ويقترن بموضوع يخفف من غلواء هذه الذات.
    النقد الذي واكب ظهور المجموعات الشعرية أو القصائد التي لم تتشكل في مجموعة كان على وجهين، إما تشجيعي من جانب البعض ممن يرون أنفسهم معلمين أو نقد تقويمي ممن يرون الأدب تقويمياً، وإن كان هذا لايخلو من سخط على الرداءة، أو ذاك لايخلو من الرضى عن الإجادة، لكن المشكلة أن أزمة النقد ترد إلى أزمة الشعر نفسه، فالشعر الذي عمره أربعة وعشرون عاماً، لم يبلغ درجة النضج، لهذا كان النقد على هذا المقاس كان هنالك النقد التقويمي السريع، وكان هناك نقد المديح المطبل والمزمر، والنقد المتهجم، أما النقد الذي ينتزع من داخل النص فهو نادر في البلاد العربية كلها، وهو ذو شقين، إما نقد مثقفين ثقافتهم أعلى من ثقافة الشعراء أو نقد خصوم ثقافتهم دون مستوى الشعراء، لهذا وقعت المدارس النقدية كلها في هذه الأزمة بعضها بسبب من طبيعة النقد نفسه وبعضها بسبب من طبيعة الشعر الذي يثير النقد وأغلب ماصدر في اليمن من الكتب ومن الفصول لايبلغ مبلغ النقد بمعناه التجريحي، أو بمعناه الاشادي، وإنما الأغلب دراسات بمعنى دراسة للقصيدة، كيف بدأت؟ وكيف تطورت؟ وأين وصلت؟ دراسة للأدب الوطني، دراسة للأدب السياسي، أي دراسة فصائل من الأدب.
    – تقصد أنه يأخذ طابعاً تاريخياً؟
    – نعم هو تاريخ للأدب الانساني، وليس هناك نقد إلا في ما ندر، أكثر الذين ينتجون النقد والدراسات هو المقالح، وأبرز ما كتبه، من ألف باء الشعر إلى البيت إلى القصيدة، كذلك له كتابان آخران هما “أدباء من اليمن” و”فرسان السبعينات”.
    وصفي لحركة النقد في اليمن ينطبق على المقالح بالدرجة الأولى فهو يعمل على مسح مراحل الشعر الجديد وانتاجه وتطوره، إلاّ أنه لم يلمح أحياناً إلى الذين توقفوا عند مرحلة، ولم يتلفت إلى الذين دخلوا الشعر شكلاً، ولم يجيدوا مضموناً، هو يهتم كثيراً بالتجديد الشكلي، أما بالنسبة إلى دراسة الأنواع الأخرى من الآداب فهي قليلة قلة هذا النوع، كدراسة القصة اليمنية مثلاً. إذ لم يصدر إلى الآن إلا كتاب واحد عن القصة القصيرة في اليمن، وهذا يرجع إلى ضآلة هذه المادة وإلى عدم وفرة الإبداع والتواصل في هذا الجنس الأدبي، كذلك المسرحية لم يكتب عنها إلاّ مجرد مقالات في المجلات الثقافية، أو بعض فصول في الكتب، أو تدخل في سياق دراسة عامة للآداب. ولهذا لم نكن نبعد عن الحقيقة، عندما بدأنا في الكتابة عن الشعر لأنه فارس الساحة الأدبية في اليمن.
    – كيف ترى من وجهتك إلى “القصيدة الجديدة” أو “القصيدة الأجد” حسب تعبير المقالح، و”القصيدة النثرية” كما أسماها البعض القصيدة التي هي كما يبدو في حل من أغلب الضوابط التي تحكم القصائد العمودية وقصائد التفعيلة؟
    – يبدو لي أن التسميات في اللغة العربية تخضع للون، أو تخضع للشكل، أو تخضع للحجم، مثلاً عندما لمسوا الحجر، وقالوا هذا حجر أو صخر، فهم أخذوا التسمية من هذه القوة، كذلك عندما سمعوا الحمام يقول: حم، حم، قالوا حمام، كذلك انتزعوا اسم الغراب من لونه لأن لونه يشبه الغروب النهائي، وانتزعوا أسماء بعض الحيوانات من أصواتها كطائر القطا الذي يقول: قطا، قطا، قطا، كذلك اسماء الكتب جاءت من عناوينها الداخلية، أو من الخداع في عناوينها مثل “الجوهر المكنون” و”مفتاح العلوم”، التسميات جاءت كما يبدو لي مستندة إلى بعضها البعض، ففي أول الأمر قالوا القصيدة العمودية ثم قالوا “قصيدة عمودية متطورة” تنتهج البحر القديم، وتتسامح في كسراته، ولاتنتظم برتابته، بعدها جاءت القصيدة التي اسموها احياناً “القصيدة الحرة” لأنها لاتلتزم بالقوافي، وأحياناً اسموها ب”القصيدة المرسلة”” لأنها ترسل نفسها على سجيتها دون أن تتقيد ببحور تنتهي عند شطآن دون تقيد بجمل تقف عند قافية. فالقافية مكان الوقوف سواء كانت القصيدة عمودية، أو عمودية متطورة، أو جديدة، أو نثرية. ثم جاءت “القصيدة النثرية” وليس فيها وقفات. لقد سميت “قصيدة” لأن فيها جو الشعر، وسميت “نثرية” لأنها تخلو من النظام العام المتعارف عليه في كل من القصيدة الجديدة والقصيدة العمودية، فهي تملك من صفات الشعر الإيحاء بالجو والفضاء النفسي، والتعبير الشعري، لكنها ليست نثراً لأنها لاتملك قواعد النثر من مقدمة ونتيجة، فسميت “قصيدة نثرية” لكن التسميات كلها لاتدل بالضرورة على روح المسمى، ولاعلى جوهر المسمى، فهناك قصائد نثرية رديئة، وفي منتهى الرداءة، وهناك قصائد عمودية جيدة وفي منتهى الجودة، فقضية التسميات كلها مجرد تعريفات مثل تسمية الأشخاص، مثلما تجد لصاً اسمه “”أمين” أو تجد كاذباً اسمه “صادق”، إذن القضية ليست قضية الشكل وحده وإنما ماذا يحتوي هذا الشكل؟ ماذا يملك من إثارة فنية؟ ماذا يملك من الاستعارة؟ ماذا يملك من أسر القارىء؟ ماذا يملك من افتتاح ملكاته؟
    الشعر لايحتاج إلاّ إلى شرط واحد هو أن يكون شعراً، كيفما أتى في القصيدة العمودية أو في القصيدة النثرية أو في القصيدة الجديدة، ومهما كانت التسميات، واعتقد أن أولئك الذين سموا الشعر الجديد للمرة الأولى بالشعر الحر، كان كلامهم ينطبق على الشعر العمودي المتطور، لأنه لايلتزم قافية واحدة وأنا لا أجد مبرراً لتسمية بعض الشعر ب”قصيدة النثر” وأظن أننا لابد وأن نسمي الشعر بأسماء من داخله، نسميه من خلال معطياته نفسها.
    – ماذا تطلق إذن على هذا النوع من الكتابة الشعرية، أعني ما يسمى بقصيدة النثر؟
    – في الحقيقة لو نظرنا إلى تطور النثر فلن نجد القصيدة المذكورة تطوراً للنثر وإنما نجدها امتداداً للشعر، ولها جوانب من النثر، وهي لاتتصل بالنثر الكتبي، أو المجلاتي، أو الصحافي، أو الإذاعي.
    تجربة الماغوط
    – في هذا السياق كيف ترى إلى تجربة محمد الماغوط؟
    – تجربة الماغوط تجربة ناجحة وأنا أتكلم عن مثل هذه التجربة الحقيقية. الماغوط يمتلك جواً شعرياً وتعبيراً شعرياً وإيماء شعرياً، ويكاد يمتلك النغم الداخلي، وكذلك يملك ايماضات هامة من النغم الخارجي. وأظنه أنجح من كتب قصيدة النثر، وأنا قرأت كل شعره وهو مميز بأنه شاعر دون أدوات الشعر المتعارف عليها هو شاعر يكاد يملك الشاعرية تتدفق من عبارته ومن صورته، لأن الصور الشعرية لديه متلاحقة، وهي صور ليست لذاتها، وإنما هي دلالة على عوالم.
    – ماذا عن التجارب الجديدة تجارب السبعينات والثمانينات في سورية ولبنان والعراق كيف ترى إليها؟
    – إنني أعتقد أن حركة الشعر الجديد في سورية أسست على يدي الشاعر عبدالباسط الصوفي وهو يكاد يكون رائداً لقد انطلق من القصيدة العمودية ومن ثم توصل إلى القصيدة الحرة، إنما إنجازه الأساسي ربما يكمن في البعد الرؤيوي الذي ارتاده بقصيدته العمودية وذلك التفجير المبدع للصورة والإيقاع وفي تلك التراثيات من خلال النظام نفسه.

  • 256 استقالة الموت

    ديوان زمان بلا نوعية >  استقالة الموت

    مايو 1978م

    هذي الرؤى المصفرة الأورده
    وجعى، كهذي الليلة المجهده

    تهوى، وتخشى مثلما تنطوي
    في الغصة الأمنية المنشده

    تنسل من أهدابها مثلما
    تنسل من أضلاعها الأفئده

    * * *
    للريح أيد من شفار المدى
    وقامة قشية الأعمده

    ترمد الأقباس تدمي الضحى
    وللحزانى تعجن الأرمده

    * * *
    ما هذه؟ رجل أتت وحدها
    جمجمة طارت هوت مفرده

    سيارة فيل على نملة
    عصفورة عن سربها مبعده

    ألوان أصوات كهجس الحصى
    تلويحة كالمدية المغمده؟

    حنين عنقود إلى كرمة
    كي تستهل الشهوة العنقده

    * * *
    يا (سعد) تبدو خائفاً.. ما الذي
    أخاف أنسى الخوف يا (مرشده)

    ما زالت الأرض ولوداَ ومازالت
    شرايين الضحى موقده

    * * *
    تعربد الأسواق تعدو بلا
    شهية إغماءة العربده

    تحبو الممرات على ظهرها
    وتلبس الجدران وجه (البده)

    * * *
    من ذا يسمي نفسه سيداً؟
    هذي العصا لا غيرها السيده

    ألجوع والكرباج تاريخكم
    هل غير هذين سوى المفسده؟

    لكم غد….؟ يأتي ويمضي غدٌ
    وما تكفون عن الغدغده

    * * *
    ما أخدجت كل مواعيدنا
    إذا انطفا وعدٌ أضاءت عده

    هل بين موتين ترى فارقاً
    إما عوت أو زغردت (مسعده)

    يا دود غرد حسناً يا ردى
    أضف حلوقاً فكرة جيده

    سم اقتلاع العمر تشذيبه
    وسم إزهاق الصبا هدهده

    * * *
    ألناس غير الناس قل أصبحوا
    أدهى من الصياد والمصيده

    يا سيدي خذ مهنتي.. هًهُنا
    ضاعت حلوقي طاقتي المخمده

    هذا الحمى ينهار فيه الردى
    وتخرق الأعداد والأعتده

    * * *
    أمستقيل أنت؟ أصبحت لا
    أجدي ولا تجديك هذي الجده

    الناس في هذي الربى كالربى
    توارثوا الإخصاب والجلمده

    مايو1978م

  • 257 تحولات.. أعشاب الرماد

    ديوان زمان بلا نوعية >  تحولات.. أعشاب الرماد

    عرفت لماذا.. كنت قتلي وقاتلي
    لأن الذي يعطيني الخبز، آكلي

    لأني بلا ريحٍ.. إلى الريح أنتمي
    فيوماً يمانياً، ويومين (باهلي)

    وطوراً غروبياً، وطوراً مشرقاً
    وحيناً صدىً، حيناً نشيداً (سواحلي)

    وآناً بلا وقتٍ، وآناً مؤقتاً
    قناعي علائيٌ، ووجهي تنازلي

    * * *

    أأروي حكاياتي؟ جفوني محابرٌ
    لأقلام غيري، حبر غيري أناملي

    لأني دخلت السجن شهراً، وليلةً
    خرجت، ولكن أصبح السجن داخلي

    لقد كنت محمولاً على نار قعره
    فكيف تحملت الذي كان حاملي؟

    ومن يطلق السجن الذي صرت سجنه؟
    ومن يطرح العبء الذي صار كاهلي؟

    * * *

    تخشبت والأيام مثلي تخشبت
    أتمضين يا أيام؟ من أين؟ حاولي

    من الآن حاول أنت.. كيف تريدني؟
    سكت لماذا؟ هزّني من مفاصلي

    تقولين: حقي أصبح اليوم باطلاً
    عليَّ إليه، أمتطي ظهر باطلي

    أتدرين؟! أنساني التمرغ ها هنا
    جيني، وأنستني المنافي شمائلي

    تقولين: ماذا أنتوي يا هواجسي؟
    أتنوين شيئاً؟ فارقيني وناضلي

    أما فيك ما لم يحترق بعد؟ كل ما
    أعي، أنني أفنيت حتى تفاعلي

    أجب غير هذا، أعشبت فيك جمرةٌ
    وهذا اختلاجي فيك أزهى دلائلي

    * * *

    دمي صار ماءً رمدتني وحوله
    قميصي، أتخشى أن تفيق شواعلي؟

    تصيخ إلى شيءٍ يجادل هجعتي
    ومن أي ذراتي ينادي مجادلي؟

    * * *

    أحس بقلبي الآن ركض ولادةٍ
    عن الصمت يلهيني، عن الرعب شاغلي

    أبيني وبيني ثالثٌ إسمه أنا؟
    أمني أتى غيري؟ أيبدو مشاكلي؟

    * * *

    تحولت غائياً، من الموت أبتدي
    إلى غايةٍ أعلى، ستضحي وسائلي

    أللمرء ميلادٌ يموت ومولدٌ
    بلا أي حد؟ ما الذي يا تساؤلي؟

    * * *

    أصوتي سوى صوتي؟ أجرب صيحةً
    هنا مولدي يا فجر، قبل خمائلي

    سقوني دمي، كي أرتوي دائماً بلا
    حنينٍ، فنادتني إليها مناهلي

    ترمدت كي أغلي وأندى، وها أنا
    أتيت، وفي وجهي شظايا مراحلي

    * * *

    صباح المنى يا (قاع جهران) هل ترى
    على لحيتي لون الشعير (القباتلي)؟

    أتعرفني يا عم (عيبان) من أنا؟
    أتنوين يا شمس الربى أن تغازلي؟

    * * *

    إلى شهوة الأعراس أسرجت مدفني
    ومن قطع شرياني بدأت تواصلي

    أما كنت ميتاً؟ إنما كنت أغتلي
    وأعلو على قتلي، لأجتث قاتلي

    سبتمبر 1978م

  • 258 حنين

    ديوان زمان بلا نوعية >  حنين

    ظامئ والكؤوس عطشى وملأى
    كمرايا تهفو إلى وجه مرأى

    كثوان وردية تتبدى
    لشقي يموت جزءاً فجزءاً

    ** ** **
    إنه ظامئ إلى غير كأس
    والدوالي إلى تحسيه ظمأى

    يجتلي أبعد الأماني قريباً
    من يديه فيدَّني وهو ينأى

    يستحث الوصول يهوى وصولا
    كلما لاح قربه: زاد بطئاً

    يتشظى على الليالي ويعطي
    كل أمسية نعاساً ودفئاً

    ** ** **
    هًهٌنا المنتهي ويعدو إليه
    عندما تصبح النهايات بدءاً

    كان يستوقد الحنين ويفنى
    فيه عشقاً لا يشتهي منه برءا

    يشتهي أن يصيد يصبح صيداً
    يشتريه شيء إذا ابتاع شيئاً

    1978م أكتوبر

  • 259 لعابر.. غير مسبوق

    ديوان زمان بلا نوعية >  لعابر.. غير مسبوق

    كباب كوخ مأتمي
    أصغي إلى تهدمي

    كبدء مسرحية
    تهوى ختاماً ملحمي

    أمتد نصف شارع
    يجرني تقحمي

    * * *

    تطير قدامي يدي
    تنجرّ خلفي أعظمي

    أخاف من تقهقري
    يخيفني تقدمي

    أعدو أضيع داخلي
    أجثو يفر مجثمي

    أرمي أمام خطوتي
    رأسي قبيل أسهمي

    * * *

    كل الخيول أقبلت
    وكل سوق (علقمي)

    التل وكر هجمة
    والمنحنى تهجمي

    تعندمت بيض الحصى
    وارمد كل (عندمي)

    * * *

    الصحو يخشى يغتلي
    ألغيم يخشى ينهمي

    النهر جدب كالصفا
    ألرمل مائي ظمي

    * * *

    يا ريح نصفي مخبر
    نصفي حماس موسمي

    رجلي تخاف أختها
    زندي يخاف معصمي

    * * *

    للصحو جلد ربوة
    للنوم وجهُ (ملجمي)

    للخوف يقظة الشذى
    أخاف من تنومي

    * * *

    الصمت واقف على
    أطلال سد (مريمي)

    له قذال ناقة
    ووجه كهل (درعمي)

    * * *

    الهجس نعل خوذة
    ألطيف رمح (جرهمي)

    يومي لكل نبتة:
    جريمة أن تحلمي

    قفي هنا: كل الفصول
    في انتظار مقدمي

    كل الزمان في يدي
    كالرمح لا تهكمي

    * * *

    تهدينني؟ أجئت من
    علمي إلى تعلمي؟

    هل أذعنت؟ أخافها
    قبل يدي تجهمي

    تطرف أن تورقي
    خطورة أن تبسمي

    لا أشتري ما أشتهي
    بخنجري ودرهمي؟

    حماقة أن تنطقي
    غباوة أن تفهمي

    * * *

    أين أنا؟ يفر من
    عرق إلى عرق دمي

    أغوص من ظهري إلى
    وجهي أذوب في فمي

    على انحطاط قامتي
    أرقى سدى وأرتمي

    لأنني من السقوط
    بالسقوط أحتمي

    ومن حطام جثتي
    أمشي إلى تحطمي

    ومن بنان معدمي
    آتي ويمضي معدمي

    ومن رماد أغصني
    أسري إلى تبرعمي

    هنا الطريق مغلق
    وهًهٌنا جهنمي

    هنا اندفعت هًُهنا
    بزغت نصلاً (حضرمي)

    أضحكت (عبشمية)
    أرعبت كل (عبشمي)

    * * *

    البدء لا بدء له
    والمنتهى توهمي

    المرتقى تأزم
    والمرتقي تأزمي

    * * *

    هذي العناوين التي
    تومي عمى يهدي عمي

    كل الأسامي معبرٌ
    لعابر بلا سمي

    وغير مسبوق الخطى
    إلى خطاه ينتمي

    يأتي فيأتي من يدي
    وجهي نهاري أنجمي

    1977م

  • 260 هدايا تشرين

    ديوان زمان بلا نوعية >  هدايا تشرين

    أتراه يحس من أي ثغره
    جاء يهمي مرارة فوق حسره

    يرتمي بعضه على حزن بعض
    مثل أوجاع فرقة بعد عشره

    مثل ملهى من الثعابين يحيي
    من عروق الغبار للدود سهر

    مثل أحلام شارع كان قصراً
    مثل أنقاض فكرة تحت سكره

    ***
    جاء من صفرة القبور إليها
    يمتطي هجرة إلى قحط هجره

    ساحباً خطوة كأشلاء قش
    رافعاً وجهة على ثقب إبره

    حاملاً أغرب الشظايا كنعش
    لفقته الرياح من كل ذره

    هارباً من مداره كرماد
    لم يعد ينتمي إلى أي جمره

    نازفاً قيحه على كل مقهى
    أغنيات ونشرة بعد نشره

    ***
    ما الذي قال؟ ما الذي قيل عنه؟
    لا يعي فكرة ولا عنه فكره

    إعتياداً أتى ويمضي اعتياداً
    واعتياداً سينثني بعد فتر

    نفس ذاك الذي أتى قبل عام
    لم يطل إصبعاً ولا زاد شعره

    نفس تشرين في التقاويم يأتي
    كل عام وما أتى غير مره

    ***
    قبل خمس من الحريق التقينا
    فاعتصرنا من وجهه نصف قطره

    كان ميعادنا أتينا إليه
    وأتى حاملاً كتاباً وجره

    فرآنا رغم الحشود قليلاً
    ورآنا في زحمة السوق كثره

    ***
    قبل أن نشرب ارتوينا فأعطى
    غيرنا المشربين وارتد صخره

    وارتدى حفرة يقولون كانت
    وطناً غالياً له فيه أسره

    ويقولون: كان يأتي قديماً
    في يديه ثلج ومشروع زهره

    تحت إبطيه سلة وسرير
    وعلى وجهه دليل وعبره

    وارتدى اليوم حفرة ضاع فيها
    فيه ضاعت كفارةٍ خلف كسره

    فسلامٌ في الذاهبين عليه
    وعلينا وللذئاب المسره

    ***
    هل بنات الهديل يسعدن مضنى؟
    صرن أصنى وأصبح الزيف خبره

    (أم دفر) كعهدها كل آت ٍ
    كالذي فات يا (حكيم المعره)

    أنت أدرى… هل دورة الأرض كفت؟
    هل اصاب الخمود نهر المجره؟

    جاء تشرين مرة ثم ولى
    غير حر وأرضنا غير حره

    1987م

  • 261 جلوه

    ديوان زمان بلا نوعية >  جلوه

    كرائحة الصمت بعد الضجيج
    كإغفاءة الحزن بعد النشيج

    كأجمل من كل ما في الجمال
    تجليت ذات مساء بهيج

    تضيئين… تهمين لوناً غريباً
    تضيعين في مهرجان الأريج

    ***
    فتخرج من صوتها الأغنيات
    تهيج بلا لغة تستهيج

    تمد العجيج اخضراراً… تحول
    غصوناً، حماماً، حبال، العجيج

    على جذب عشي طلعت كصيف
    نضيج الدوالي لقلب نضيج

    تمازجت من قلق الإنتظار
    ومن فجأة الغيب أحلى مزيج

    ***
    ألاقيك مثل اختناق البكاء
    ومثل انطفاء حبيس الأجيج

    وللبشريات ذهول الخريف
    ونيسان (صنعا) وصيف الخليج

    ***
    هنا نغتلي ننسج الأمنيات
    فتخلفنا أمنيات النسيج

    لكي يهزج الفرح المستحيل
    وينسى السكوت ابتكار الهزيج

    يوليو1978م

  • 262 بين الجدار.. وجدار

    ديوان زمان بلا نوعية >  بين الجدار.. وجدار

    هذا الجدار يقول لي… ويعي
    همسي، ويصغي للرياح معي

    يرنو إلى كصمت مملكة…
    للطيف تهمس: مات مجتمعي

    ويشم مأساة تقطعني
    وأشم في مأساته قطعي

    يحكي بلا صوت وأسمعه
    أهذي وأصمت وهو مستمعي

    يبكي كما أبكي يساهرني
    أغفو رؤى عينيه مضطجعي

    ***
    من أين جئنا يا جدار؟ أنا
    منك انبثقت وجئت من وجعي

    أورقت في نجواك جمر هوى
    وهجست كالميعاد في ولعي

    ***
    وهنا التقينا كنت مصطنعاً
    وأنا كلا شي كمصطنعي

    مسعاك لا صحو ولا مطر
    والعقم مصطافي ومرتبعي

    أمضي…. خيول الأمس تسبقني
    أعيا الوصول وضاع مرتجعي

    ***
    أتخاف مثلي يا جدار؟ ولا
    تدري وأبدو لا أعي فزعي

    كالناس أنت؟ ولايرى أحد
    توقي إلى ريي إلى شبعي

    ***
    من كل خاو صغتني وكما
    أنبتني أثمرت مبتدعي

    أو ما اقتلعت من البلى مزقي؟
    وهتفت: يا كسلى هنا انزرعي

    يا هذه عن أختك ابتعدي
    يا تلك عن عماتك انتزعي

    يا ساق أصبح جبهة ويداً
    يا ظهر أبطن يا يد انقطعي

    سلفت جمجمتي بخاصرتي
    وركمت تطويلي بمتسعي

    ودخلتني أصبحت من أثري
    مثلي جداراً حزنه جزعي

    ***
    أو ما اصطرعنا؟ لم تعد طرفاً
    بيني وبيني شب مصطرعي

    ما كنت تطمع قبل خلطتنا
    واليوم تحكي أنت عن طمعي

    ***
    أنت اخترعت شقاوتي وأنا
    أبدعت في إقلاق مخترعي

    شكلتني بأجد هندسة
    ولبستني كعباءة (البرعي)

    ***
    أترى سقطنا؟ هل تمت إلى
    راق؟ أأدري أين مرتفعي؟

    ما زالت تذكر أنني (نخع)
    ونسيت سيف (الأشتر النخعي)

    أغسطس 1977م

    * * *

  • 263 فكريات رصيف متجول

    ديوان زمان بلا نوعية >  فكريات رصيف متجول

    من ذا يصوت من هناك ويختفي؟
    ماذا هناك؟ دم يشع وينطفي

    باب إلى ثان ٍ، يدب وينثني
    ركن كدالية ترف ولا تفي

    جثث تسير بلا رؤوس، حارة
    تقتات سرتها، وفيها تغتفي

    دار تهامس: كم ظمئت وعندما
    كثرت كؤوسي، ضاع مني مرشفي

    حجر بلا فخذين يزحف حاملاً
    نهديه في يده: أيا ريح اقطفي

    سكران، تعجب نفسه من نفسه
    كيف اعتصرت حبيبتي ومعنفي

    مشروع فلسفة… يصيح سكوته
    إني أنضج في حشاي مفلسفي

    إني أفتش في أواخر منكبي
    عن نصف جمجمتي، وأول أحرفي

    رجع نواسي: أدار (زبيدة)
    رحلت… غدت من معتفيها تعتفي؟

    * * *
    كل حكى… أحكي، أتدري يا هنا
    إني كتاب جئت قبل مؤلفي؟

    أيقول من ألقى رصيف عابر
    أم (قرمطي) في قميص (مطرفي)؟

    ماذا يصنفني (الملف)؟ بطاقتي
    حجر بلا لون، كوجه مصنفي

    * * *
    أيقول ما اسمي شارع؟ أيظنني
    باب، حصاناً نار قلبي معلفي؟

    أأثير منعطفاً ، خدشت سكونه؟
    أأريب زاوية تثير تأسفي؟

    * * *
    لا درب أنكرني، لأني مثل من
    يمشون فوقي ، من يحس تصرفي؟

    قد يبحثون، ولا يرون تحركي
    قد ينظرون، ولا يرون توقفي

    * * *
    من تلك تمشط لحيتي برنوها
    ذكرت أباها؟ أم تريد تخطفي؟

    يا متجر الأصواف، ماذا أشتري؟
    من أحرق (الحلاج) باع تصوفي

    جربت يا أسواق كل حديثة
    فوجدت أجدى ما أريد، تقشفي

    من سوف يقبل ما أريد؟ إرادتي
    من ذا يخيف إذا قهرت تخوفي؟

    هل تلك مكتبة؟ نعم، لا، إنها
    مبغى الرؤوس كما يقول منظفي

    أتموت يا زيف اللوافت؟ أرتدي
    شكلاً جديداً، بعد موت مزيفي

    * * *
    حسناً أواصل جولتي، هذا الذي
    يبدو، يصد عن الخطير المختفي

    ماذا جرى؟ حبل الرجال نيابة
    عنهن… هيا يا صحافة زخرفي

    ولأنهم حبوا سفاحاً أنجبوا
    عدماً، فهيا شوربي وتنفي

    وهبيه ألقاب البطولة لن تري
    إسراف كفيه إذا لم تسرفي

    قولي لأرروى والرباب تزوجا
    بعضيكما، ذهب الزمان اليوسفي

    * * *
    يستصلح العطار فوراً كل من
    فسدت يصبي كل نهد متحفي

    أقراص منع الحمل، يمضي عهدها
    لا ينثني إلا بأمر مصرفي

    * * *
    إنا بعون الله نرسم ما يلي:
    عن ما مضى بعدي، وقبل تشرفي

    ألنقطة العشرون تصبح رابعاً
    ألخمس بعد العشر أمر موقفي

    ويتم من تاريخ هذا نشره
    تذييل أوّلِه بحمد مصحفي

    * * *
    من ذا يصدق أو يكذب ما جرى
    لم يبقى من ينفي، ولا ما ينتفي

    ماذا يفاجئني من الآتي؟ مضى
    ما سوف يأتي…. يا غرابة خرفي

    * * *
    من ذلك الفوج المسمت؟ ما اسمه
    يا موطني؟ ضيفي وصار مضيفي

    يندس بين فمي وبين تنفسي
    ويشم نية وجهتي وتحرفي

    * * *
    من أين ذاك الفوج أدري أنه
    بعض الذين يعلمنون تخلفي

    بعض الذين بقبضة يعطونني
    وبألف كف يعصرون تلهفي

    بعض الذين يعرسون جنازتي
    عن خبرة ويعهرون تعففي

    * * *
    أطمعتهم…؟ مني إلى تسربوا
    أضحوا فمي خبزي بناتي معزفي

    يخفون في جسدي وتحمي جبهتي
    أوساطهم ويحاذرون تعرفي

    من كل ثقب يوغلون بداخلي
    وبرغم إتلافي أحرق متلفي

    لا تكترث… إني على أميتي
    أرنو إلى هدفي أرى مستهدفي

    * * *
    كانت قناديل الشوارع لا ترى
    كان التحري لا يعي من يقتفي

    ورؤوس أطفال تقص رقابها
    عنها وتعلو كالطيور وتنكفي

    وروى البيوت كوسوسات قيادة
    تخشى العدا وتشك في من تصطفي

    * * *
    وهناك مخبرة تفكر: كل ما
    في هذه الأرض الوقور تطرفي

    حاولت أن أحتل بعض قلوبهم
    دخلوا دمي سكن التوجس معطفي

    ألغيم أحنى من طلاقة (حدة)
    (هربرت) أغبى من (مثنى المهنفي)

    * * *
    أنهت رنين التسع دار إذاعة
    ألقتل في (زائير) والقتال في…

    وإليكم التفصيل: يسقط عالم
    بسقوطه في كل قصر يختفي

    وحضارة تعدو ويعثر نعلها
    بجبينها وبذا التلهي تشتفي

    * * *
    ماذا أقول لكم؟ خلعت تلطفي
    أغرى النعال بحاجبي تلطفي

    وإذا عنفت كخطوكم فمبرري
    أني رصيف والغبار مثقفي

    يوليو1977م
    ** ** **

  • 264 آخر الموت

    ديوان زمان بلا نوعية >  آخر الموت

    ليس بيني وبين شيء قرابه
    عالمي غربة، زماني غرابه

    ربما جئت قبل، أو بعد وقتي
    أو أتت عنه، فترة بالنيابه

    ***
    غيرت وقتها الفصول،أضاعت
    أعين الشمس والنجوم، الثقابه

    منتهى الصحو سكرة سوف تصحو
    من ترثي، ومن تغني (حبابه)

    جاء من يسبحون في غير ماء
    وعلى الماء يزرعون الكتابه

    يا زماناً من غير نوع تساوت
    مهنة الموت واحتراف الطبابه

    ينمحي الفرق بين عكس وعكس
    حين ينسى وجه الصواب الإصابه

    ***
    يرتقي الذابحون يهوون ذبحي
    إستوى الحكم يا مدى والقصابه

    هل أذابت أرحامها الأرض؟
    يبدو، ذكرتها أو حجرتها الرقابه

    ***
    أصبح الطيب مقتل النبت، أضحت
    مهنة الأستذات قتل النجابه

    لم يعد للقاح أي اشتهاء
    قطرات الندى، غدت مسترابه

    ***
    فقدت سكرها ضروع الدوالي
    صحوة الرعب، وحدها المستطابه

    إنما، ما الذي يسمى مخيفاً؟
    ربما لم تعد لشيء رهابه

    أصبح القتل عادة واشتياقاً
    أصبحت وحدها النجاة المعابه

    ***
    المنايا بين الضحى، ويديه
    بين نعل الدجى، وبين الذؤابه

    يقتل القتل نفسه، ثم يأتي
    في سواه، له سمات القشابه

    ***
    من ستسقي (أزاد)؟ لم يبق إلا
    كوبها تحتسيه حتى الصبابه

    هجعة الأرض برعمات التنادي
    آخر الموت، أول الاستجابه

    هًهٌنا تصبح الرفات بذوراً
    أمطري أي بقعة، يا سحابه

    1987م

  • 265 زمان بلا نوعية

    ديوان زمان بلا نوعية >  زمان بلا نوعية

    أنوي أعب الكأس، يدنو شهيد
    يصدني، أنوي، ينادي فقيد

    يباغت الرعب الذي لم يعد
    فيبعد الأدنى، ويدنو البعيد

    تجيء كالأمواج، أيدي الربى
    ترتد أوجاعاً حنيناً شريد

    تأتي حصى الأجداث، ترنو كما
    يرنو إلى المقتول، قتل جديد

    ***
    الكأس تمسي في يدي أيدياً
    ملامحاً، أعرفها، أستعيد

    هذا قذال مده (مأرب)
    وذاك وجه، لوحته (زبيد)

    هذا محيا (مرشد) هذه
    بنان (مسعود) ذراعا (سعيد)

    هذا جبين (الآنسي) هذه
    أهداب (سعد) أنف (عبد الحميد)

    كانوا فرادى،فالتقوا في الردى
    لكي أرى الموت الحبيب الوحيد

    ***
    يا كأس هل أحسو؟ حذار احترق
    إشرب إلى أن تنطفى يا بليد

    لا ترتشفها، لست من أهلها
    ذقها، إلى كم أنت صاد وحيد

    تخضر في كفي، كجمر الهوى
    تحمر كالسكين، فوق الوريد

    تعرى إلى سرتها، ترتدي
    كهفين، تبدو، ذات أصل مجيد

    تهتز كالعنقود، تدعو فمي
    تفتر، خذ يا جرة من جليد

    ***
    فتغتلي في داخلي (كربلا)
    نصفي حسيني، ونصفي يزيد

    أمشي كجيد وحده لحظة
    ولحظة رأسين من غير جيد

    ***
    يا كأس لا أسوى جناك ابعدي
    إني كما تحكين وغد عنيد

    أريد ماذا؟ يا زماناً بلا
    نوعية، لم يدر ماذا يريد

    يدل فخذاه يديه، يرى
    أخشاب عينيه بأذني ( لبيد)

    بلا أب يبدو، بلا ابن وفي
    عينيه يدمى باحثاً عن حفيد

    يمضي ولا يمضي، ويأتي ولا
    يأتي، يولي ثم يبدو وليد

    تقول يعطي كل شيء؟ نعم
    لكن أعند الزيف شيء مفيد؟

    ***
    ماذا جرى؟ عهد “الرشيد” انتهى
    واحتل (مسرور) محل (الرشيد)

    حلت محل القبضتين العصا
    كانت عصا، صارت يداً من حديد

    والآن باسم الشعب، عنه نرى
    نحيي بقانون، بثان نبيد

    نغير الألوان، هذا بذا
    نستبدل الأعياد، عيداً بعيد

    هذا قرار ما له سابق
    من نوعه، من كل نوع فريد

    ***
    وقتاً وتعتاد الجماهير من
    جاؤوا، وتنسى كلمات النشيد

    ترى كأحلام، بلا أعين
    كأعين في وجه حلم بديد

    ***
    يتلو نبوءات القبور الصدى
    يميع كالملح العرين الشديد

    تمشي البراكين بلا ضجة
    ويحرق الثلج الغبار الزهيد

    ***
    هل جد شيء؟ غير أن المنى
    كانت وعوداً، فاستحالت وعيد

    وكان يدري العبد مأساته
    واليوم لا تدري، عبيد العبيد

    لأن من قاموا بلا قامة
    عن أمر من قاموا؟ يعيش القعيد!

    ***
    تجدرن التاريخ، باع اسمه
    أضاعت الأشعار، بين القصيد

    لم لا أعب الكأس كالغير؟ ما
    جدوى احتراقي؟ أين عني أحيد؟

    ***
    التف من نفسي بنفسي هنا
    هناك أعرى كالزقاق المديد

    كباب مقهى، كمنى أسرة
    من ثلث قرن، في انتظار البريد

    ***
    تمتد فوقي ساحة من مدى
    ينجر تحتي، شارع من صديد

    يا كأس لو تنسينني أشتفي
    هذا أكيد، كل سوء أكيد

    1977

  • 266 مكتبيون..والبطل، والشاهد

    ديوان زمان بلا نوعية >  مكتبيون..والبطل، والشاهد

    من تنادي؟ إحترف صمت القناعه
    عندهم ضد النداءات مناعه

    هكذا قالوا… فقل هل مانعوا

    أن يكونوا، للملايين بضاعه؟

    ***
    سادتي: لي تجربات، جربوا!
    لم تخولنا القوانين استطاعه

    أسفاً عفواً، يولي هازئاً
    يحتسون الشاي، في أهنا وداعه

    ***
    نادر هذا، كثير مثله
    هادئ يغلي، طفوراً واندفاعه

    ولعينيه حروف نبضها
    لمعة تعلو، ومشروع التماعه

    ***
    يشتهي المسؤول وجهين معاً:
    وجه شيطان، ووجهاً من ضراعه

    أشتهي عشرين.. عندي واحد
    كرر الموجود، في دار الطباعه

    (سيف) ما يلهيك؟ إنطق مرة
    أزمة في البيت؟ أبيات مضاعه

    ***
    رنة أخرى، نعم، لست هنا
    مرحباً، صوت تلويه الخلاعه

    دائماً لست هنا؟ تدرين من
    أصدقائي، ليس أوقاتي مشاعه

    ضحكة ذات وجوه، بحة
    رخوة، لعثمة ذات التياعه

    حلوة، أي كتاب قال لي:؟
    في القميص الحلو، تختال البشاعه

    أمها تركية، قالت (منى)
    بل أبو والدها – قالوا (رفاعه)

    ***
    سيدي، يا صاحب الشكوى احترف
    أي زيف، أزدري هذي الصناعه

    القوانين التي أقصوك عن
    أمرها، ذابت لديهم بعد ساعه

    جاء من يعطي فصاروا كلهم
    سلعة فوق القوانين، وباعه

    لم تلح لائحة تمنعهم
    كلها قالت لهم: سمعاً وطاعه

    ***
    إنهم أرخص من أثوابهم
    إنهم أكذب من دور الإذاعه

    (كرتريون) ويبدون لمن
    لا يرى، أحفاد (عمرو بن قضاعه)

    ***
    في الصحافات، سأخزيهم غداً
    إنها مرآتهم، يا للشناعه!

    واتهام الشعب، هل يخشونه؟
    هم يسمون الإدانات إشاعه

    ***
    من تنادي؟ أي باب؟ لست من
    هذه الطغمة، أو تلك الجماعه

    لن يجيبوا طيباً، تبدو على
    وجهه آثار أظلاف المجاعه

    من ترجي؟ لست ذا جيب ولا
    ذيل جيب، فبمن ترجو الشفاعه؟

    لست إلى يمنياً قلبه
    من تمني (شرعب)، من شوق (لاعه)

    ***
    زارعي أنت؟ ذوبت الحصى
    والمحاريث، وجافتني الزراعه

    سنة ثم يوافي بذلها
    هذه عن عهدها أولى انقطاعه

    سوف أرمي كتبي، زورني
    حبرها، كنت حقيقي النصاعه

    ذائب في الأرض، إني نبتة
    من حشاها، شكلتني عن براعه

    رزعت غصني، وفيه انزرعت
    أغصنت في قامتي، زادت فراعه

    وأنا أورقت في أغصانها
    صرت من أقباس عينيها، شعاعه

    صرت من خصلاتها مشمشة
    تينة، رمانة، (دخنا)، (جراعه)

    ***
    وطني أنت؟ ينمو وطني
    تحت جلدي، منذ أسقاني الرضاعه

    مبدئي الحب؟ أبشر بالردى
    الردى يا صاحبي صنو الشجاعه

    موتنا التجربة البكر التي
    لا نعيها، فنسميها: فظاعه

    مايو 1977م

  • 267 للقاتلة… حبا

    ديوان زمان بلا نوعية >  للقاتلة… حبا

    حدي سكيناً حدي
    عنقي أغلى ما أهدي

    أرجوك احتزي عمري
    أضحى شيئاً لا يجدي

    يعلو مشنوقاً، يهوي
    كرماد النعش الهندي

    خبزي من كفي غيري
    غيري يبنيه زندي

    هيا، إرمي رأسي عني
    وأريحيني من جلدي

    ماذا تخشين؟ اقتربي
    الحسن الوحشي يعدي

    ***
    كوني حباً قتالاً
    ولتبتدئي من عندي

    إرديني، كي لا يلقى
    مستهدفني من يردي

    من لا يردي، لا يحيا
    أو تنتظرين ( المهدي)؟

    ***
    إجتثيني من عرقي
    يخضر مكاني بعدي

    تورق ذراتي خيلاً
    أقلاماً حباً رعدي

    من كل حصاة ينمو
    فلاح يزهو جندي

    من تحت ركامي يحبو
    آتيك، يغني عهدي

    قتلي يبدي من سري
    ما أعياني أن أبدي

    ***
    أقصى ما أرجو… أفنى
    كي تنفجري من لحدي

    كي تبتدئي، من منهى
    حلمي بصباك الوردي

    كي تغلي، تحكي ماذا؟
    يشدو لقميصي نهدي

    ***
    من هذا الجني؟ ردي
    عنه كفيك ردي

    من هذا يا؟… زمار؟
    يدعى (حيكان الرندي)

    من ألف خريف يندى
    شوقاً، جمراً، يستندي

    لا يبدو من أي هنا
    لا سهلياً، لا نجدي

    من كل بنات يأتي
    وبكل شذى يستهدي

    ريحي لا وقت له
    يشجي، لكن يستعدي

    أشتم جموعاً فيه
    وأراه عوداً فردي

    ***
    ماذا تبغي؟ تدري من
    أبغي، وأعي من قصدي

    أستنبي عنها، ينبي
    – عن قربي منها- بعدي

    تظما في قلبي، تدني
    كأسي، تدمى في خدي

    في كل عروقي تجري
    وإليها أضني سهدي

    ***
    ماذا تستجدي؟ شنقي
    حتى قتلي أستجدي؟

    لا تغضب، إني أحنى
    تدري، ما أوفى وعدي

    أدري ما تنوي، شكراً
    لا يخفى الوجه الودي

    ماذا تسدي لي؟ هدفي
    أعلى، من قصر المسدي

    ***
    قتلي حباً للكحلى
    حَدي، إلزِمني حدي

    كي يحيا فردي جمعا
    لا يفنى.. أفنى وحدي

  • 268 سباعية الغثيان..الرابع

    ديوان زمان بلا نوعية >  سباعية الغثيان..الرابع

    كرأس إلى قدميه ارتحل
    كخاتمة، ما لها مستهل
    كأعقاب منهزم، وجهه
    قفاه، كبدء بلا مقتبل

    كعوسجة جذرتها الرياح
    كسادسة فوق كف أشل

    ***
    ترى كيف جاءت.. ومن أي أم
    وعن أي مضطجع مبتذل؟

    وعن أي فعل أمات الردود؟
    ومات وما شاهدته انفعل

    لأن الذي كالدخان ارتقى
    كذاك الذي كالشظايا نزل

    ***
    أمن غير من! وإلى غير أين؟
    تبدت بدون، لماذا ، وهل؟

    ينقلها فرس من ضباب
    ويركبها فارس منتحل

    كمملوءة وهي أخلى يدا
    وأقلق من سهر المعتقل

    يقاتل فيها الفراغ اسمه
    وتحكي على ما، وكيف اقتتل

    وتخبر عن غير شيء مضى
    وعن غير شيء أتى عن عجل

    تلملم أمعاءها راية
    وتبحث في قيئها عن بطل

    تسيس حتى تراب القبور
    وتقبر حتى جنين الأمل

    تدلي فوائمها كالغسيل
    وتنجر كسلى، إلى لا أجل

    ***
    لها قامة العصر، لكن لها
    رؤوس كأخفاف (يوم الجمل)

    ملامحها فوقنا كالصخور
    وتحت نعال الأعادي قبل

    ***
    أجاءت مفاجأة؟ كل شيء
    خلا الجو من عكسه محتمل

    هل انبت عن جذعها كل جذر؟
    أفي الوجه؟ أم في المرايا الخلل؟

    ***
    لماذا أسائل؟ إن الجواب
    رهيب يحذرني: لا تسل

    لأن عيون المقاهي صقور
    لأن القناني خيول الملل

    لأن النقيض التقى بالنقيض
    ولا يعرف البعد، كيف اتصل

    و”دار بن لقمان” باعت “صبيحا”
    فجاء الذي منذ ألف رحل

    له ساعد من حديد يمد
    لقتل الخزامى يدا من بصل

    ***
    فيا (أحمد بن الحسين) انهمر
    سوى الدمع ناداك غير الطلل

    أغار(الدمستق)؟ بل وامتطى
    إلى ظهرنا وجهنا وانتعل

    ***
    سوى الروم روم، وروم أتوا
    كعهدك رغم اختلاف العلل

    أتعرفهم؟ أنهم من رأيت
    وإن غيروا خيلهم، والخول

    و(عبد الخنى) نفس عبد الخنى
    وإن عصرن الشكل واسم الحلل

    و(كيسنجر) اليوم نخاسه
    لأن النخاسة صارت دول

    ***
    وأحفاد (ضبة) أضحت لهم
    جلالات ملك وجهل أجل

    وحين يسود الغباء الثري
    تكون العاملات، أجدى عمل

    ***
    ممالكنا اليوم قامت على
    ذيول العصا لا رؤوس الأسل

    ورغم العصا لا تقول الجمع
    – كأجدادها- (الخير فيما حصل)

    ***
    ورغم “الكوافير” لا أنطفي
    لعل احتراقي يذيب الفشل

    أما كل جار أتى كي يجيء
    سواه.. لكل بديل بدل

    ***
    أنا ضد تيار هذا الركام
    أعوم إلى شاطىء من شعل

    وأدري، وأدري بأني إليه
    أخوض دمي، والردى والوحل

    وفوق فمي أرجل الآخرين
    وفوق قذالي قبور الأول

    لأني أبلبل نوم الجدار
    أغني بمن لقبوهم همل

    ولكنني لا أمل العناد
    لأن التماوت موت أمل

    وأعرف أني وحيد، وحولي
    كهوف من الروم حمر المقل

    ***
    وأني على نصف رأسي أطير
    إلى الحتف، والقتل يمشي المهل

    وتحت زواق التأني يجد
    ويلهيك عن جده بالهزل

    حقائبه ناهدات يشرن
    سكاكينه أعين من عسل

    ***
    خفي الخطى قتل هذا الزمان
    بعيد المدى، عالمي الحيل

    وغير مخيف لأن يديه
    إلى القلب يستبقان الوجل

    لأن سباعية القيء، لا ترى وجهها
    كيف تندى خجل؟

    أتدري خطاها وما حولها؟
    بها عن سواها وعنها كسل

    لأن ثمانية تستجد…
    ودور القديمة لما يزل

    ***
    لهذا أغامر، أبدو غريباً
    على العرف كالمولد المرتجل

    وأعرف كيف يرى الهول من
    على الموت من كل ثقب دخل

    وأعلم أن جزاء الخطار
    كثير كثير وأني أقل

    ***
    ولكن أموت، لأندى جذوراً
    وأمتد بناً، كروماً، جبل

    سدوداً، عيوناً سهيلية
    ضحى، في رماد الثريا اغتسل

    ***
    لأني بدون محل أمد
    رفاتي لكل حصاة محل

    وأنبت في (قاع جهران) قمحاً
    وأزرعني ذرة في ( الوشل)

    هنا ارتخي نسمات، هناك
    خريفاً (لك الخير يا من أكل)

    وأمطر قبل (ليالي سهيل)
    وأعلب قبل (ليالي ثجل)

    أحول فصولاً مكان الفصول
    يرى العقم كيف طفور الحبل

    وأسقي (حميد بن منصور) من
    أباريق (سحلول) نار الزجل

    وأستنبت (الشبثي) مشمشاً
    وأخضر في شفتيه مثل

    … لتلقى بكارة هذا التراب
    أنوثتها واحمرار الغزل

    ***
    هناك أدل على أن لي
    بلاداً، شذاها علي أدل

    فلا مات من مات مثل البذور
    ولا عاش من مات موت الحمل

    مارس 1977م

  • 269 بغيض.. العمشي

    ديوان زمان بلا نوعية >  بغيض.. العمشي

    كم تستفز، وكم تصالح
    كثرت على الدرب النوابح

    كثرت شكول، ما لها
    شكل، ولا عنها روائح

    وبلا وجوه، إنما
    تشري من الطقس الملامح

    ***
    تدوي بأشباه الشفاه
    ولا تشير، ولا تصارح

    تستوقف الجد الخصيب
    ولا تجد، ولا تمازح

    غيم يعوق الشمس
    لا يندى، ويأبي أن يبارح

    أغبى ذكاء يرتقي
    ويجيد تقنين الفضائح

    ***
    المعتدي خلف الستار
    يحث أبطال المسارح

    دع جانبيات البطولة
    أنت أدرى من تكافح

    إن شئت تسبح، فلتكن
    في أعنف الأمواج سابح

    خرق الصخور، إلى اللظى
    أهدى إلى باب المطامح

    ***
    هذي الكباش الآدمية
    باسم عالفها تناطح

    ما كنت كبشاً بارعاً
    بل أنت للذؤبان ذابح

    عودت نفسك أن تجابه
    لا تمل، ولا تراوح

    تطأ الذيول إلى الرؤوس
    تنوش ما خلف اللوائح

    عريان إلا من جراحك
    والتصدي للجوارح

    ظمآن فوق الإستناح
    وفوق تلويح السوانح

    لسواك عربدة الكؤوس
    لغير كفيك المرابح

    من لم يمت بالشيك، مات
    محبة (والفرق واضح)

    ***
    للنار تفصح عن جبينك
    عن طوايا كل كادح

    كالرعد تغضب للسنابل
    للأزاهير النوافح

    فرداً كصمصام (الزبيدي)
    مثخنا كالسيل كاسح

    تغشى بمفردك الردى
    الخلط يفسد كل صالح

  • 270 الحبل… العقيم

    ديوان زمان بلا نوعية >  الحبل… العقيم

    قيل جاءوا، وغيرهم جاء حيناً
    جد شيء… فما الذي جد فينا؟

    السراب القديم، صار جديداً
    الخواء البديد، أمسى متيناً

    الجلود التي علينا طلاء
    كاذب يركب الفراغ الحزينا

    ***
    نبطن العقم كالحنين، ليرقى
    فوقنا كي نعود فيه الجنينا

    فترى البؤس آكلا وأكيلا
    وترى العقم ساجناً وسجينا

    أي فرق ما بين ذاك وهذا؟
    ذا هزيل وذاك يبدو سمينا
    ***
    والذي كان، كالذي امتد منه
    نزرع الورد، شوكه يجتنينا

    كيف شئنا زهراً فأعشب شوكاً؟
    كان فينا غش البذور دفينا

    ذاك ولى، هذا أتى فأرانا
    ما أرتنا عِصيُّ ذاك يقينا

    وعلينا نحسو الشظايا، نصلي
    لشموخ لم يلق فينا جبينا

    ونداجي بلا اقتدار المداجي
    ونغني ولا نجيد الرنينا

    إننا نبتغي… هل الأمر فوضى؟
    ننطوي كي ينال من يبتغينا

    من يرى مبدأ التعقل جبناً؟
    من أراد الحياة مات رصينا

    ***
    من يذبُ النقود يا أم عنا؟
    أصبحت فوقنا الرؤوس عجينا

    أمُّ، هذا الذباب يدعى نقوداً
    فلتذبي هذا الوباء الثمينا

    أنت في عريك الحقيقي أبهى
    من حلى تمتطيك جوعاً بطينا

    لن تكوني (باريس) من دون (روسو)
    لن تكوني بلا (أرسطو) ( أثينا)

    ***
    هل ذكرنا بعد الأوان؟ اطمئني
    ما ذكرنا، لأننا ما نسينا

    مشترو البايعيك يدرون أنا
    نقبل الكسر، خيفة أن نلينا

    ما انتحرنا لغير عينيك عشقاً
    دون أن نجتديك أن تعشقينا

    منك جئنا، فينا كبرت ومنا
    جئت صرنا لك المكان المكينا

    فانتصبنا على (الطويل) طويلاً
    والتحمنا للحصن، سوراً حصينا

    والتحفنا الردى ب(ميدي) سليماً
    وانتعلناه في (حريب) طعينا

    وانزرعنا في قلب (سنوان) قمحاً
    وانتثرنا في ريح (صنعا) طحينا

    ***
    هل لمحت الأظافر الحمر تبدو
    دون أيد، تخفي ذراعاً كمينا؟

    كان يأتي العدو، ندعو أخانا
    صار ينسل من جفون أخينا

    ***
    أسكتوا… إنما حفيد (النجاشي)
    يلبس اليوم(حميراً) و( معينا)

    باسم من تنطقون؟ تخشون ماذا؟
    من يغذي نبوءة الكاذبينا؟

    كيف عادت (أزاد) بالحب تردي
    وتسن الطلاق بالموت: دينا؟

    ***
    يسكن المخبرون صوت المضحي
    يستعير الجنون وجها رزينا

    أسكتوا… إنما تنوب الزوايا
    باسمنا تطبخ السقوف أنينا

    ***
    ما الذي جد؟ تسميات تعاني
    من فراغاتها، فتعلي الطنينا

    ما لها أي ساعدين، ولكن
    تستعير اليسار تشري اليمينا

    وبهذا يبيدنا كل عاد
    ويبيد القرين منا القرينا

    ولكي لا يقال، ندعو خؤونا
    وطنيا، ونستخين الأمينا

    وبأيد مقطوعة نتصدى
    وبأيدي العدا نشيد العرينا

    ويخون المنظرون وننسى
    كي يعيدوا ما كرروه سنينا

    ***
    إننا ما نزال طينا محمى
    يحمل الباردين: صخراً وطينا

    لا سوى الطين بعضه فوق بعض
    لا نرى تحته سوى ما يرينا

    وعلينا نرى السباع، حماماً
    ونسمي سود الحصى، ياسمينا

    وعلينا أن نستكين ونوصي
    كل خفق في القلب أن يستكينا

    ولنا أن نموت كيف أردنا
    إنما من يميت فينا الحنينا؟

    ***
    لا تخافي يا أم.. للشوق أيدٍ
    تنتقي أخطر اللغى، كي تبينا

    ولكي تنجبي البنين عظاماً
    حان أن تأكلي أبرّ البنينا

    مارس1977م

  • 271 أغنيات..في انتظار المغني

    ديوان زمان بلا نوعية >  أغنيات..في انتظار المغني

    لأزهى غرام، لأعلى طماع
    نغني، نروع قوى الإرتياع

    لنفرق بين الندى والسراب
    وبين الحقيقي، وبين الخداع

    لنشعر أن لدينا وجوهاً
    أمامية ترفض الإرتجاع

    ***
    نغني لنخترق المفزعات
    لنجتث من دمنا الإنهلاع

    نغني لنخترع المستحيل
    لتخلقنا شهوة الإختراع

    أيا (أم كلثوم) أشهى التلاقي
    بحضن المنايا، وأحلى الوداع

    هناك انهيار يشيد الشموخ
    فراق يؤدي لأهنا اجتماع

    فقد أصبح الموت يا بنت مصر
    على قبضة الموت أقوى امتناع

    فمن لم يمت كي تجد الحياة
    يمت مطمئنا لكي لا يباع

    لأن الممات التجاري يجيء
    من الضيق، كي يستزيد اتساع
    ***
    ألا تنظرين زحوف الصليب؟
    أتوا ثانيا، كانقضاض السباع

    يسوسون، من نصبوهم رؤوساً
    يدوسون، من لقبوهم ( رعاع)

    هي (الخطوة الخطوة) استوطنت
    إلى الداخل اجتازت المستطاع

    فحلت عن(الخط) أعلى القصور
    ومدت على كل شبرين باع

    ***
    (أريم على القاع؟) (رق الحبيب)
    وقد أجذع الرعب في كل قاع

    نريد معازفنا أيديا
    طوالاً، (فموشى) طويل الذراع

    نريد قصائدنا عاصفاً
    سيولاً، سيوفاً تداوي الصداع

    مغامرة ضد كل الرياح
    تقود شراعاً، وتهدي شراع

    لأن وجيهاتنا العاليات
    تلاشت، وزادت شكول القناع

    وما دام من فوق هاماتنا
    جبان، فكل عدو شجاع

    ***
    غدا أعنف العشق عشق التراب
    وكل هوى لسواه ضياع

    لأن إجادات إنجابه
    تمت إلى جودة الإبتلاع

    إذا لم تذب نطفة في حشاه
    تكسرت تحت ركام المتاع

    ***
    مناديل عرس الضحايا دم
    غناء التفاني أشق ابتداع

    له الغضب البربري البتول
    ألوهية الحزن والإلتياع

    مقاطعه جمرات شفاه
    حبالى يجمرن حلم الرضاع

    عروق يقطعها الإشتعال
    وتورق من آخر الإنقطاع

    خيول شعاعية ترتمي
    دخانا وتعلو ربى من شعاع

    لأن هوى اليوم، غير الهوى
    ترنمه دموي السماع

    وداخله أغنيات يتقن
    إلى البوح، كالقبرات الجياع

    ***
    رؤانا وحبات أجفاننا
    حصى، تحت أقدام جيش الدفاع

    فيا (أم كلثوم) غني رصاصاً
    يحني صراعاً، ويشوي صراع

    ألوف كيوسف تحت السياط
    بلا تهمة باستراق (الصواع)

    ويا(قيس) ليلى على كل سوق
    تموت سفاحاً، تجر اقتلاع

    ويا (أحمد بن الحسين) انتبه
    ف (كافور) ما زال حيا مطاع

    ويا(حافظ) اغضب غدت (دنشواي)
    بمصر العزيزة كل البقاع

    ***
    لقد أسست وحدها، إنما
    هوت فوق آساسهن القلاع

    فكيف يرى الشرق هذا السقوط
    وقد كان ينتظر الإرتفاع

    أكل النجوم انطفت؟ ربما
    تنحت لأخرى أجد التماع

    أما بين ظاهر هذا الرماد
    وبين طواياه، أعتى نزاع؟

    أما تحت كل خمود بريق
    يدل على مبعث الإندفاع

    1977م

  • 272 الجدران الهاربة

    ديوان زمان بلا نوعية >  الجدران الهاربة

    أقبلت كلها الدكاكين ولهى
    كبغايا هربن من نسف ملهى

    لم يعد من يجيء، جاءت سقوف
    فوق أخرى، واه أتى فوق أوهى

    ***
    كان يستفسر الغبار الشظايا:
    ألمرايا أو الجراحات أزهى؟

    أي صنفي خمارة الموت أرقى؟
    ألأغاني أو السكاكين أشهى؟

    ***
    ينثني، يقبل الزحام، أيدري
    أي وجهيه، أي ظهريه أبهى؟

    من يديه يعدو، إلى منكبيه
    ساهياً عنه، عن ترديه أسهى

    ***
    أقبلت كلها العمارات عجلى
    تمتطي مخبزاً، وتجتر مقهى

    ترتدي آخر الأناقات، لكن
    مثلما تدعي الفطانات بلها

    كان يبدو إسفلت كل رصيف
    ركبة تحتذي ثمانين وجها

    والذي يبتدي، بلا أي بدء
    والذي ينتهي، إلى غير منهى

    حين تمحى الدروب إلا طريقاً
    للدواهي، تغري أمر وأدهى

    1978م

  • 273 وجه الوجوه المقلوبة

    ديوان زمان بلا نوعية >  وجه الوجوه المقلوبة

    ألرقم العاشر كالثاني
    ألواحد ألف، ألفان

    وسوى المعدود، كمعدود
    وسوى الآني، مثل الآني

    ألألف، الصفر، بلا فرق
    سيان الأعلى، والداني

    ***
    ألفوق سقوط صخري
    ألتحت سقوط إنساني

    نفس النوع، الأعلى الأدنى
    وجه المفني، ظهر الفاني

    ***
    سيان القاتل والراثي
    سيان الشامت والحاني

    الإنسان الموت الأظمى
    ودم القتل الظَّميئُ العاني

    ألمبتدأ الثاني خبر
    ألأول مبني باني

    ولحرف الباني محترف
    ولقلب المبنى، قلبان

    ولرفع الأول واجهة
    ولحذف الثاني، وجهان

    ولمثنى (ماني) إعراب
    بالجر إلى، عقبي (ماني )

    مرناه، خليجي، فمه
    شق، من صخر إيواني

    لا فرق برغم الفرق هنا
    وهنا وهنالك سيان

    بيع مخمور وشراء
    لزج، كالمضطجع الزاني

    تصنيع ذيول، أدمغة
    تسويق مناعي، وأماني

    سكين، كالجرح النازي
    جرح، كالسيف العثماني

    ***
    من أنت؟ القتل أو القتلى؟
    ما بين المدية والجاني

    يمني أمي، لكن
    حدسي، أقرأ من يوناني

    لا أعتبر المرسوم، أرى
    ما خلف الحبر السلطاني

    ***
    البيت الأبيض، في عيني
    فحمي، والهندي غاني

    إنساني لا لوني
    وعلى العدواني، عدواني

    ***
    من علمني هذا؟ وطني
    وفراق المربى، رباني

    هل عند الكليات سوى
    جهل، عن خبث علماني؟

    عن نهج استعمار الآتي
    صدق، أو قل: ما أغباني

    ***
    في كل بلاد، أنت هوى
    (سوطي) شوق ( حدناني)

    طيف (القيلات) يثير على
    عينيك حنيناً، رماني

    ما أحلى (المعلي) شتوياً
    ما أشهى (الوادي) علاني

    (القات) الغربة والذكرى
    الهم الداني، ( همداني)

    سيان الموطن المنفى
    سيان الطافر والواني

    سيان المعطي والمردي
    سيان المرنى والراني

    ***
    عطر المفدي، ودم الفادي
    أعراس البيع المجاني

    مصباح السارق والساري
    مرآة المضني والضاني

    شيكات الجاسوس الراقي
    ألقاب العهر الديواني

    ألباب الثاني للمبغى
    تنظير البحث الميداني

    ***
    ألخابي والزاهي اشتبها
    أتساوى الداجى والقاني؟

    للوجه البادي أربعة
    للظهر المرئي، ظهران

    لوكل المقلوبات إلى
    داخلها، وجه إعلاني

    ***
    والفن الإمكاني حجر
    لا يبدي غير الإمكاني

    أو ليس لكانون وجه
    مقلوب، يصبح نيساني؟

    يبدو هذا، وسوى هذا
    أو ما السبعينات زماني

    ***
    الألوان الشتى امتزجت
    شيئاً يهذي: ما ألواني؟

    ما شكلي الآن؟ وكالات
    من فوقي، يلبسن كياني
    ***
    من أين أتيت، وأين أنا؟
    أأتيت؟ أتى غير مكاني

    ماذا؟ ماأسمي؟أهنا داري؟
    أم سجني وأنا سجاني؟
    ***
    جلدي من(لندن)من(روما)
    وقوامي، (كوز جهراني)

    لم لا أختار مقاييسي؟
    وأرى وزني، من ميزاني؟

    أو ليست لي عينان، أرى
    – كالناس – ورأس ويدان؟
    ***
    أأنا نفسي، وسوى نفسي
    أبدو غيريا، وأناني

    ماذا عن ساقي يحملني؟
    من عني يسكن جثماني؟

    أأنا صاح؟ لو من أنسى
    كاسي سكرتها، أنساني

    صاح، وأعي برقين إلى
    نهري، من نبعي حملاني

    ***
    من يقلعني من تشكيلي
    ويحل محلي، شيطاني

    يا قلبي فتش عن قلبي
    عن نار كانت، أشجاني

    عن وجه(سهيل)في وجهي
    عن شمس، كانت عنواني

    ***
    ردي يا ضوضاء الموتى
    صوتي، بنية أحزاني

    ألكأس وريد مقطوع
    من زندي، من ذا أسقاني؟
    ***
    ياوهج الزيف أعد بصري
    يبست عيناك، بأجفاني

    أختار أنا- يا زيف – يدي
    تشكيلي، وجهي ولساني

    أدري أني أحد ، أهوى
    وأعادي ، أملك وجداني

    أعدو عن فلسفة ، أمشي
    عن رأي ، هذا من شاني

    أجري، أدمى، لكن أجري
    وأغني ، لكن وأعاني

    آسى ، أدر ما مأساتي
    أهنا ، أدري أني هاني

    ***
    من يجهر أني كذاب؟
    من يحكي عني ، هذياني؟

    في بر أبحر، مرساتي
    رجلي ، وجبيني شطآني

    ***
    هل أبكي لكن قد يبكي
    بشجى أعلى ، من أبكاني

    قطعان الدمع، بلا دمع
    وتباكي الأبراج، أغاني

    هل أسكت جربت اتهموا
    صمتي، بمعانِ ومعاني

    هل أغشى الموت فمن يروي
    أسرار الموت، لجيراني

    كالورد، أموت هوى تدري
    أروى أن العشق يماني
    مايو 1977م

  • 274 صنعاء… في فندق أموي

    ديوان زمان بلا نوعية >  صنعاء… في فندق أموي

    توهمت أني غبت عن هذه الروعى
    فمن أين جاءت تسحر الغرفة الصرعى

    تهامسني في كل شيء.. تقول لي:
    إلى أين عني راحل؟.. خفف المسعى

    ***
    ومن هذه الروعى؟ أظن وأمتري
    وأدري… وينسيني لظى داخلي أقعى

    أما هذه (صنعا)؟ نعم إنها هنا
    بطلعتها الجذلى، بقامتها الفرعا

    بخضرتها الكحلى، بنكهة بوحها
    بريا روابيها، بعطرية المرعى

    ***
    أما كنت في قلبي حضوراً على النوى؟
    ولكن حضور القرب عند الأسى أدعى

    سهرت وإياها نهد ونبتني
    ومن جذرها نفني المؤامرة الشنعا

    أصوغ وإياها ولادة (يحصب)
    أغني وإياها: (أيا بارق الجرعا)

    نطير إلى الآتي ونخشى غيوبه
    نفر من الماضي، ونهفو إلى الرجعى

    ومن جمر عينيها أشب قصيدة
    ومن جبهتي تمتص رناتها الوجعى

    ***
    طلبت فطور اثنين: قالوا بأنني
    وحيد.. فقلت اثنين، إن معي ( صنعا)

    أكلت وإياها رغيفاً ونشرة
    هنا أكلتنا هذه النشرة الأفعى

    وكانت لألحاظ الزوايا غرابة
    وكانت تدير السقف، إغماءة صلعا

    ***
    ضبابية الأخبار، تدرين سرها؟
    أتصغي؟ ومن منا بمأساتنا أوعى؟

    يعزوننا من كل بوق كأنهم
    لحب الضحايا، من سكاكينهم أرعى

    ***
    زمان بلا نوعية، ساق ويله
    متاخيم، يقتاتون أفئدة الجوعى

    لماذا أنا منعى المحبين والعدا؟
    لكي يصبح القتال قتلى بلا منعى

    أكتوبر1977

  • 275 لعبة الألوان

    ديوان زمان بلا نوعية >  لعبة الألوان

    كان هذا ما جرى… ماذا سيجري؟
    ما الذي يا ليل؟ سل أوجاع فجري

    إنما أرجوك، قل لي ما اسمه؟
    هل له رائحة يا ليل تغري؟

    لا تشم الآن؟ قل ما لونه
    لعبة الألوان، أضحت لون عصري

    كيف يبدو؟ كل ما ألمحه
    أن شيئاً آتيا يشقي ويثري

    ***
    أيها العفريت، نم أقلقتني
    إبتعد عن سرتي… ماذا التجري!

    أصبحت سريتي لافتة
    فوق وجهي، وجداراً فوق ظهري

    كيف أخفي والقناديل هنا
    وعلى ظهري، (وكالات التحري)؟

    كل مستور تعرى… إنما
    سرق الأنظار، تزوير التعري

    ***
    هذه سيارة تدهمني
    تلك أخرى، في يد الشيطان أمري

    مت فوراً… كان قبري داخلي
    غبت فيه لحظة، واجتزت قبري

    ليت شعري يا (ثريا) ما الذي
    سوف يأتي بعد هذا؟ ليت شعري

    ربما يأتي الذي يشعلني
    ربما يأتي الذي يخمد جمري

    ربما فأجأني ما أشتهي
    ربما لاقيت أزرى بعد مزري

    ***
    ألثريا آه مثلي تمتري
    قل لها يا (مشتري): ماذا ستشري؟

    ربما بعت مداري ليلة
    واشترى يوماً مهب الريح سرى

    ***
    هذه نظارة ترنو إلى
    وجه غيري، وهي تشويني وتفري

    جمرها يقرؤني من داخلي
    وأنا في خارجي أمتص حبري

    ***
    ما الذي يا ريحُ، مثلي لا تعي
    ما الذي يا برق؟ يرنو وهو يسري

    ما الذي يا آخر الليل ترى؟
    ما الذي يا فجر؟ يومي: سوف تدري

    ***
    ربما أصبحت شيئاً ثانياً
    تزدري ما كنت قبل الآن تطري

    حسناً… من أسال الآن؟ إلى
    أي أكتاف الربى، أحمل صخري؟

    1978م

  • 276 مغنى الغبار

    ديوان زمان بلا نوعية >  مغنى الغبار

    إلى أين؟ هذا بذاك اشتبه
    ومن أين يا آخر التجربه

    إلى أين؟ أضنى الرصيف المسير
    وأتعبت الراكب المركبه

    وعن كل وجه ينوب القناع
    وترنو المرايا كمستغربه

    إلى أين؟ من أين؟ يدني المتاه
    بعيداً، ويستبعد المقربه

    ***
    سؤال يولي، سؤال يطل
    ومن جلدها تهرب الأجوبه

    ويظما إلى شفتيه النداء
    وتأتي القناني بلا أشربه

    فتعرى المدينة، تشوي الرياح
    تقاطيع قامتها المعشبه

    ويبصق في جوفها العابرون
    وترخى على وجهها الأحجبه

    ***
    ويأتي السؤال بلا دهشة
    ويرتد كالهرة المتعبه

    وتصبو القصيدة، تحنو كأم
    وتهتاج كالعانس المغضبه

    ***
    لماذا يغني هشيم الدماء؟
    وتصغي له الريح والأتربه؟

    هل السامعون بلا مسمع؟
    أو أن المغني بلا موهبه؟

    هل السلم تبغي أو الانتصار؟
    سمعت الإذاعات والمأدبه

    تغنوا على النخب حتى الجنون
    وماتوا على جثة المطربه

    وهل قلت شيئاً؟ صباح الجمال
    أجابوا، سكرت بهذي الهبه

    وما رأيك الآن فيما جرى؟
    أحب الدرامية المرعبه

    أما زرت شخصية فذة؟
    نعم، زرت قبر (أبي مرهبه)

    ***
    أطالعت شيئاً؟ تساوى الحشيش
    ورائحة الحبر والمكتبه

    تخرجت قبل دخولي، كشفتُ
    بلا كتب رحلتي المجدبه

    ***
    قرأت المقاهي، وفي نصف عام
    أجدت البطالات والثعلبه

    وغيرت جلدي مراراً،
    فمي مراراً، أضاعتني الأسلبه

    وفي القات غبت بلا غيبة
    تذبذبت، أنهتني الذبذبه

    دخلت الحواري، ومنها خرجت
    بدكتورة الذل والمسغبه

    عرفت القرارات رغم السطوح
    كما تعرف الخنجر الأرنبه

    قتلت مراراً فزد مرة
    يحسوا بأن القتيل انتبه

    ***

  • 277 سيؤون.. تورق من قلب الصاعقة

    ديوان رواغ المصابيح >  سيؤون.. تورق من قلب الصاعقة

    أمِن حرائق الحِمَى
    إلى قتيلةٍ بما

    أمِن لظى الأرض إلى
    إغراق وابل السَّما

    عظائم الأحداث، لا
    تختار إلاّ الأعظَما

    * * *

    سَيؤون، ما أغرى(الحيا)
    فانصبَّ فيكِ مُغرما

    معانقاً، مقبِّلاً
    في كلِّ عضو مَبسما

    يُعطي يديك قلبَهُ
    كأساً ويحتلُّ الفما

    * * *

    هل طاش مِن سُكْر الهوى
    فما وعى كيف انهمى؟

    ولا درى مَن ذا رمى
    بهِ، ولا كيف ارتمى

    ولا إلى أين ولا
    مِن أين، يعدو كيفما..

    مشعَّباً، مشعِّباً،
    مُحمحِماً، مُدمدِما

    مُلملِماً أشتاتَهُ
    مشتِّتاً ما لملما

    له ثلاثون فماً
    وأربعون مِعصَما

    وألفْ ثديٍ ساكبٍ
    حدائقاً، وأنجُما

    بالغَور يطوي المُنحَنى
    يلوي التّلال الجُثَّما

    يلهو بكل صخرةٍ
    لهو الصبايا بالدُّمى

    يُصبي المنابت الّتي
    تحت الشُّحوب نُوَّما

    مِن كلِّ فجٍّ أقبلَت
    فيه الجبال عُوَّما

    والراعدات رُكَّضاً
    والمبرقات حُوَّما

    كمعتدٍ يَطوي على
    ضلوعه متيَّما

    يغشى (المكلاّ) أغبراً
    يعلو (شِباماً) أسحَما

    أجاء يُحيي، أم أتى
    يرمي البيوت أعظُما؟

    * * *

    كان غماماً راحلاً
    ما بالَهُ تحضرَما؟

    أباعثاً خصوبةً
    أم ناشراً تيتُّما؟!

    * * *

    مِن حسنه في الأرض، أن
    يُفوضيَ المنظَّما

    أن يكسر المِعوَجَّ، أن
    يعوِّج المقوَّما

    فكل وسميٍّ إذا
    عتا أجاد الموسما

    * * *

    مِن أين أقدَم الرُّبى
    وكالمحيط أَقدَما؟

    وردَّ عاداً
    يبتغي (تيمى) ويغزو (جُرهُما)

    يلقى النخيل دارعاً
    والزنجبيل مُعلَما

    يمرُّ بالحِنَّا كمن
    يُقلَم المُقلَّما

    ألا يحسُّ هل جرى
    مخيَّراً، أو مرغما؟

    وأن عُنفَ سيلهِ
    أردى هنا وأيَّما

    وأنَّ لِينَه
    قسا وبالنَّعومة احتمى

    وأن في دويَّهِ
    سرّاً صموتاً مُفعَما

    أشمُّهُ حقيقةً
    أجُسُّهُ توهُّما

    يُميتني تَقَحُّماً
    أُمِيتهُ تفهُّما

    يقول: ذُبْ مستسلماً
    أقول: بل مستلهما

    إذا اتَّسمتَ بالقُوى
    فإن لي توسُّما

    تبكي ضجيجاً مثلما
    أبكي أنا ترنُّما

    ألا تجيبيني؟ متى
    كان التَّعالي أحزَما؟

    بعض التغابي كالغبا
    بعض التَّعامي كالعمى

    * * *

    لِصوتهِ من اللُّغَى
    تسعون صوتاً مُبهَما

    يتلو هنا مستعرباً
    وهاهنا مُترجِما

    يقول ما يدري الثرى
    ويُعجزَ التكلُّما

    تخطُّ مُفرداتُهُ
    في كلِّ سفحٍ مُعجَما

    تروي المراعي بعدَهُ
    تأريخهُ مُنمنَما

    ماذا يقول صوتُهُ
    وهل يقول، ربما؟!

    أحسُّني فيهِ صدىً
    ومِعزَفاً مُحطَّما

    وشارعاً مُقوَّضاً
    ومعملاً مُهدَّما

    ألستُ بعضَ شبوةٍ
    و(شبوةٌ) بعضُ الحِمَى

    كلُّ البقاع مسكَني
    لا أسكنُ المُرقَّما

    * * *

    (سيؤون) يا غسيلةً
    لها نقاءُ (مَريَما)

    مَن ذا أصاب مغنماً
    وما اقتضاهُ مَغرَما

    ما هال هولٌ نافعٌ
    ولا دهى ما علَّما

    * * *

    مآتمُ (السودان) ، هل
    أهدت إليكِ مأتَما؟

    كي تورقي مِن الحَشى
    “تيناً” وتهمي (عَندما)

    كي تَركبي سيل الرُّبى
    في كلّ فصلٍ مُلجَما

    لأن غيث وقتِنا
    فوضى غريب المُنْتَمى

    في الصَّيف يشتو في الشِّتا
    يصطاف، مَن يدري لِما؟..

    * * *

    قيل: (قتيل الما ولا
    قتيل حُرقة الظَّما)

    يا قيل، أصبحنا نرى
    كليهما جهنَّما

    القحط يدفنُ “الكلا”
    والسَّيل يشرب الدَّما

    اليوم يقتاد الرَّدى
    مَن كان يحدو الأنعُما

    إبريل عام 1989م

  • 278 ذات الجرتين

    ديوان رواغ المصابيح >  ذات الجرتين

    هنا وهنا مِرآتها، أين مرآها؟
    أهذا تجليها على شوق مجلاها؟

    هنالك إيماضٌ يحاكي ابتسامَها
    ويُدعى محيّاهُ رسولَ محيّاها

    * * *

    أياذا المضاهي وجهها، أين وجهُها؟
    عرفنا المُضاهى قبل عرفان مَن ضاهى

    لماذا تزجّي ومضها عن جبينها
    وعن فجرها الريّان تبعث ريّاها؟

    أليست هي المنشودة البُغيةُ التي
    إليها يباري القلب عينيه تيّاها؟

    * * *

    لأنفاسها طعم الخطورة لاسمها
    ذكورة أنثى، غَلْمن القدُّ أُنثاها

    أمْدُّ مِن التأريخ قامةُ حلمها
    وأغمضُ مِن لمح الأساطير مرماها

    وأنضر مِن وهج الدماء على الحصى
    تهاتُفُ نهديها وترقيص مجراها

    * * *

    هنا عطر مسراها، فأين التي سرت
    أما هذه الأزهار أخبار مسراها؟

    أياآس، يا ريحان، مَن مرَّ مِن هنا؟
    صنوبرةٌ مثل الهزارين عيناها

    على ورق الكاذي حفيف قميصها
    طريٌّ كأحلام الفتاة ونجواها

    ومِلء كؤوس الورد لونُ نطاقها
    أحالت – ولا تدري – غصُوناً وأمواها

    * * *

    أصخ يا رفيقي، إنني أسمع الربى
    وهل أخبرَت عيسى وأفضت إلى طه؟

    سمعتُ أبي عن جَدِّه: إن للربى
    عيوناً بأغوار الحنايا وأفواها

    * * *

    أما اغتسلَت في ذا الغدير، أُخالُهُ
    يُغمغِمُ: ما أشذى شذاها وأنقاها؟

    كرائحة (العنصيف) تطوي بإبطها
    وصية عرّافٍ إلى الكهف أصباها

    ونقَّش خدَّيها بلون يمامةٍ
    وأغصان زيتونٍ فأورق خدّاها

    * * *

    على وجه ذاك السفح منها حكايةٌ
    يقوم يؤدِّيها، ويعيا فينساها

    ويستلفت التل المحاذي أنينُهُ
    كما يُشرك الأوَّاهُ في الشجو أوّاها

    * * *

    وفي بال هذا الروض عنها قصائدٌ
    رواها إليها الطلُّ والطِّيب غناها

    وعِشٌ يصوصي: ما أجَل التي غدت
    وغصنٌ يناجي: يا ندى ما أُحيلاها

    وتلك أساميها هناك وههنا
    تنادي بلمح اللون: أين مسماها

    أما كان يدعوها (سهيل) (سهيلة)
    وتلبسها أم الثريا ثريها

    أليس الخزامي والدوالي إزارها؟
    أليست نجوم الصيف أحداق مغناها

    أما هذه الآفاق بستان حسنها؟
    وإياه كانت، كيف يبدو كإياها؟

    تسائل عنها كل جمرة ومضة
    متى شاهدتها أو رأت من رآى فاها؟!

    وأي أصيل حين ودع ضمها
    وأي نسيم آخر الليل حياها
    متى قبلتها الشمس آخر قبلة
    وحنت بيسرها يديها ويمناها

    وقال تجلَّت من بعيد قوامها
    بدون دليل من تأرج مثواها

    وما غاية التسآل عنها: أمالها
    فم في تناديه حقيقة معناها؟

    وماذا يرى اللاهون عنها سوى اسمها
    وترقيع طرفيها بأطراف ذكراها

    لها خبر في الصمت من ذا ينثُّه
    سوى صبحها الذواي وصفرة ممساها

    تعم الثواني أن تقول فتنطوي
    فتبدي الذي تطوي غرابة فحواها
    * * *

    أشار أصيلٌ: حيث شعَّت تغيَّبَت
    وأبقت لها منها قياساً وأشباها

    وقال ضحىً: لم تأتِ مِن يوم أغرَبت
    لكي تشتري مِن سوق بيّاعها الجاها

    وأخبر صبحٌ: أوغلت في جذورها
    لتأتي قُبيل الصَّيف مِن غير مأتاها

    وقال حشاها: فيه تاهت، ووجهُها
    حنيناً إليها تاه فيها ليلقاها

    وماذا أشار السرُّ؟ قال: يشمها
    ويهمس: ما أدناه منها وأنآها

    ديسمبر 1986م

  • 279 نموذج رجالي.. في قصة امرأة

    ديوان رواغ المصابيح >  نموذج رجالي.. في قصة امرأة

    تمَّت مواصفة البطلْ
    مِن كل وجهٍ فاكتملْ

    فطنِ التقصّي ذاهلٌ
    عنه وديع كالحَملْ

    لبق الحوار تشمُّ مِن
    أقواله ما لم يُقَلْ

    وتخال تحت هدوئِه
    شيئاً كألسنة الشُّعَلْ

    يعلو على نزَق الصِّبا
    وعلى الوقار المفتعَلْ

    * * *

    لاقته طالبةُ على
    خجَلٍ، فحنَّاه الخَجلْ

    همسَت: جمالُ المنتهى
    مِن حُسن وجه المُستهلْ

    ومشَت، أأصحو نلتُ مِن
    أحلى فمٍ ما لم يُنَلْ؟

    وهفا يصافح كاتباً
    بيديه “ديوانُ الهبَلْ”

    طوبى ظفرتَ بنَيلهِ
    حاصَلْتُهُ حتى حصَلْ

    المنع أمهرُ ناشرٍ
    فتِّش، ولكن لا تسلْ

    * * *

    وأشاقه شيخٌ لهُ
    كتبٌ حوت أهل النِّحَلْ

    حيّاهُ، مال كأنهُ
    عمّن يحيّيه اشتغَلْ

    أَأَخَفْتُهُ يا لَلأسى
    أم ذاك مِن طين الوجَلْ؟

    ما قيل خاف أبي ولا
    في غير مقبَره اعتزَلْ

    * * *

    وهنا أدارَت غصنَهُ
    نظراتُ بائعة البصَلْ

    في غور عينيها ضحىً
    ساهٍ كإيماض الطَّفَلْ

    ماذا تملّى ناظري
    وبأي خدّين اكتحَل؟

    * * *

    واستعجلَته حديقةٌ
    نفثت له أمراً جلَلْ

    مطر الأوان يميت إن
    ولّى ويقتل إن هطَلْ

    قذَف البيوت ببعضها
    أرَمَى بقصرٍ معتقلْ؟

    * * *

    لا تروِ عني: أبتغي
    بأبي وأزواجي بدَلْ

    أفَقدتَ بيتاً؟ منزلي
    ماذا ، وأين، متى، وهلْ

    * * *

    أوْمَت سفرجلةٌ إلى
    عينيه حدَّقَ وابتهَلْ

    وكأنها قالت لهُ
    ملَّيتُ بستاني ومَلْ

    خذني إلى الوادي إلى
    سربين مِن طير الحَجلْ

    سألته مشمشةٌ: متى

    وافى ومِن أين ارتحَلْ؟

    ما بالهُ ذاوٍ؟ أمِن
    عشرين يوماً ما أكلْ؟

    * * *

    وأشار شبّاكٌ إلى
    خدَّيه، كالطفل انفعلْ

    ورنا إلى خطواتهِ
    بابٌ فمرَّ على مهَلْ

    * * *

    يطأ الرصيف مفكِّراً
    فيهِ كمن يرقى الجبَلْ

    يصغي يسائل صامتاً
    مَن ذا يرى ومَن انتقَلْ

    ماذا اضمحل وماالذي
    في صُلب والده اكتهَلْ؟

    يطوي الجريدة قائلاً
    بي عن تفاهتها كسَلْ

    ويحس أيَّةَ دمعةٍ
    دمهُ مِن القلب انهمَلْ

    ويرى ذبول شجيرةٍ
    يرمي يديه بالشَّللْ

    يتلو الملامح مثل مَن
    يتلو كتاباً مختزَلْ

    ويساجل الشمس الخُطى
    ويهازج الطير الزجَلْ

    تحتل كل بلادهِ
    مِن قلبه أرعى محَلْ

    قلِق الغموض كأنهُ
    خبر انقلابٍ مرتجَلْ

    كمنجِّمٍ يُفضي بهِ
    (سعد السعود) إلى (زُحَلْ)

    عالي الجبين يُزينهُ
    أنفٌ وشيءٌ مِن حَوَلْ

    وكأن تحت جفونهِ
    ألق المحال المحتمل

    يبدو كمشروع إلى
    أجَلٍ، أتى قبل الأجَلْ

    هل أعجلتهُ قضيَّةٌ
    كبرى، فهبَّ على عجَلْ؟

    هذا الملبِّي ليس مِن
    زمن التخابل والخبَلْ

    ما سرُّ قوَّته وفي
    أي البراكين اغتسَلْ

    * * *

    لِم لا أخمِّن سِنَّهُ؟
    عشرين، أعلى، بل أقَلْ

    كهل الدراية والنُّهى
    في عنفوان المقتبَلْ

    سبق التخرج، كم فتىً
    حلَف التخرج ما دخَلْ

    * * *

    يقوى على حمل الذي
    يُفني، يخفُّ بما حمَلْ

    يرقى، إذا ساءلتهُ
    بمن احتفى لمن احتفَلْ

    أأتى يغني أم أتى
    يبكي ويستبكي الطلَلْ؟

    لِمَ لا يغِش كغيرهِ
    جِدَّ الكوارث بالهزَلْ؟

    ويعيد معنى حكمةٍ
    في كَثرة القول الزلَلْ

    * * *

    في صوته صوتٌ وفي
    عينيه شمسٌ مِن أمَلْ

    لخطاه لحن قصيدةٍ
    خضراء مِن “بحر الرَّمَلْ”

    غَرِد الشبيبة، وجههُ
    مرقى خيالات القُبَلْ

    ولَزيم همٍّ، في اللظى
    غنَّى وفي الثلج اشتعلْ

    ووحيد أرملةٍ لها
    أذكى أساليب الغزَلْ

    * * *

    ولأمِّه أمسى أباً
    ولجيله أعلى مثَلْ

    يصبو إلى الأجدى بلا
    مَلَلٍ، بلا قتل الملَلْ

    يرعى الصداقة صادقاً
    يهوى النقاوة والعَملْ

    ومِن التجادل يبتغي
    وجه الحقيقة لا الجدَلْ

    * * *

    في كل مكتبةٍ يُرى
    يبتاع أحدث ما نزَلْ

    يبغي الكتاب معاصراً
    ويحب أشعار الأُوَلْ

    يحسو التفلسف كالندى
    وفم القصائد كالعسَلْ

    ويعبُّ كل سياسةٍ
    كتباً ويبصقها دُوَلْ

    ويقول: أي مؤلِّفٍ
    أطرى التعسُّف والخطَلْ؟

    أوصاح: لا متطرفٌ
    يبقى وعاش مَن اعتدلْ

    نظرية الحكم التي
    كُتِبت، سوى حكم الحِيَلْ

    أوَما لكل مسلِّطٍ
    مَن يرقصون إذا قَتَلْ

    ويطبّلون إذا هذى
    ويصفِّقون إذا سعَلْ

    بطل الظروف إذا سخا
    عجن المكينة بالجَمَلْ

    ولكل أمرٍ عكسُهُ
    ولكل ظاهرةٍ عِلَلْ

    * * *

    هذا الفتى يمشي كما
    يمشي ربيعٌ مِن مُقَلْ

    يُنبي يفسر ما اختفى
    يهدي إلى مثوى الخلل

    ويرى المكاتب ترتئي
    بعيون رأس منتحَلْ

    * * *

    يروي تواريخ الضحى
    والشهب مِن بدء الأزَلْ

    يبكي على منظومةٍ
    غربَت ومِن تالٍ أطَلْ

    ويقول: ما بال الذي
    يأتي يحبِّب ما أفل

    ويضيف: يا طوفان هل
    يخشى الغريق مِن البلَلْ؟

    وبكل حرفٍ مرَّ مِن
    شفتيه سِفرٌ منتخلْ

    * * *

    ماذا أسمّيهِ؟ وهل
    رضوان، أو حسَنٌ أدَلْ!!

    ليكون أمراً واقعاً
    أدعوه بِشراً أو جذَلْ

    يا تسميات أحسُّهُ
    مِن كل تسميةٍ أجَلْ

    مَن أنت؟ لستُ منجِّماً
    لا اسمي أجاب ولاسأَلْ

    * * *

    حَسنٌ تبيَّنتُ اسمَهُ
    (محو الوجود المبتذَلْ)

    والآن أنهي قصَتي
    قلبي بعينيه اتَّصَلْ

    عام 1989م

  • 280 شباك على كهانة الريح

    ديوان رواغ المصابيح >  شباك على كهانة الريح

    أكنت الدجى، والآن يدعونك الضحى
    ترى أين أودعت العكاكيز واللحى؟

    كأشياخ ياجوجٍ سريت وبعدما
    أشبتَ غرابيب الرؤى جئت مُصبِحا

    وكانت لك الأوجاع مسرىً ومهجعاً
    فهل ترتديها الآن ريشاً ممدرحا؟

    تأهَّبتَ تبدو غير مَن كنته، فهل
    تبدَّيت – مما كنت – أصبى وأملحا؟

    أيُبديك تبديل الجلابيب ثانياً
    وما أثبت الثاني ولا الأول انمحى؟

    أليس الضحى غيري، وهل أنت غيرُهُ؟
    وأيكما الثاني مَن الأول انتحى؟

    أما كل إصباحٍ إلى الليل ينتمي؟
    أمَن أرَّخوا “قيساً” أضاعوا “الملوَّحا”؟

    إذا قلتَ وافى منك ما باله انثنى
    إليك، أدَوْرات المواقيت كالرحى؟

    يخالكما الرائي (جحاً) رابعاً أتى
    فمن منكما المسمار، مَن منكما جحا؟

    تطاولْتَ ليلاً للخفافيش مسرباً
    تحولْتَ صبحاً للخفافيش مسرحا

    * * *

    تكشَّفتَ أغبى مِن شروقي وعتمتي
    سماعي يرى للصوت عشرين ملمحا

    وهل ينظر المصغي ملامح صوتهِ؟
    أما آن دوري كي أقول وتشرحا؟

    * * *

    خفافيش هذا الوقت – يا بْني – هي التي
    تصوغ لها الأوقات أدجى وأوضحا

    وتحتلُّ أدراج القلوب ولاتعي
    فتستعمل الأجفان ملهىً ومسبحا

    تحيل الشظايا حولها نصف أعينٍ
    وترخي عليها الشمس شَعراً مسرّحا

    لها في الضحى ليلٌ موشّىً وفي الدجى
    صباحٌ كسور السجن أصحو وماصحا

    أليس الضحى المجلوب أدفنَ للضحى؟
    أليس الدجى المصنوع لليل أذبحا؟

    * * *

    ألا تجتلي تلك القناديل تزدهي
    كما يشتهي عِيّ اللسان التبجُّحا؟

    وترنو كأميٍّ تَوظَّف كاتباً
    تُنقِّح في وجهي كتاباً منقَّحا

    * * *

    ألست تراها في حُلاها كمومسٍ
    تجارية الإِيماض تغري لتربحا؟

    تعاف البيوت الواطيات لأنها
    أعفُّ يداً من أن تَلصَّ لتمنحا

    إلى كل جلاّدٍ تمدُّ شفاهها
    فيوحي إليها أن تعضّ وتلفحا

    وتَهدي كلاباً طوَّرت مِن نُباحها
    وآخت بدائييِّن أدنى وأنبَحا

    على الشعب عيناها وفحمة قلبها
    تحابي على السفّاح مَن كان أسفحا
    * * *

    تُريك نهاراً أصفراً، تنهش الدجى
    فيسري كزنجيٍّ يدبُ مجرَّحا

    وتُبدي لك التلفاز شيئاً كأنَّهُ
    رمادٌ تشاكى أو ضريحٌ تنحنحا

    فطنتُ لماذا أنت تجري مقوّساً
    ومابال بستان المجرّات صوَّحا

    أحسك محنيّاً، أأنت تحسُّني؟
    أنوء بأثقالي وحيداً مقرَّحا

    أليس الذي تطهوه أتراحُ قلبهِ
    يصافي الذي يلقاه أشجى وأترحا؟

    * * *

    ترى كل وقت صنعةً، بل بضاعةً
    وأخشى عليه أن يبور فيُمسَحا

    وألمح مِن تحت التزاويق والحُلى
    عجيناً بأنياب الأفاعي مُلقَّحا

    وهذي النوادي والدكّاكين والكوى
    كمغصوصةٍ سكرى تغنِّي موشَّحا

    * * *

    فقد يلمع التمويه في أي منظرٍ
    ولكن يُرى في الناس أزرى وأكلحا

    أليس نظيف الكف كالزهر ما بهِ
    سواه – خبيث الكف يُطلى ليمرحا؟

    * * *

    أما هان مَن لا يقبل البيع؟ – راضهُ
    محبوه حتى صار للبيع أصلحا

    رأوا وجهه تحت الشحوب فركّبوا
    له في مكان الوجه باباً مصفَّحا

    لأن اعتياد السوء سهلٌ وأهلهُ
    كثيرٌ، ترى الأنقى أقل وأرجحا

    إذا قِسْتَ بالأموال والمنصب الورى
    فسوف ترى الأعلى أحطَّ وأنجحا

    * * *

    تريد مداراً غير هذا؟ وهل أرى
    مداراً فأدعوه كسيحاً فأكسحا؟

    خوى كل شيءٍ مِن مسمّاه، لا الذي
    تسمّى الدجى أغفى ولا الصبح أصبحا

    * * *

    لقد كنتَ مشكوّاً كوقتٍ – أملتني
    إلى حزبك المشبوه عضواً مرشَّحاً

    وثوَّرني كون الخيانات ترتقي
    وتبتاع مِن سوق النِّفاق التمدُّحا

    لهذا اتفقنا بعد طول تجادلٍ
    وصلنا إلى الغَور الذي جاش أصرحا

    ألم يبق سرٌ فيك أرجو منالَهُ؟
    تعرّى الذي تبغي له الفضح أفضحا

    * * *

    أقُلنا الضروري الذي قالنا؟ – إذا
    أنمناهُ فينا لحظةً هبَّ أفدحا

    علينا إذا قلنا جَرحنا لنشْتفي
    ونُشفي – أجلُّ القول ما كان أجرحا

    على وجه أُم الريح ننشقُّ شُرفةً
    تشمُّ كهاناتٍ مِن الريح أروَحا

    أطلنا تشاكينا – وطوَّل غيرُنا
    وكان الغموض الراعف الصمت أفصحا

    * * *

    أكان زمانٌ عكس هذا – هل الذي
    لحاه قديماً شام أو شمَّ مَن لحا؟

    ستدعوه تأريخاً وأدعوه مِدفناً
    يُقلّب ساقيه لجنبيه مطرحا

    * * *

    زمان التقاويم التي تكتبونها
    مكانٌ دحاه الحبر واحتل مادَحا

    وهذي الأسامي؛ حِقبةٌ، أشهرٌ، غدٌ
    ككل مُسمّىً – ترتجي أن تُصحَّحا

    * * *

    أتدري كلانا دائبٌ نحو غايةٍ
    تَرى أيُّنا أهدى إليها وأكدحا؟

    إليك يدي، نرمي بنا كلَّ بقعةٍ
    وننهدُّ حفراً عن صباها لتفرحا

    مِن البدء نأتي أو إلى البدء ننثني
    نَحولُ نجوماً تنظر الأرض أفسحا

    كتاباً كعشق الضوء يقرأ نفسَهُ
    ويُغصن أعياداً ويَهمي تفتُّحا

    عام 1987م

  • 281 تخاييل

    ديوان رواغ المصابيح >  تخاييل

    أسْكتِ الهاجسات فيك قليلاً
    واسترح منك ضحوةً أو أصيلاً

    كل آنٍ تغلي وحيداً، كآتٍ
    مِن رحيلٍ ومستهِلٍّ رحيلا

    حاسياً ما يعي مرور الثواني
    مستنيلاً حنينها، أو مُنيلا

    * * *

    تَنشد المستحيل تلقاه حُلماً
    هل تُغنّي كي تملِك المستحيلا؟

    ولماذا تحيل دمعك صوتاً؟
    كان صوتاً في القلب يخشى المَسيلا

    * * *

    للمراعي تصغي، وتحكي، فتبدو
    والمراعي (بثينةً) و(جميلا)

    تعرف الطير أن للأرض سرّاً
    ولذا تُنبت الكَلاَ والنخيلا

    * * *

    تُلفت الذكريات شوقاً، لماذا !
    هل تحب (النبيذ) كَرْماً ظليلاً؟

    أوَما كان في العناقيد أصبى؟
    هل تراه في الكأس شيخاً ضئيلا؟

    لست ترضى أن يصبح الشوقُ ذكرى
    فتُسمِّي العطور زهراً قتيلا

    هل ستدعو تحوّل القمح ذبحاً
    حين يحتاج مخبزاً وأكيلا؟

    كان أنقى بدون خَبزٍ وأكلٍ
    هل رأيت الندى يحول غسيلا؟

    * * *

    كم إلى كم تغوص فيك وتطفو
    باحثاً عنك جائلاً ومُجيلا؟

    مستعيداً أصالة الأصل منهُ
    آبياً ظلَّه عليه دليلا

    مازجاً فيك سائلاً ومُجيباً
    طالباً منك فيك عنك بديلا

    خارجاً منك، مُدخلاً فيك أشقى
    كي توافي على الدخيل دخيلا

    طامعاً أن تظَل فيك غريباً
    لا يصافي فيك النُّزول النزيلا

    يدخل اليوم فيك يطبخ ليلاً
    يَخرج الليل منك، يوماً كحيلا

    كل هذا أدعى لعزف احتراقي
    قبل أن أَدخُل السكوت الطويلا

    * * *

    كل آنٍ تُميل فيك القوافي
    فمتى سوف ترتوي كي تَميلا؟

    أتراني موظَّفاً عند قلبي
    فتظن الصواب أن أستقيلا!

    * * *

    فاقدات (الهديل) يبكين فرداً
    أنتَ تبكي في كل آنٍ هديلا(1)

    لي خليلٌ في كل مثوىً ومهوىً
    مذ تخيَّرتُ كلَّ قلبٍ خليلا

    عام 1988م

  • 282 علامات بزوغ المحجوب

    ديوان رواغ المصابيح >  علامات بزوغ المحجوب

    لأن إليكَ القضيَّهْ
    ومنهى المنى الآدميَّهْ

    تغاوي مسوخاً، لها
    ألوف العيون الذكيَّهْ

    وأيدٍ بروقيةٌ
    وأوردةٌ مدفعيَّهْ

    * * *

    لذا تُسكت النار عنك
    بإيماءةٍ معنويََّهْ

    بسرِّية الورد في
    جيوب الرياح الرخيَّهْ

    بأوطار دنيا تلوحُ
    سوى هذه الدنيويَّهْ

    * * *

    تطلُّ على غفلةٍ
    مِن الشمس شمساً فتيَّهْ

    ترى كل عين ولا
    تراك سوى الأريحيَّهْ

    كحلم الكرى تنمحي
    تُرى كالسماء الجليَّهْ

    * * *

    لأنك مهوى الهوى
    ومجنى الوعود الهنيَّهْ

    وذكرى شباب العجوز
    وحلم الفتى والصَّبيَّهْ

    وشوق الدوالي إلى
    شفاه الكؤوس الظميَّهْ

    تذوب لكي تبتدي
    فتكبر فيك البقيَّهْ

    وتنأى لكي تدَّني
    علاماتُك المبدئيّهْ

    * * *

    أتمّت شروط الخروج
    أجب يا اكتمال الرزيَّهْ

    أما انحلَّت الأرض عن
    تقاليدها الموسميَّهْ؟

    أليس المصابيح عن
    ضحايا الأماسي عميَّهْ؟

    تُسمّي النفاق الولا
    وسلب الأماني، عطيَّهْ

    إلى العين ترمي السَّنا
    وفي القلب تطوي الشظيَّهْ

    * * *

    فلا الصبح صبحٌ، ولا
    لأي مساءٍ هويَّهْ

    ولا لون للون لا
    لعنف الأسى مأسويَّهْ

    ولا قتل نصف الملا
    سوى خطرةٍ جانبيَّهْ

    غدت كل حرّيةٍ
    على الأرض أشقى سبيَّهْ

    لأن الرُّواغ ارتضى
    فأرضى بغير الرضيَّهْ

    * * *

    أما ذا دليلُ على
    تدلّي رؤاك البهيَّهْ!

    وإشراق عينيك مِن
    وراء السدود العتيه
    وإفصاح كفيك عن
    سكوت المعاني العليَّهْ

    * * *

    تبيَّنْ وسلْ ما ترى
    قناديلك المعرفيَّهْ

    على أي نهرٍ تدلُّ
    بقايا الضفاف الزريَّهْ

    * * *

    إلى كم تمدُّ المنى
    إليك القلوب الشجيَّهْ؟

    كعانٍ بسكر الكرى
    يلاقي كنوزاً خبيَّهْ

    * * *

    لقد آن أن تنجلي
    مِن الجُبَّة السندسيَّهْ

    تفي عِدَةً أسمحَت
    وكانت شروداً أبيَّهْ

    تعرّي (أبا مُرَّةٍ)
    مِن البزِّة العسكريَّهْ

    تقيم القيامات مِن
    تضاريسها الداخليَّهْ

    * * *

    مِن الآن للمشتهى
    صِباً للتصابي شهيَّهْ

    هواميك إن أقلعت
    هَتونٌ، تلتها سخيَّهْ

    تجود بقاع الحِمى
    لترقى طروباً شذيَّهْ

    لها عشق إنسانةٍ
    وذاكرةٌ كوكبيَّهْ

    لحصبائها أعينٌ
    لتربتها (ألمعيهْ)

    لأعشابها كالصِّبا
    غرورٌ بريء الطويَّهْ

    * * *

    تُغني عليها الضحى
    وتُصبي النجوم السنيَّهْ

    وتُملي – كما أخبروا –
    على كل شبرٍ وصيَّهْ

    لكي يُسفر المنطوي
    لكي تفصح الأعجميَّهْ

    * * *

    ويَهديك هجس الثرى
    إلى الحكمة السرمديَّهْ

    فتتلوه مِن بَدئِه
    إلى آخر المسرحيَّهْ

    هنا تنبري راكضاً
    هناك تطيل الرويَّهْ

    لجدَّيك تُمسي أباً
    لسبطيك أمّاً حفيَّهْ

    * * *

    تناجي السواقي كما
    تحيّي الفتاة الحييَّهْ

    وحيناً كلمس الندى
    نهودَ الكروم الجنيَّهْ

    ترى كل غصنٍ كتاباً
    وكل حصاةٍ نبيَّهْ

    تحس هسيس الكَلا
    مجادَلةً فلسفيَّهْ

    بشيخوخة المنحنى
    تناغي صِبا الأبجديَّهْ

    توشّي الممرات مِن
    خيالاتك الزنبقيَّهْ

    * * *

    تُواري “الخفاش” الذي
    له كل صبح عشيَّهْ

    تقول لأعتى القُوى:
    قفي لن تكوني قويَّهْ

    ولا سلطة المنتضي
    يديكِ ستمسي عصيَّهْ

    فأنتِ له تارةً
    وأخرى عليه بليَّهْ

    كذا مَن يحب الورى
    يعادي الصفات الدنيَّهْ

    * * *

    أمليونُ عمرٍ لديك
    أمليون نفسٍ زكيَّهْ؟

    تخوض الوغى مثلما
    تؤدي جواب التحيَّهْ

    وتغشى الضواري بلا
    نيوبٍ بلا بندقيَّهْ

    لأنك أقوى حشاً
    على (الليلة النابغيَّهْ)

    وأصفى لذات الصفا
    وأعدى لغير الصفيَّهْ

    تُحامي ولا تحتمي
    تلبّي نداء الحميَّهْ

    وفي النار تهمي ندىً
    وتذرو الطيوب النديَّهْ

    * * *

    فحادي أزيز الردَّى
    إليك كمعطي الهديَّهْ

    لأن الذي يتّقي
    يعيش ذبيح التقيَّهْ

    * * *

    تضحّي ولا تكتفي
    ولا تنكفي كالضحيَّهْ

    فتعلو بهذا على
    غرور الجباه الدعيَّهْ

    * * *

    مِن الموت تمضي إليه
    أهذَّبتَ أُمَّ المنيَّهْ؟

    أمِ الأرض أفضت إليك
    بسرِّ قواها الخفيَّهْ؟

    أمِ الموت أهدى إلى
    أجدّ المرامي القصيَّهْ؟

    * * *

    إلى الريح يحكي الشذى
    خرافاتك الواقعيهْ

    فيشتَفُّ شيبُ الربى
    غموض رُباك الطريَّهْ

    * * *

    أغانيك غيبيَّةٌ
    وريَّاك مستقبليَّهْ

    أكنت انتظاراً أتى
    أهذي هي المهدويَّهْ؟

    أأنت الذي علَّلوا
    بهِ كل نفسٍ شقيَّهْ؟

    أتبدو الذي ميَّزوا؟
    أراك جديد المزيَّهْ

    تُوحِّد فيك الجموع
    وتعتمُّ بالمثنويَّهْ
    أأنت بديل الذي
    أتى، أم سيولٌ أتيَّهْ!!

    * * *

    أجئت اعتراضاً على
    رواغ الظروف الغبيَّهْ

    على كبرياء العصا
    على شِرعة الفوضويَّهْ

    بشيراً بما ينبغي
    وتبغي القلوب النقيَّهْ

    * * *

    بكفَّيك زيتونةٌ
    وسِفرٌ يرى كل نيَّهْ

    وأرضٌ ربيعيّةٌ
    وبحر كظهر المطيَّهْ

    ومحبرةٌ ناهدٌ
    وقيثارةٌ عبقريَّهْ

    * * *

    فمن أي إيماضةٍ
    طلعت وضيء السجيَّهْ؟

    كمعجزةٍ مِن هُدىً
    كأسطورةٍ شاعريَّهْ

    كمشروع قلبٍ لهُ
    على قلبه الأسبقيَّهْ

    كبدءٍ مِن المنتهى
    ومِن قبل بدء البريَّهْ

    عام 1988م

  • 283 على قارعة الاختتام

    ديوان رواغ المصابيح >  على قارعة الاختتام

    قلتَ لي صارت حلوق الموت أبلغْ
    فليكن، ما زالت الأحضان تدفَعْ

    يستزيد المهد واللحدُ، فلا يشبعُ
    المعطى، ولا المعطي سيشبَعْ

    كلها الأرض قبورٌ، وترى
    كل دربٍ مُترعاً والسجن مَترَعْ

    قيل هذا قبل تأريخ الثرىَ
    ما تقول الآن والتأريخ أصلَعْ!

    * * *
    أين يجري السوق؟ يعدو بعضُه
    فوق بعضٍ، والبيوت الغبر تتبَعْ

    كل ممشىً هاربٌ مِن خطوهِ
    وإلى جنبيه مِن جنبيه يفزَعْ

    * * *
    حسنٌ أن يثأر الممشىَ على
    صبرِه، أن يلبس المقهى ويخلَعْ

    أن يطير التلُّ بالتلِّ وأن
    تعجن الريح ب(نجران) مُصوَّعْ

    أن يميط الرملُ عنهُ عريَهُ
    أن يغنِّي الصخر كالملهى ويسمَعْ

    أن تُرى كل حصاةٍ قُبلةً
    أن تساوي بيضةُ “الورقاء” مخدَعْ

    أن يحول “المشتري” قاعاً وأن
    ينزل “المرّيخ” بستاناً ومصنَعْ

    أن يوشيّ (جِبلةً) جمرُ السُهى
    أن يُحَلِّي بالثريا (جيد أسلَعْ)

    أن يمر الحُبُّ سكران الصِّبا
    عارياً يصفع مَن يلقَى ويُصفَعْ

    أن يُشظِّي غرف النّوم اللقا
    ثم يمشي مِن وضوح الصيف أشيَعْ

    أن يقوم المنحنى نخلاً، وأن
    يصعد المرعى من (الينبوت) أفرَعْ

    أن تقول الأرض للأرض اهربي
    وانقلب يا بحرُ أثداءً ورُضَّعْ

    * * *
    أي آتٍ تبتغي يا صاحبي؟
    فَرَحاً مِن كل هذي الأرض أوسَعْ

    بعد ما يدعونه اليوم، الذي
    سوف يُدعى اليوم، للأيام مطَمَعْ

    ولها كالنّاس مشروعٌ يُرى
    ولها في سرها ما سوف يُشرَعْ

    تعبت قافلة الأعوام، لا
    رحَّب الصبحُ ولا المصباح ودَّعْ

    * * *
    أصبح التقتيل أطغى سرعةً
    لا تخف ديمومة الميلاد أسرَعْ

    تَفقِد الأمُّ فتىً يذهلها
    عن فتىً في جوفها الموّار أتسَعْ

    قل لها: كِفّي ستُردي ثانياً
    كل أمٍّ بأجدِّ البذل أولَعْ

    تسرح الأغنام والذؤبان، في
    كل شِعبٍ وهي تغشى كل مرتَعْ

    شجن التأبين في بيتين، في
    خمسة والعرس في عشرين مربَعْ

    زفّة العُرس كحفل الدفن، لا
    ذاك يستبكي، ولا هاتيك تنفَعْ

    كلها الضجّات مذياعيةٌ…
    كيف تدري أيها أنبىَ وأوقَعْ؟

    * * *
    هل ترى التقتيل مثل الموت؟ لا
    بل أرى أجداهما ما كان أفظَعْ

    فغموض القلب أغرىَ بالذي
    هو أخفى مِن أسى القلب وأفجَعْ

    * * *
    يولد المقتول مِن إغمائِه
    في سواهُ، تصبح العينان أربَعْ

    يسقط الغيثُ ليرقى حنطةً
    وكروماً فيرُىَ أسنى وأرفَعْ

    ذلك الطّود المعُلِّي، ربما
    كان صخراً غائصاً في حصن (تُبَّعْ)

    أَعَجَزَ الآتون من أشلائهم
    مديةَ الغدرِ، وأعيوا كل مِدفَعْ

    * * *
    قلت لي لا يعرف الرُّعب الكرى
    فليكن، ما زالت الأدياك تصقَعْ

    وتهبُّ الرّيح أفواجاً على
    رغم مَن يأذن بالسَّير ويمنَعْ

    ويدور الفَلَك الجاري، بلا
    أي تصريحٍ فيجتثُّ ويزرَعْ

    وبلا وعدٍ، بلا تذكرةٍ
    ترحل الغيمةُ تسقي كل موضَعْ
    * * *
    ما يزال الليل يسري مثلما
    كان يسري، ما يَزال الفجر يطلَعْ

    وترى الأشجار مِن أين أتى
    وإلى أين على الشّوك تسكَّعْ

    والعصافير على عادتها
    تجتني مِن مُعجم الضوء وتسجَعْ

    وتُصابي كل شُبَّاكِ هوىً
    بالعيون الخضر والسُّود مرصَّعْ

    * * *
    ما تزال الأرض حُبلى بحشاً
    في حشاها ما يزال البرق يلمَعْ

    ذلك الطافي، سيطفو غيرهُ
    ويظلُّ الغائر المنشود أروَعْ

    * * *
    مات مَن يُرجى.. بمن تخدعُني!
    لم يمت كل الورى يا طفل (موزَعْ)

    غيرنا يا صاحبي يبدو لهُ
    أنه أذكى خداعاً وهو يُخدعَْ

    * * *
    ما يزال الورد يحمرُّ، وما
    زال ينهَلُّ الندى أطرىَ وأنصَعْ

    كيف يذوي ثم يغلي حُمرةً؟
    ربما كان عَناء الورد أوجَعْ

    هل سيذوي القحط كي أندى أنا؟
    بعدما تصبح تحت القحط أينَعْ

    * * *
    ما خبت ناريَّة الأشواق، ما
    أصبح الإنسان دكّاناً ومضجَعْ

    هل سينسى الضعف مَن خاف القوى؟
    يستحيل الجبن عند الضيق أشجَعْ

    * * *
    ربما امتدَّ الذي جاء، لكي
    ينضجَ المأمول، أو يختار منبَعْ

    قد يتيه البادئ الغِرُّ، ولا
    يستبين المنتهي مِن أين يرجَعْ

    ذاك ما يحلو عليهِ صمتُنا
    علَّهُ يختتم المَوَّال أبدَعْ

    مارس 1987م

  • 284 حراس الخليج

    ديوان رواغ المصابيح >  حراس الخليج

    مَن ذا يهمّ الأمرَ يا أمرُ
    لا هاهنا (زيدٌ) ولا (عَمْرُو)؟

    ما هاهنا يا كلَّ قاذفةٍ
    إلاّ السكوت الأبله المرُّ

    مَن ذا يردُّ الكاسحات، ومَن
    فوق الخليج الأصفر أحمرَّوا؟

    * * *

    جاؤوا فلا هزَّ (العَرار) يداً
    ولا درى ما لونُه التمرُ

    لا اهتجتَ يا (بيت الحسين) ولا
    عكَّرْتَ نومَ اللحد يا (شِمرُ)

    * * *

    أهنا (دُبيْ) أم (ويلز) يا سفناً
    تَرْمَدُّ إرهاباً وتَقمَرُّ

    وتصيح: صَهْيِنْ يا أخا (مضرٍ)
    مَن أنت؟ أين خيولُكَ الضُّمْرُ؟

    * * *

    يا (الأحمدي) هل أنت أنت؟ هنا
    (تكساس)، أين الأوجه السُّمرُ؟

    كيف التقى (وُلْيَمْ) و(علقمةٌ)
    ومتى تصافَى الثلجُ والجَمْرُ؟؟

    يا زامر (الجهرا) أتُطربُها؟
    للبارجات الطبل والزَّمْرُ

    * * *

    البحر يا نَفّاط مُتقَّدٌ،
    غامرْ وإلاّ اجتاحكَ الغَمرُ

    حُرّاسك اشقرُّوا متى انقرضت
    (عبسٌ) وأين تغيَّبت (نِمرُ)!؟

    أترى (كلاب الحوأب) اشتبهت
    أم أُلجمت عن نبح مَن مرّوا؟!

    * * *

    أتقول ذا يهذي كمغتبقٍ
    ما عاد يُسكرُ جارك الخَمرُ

    أتريد أطمر غَيرتي وفمي
    يا جيفة أوشى بها الطَّمرُ!

    أعدى العِدا ترجو حراسَتهُ
    مَن ذا يهمُّ الأمر يا أمرُ!!

    أغسطس 1987م

  • 285 وصول

    ديوان رواغ المصابيح >  وصول

    بودِّي أن أفرَّ الآن منِّي
    وأدخلَ نزوةً في رأس جنّي

    وأسبح فوق ومضٍ لا يُسمّى
    ولا يلقى الملقِّب والمكنّي

    يحنُّ إلى مطافٍ غير طافٍ
    ويُومي: يا نجوم إليه حِنّي
    فأُوغل في صميم الومض أخفى
    كنسغ الأرض عن زمني وعنّي

    * * *

    وكالبذر الدفين أنثُّ وجدي
    لوجدي لا أنوح ولا أُغنّي

    بكل قرارةٍ أنسَلُّ دفقاً
    ربيعياً يوشيّ أو يُحنّي

    وأفنى كي يغرِّدَ كل زاكٍ
    وينقرض الذي يبقى لِيُفني

    أحولُ قصيدةً لَمّا أقلها
    وخفق الصمت قافيتي ووزني

    هنا، في لا هنا أمتدُّ جسراً
    إلى الوطن الذي فوق التمنّي

    ومِن ما هيَّةٍ أخرى أُوافي
    فأختار الذي أمحو وأبني

    وأطوي لحد ذاكرتي ورائي
    فلا أهذي ب: كنتُ ولا كأنّي..

    لأني صرت غير أنا، وعصري
    سوى عصري، وفنّي غير فنّي

    أليس حِمى حنيني لا يُضاهى
    بمقياس التيقُّنِ والتَّظنّي

    * * *

    له لغةٌ سوى قاموس (روما)
    سوى (المُغْني) الذي ما كان يُغني

    فليس عليه مرميٌّ ورامٍ
    ولا كذِب التّرقي والتّدني

    ولا فيه تسنّي أيِّ ظرفٍ
    لراكبه ولا حِيَل التَّسَني

    ولا لغو المُداجى والمُداجَى
    ولا صفة الطفور ولا التأني

    وليس عليه أبواقٌ تدوّي
    ولا ورقٌ بأم الحبر يزني

    * * *

    إليك وصلت يا أنقى وأهنا
    بلا زغرودةٍ وبلا مُهنِّ

    حملتُ براءة العشب المُندَّى
    وجئت مخلِّفاً للفار سِجني

    * * *

    لماذا لا تصدِّق مَن تراهُ؟
    أتأسف أم تخاف عليك أجني؟

    أتخشى وحْلَ أحذية السُّكارى
    وتنسبه إلى عَرَقي وعجني

    لقد كانوا هناك قذى طريقي
    أنابيب الفحيح إلى مَكَنّي

    أُلاقي جبنهم مِن غير بحثٍ
    ولايلقون بعد البحث جُبني

    أتحسبُ أن هاتيك الأفاعي
    ستتبعني، تخون هنا وتُخني؟

    بعيدٌ أنت عن فمها، وأمّا
    أنا ما جئت أنشد صفو أمني

    فما وصَّت (لميسٌ) بي مُجيراً
    ولا قالت: أخاف عليك يا بْني

    ولا باهت كتلك: نجا عيالي
    لأني صنت (تبري تحت تِبني)

    (لميس) اقني بنيكِ، صهٍ (ثريّا)
    فَأمَّ البَيْضِ تعرف كيف تَقني

    لهذا قلت: يا مجهول خذني
    وسنّي السيف يا أخطار سِنّي

    أأستجديك تحصيناً وحصناً
    وقد كان السُّعار هناك حصني

    لنا فوق التحدّي والتوقّي
    همومٌ لا تراها الريح تحني

    * * *

    لماذا تستزيد مِن اختباري؟
    أما أهرقتُ بين يديك دنّي؟

    أحتى أنت تهجس أنّ خلفي
    يداً، أو أن أمراً تحت ضِبني

    * * *

    أفصِّل مذ نويت، عزمت أَخفى
    وأشجَى مِن زوايا كهف حُزني

    فما أخبرت صبحاً عن مرامي
    ولاتمتمتُ للمصباح: إنّي..

    ولا ناديت: يا قلقي أقلني
    ويا عكّاز تسويفي أعِنّي

    * * *

    فلم أعهد إلى عمّي بأمّي
    ولابأبي إلى صهري وخِدني

    ولا استودعت مكتبتي صديقاً
    ولا ودَّعت نافذتي وركني

    ولا تلك التي قالت: أطعني
    وخذ كوزين مِن عسلي وسمني

    أراك مسافراً؟ فأجبت: كلاّ
    وما كانت وأختيها مجنّي

    * * *

    سريتُ إليكَ تحت قميص غيمٍ
    وحيداً لا أعِنُّ ولا أُعَنِّي

    تصوَّر، ما اصحطبت ولا كتاباً
    سوى تعليقةٍ علقت بذهني

    ولا أزجَى فمي مِن موج صدري
    سوى وطَرٍ إلى إِنصات أذني

    فلم أفعل سوى تقليب أمري
    وزجري أذنَ أذني: لا تطنّي

    وإلجامي خيالاً، قال لوني
    نبيذيٌّ، وطيفاً قال: بُنّي

    وهمسي للعواصف: لا تنامي
    وياتلك الرُّبى لا تطمئني

    وياجَرَس الخطورة لا تجمجم
    فإن أغفى، فيا أجداث رِنّي

    * * *

    فقالت لي العشيَّةُ: لا تخفهم
    على مسراك قد أسبلت جفني

    وألبستُ القناديل السواهي
    قميصاً مستطيلاً مِن دُجُنّي

    إذا استسماك حرّاس المواني
    فأسكت (عامراً) وارطن ك(سدني)
    * * *

    وكالبرق ارتحلت بلا جوازٍ
    بلا مِن أين أنت، بلا تجنِّ

    ولم أركض ك(عنترة بن عبسٍ)
    ولا كالغصن مجنون التثنّي

    لأني جئت مِن عشرين قرناً
    وما أشفت على السِّتِّين سِنّي

    * * *

    أتحتُك يا بسيطةُ قرن ثورٍ؟
    قرون الدهر فوقي أين قرني؟

    فقالت: يا سحاب أُريد غيري
    أجابتها: وماءً غير مُزني

    لِما تبغين أرضاً منكِ أفضَى
    ألا تدري لما يا بعض قُطني

    لمن ظهري، وحصَّة مَن جبيني
    لمن صدري، لمن قدمي وبطني؟؟

    ومَن أزواج أزواجي أتدري؟
    ومَنْهُم سادتي، مَن أهلِ عهني!!

    أما قالت لجدِّك أمُّ أمي:
    هنا جسدي وذا سهلي وحَزْني!

    أسائلها وتسألني وأجري
    أُداني كل بُعدٍ منكَ يُدني

    فأحياناً أسابق نبض قلبي
    وأحياناً أنوء بحَمل متني

    فأرجو رحلتي: لا تستطيلي
    وأدعو قامتي: لا تِرجحنّي

    * * *

    تأكدَّ، ما رأى شَبحي غرابٌ
    ولا لَمسَ الذُباب غبار ذقني

    ولا خالت ديوك الفجر وجهي
    ولا استرق النسيم أريج لحني

    ولانَبحتْ خطاي (بنو كليبٍ)
    ولا اشتمَّت قميصي (آل حسني)

    * * *

    مرقتُ على تخلُّف أهل خلفي فبرِّئني
    مُحقّاً أو أَدِنّي

    بلغتُ حماك مِن شوقي إليهِ
    كأني كنت أحملُه بُردني

    فخذ بيدي: لعلّي الآن أدري
    وتدري أنت كيف غبنتُ غَبني

    وقل لي: عِم صباحاً أو مساءً
    وأفعم بالبشاشة جوف صحني

    * * *

    أجبني كيف شئت: هل الْتَقينا
    أكنتُ أنا المُمنَّى والمُمنِّي

    أما لوَّحتَ لي وهديتَ سَيري
    فأتعبتُ المدى ودفنتُ دفني!!

    خلعت على الطريق إليك أصلي
    وأغلق بائع الأنساب رهني

    * * *

    ترى أرتدُّ! كلاّ سوف أمضي
    وأنت معي رضيع يدي وحضني

    تبنّيتَ اغترابي، عدت طفلي
    تجاوزنا الأبوّة والتَّبَني

    قبيل الآن كنا اثنين شكلاً
    فصرنا الآن كلاً، لا يُثنّي

    عام 1988م

  • 286 قتلة وثوار

    ديوان رواغ المصابيح >  قتلة وثوار

    توحَّشُوا وأطْلِقوا
    هيهات أن يتفرقوا

    جاؤوا كأفواج الضحى
    وكالضحى تنسَّقوا

    الكمُّ كيفٌ واحدٌ
    والكل فردٌ مُطَلقُ

    لأنها الأرض التي
    تراعدت فأبرقوا

    تراكضت فجاجُها
    يتلو العميقَ الأعمقُ

    تفور تحت خطوكم
    وفوقكم تُحلِّقُ

    * * *

    أضفَّةٌ هاتيك أم
    نهرٌ يعي مَن يُحرِقُ؟

    يشمُّ ما تطوونهُ
    بقلبه ويرمقُ

    أغزّةٌ تنظّروا
    آياتِها وأطرِقوا

    تَرمُون، لا تخشى فهل
    ما تطلقون فستقُ؟

    * * *

    كل مخيَّمٍ على
    موج اللهيب زورَقُ

    وكل مرجٍ ثائرٌ
    وكل صخرٍ خندقُ

    وكل نبتةٍ يدٌ
    وكل نجمٍ بيرقُ

    التلُّ يهفو تائقاً
    والسهل منه أشوَقُ

    والمنحنى يعدو كما
    يعدو الجواد الأبلَقُ

    مواكبُ في موكبٍ
    لا سبَّقٌ لا لُحَّقُ

    العُزَّل العاتون مِن
    أعتى الغزاة أحذَقُ

    * * *

    ما بال مَن دَفنتمو
    قاموا كأن لم يُخنَقوا

    ومَن هدمتم فوقهم
    بيوتهم لم يَزهَقوا

    أجاء منهم مثلهم
    أم الحِمام أرفقُ؟

    هل شمتمُ مَن يتّقي
    نيرانكم أو يَفرَقُ

    فشقِّقوا رصاصكم
    فيهم فلن يتشقَّقوا

    لأنهم مِن ناركم
    أقوى ومنكم أصعَقُ

    * * *

    لا بأس أن تتمزَّقوا
    غيظاً، فلن يتمزَّقوا

    لأنهم تفجَّروا
    كالسّيل كي يتدفَّقوا

    وللحريق أسفروا
    كي ينضجوا ويسمُقوا

    * * *

    قلتم ستسحقونهم
    كيف أبَوا أن يُسحقوا؟

    أحجارهم غير التي
    إذا ارتمت تُطقطِقُ

    أما ترونها على
    أكفِّهم تُحملقُ

    وكالأكفِّ تنتوي
    وكالقلوب تخفُقُ

    وكالشتاء تنهمي
    وكالرَّبيع تعبُقُ

    للثغها بلاغةٌ
    كأهلها – ومنطقُ

    تكرُّ مِن بنانهم
    كما يكرُّ الفيلقُ

    أهدى من القطا إلى
    أهدافها وأسبَقُ

    زرق النُّيوب رشقٍها
    مِن المنايا أرشقُ

    * * *

    ماذا ترون؟ خبِّروا
    (شامير) كيف أَحدقوا

    كيف تلت أحجارهم
    أمر الحِمى وطبَّقوا

    كيف تعملق الحصى
    لأنهم تعملقوا

    في المستحيل أوغَلوا
    بِبُعده تعلَّقوا

    الضفّة الآن غدت
    تلهو بمن تَفوَّقوا

    لأنها فاقت بلا
    دعوى، وهم تشدَّقوا

    * * *

    الخارقون هل درَوا
    بأنهم تخرَّقوا؟

    وأنّهم مِن الأُلى
    يضايقون أضيَقُ

    وأنهم قتلى، وإن
    أخفَوا، وإن تبندقوا

    * * *

    قالت قطاع غزّةٍ:
    أنا هنا فأخفقوا

    فكذَّبوا ما شاهدوا
    وصدَّقوا ما استروَقوا

    وعزَّزوا كي يُفزعوا
    فأيُّ بيتٍ أقلقوا؟

    القوّة الأطغى على
    أقوى الطغاة أوبَقُ

    لأن باب السرِّ في
    وجه الغرور مُغلَقُ

    * * *

    الثائرون ورَّدوا
    وعد الحِمى وزنبَقوا

    وصدَّقوا لأنَّهُ
    مِن كل وعدٍ أصدَقُ

    * * *

    ثاروا، غضبتم، ما الذي
    حققتمو وحقَّقوا؟

    أرهبتمو وقاوموا
    أخْمَدتمو تألَّقوا

    أمطرتمو كي يَنبتوا
    وأمطروا، كي تَغرقوا

    جدتم لظىً لتسلبوا
    هَمَوا دماً كي يُغدقوا

    لكي يُروُّوا تُربةً
    مِن قلبها ترقرقوا

    لأنهم مِن عشقها
    للموتِ عنها أعشَقُ

    * * *

    على اسمها تبرعموا
    وباسمها تفتَّقوا

    وفوقها تعنقدوا
    وتحتها تعتَّقوا

    وأغصنَت أجيالُهم
    منها وفيها أعرقوا

    مِن التواريخ أتَوا
    مِن الجذور أورَقوا

    منهم إليهم أقبلوا
    مِن حيث غابوا أشرقوا

    * * *

    يا من سرقتم موطناً
    لقد أبى أن تسرِقوا

    قولوا لمن رمى بكم
    أحجارَه أن يأرقُوا

    قولوا لقد آن لهم
    عليكَمُ أن يُشفقوا

    وأصدقوا أحباركم
    كيف انمحى ما لفَّقوا

    عام 1988م

  • 287 حقيقة حال

    ديوان رواغ المصابيح >  حقيقة حال

    تسكتُ اليلةُ العجوزُ وتُرغي
    كانقلابٍ ينوي القيام ويُلغي

    أي أمرٍ تبغي؟ تشمُّ أموراً
    لا تراها، ولاترى كيف تبغي

    بعض إنصاتها يراوغ بعضاً
    فتناغي حيناً، وحيناً تنغِّي

    مِن وراء الوجوم تهذي ويبدو
    أن شيئاً يهذي لها وهي تُصغي

    * * *

    إيه تلك الكتوم قولي لماذا
    لا تنامين؟ كيف والنار نَسغي

    سوف أغشى الوغى الكمِينةَ فيها
    أخبريني يا تلك، من أين أُوغي؟

    خِلتُ أني ولغت فيكِ قليلاً
    فدعيني أشمُّ آثار ولغي

    كلُّهم أغْلقوا بوجهي، خذيني
    لا تقولي – كما يقولون – (فُرغي)

    لا تقولي طَفرتُ أورمت بغياً
    لا أرى طافراً ولا مَن يُبغّي

    إمنحيني قوىً على السِّر، تدري
    ألقُوى تنفخ الجبان وتُطغى

    ما تطلَّبتُ مدفعاً كي تخافي
    إن توغلتُ فيكِ – مِن شرِّ نزغي

    * * *

    قد تُلاقي الذي أُواريه لدغاً
    وترى لادغي وتسمع لدغي

    أنت عنّي تحسُّر ما ليس عندي
    وتُسمِّي صفير أُذنيكَ مضغي

    تلتظي هذه النجوم بقلبي
    وتراها عِقدِي وألوان صَبغي

    بل وتدعو (بنات نعشٍ) قذالي
    و(سُهيلاً) فمي و(كِيوان) صَدغي

    * * *

    القناديل تطبخ الطِّين تحتي
    ونجومي تُجيد سلخي ودبغي

    أضلعي كاسها وتِبغُ رؤاها
    والحصى والغبار كأسي وتبغي

    * * *

    أين تثوي حقيقة الحال، قولي
    كل شكلٍ زريبةٌ لا تُثغّي؟

    ما الذي تلثغين، هل ذاك ردٌّ
    يا أخا (سيبويه) دعني ولثغي
    * * *

    أين فارقت يا سُرى نصف ظهري
    أين ضيَّعْت عَظم ساقي ورسَغي؟!

    سرتُ صمغيَّة الحشا والحواشي
    والثواني ممطوطةٌ مثل صَمغي

    * * *

    يا الذين اكتفوا بدمغ الليالي
    ليتكم تُحسنون تلفيق دمغي

    هل أنا نابغيَّةٌ؟ ذاك جَدّى
    مَن يُريني نبوغه كي يُنَبغي!

    آن لي أن أعيد صوغ قواكم
    حَسَناً بعدما تعيدون صَوغي

    عام 1987م

  • 288 عليق وفيقة

    ديوان رواغ المصابيح >  عليق وفيقة

    عليق وفيقة

    مِن مقلتيِه تنجلي
    وبكل مرأىً يجتليها

    وكأنها غير التي
    في كل جارحةٍ يعيها

    حيناً يراها تقتفيَه

    يراه حِيناً يقتفيها

    * * *

    تُصبيهِ مثلَ حديقةٍ
    تدنو وتُقصي مُجتنيها
    ماذا تظنُّ بقصدهِ؟

    أيُحبُّها أم يشتهيها؟؟

    * * *

    ما ردُّها لو أننَّي
    أدنو قليلاً أحتويها

    وأقول: هاكِ محبَّتي
    عريانةً لا تجبهيها

    يا(وَفقُ) زخرفة النِّفاق
    مهارة لا أدَّعيها

    * * *

    في قلبهِ، وإليه يبلـ
    ـعها وطَوراً يحتسيها
    تُنهي بلاغة سِرِّها
    فيهِ، ومنها يبتديها

    * * *
    ماذا يثاقفها؟ وكيف؟
    وأي نجوى ترتضيها؟

    أيَّ الصِّفاتِ تروقُها؟
    أي المذاهب تنتقيها؟

    * * *

    أيقولُ أفديها كما
    قالوا، وأفدي مفتديها؟
    يبغي لها لغةً كعيـ
    ـنيها كبشرى تنتويها

    * * *

    خُضْ يا (عَليق) أجدَّ تجر
    بةٍ عسى أن تجتبيها

    قل: لا تقيسيها بأو
    لى قبل حكمكِ جرِّبيها

    * * *

    أتشكُّ فيمن جاء يمـ
    ـنحها ويبدو مجتديها؟

    كم راوغتها باسمها
    كتبٌ، وكانت تزدريها

    وتردُّ أبوال الشفا
    ه إلى حناجر حالبيها

    وتذبُّ مَن يُردُون عمَّـ
    ـتها على كتفي أخيها

    ما استجملَت أَلَق الخَوى
    مااستكرهت إلاّ الكريها

    * * *

    أجلى الحقائق عندها
    حبٌّ تراه ويرتئيها

    وتصوغهُ ليصوغَها
    ويهدَّها كي يبتنيها

    * * *
    هاتيك مِن شغفي بها
    أصبَحتُ أعشق ما يليه

    فأرى الكواكب فوقها
    يُرضعن مِن فمها بنيها

    أرى غبار خريفها
    متنزَّهاً يغري النَّزيها

    وأرى الطيور قصائدا
    ًمنها، إلى مَن يصطفيها

    أروائح (الكاذي) تشي
    بمرورها؟ أم ترتديها؟!

    * * *

    يا ديك حارتها أتسـ
    ـمعُ حُلْمها أم حالميها؟

    أيُّ الرؤى تغشى كرا
    ها؟ أيُّ سهدٍ يعتريها؟

    هل في قميص رقادها
    مَن تكتسيه ويكتسيها؟

    هل طلَّقَت (سعد السعود)
    لأن (أسْعَد) يستبيها؟

    أتشمُّ صبحاً تبتغيهِ
    أم صباحاً يبتغيها؟!

    بحشاك مِن أسرارها
    ما لا ترى، فمتى تريها؟

    * * *
    قل: خلف صوتكَ هِزَّةٌ

    تدعوكِ أن تستبدهيها

    أبقلب (وفقةَ) جذوةٌ
    تطفو وأخرى تقتنيها؟

    لا تنتهرني، إنّني
    مِن مرتجيك ومرتجيها

    ولأنني أحببتها
    أحببت كل الناس فيها

    * * *
    قبَّلتُ نِيَّتها َديْن
    ووجهها قلباً وَجِيها

    وخطبت طفلة طفلها
    فغدوت أخطَب مِن أبيها

    مِن آخرِ العشق ابتدأ
    تُ فبتُّ أوَّل عاشقيها

    وإلى عرائس حزنها
    مزَّقتُ برقعها الشويها

    * * *

    ودخلت حرقَتها التي
    تَهدي وتُنضج مصطليها

    عاقرت طعم التّيه فيـ
    ـها واستحبَّت أن أتيها

    * * *

    تستسفهين تطرّفي؟
    بل خِفتُ لائمكَ السفيها

    مِن طبع كل نبيهةٍ
    أن تحضن العشق النَّبيها

    نجل المغامرة ابنُها
    وأبو الخطورة مِن ذويها

    ما وزنُها ما لم ترَ
    مَن تتَّقيه ويتَّقيها

    أسَمِعتَ (وفْقةَ) يا (عَليق)؟
    ألستُ أحنى مُنطقيها؟

    كانت تقول ومَسمعي
    مُغمىً بضجَّةِ ُسمعيها

    والآن معجم قلبها
    قلبي، دمي مِن قارئيها

    * * *

    أُوَّاه كم شبَّهتُها
    ومتى وجدت لها شبيها؟

    أوَ ليس فقه غرامها
    أعيا المنجِّم والفقيها!

    عام 1987م

  • 289 بطاقة إلى عيد أول العام

    ديوان رواغ المصابيح >  بطاقة إلى عيد أول العام

    أيَا فصل عدوى السلامْ
    أصافَى الخصام الخصامْ؟

    أعدوى ضرام الوغى
    كعدوى انطفاء الضرامْ؟

    أذاك التعادي، تَرى
    هو الأصل، أم ذا الوئامْ؟

    أجب يا مُنادي، ولو
    بسخرَّية الإِبتسامْ

    * * *
    أآخى الرصاص الكرى؟
    متى كان يهوى المنامْ؟

    أيُمسي لهيب القُوى
    غصوناً تغنِّي الغمامْ؟

    أصامَت حلوق اللظى؟
    وهل تستلذُّ الصيامْ؟

    وهل كان ترسانةٍ
    خَبَت واستحالت رُغامْ؟

    فيزكو الصِّبا في الثرى
    وفي الجوِّ يصبو اليمامْ

    وتصفو الثواني، فلا
    يخاف الأنام الأنامْ

    * * *
    وهل يستحيل الورى
    ملائكةً أو حَمامْ؟

    أتفنى السجايا التي
    تناسلن مِن قبل سامْ؟

    أليس الصواريخ، مِن
    سلالات ذاك الحُسامْ؟

    * * *
    أيا عام هل ينمحي
    بشهرين مليون عامْ؟

    ترى كل فوضى انتهت
    فكم عمر فوضى النظامْ؟

    * * *
    لماذا التقصِّي، ألا
    تمرُّ مرور الكرامْ

    لأني هوىً ينتمي
    إلى قلب موج الزحامْ

    ومَن أنت؟ دع مَن أنا
    وسل لون هذا (الحزامْ)؟

    سؤالي حنين الحَشا
    وبعض السؤال اتهامْ

    هل النَّثُّ عيبُ الندى؟
    أصَمت القبور احتشامْ؟

    أما لغموض الأسى
    بأخفى المعاني غرامْ؟

    * * *
    لماذا الْتوَينا الْتفِتْ
    إلى موضع الإِهتمامْ؟

    على أي حالٍ جرت
    أمورٌ وراء الأكامْ

    وقالوا: وِفاقٌ جرى
    وعمَّ النُّفور انسجامْ

    وقالوا: شَدا نخبهم
    وأبكى المُدام المُدامْ

    وماقيل: كم أرخصوا
    شعوباً وأغلَوا طعامْ

    * * *
    سمعتُ هناك الصدى
    ولملمتُ بعض الحطامْ

    وسافرتُ مِن قصر ذا
    إلى قصر ذاك الهُمامْ

    ومِن كوخ نجل الطَّوى
    إلى مكتب ابن الحرامْ

    ومِن قمِّةٍ مِن دمٍ
    إلى قمةٍ مِن عظامْ

    ومِن عرس هذا الغُثا
    إلى عيد ذاك الرُّكامْ

    أُلاقي سقوطاً، يلي
    سقوطاً يسمّى قيامْ

    * * *
    وقيل انتهى ما ابتدا
    وشاخ الزمان الغلامْ

    ورنّ التزامٌ، بلا
    سؤالٍ عن الإِلتزامْ

    ودبَّ مساءُ المُنى
    يجرُّ صباح الكلامْ

    وفي كل ليلٍ سناً
    وفي كل صبحٍ ظلامْ

    * * *
    وبين الضحى والدُّجى
    زمانان مِن لا انتظامْ

    فآنٌ هو المرتجى
    وآنٌ خلاف المرامْ

    ويومٌ يرى خلفَهُ
    ويومٌ يرود الأمامْ

    * * *
    أيا عام ما اسم الذي
    أتى؟ ما أزاح اللثامْ

    أشمُّ ابتداءً يشي
    ببدأين بعد الختامْ

    يناير 1989م

  • 290 صحفي ووجه من التاريخ

    ديوان رواغ المصابيح >  صحفي ووجه من التاريخ

    كيف انبثقتَ؟ أذاهبٌ أم جائي؟
    هذي الفجاءةُ فوق وهم الرائي

    مِن جذر أيَّة كرمةٍ أورقتَ لي
    أشرقت لي مِن أي نجمٍ ناءِ؟

    أضنيتُ بحثاً عنك كل دقيقةٍ
    وكخطرة الذكرى أضأتَ إزائي

    * * *
    أحملت تسعة أعصرٍ وسبقتني؟
    هأنت قُدامي وكنت ورائي

    ألأِننا أفنى مِن الموتى هنا
    لاقيتني أحيا مِن الأحياء؟

    مِن أين جئتَ؟ لِمَ سكتَّ؟ لأنني
    ما جئتُ بل أنتَ اخترعت لقائي

    هذا سنا عينيك يحرق جبهتي
    أتريد يا هذا الفتى إطفائي؟

    * * *
    أهلاً حللت، أتلك أول زورةٍ؟
    شرَّفتنا يا أكرم النزلاءِ

    ماذا تلاحظ؟ خدشتين بمئزري
    وأحسُّ في ألِفي غرابةَ يائي

    قدَّت إزارك بقَّتان وقملةٌ
    ضيف العزيز أحقُّ بالإِغراء

    أأقول أين نزلت؟ هذا مطلعي
    تلك الروابي جُبَّتي وردائي

    أُنظر هناك ترى السماء عمامتي
    وعيون أطفال الشعوب سمائي

    * * *
    أرأيت أقطاب الوزارة؟ أين مِن
    دُور الحكومة ربوةُ الحكماءِ؟

    قصر الثقافة زرتَهُ، أمَدارُها
    قصرٌ يُرى أم داخل الأعضاءِ؟

    قل لي عن الأوضاع، رأيك واضحاً-
    مِن أيِّ وضعٍ غيَّرتْ آرائي!

    * * *
    مَن أنت يا هذا الذي حاصرتني؟
    مندوب تغطيةٍ أراك غِطائي

    ماذا تغطِّي فوق جلدك غابةٌ؟
    لكننَّي أعرى مِن الصحراءِ

    أسعى لتغطية البنوك وأنثني
    أحصي قروشي، لا تفي بعشائي

    وأمدُّ بالأخبار أخرى لا يشي
    خاءٌ بفجر نبوءتي ومسائي

    أأتيتُ كي أُبديك مِن أقصى الحَشا؟
    أم جئت أنت محاولاً إبدائي؟

    * * *
    هل أنت جيميُّ الوظيفة؟ بل أنا
    مِن عكس مَن تعني لأني حائي

    فَلمَ خنقت بمنخَرَيك تنفُّسي
    ودخلت إبطي من شقوق حذائي؟

    ومضغتَ رائحة “الحزام” ولونَهُ
    وركبتَ ثرثرتي إلى إصغائي

    ومِن الجبين إلى المبال قرأتَ ما
    تحت الغلاف، مفسِّراً أجزائي

    * * *
    ما بال قربي منك صار تقرُّباً
    أأنا زقاقيٌّ وأنت علائي؟

    أو ما تملَّيت الحواري كلها؟
    يومضن في عينيَّ مِن أحشائي

    * * *
    أتريد أُحيي منك موت جريدتي
    وأزفُّ معجزةَ إلى قُرَّائي؟

    سأقول ما (العنقاءُ) لغو خُرافةٍ
    أمسيت أطبخ بيضة (العنقاءِ)

    * * *
    بيني وبينك أُلفةٌ غيبيَّةٌ
    ومحبةٌ محفوفةٌ بتناءِ

    في ذروة التأريخ شِمتُك شاعراً
    وأشمُّ فيك اليوم وجه روائي

    في (العسجد المسبوك لُحتَ مؤرخاً
    (السَّيف عندك أصدق الأنباءِ)

    ناديت في (صفة الجزيرة) شاكياً
    (ياإخوتي ريق الحبيب دَوائي)

    * * *
    مَن خِلتني؟ (بكر بن مرداسٍ) وَمن
    بكرٌ؟ تسمّى الشَّاعر الصنعائي

    ما شأنهُ في الكوكب النائي؟ وهل
    (موسى بن يحيى) ما يزال هوائي؟

    أزَعمتني (الحسن بن هاني)؟ حزنُهُ
    حزني وماصهباؤه صهبائي

    أنَمى إلى (الرازي) المجالسُ فارعوى؟
    هذا أرسطيٌّ وذا خنسائي

    وهل (المؤيد) في المجالس نائحٌ؟
    ما كان رشديّاً ولا سينائي

    أيفجّر (ابن المرتضى)بحراً إلى
    هذا؟ أعَصْرُ القاذفات شتائي؟

    * * *
    صوَّرتني ضيفاً، وطيفاً خِلتني
    يا صاحبي ثنَّيت غير ثُنائي

    ألَديك أسئلةٌ لهنّ مخالبٌ؟
    ألَديك أجوبةٌ كقلب فدائي؟

    أخشى تراني – يا فلان – مُخرِّباً
    ماذا تخرِّب؟ أين أين بِنائي؟

    * * *
    هل أنت مِن شفق (الزُّواحي)جمرةٌ؟
    مِن وردتيه، ونسغُه مِن مائي

    أترى (مذيخرةً) نَبَت أم (مسْوَراً)
    ذا (سيبويهيٌّ) وذاك (كِسائي)

    * * *
    ألآن استسميك؟ أدري أنني
    فردٌ أتدري أنت كم أسمائي؟

    لا شيء يستدعي السؤال عن اسمهِ
    ما لم يكن جزءاً مِن الأشياء

    يبدو لِظنِّي كنت تُدعى (حاتماً)
    يبدو، ولكن غير ذاك الطائي

    * * *
    هل كنت ذا لقَبٍ؟ أمالك كنيةٌ؟
    أومَا وشت بحقيقتي سيمائي؟

    أأقول (شبوِيٌّ)؟ ستهمس ربما
    وتقول: يبدو لو أقول (ثلائي)

    * * *
    ما أثقل الأعباء عندك يا أبي؟
    أن لا أنوءَ بأثقل الأعباء

    معنى وجودي أن أُعاني تاركاً
    أثراً يشعُ وأن أحسَّ عنائي

    هل عصرُنا غير العصور؟ ظننتُهُ
    كل الزمان مُخاتلٌ ومُرائي

    ما قلت لي مَن أنت يا شيخ النُّهى
    أي اللغات أدلُّ مِن إيمائي؟

    * * *
    حسَناً حصدتُ الآن أنضج موسمٍ
    ما اسم الذي أغنى فمي وإنائي؟

    أأقول نجمٌ، والنجوم جميعها
    عيناهُ وهو إضاءةُ الأضواءِ؟

    هل أحفر العنوان؟ هذي رحلةٌ
    في (سندباد) البَرِّ والأجواءِ

    ذا لا يؤدي، سوف أزعم أنَّني
    شافهتُ شيخ المذهب (الأحسائي)

    أسْرَيت بي يا شوق في ذاك الذي
    أصبحتُ فيه وما انتهى إسرائي

    ما اسم الذي حاورت؟ قل يا وجهَهُ
    أأنا اكتشفتُك أم كشفتُ غبائي؟

    عام 1978م

  • 291 في حضرة العيد

    ديوان رواغ المصابيح >  في حضرة العيد

    يقولون جئتَ ف ماذا جرى؟
    وماذا تجلّىوماذا اعترى؟

    أتدري لماذا تبول عليك
    قصور الإذاعات والأوبرا؟

    تراك الأغاني جديد الشروق
    فأي جديد مفيدٍ تَرى؟

    تزيد البيوت، السجون، القبور
    فهل زاد شبراً أديمُ الثرى؟

    وهذي البهارج هل بينها
    وبين المسرّات أدنى العُرى؟

    * * *

    أليس المآسي بأظلافهنَّ
    وسمنَ الأساطير والأشهرا؟

    فتلك صبت يوم طوفان نوح
    وذي أذبلَت في الصبا حمِيرا

    وهذي شوت (كربلا)، بنتُها
    على (الزنج) صبّت لظىً أغبرا

    ومَن أصبحت (أورشليم) ارتدت
    سواها وكان اسمها (خيبرا)

    * * *

    أشبن الدهور وماشبن، كيف
    نضوج الوبال الذي أدهرا؟

    رمين هنا وهنا بالغزاةِ
    وجرّحن بالشُّرَّد المهجرا

    تغايرن مثل فصول السنين
    وأشبهن في الزرقة الأبحرا

    * * *

    فهذي دخانيةٌ، أختها
    جليديَّةٌ تلبسُ الأسمرا

    وتلك اسمها النفط، هذي الجفاف
    وتيك اسمها السِّيخ والكُنترا

    وأخرى بلا اسمٍ وأخرى بلا
    صفاتٍ، وموصوفةٌ لا تُرى

    * * *

    فياعيد أين هلال الشعوب
    لماذا انطفا قبل أن يُقمِرا؟

    أخِلت زمان الغزاة انقضى؟
    فهذا الهشيم الذي أثمرا

    برغمي حسا الأطلسيُّ الخليج
    ولصَّت عيون المها (بربرا)

    * * *

    وهذي القناديل هل تستبيك
    أليس دجاها عليها افترى؟

    أتسألُها عن سهاد الرصاص
    ومِن أين يسري وكيف انبرى؟

    ولا تدَّريه رعاة النجوم
    لمأتاه مِن حيث لا يُدَّرى

    لقد كان (غارُ حرىً) مأمناً
    فأمسى الردى ينبري مِن حُرى

    وهذي الإضاءات لا تهتدي
    وتَهدي المسدس والخنجرا

    * * *

    فياعيد مَن عبَّأ الضوء موتاً
    ودسَّ بآباطه العسكرا؟

    وعلَّمه أن يحيل المرور
    ندىً أسوَداً وحصىً أحمرا

    ولم يكنس القتل أضنى البيوت؟
    أمِنها يسمِّنُ رمل العرا؟

    * * *

    أيفتيك هذا السنى كم رأى
    يقين الضحايا وفيها امترى

    أما تجتلي كل برقٍ يفرُّ
    مِن الرعد مِن قبل أن يُمطرا؟

    إذا لم تشاهد ظلام الضيا
    زريّاً، فأيكما المُزدرا؟

    * * *

    هل الأرض غير التي زرت أمس؟
    أطارت بحورٌ وماجت ذُرى؟

    أتسمع أبواق هذا وذاك
    تزفُّ على الريح قيء الهُرا؟

    أما كان للريح كل الفضا
    فمن ذا احتواها ومَن ذا اكترا؟

    * * *

    أنا ضيفك الآن ماذا دهاك
    وأنسى محيّاك خصب القِرى؟

    تريد أُهنِّي بك العالمَينْ
    وأرجو لك السُّكْر والسُّكَّرا

    وأحدوا إلى كل ملهىً خطاك
    وأسترقص الليل والسمَّرا

    وهل أنت تعرف ماذا حملت
    فيدري المغني بما بَشَّرا؟

    * * *

    يرى السُّوقُ طالعَك (المشتري)
    فكم باع لحماًوماذا اشترى؟

    دعوا ذاك نجمي، ولكن متى
    أمَن كان يدري طوى ما درى؟

    * * *

    وهل أنت غيرُك في كل عامٍ
    أبدَّلْتَ في السير أو في السُّرى؟

    ترى جئت أم عدت؟ قد أنتحي
    أماماً وانتهج القهقرى

    تُحنّي بماء الحديث القديمَ
    وتَرقَعُ بالمقبل المُدبرا

    * * *

    لماذا تعود ولاينثني
    إلى العُمْر أموات هذا الورى؟

    فيرجع (أخيَلْ) يحث الخيول
    إلى قلب (يافا) و(انكلترا)

    فقد أَفرَخ الرُّوم عشرين روماً
    وقد تُفرخ الكثرةُ الأكثرا

    ويرتدُّ (عمرو بن معدي) يذود
    (ضباع الغلا) عن (ليوث الشَّرى)

    يصيح: أرى (نخعَاً) مثلما
    عهدتُ ولا ألمح (الأشترا)

    ويجري على إثره (ذو القروح)
    بمكنون رحلته مُخبرا

    إلى القبر مِن سجن “روما” خرجتُ
    ظفرت بموتين مِن قيصرا

    فهل ذاك (دمّون) يا صاحبي؟
    أنشكو إليه لكي نُعذرا؟

    ويشدو: قفانبك، تسعى البيوت
    إليه وتستنفر الأقبُرا

    فينساح (عبد يغوثٍ) يعبُّ
    نشيد الرواعي سناً أخضرا

    ويستخبر (القات) عن دارهِ
    وعن حال أغنامه (الصعترا)

    ويصدع في (حضرموت) الرِّدا
    ويحتزُّ في (حجَّةَ) المئزرا
    * * *

    أيغريك يا عيد ركض القصيد
    وأن يتبع الشاعر الأشعرا؟

    وهل تستجيد إذا غاب (قَسٌّ)
    أتى (باقِلٌ) يركب المِنبرا؟

    * * *

    لماذا ترى وجه هذا الزمان
    كما يقرأ الأعمش الدفترا؟

    أيعييك عصرٌ يقولون أنت
    مخضت لأيامه الأعصرا؟

    * * *

    أتأمل أن ينثني ذات يومٍ
    (عكاظٌ) وعشاق (وادي القُرى)؟

    فيصبو (نزارٌ) إلى (عَزَّةٍ)
    ويُصبي (وفا وجديَ) (الشنفرى)

    ويمتد سوقٌ بلا أزمةٍ
    ويأتي الصعيد الذي أصحرا

    فتلقى العصور التي جُبتها
    وماشِمت حوليك مستعمِرا

    * * *

    ألا تحلم الليل كالكادحين
    وتلقى ضحىً عكس رؤيا الكرى؟

    سكتَّ لماذا ، لسقم الكلام
    أو ان السؤال عليك اجترا؟

    لعلمي بأن الخطير المخيف
    يحثُّ على نفسه الأخطرا

    عام 1988م

  • 292 مرآة السوافي

    ديوان رواغ المصابيح >  مرآة السوافي

    كي ترتوي تعطّشي
    وفيك عنكِ فتِّشي

    عن ذاتك الأقوى وعن
    كل شذىً بها يشي

    عن فكرةٍ فلِّيةٍ
    وعن خيالٍ مشمشي

    وعن كتابٍ قبل أن
    تؤلِّفيه وشوشي

    وجوِّدي نسيجَهُ

    مِن قبل أن تزركشي

    ومِن غلافه إلى
    غلافه تجبيَّشي

    * * *

    والغي دماغَكِ الذي
    بتمرتين ينتشي

    وبالقبور ينتخي
    وبالفراغ يحتشي

    فيُركب الأعمى الذي
    فيهِ قَذالَ الأعمشِ

    وينصب الجحش على
    ظهر الجواد الأبرشِ

    لأنه الجحش الذي
    يريد أن تَتَجَيحَشِي

    مَن يُبتلى يُعدي ومَن
    يرشو فسوف يرتشي

    * * *

    يا تلك توشكين مِن
    ذكرى البلى أن تُجهشي

    لا بأس أن تتصوَّفي
    بدون أن تتدروشي

    * * *

    أتنفشين أقْبرُاً
    ترجوك ألاّ تنفشي

    لا تخدشي سكونها
    قالت سُدىً أن تُخدشي

    ولتُنبشي منابعاً
    قال انتظارها: انبشي

    هل صاح عادٌ: هندمي
    ولادتي ونقِّشي؟

    مَن رستموك مثل مَن
    نادوك أن تتنيجشي

    مَن قحطنوك مثل مَن
    أغروكِ أن تتقريشي

    (سواسوا) الكل كما
    أوصتكِ (بنت المقدشي)

    المقطري كالمعمري
    والباجلي كالمحبشي

    * * *

    إلى تلاقيكِ ارحلي
    ومِن نواكِ استوحشي

    ومازجي عرس اللقا
    وقبِّلي وجمِّشي

    * * *

    يا هذه كي تُصبحي
    تأهَّبي مِن العشي

    وكالنُّجوم حدِّقي
    واسرِي إلى أن تُغبشي

    * * *

    كي تدهشي وجه الضحى
    إيّاكِ أن تَندهشي

    كي تُذهليهِ ورِّدي
    خدودهُ ونمِّشي

    لا تُنعشي أزهى ضُحىً
    مِن قبل أن تنتعشي

    * * *

    تخشَين ماذا؟ أوغلي
    في الهول كي لا تختشي

    طُولي فمن تخشينهُ
    يمتد كي تنكمشي

    كي لا تخافي باطشاً
    بضَعفِ نفسك ابطشي

    كي تكبري على الردَّى
    بوكرِه تحرَّشي

    * * *

    تأبين أن تُضرِّسي
    مَن عضَّ أو أن تَخمشي

    هذا رقيٌّ إنما
    صونيكِ مِن أن تُنهَشي

    فمن يراك نعجةً
    يخاف أن تتكيبشي

    كُفّي الوحوش قبل أن
    يحين أن تتوحَّشي

    * * *

    هناك عِيشي طلقةً
    وعايشي وعيِّشي

    وباليمام رحِّبي
    وللحَمام فرِّشي

    * * *

    رِدّي لكل جانحٍ
    رياشه وريِّشي

    وكالرَّبيع أورقي
    وغرِّدي وعشِّشي

    وكالغمام أغدقي
    وكالكروم عرِّشي

    * * *

    على العواصف اشمخي
    وللنَّسيم ارتعشي

    وأرِّخيك بالشذى
    وبالبروق رقِّشي

    عام 1989م

  • 293 رابع الصبح

    ديوان رواغ المصابيح >  رابع الصبح

    كان منهم، لهم يغنّي ويخطُبْ
    وإلى مَن يُهمُّه الأمر يكتبْ

    لا يقول الذي يقال، يوافي
    بالفُجاءات مِن وراء التحسُّبْ

    وينادي: يا صعب أدري لماذا
    أنت صعبٌ.. فكيف يا سهل تصعُبْ؟

    * * *

    يا تواريخ يحصبَ أي سِفرٍ
    يخبر اليوم: أين أطفال يحصُبْ

    يا قناديل هل لكن التهابٌ
    كاشفٌ، أم تظاهرٌ بالتلهُّبْ؟
    * * *

    يسأل الشمس ما حنين الروابي
    يسأل المَرج كيف يصبو ويشحُبْ

    ما دهى الرمل كيف ينساح ركضاً
    والينابيع، هل ترى كيف تنضُبْ!

    إن مَن أوثبوا جلود الصحاري
    نزعوا مِن حشَى المياه التوثُّبْ

    كان عصر الطغاة يُعطي ويُردي
    جاء عصر الغزاة يردي ويَسلُبْ

    * * *

    ما دعوه تقدماً أنراهُ،
    يا صحابي- تأرجحاً أم تذبذبْ؟

    طينةً ترتخي بجرّة ماءٍ
    وصخوراً في غمرة الماء تصلُبْ

    * * *

    كان منهم يرى ويُصغي إليهم
    كصبيٍّ يعي دروس التأدبْ

    في الأسامي يغوص خلف المُسمَّى
    أين يثوي ويستشير التَّلَقُّبْ

    يقرأ القلب حين يصعد وجهاً
    يصحَب الوجه حين في القلب يرسُبْ

    وإلى أغمض الحوادث يومي
    فيحسُّونها تخفُّ وترطُبْ

    * * *

    مثلهم يحرث التراب ولكن
    صوتُه من سريرة الورد يحلُبْ

    ويُغنّي: عندي ثُمالةُ قلبٍ:
    أي وادٍ فيه بقايا تحدُّبْ؟

    مثلهم يأكل (العصيد) ويجري
    بينهم كالغدير في الكل يسكبْ

    مثلهم ينظر النجوم، ولكن
    يتجلّى ما لا يرون ويثقُبْ

    ويشمُّ الرياح مثل سواهُ
    ويحييّ ريحاً مِن الريح تهربْ

    ويناجي غمامةً ما رأوها
    ويراها مِن هاجس البرق تقربْ

    * * *

    ينظر النبتة الصغيرة قلباً
    فيه سهلٌ سيستطيل ويرحُبْ

    ويُسمّي الرُّبى نثير جباهٍ
    عَرقَ الجُهد، نثّها في التَّصبُّبْ

    يسمع (الدِّمنة) التي شاخ فيها
    جدُّ (عادٍ) يشِبُّ فيها التَّشبُبْ
    * * *

    خلف هذا الذي يلوح سواهُ
    انظروا ما أشفّ نسج التأسلُبْ

    وادخلوا الشيخ مِن بَنان يديه
    وادخلوا القَسَّ مِن مسوح الترهُّبْ

    الأمور التي تسبِّب أخرى
    تسبق الناتجات عنها التَّسبُّبْ

    * * *

    فيقولون: كيف يدري ونعيا
    ليس ك(ابن الفقيه) يقضي ويحسُبْ

    إنه يفتح الثرى والثريّا
    مثلما يكسر الحروف وينصُبْ

    وهو يرقى منهم ويهمي إليهم
    ولهم يمتطي شعاب التَّشعُّبْ

    * * *

    يبصق اللافتات حين تُرائي
    فتغنِّي بحسنها وهي تندُبْ

    وتُحاكي مذياع (سعدٍ وقيسٍ)
    فتُوالي كالناعقين وتشجُبْ

    * * *

    ولذا يدخل الجذور سَؤولاً
    أي شيءٍ هناك يدنو ويعزُبْ؟

    ينثني عن أرومة التّين يروي
    وإلى صفرة البساتين يَنسُبْ

    وعن الصيف: كيف أغرسُ قلبي
    عِنَباً والخريف يُبديه (عُثربْ)

    ويبثُّ الذي تكنُّ الدَّوالي
    وعن الخوخ يستعيد التعتُّبْ

    * * *

    يعلن البدء وهو في السرِّ نبضٌ
    مثلما يعلن الربيعُ التأهُّبْ

    عندما تصبح العيون قلوباً
    مِن حنين ترى حضور التغيُّبْ

    * * *

    مقلتاه وحاجباه وفُوهُ
    كالعناوين في كتاب التقلُّبْ

    فإذا قال أعجب الكل قولاً
    وإذا لم يقل أثار التعجُّبْ

    وينادُونه إلى كل مُرٍّ
    وإذا أولموا ينادُون جُندُبْ

    * * *

    قل لذاك الذي أبى أن يُداجي
    إن عندي لكل داءٍ تَطبُّبْ

    من تقاوي وكلهم منك أقوى؟
    طالما أثمر الغلاب التغلُّبْ

    اجتنب – كالكثير – هذا، لماذا؟
    لا استراحوا ولا اطمأن التجنُّبْ

    ربما ألَّبوا عليك الدواهي
    فليكن، لا عدمت هذا التألُّبْ

    هل لديهم سوى جهاز التحرّي
    واغتيال النجوم، إلاّ التسيُّبْ

    * * *

    أنت يا صاحبي غريب النواحي
    ما تربّت غرابتي في التغرُّبْ

    واضحٌ عنك ما تعصَّبت يوماً
    ولهذا أغفلْتَ أهل التعصب

    كان فوضى فمذهبوهُ، تبيَّنْ
    هل لهم أي مذهبٍ أو تمذهُبْ؟

    * * *

    ما أراك اكتسبت غير المنايا
    هنَّ إلفي وراثةً أو تكسُّبْ

    أتراني نزحت عنهن حيناً
    بل يحاولنهنَّ عنك التَّحجُّبْ

    المنايا هُنَّ المنايا، عوارٍ
    أو كواسٍ مزوَّقات التَّنقُّبْ

    وسواءٌ هاجمن دون عيونٍ
    أو تعاقبن مِن عيون التَّعقُّبْ

    جرَّب البعض ما تخوض وتابوا
    عادة الطيب، غير جلب التَّطيُّبْ

    * * *

    كيف تستنبح العِدى وتُغنيِّ؟
    أي صوتٍ ولا وجوم التَّهيُّبْ

    أتظن السُّكوت يحمل وصفاً؟
    أيُسمّى تعادياً، أم تحبُّبْ؟

    أتَراني دنوت منك قليلاً
    للأماني قُربى تفوق التَّقرُّبْ

    * * *

    كان كالبحر لا ينام ولكن
    كان عكس البحور يحنو ويعذُبْ

    يتهادى جداولاً وقطوفاً
    ويُري شارِبِيه مغزى التَّشرُّبْ

    نصفُه مِن نواظر الكل يرنو
    نصفُه في جوانح الكل يغرُبْ

    * * *

    صار بيت البيوت، مقهى المقاهي
    ربما يمنعون فيه التَّحزُّبْ

    أو يقولون لست فرداً ولكن
    عالَمٌ مِن خطورة في تهذُّبْ

    فليقولوا، فما تنكَّب هولاً
    أو رأى الهول ينثني بالتَّنكُّبْ

    * * *

    إن نأى المستحيل عن قبضتيهِ
    فإلى بابه يحث التَّطلُّبْ

    رابع الصبح والدُّجى والتمادي
    قلبُهُ ثالث الأسى والترقُب

    يحمل العصر في يديه كتاباً
    وعليه فطريَّةُ الشيخ يعرُبْ

    عام 1988م

  • 294 المقياس

    ديوان رواغ المصابيح >  المقياس

    يا ذوي التِّيجان، يا أهلَ الرئاسةْ
    الملايين لكم، تَفنَى حماسهْ

    والأماني بحماكم تحتمي
    وإليكم تنتمي أُمُّ القداسهْ

    وجموع الشعب لاقت فيكمُ
    قادة النصر، وأبطال السياسهْ

    كان هذا ما روى إعلامُكُم
    هل ترى هذا الجماهيرُ المُداسهْ؟

    * * *

    جرِّبوا في الشعب شعبيتَكُم
    واخرجوا يوماً بلا أقوى حراسهْ

    إن هذا خير مقياسٍ لكم
    وعليه صحة الدعوى مُقاسهْ

    جرِّبوا كي تستبينوا مرّةً
    أين حكم الشعب مِن سوق النخاسهْ؟

    * * *

    غاية التغيير أن تستبدلوا
    مكتباً، أو (ماسةً) أخرى بماسهْ

    أن تصافوا مَن يعادي شعبكم
    مثل راجي الطهر في عين النجاسهْ

    أن تبيعوا موطناً كي تشترُوا
    صبغةً غربيةً ذات نفاسهْ

    * * *

    كم تملَّستم، فهل أجْدَتكمُ
    عند (واشنطنْ) تفانينُ الملاسهْ؟

    كيف تحميكم غُزاةٌ أنتمُ
    عندهم أهوَنُ مِن كيس الكُناسهْ

    * * *

    عجباً تحكون، مَن يَحرقْنَ في
    كل (ماخورٍ) لتزوير العناسهْ

    في السياسات انغمستم إنما
    حوَّلتكم طُحُلباً أُولى انغماسهْ

    كيف متّم بين ذيّاك وذا
    هل ورثم كلب (شَوْكان) و(راسهْ)

    * * *

    إنكم أعدى على أنفسكم
    مِن عِداكم، مِن شياطين الشراسهْ

    لا يقيكم قتلُ مَن (شقَّ العصا)
    لا، ولا وصف التحدّي بالخساسهْ

    * * *

    بيدي ألمس ما تخشونهُ
    صدّقوا هذا التعيس ابن التعاسهْ

    عندكم أجهزةٌ، أسلحةٌ
    عنده قلبٌ، وشيءٌ مِن فَراسهْ

    فانبذوا تحذيره إن شئتمُ
    أو أعيروا بعضه بعض الدراسهْ

    أو أذيبوهُ فهذا ما أتى
    حضرة الأسياد مِن باب الكياسهْ

    جاءكم مِن كل بيتٍ تاركاً
    للمداجين أساليب السلاسهْ

    عام 1987م

  • 295 أشواق

    ديوان رواغ المصابيح >  أشواق

    يا ريح في زنديك عَرفُ رفاقي
    أين التقيتِ بهم، وكيف أُلاقي؟

    مِن أين جئتِ الآن؟ نثَّ غموضُها
    شيئاً، وقالت مثلُه أشواقي

    لو تُفصحين، وخلتها قالت: غداً
    أو قهقهت كبراً مِن استنطاقي

    * * *

    ووقفْتُ أرقبها غداً فتراكضت
    أخرى لها رعدٌ بلا إبراق

    ولها أنوفٌ كالرُّبى وحوافرٌ
    ولها عيونٌ ما لهنَّ مآقِ

    هل تلك عَمّتُها؟ تلوح غريبةً
    فلها فمٌ خافٍ وشبه تراقِ؟

    * * *

    لِمَ لا أسائلها، فليس تطلُّبي
    سرّاً، ولا سرِّيةً أوراقي!

    ولعلها مثلي تُريد أحبّةً
    مِن نوعها وتحس مثل فِراقي

    ولعلها مغلولةٌ مثلي، ولا
    أدري لِشُغلي باحتمال وثاقي

    * * *

    يا بَعد نصف الليل، ليتك زورقي
    إِخرَس، لماذا لا تقول: نياقي!

    أرجوك لا تسخر، جرحت بداوتي
    هل أنت يا ابن الرقمتين رُواقي؟

    ما دمت تعرف(برجسون) و(مزدكاً)
    لا أنت مِن طُرُقي ولا طُرّاقي

    لا فُضّ فوك، أما الصواب تقول لي:
    لا أنت مِن غسَقي ولا إغساقي

    لمّا اتهمتُك بالتمغرب واهماً
    أوهمتني – يا صاح – باستشراقي

    * * *

    ما قلت لي: أرأيت صحبي؟ مَن أرى؟ لبسَت
    قرون الكهربا آماقي

    مثلي، بما يدعونها حرِّيتي
    وتطوُّري زادوا مِن استرقاقي

    * * *

    يا صبح أين رأيت آخر مرّةٍ
    صحبي؟ طواهم مَن طوى إشراقي

    كانوا أحبائي أزور بيوتَهم
    فنأوا، وفي أجفانهم أحداقي

    صِف ما وَهبتُ.. بكل شيءٍ أزمةٌ
    إلآّ النفاق.. أتستزيد نِفاقي؟

    أشْبهتَ مَن أبغي، أشمُّ بمنكبي
    وإذا نظرت أرى بكعبَي ساقي

    لا أجتدي منك السنا، ما دام لي
    شوقٌ فسوف يُضيئني إحراقي

    * * *

    يا رازقي(السِّرِّ) هل تشكو الظما؟
    أشكو إلى مَن عنده أرزاقي

    هل أنت ترقب آتياً أو عائداً؟
    ما صرتُ جاسوساً، أبَت أخلاقي

    أأذوق عنقوداً؟ تناولْ، إنما
    قبل التَّذوق لا تُشد بمذاقي

    قل: لا تَذُقني، قلتَ ما لا أنتوي
    ما المنع مِن حقي ولا استحقاقي

    أحسنتَ دور المنع تسقيني دمي
    وتقول: قبِّلْني على إغداقي

    * * *

    يا رازقي، أتقول لي: ما اسم الذي
    سمّاك؟ تهوى الغوص في أعماقي

    ركِب النبيُّ إلى السماء براقهُ
    لِم لا أحثُّ إلى الجذور براقي؟

    دعني لكم أنسابكم، نسَبي إلى
    إشراق أثدائي على أنساقي

    * * *

    ما اسم الروابي تلك يا ألقَ الضحى؟
    مجلى عيوني فرحة استنشاقي

    أتلاحظ (الكاذي) يمدّ عبيرَهُ
    وأخالُهُ يحكي: دنا مُشتاقي

    يا غيمة (المحويت) حان تورُّدي
    لَمَحَت وقالت: ما ابتدا إيراقي

    لي يا ضحى (المحويت) فيكَ قصيدةٌ
    أخشى على شفتيك مِن سُرَّاقي

    سرقوك حتى أنت يا هذا الضحى
    ومشوا، عليهم مئزري ونطاقي

    * * *

    عند (الطويلةِ) مسمعٌ، قل يا أخي
    عند القصيرة لا أريد زُراقي

    ما لي مِن اسمي ما يدل ولا أرى
    وضّاعة الأسماء مِن حُذَّاقي

    أتريد سمعي، أم فمي؟ لو أشتكي
    قالوا: خرجتُ اليوم عن أطواقي

    ها أنتِ أرشقُ، والَتفتُّ مخافةً
    مِن أن يكذِّب حجمُها استرشاقي

    * * *

    كتبوا كتابكِ يا (حبابَةُ) فاهنئي:
    قبل الزواج تلوا كتاب طلاقي

    مِيلي إلى العرس الذي لا ينتهي
    أدركت ما تعني، فدع إقلاقي

    إن تهدئي تَنمي، وإن تتدفقي
    فكحاجة الطُّوفانِ للإِغراقِ

    * * *

    ما بال ذا التلِّ الوقور يفوح لي
    أيقول نابت عن فمي أعباقي

    أأقول مَن تُدعى، أجاب أنا الذي
    كانت صخوري أدرعي وعتاقي

    يدعونني: ظَهر الحمار وما اعتلَوا
    ظَهري ولا استمع السميع نَهاقي

    دقَّت جُنوبي يا بن أُمّي، إنما
    أعراقٍها في القعر غير دِقاقِ

    أترى جباهي ذبن مثل الملح أمْ
    جافينني أم غبن في أعناقي؟

    يا عم لا تقنط، ستُنبت أرؤساً
    أعلى، وأخرجُ مِن مدار محاقي

    * * *

    يا (بيت بَوْس)أكنتَ خدّاً أم فماً؟
    غَفَل المسمّي أن يذوق عِناقي

    قيل: (المسمّي كاد يخلق) نادراً
    ما (بَوْس) مخلوقي ولاخلاّقي

    ولِمَ تُسفسط؟ إنني في مقوَلي
    حرٌّ وحرٌّ أنت في استحماقي

    لاأشتهي الإِعتاق مِن أسر الهوى
    وأريد مِن غير الهوى إعتاقي

    هَمَّتك تسميتي فجئت مسائلاً
    فوشى بوجه مهمتي إطراقي

    أمنجِّمٌ يا أنت، أم بحّاثةٌ؟
    تلك الطباق السبع لسن طباقي

    * * *

    أرأيت لي أهلاً أقاتل عنهمُ
    وجَعَ السكوت، لأنَّهم إنطاقي

    هم نفس أهلي، كيف جئتَ مُعابثاً
    باسمي، فخلتك تنتوي إحناقي

    أزهقتني بالتسميات وفجأةً
    أخرجتني مني ومِن إزهاقي

    مِن أين جئت وأين تذهب؟ هكذا
    أنساق يقتاد الحنينُ مساقي

    * * *

    أأقول يا شفق الغروب رأيتهم؟
    ستجيبني مستعطياً إشفاقي

    هاأنت دامٍ دون أيّةِ طلقةٍ
    فإلى سؤالي ينثني إطلاقي

    أُمسائلٌ عن سرِّ كل خبيئةٍ؟
    إمّا شقيٌّ أنت، أو مُتشاقِ

    * * *

    يا (تكس) أضناني المسير أأمتطي؟
    ما مهنتي؟ أتخاف مِن إرهاقي

    أمري إلى الإِسفلت أو قلَقِ الحصى
    وإلى المرور، وأمرهِ سَوّاقي

    هذا الطريق مجرّحٌ مثلي، ولو
    يشكو لشقّت صدره أبواقي

    لم لا تُعاطفُه؟ لأني فوقَهُ
    أشقى وفوقي رُكَّبي وسباقي

    الفوق مثل التَّحت، أجري لا أرى
    ما نوع أتحاتي وكم أفواقي

    * * *

    أنْهيت يا (تكس) التَّحدث، وابتدت
    بيني وبيني حادثات شقاقي

    قلبي (يمانيٌّ) وقلبا قلبهِ
    ذيَّاك (قُمِّيٌّ) وذاك (عراقي)

    * * *

    يا (باب موسى) عم صباحاً، قل دُجىً
    مَن ذا يُحَيِّيني على إملاقي؟

    أي المواسي كنتَ مِن أبوابهِ؟
    لا موسويّاً كنت لا إسحاقي

    فمن الذي سمّاك؟ فُتَّاحٌ مضوا
    وأتت فتوحٌ أحكمت إغلاقي

    قالوا: تزوّجَتِ (اللُّحيَّةُ) (معبقا)
    لو أنها (وزِفٌ) أتت أسواقي

    يا صاحبي أخفقتُ فيما أبتغي
    وعليّ ألا أرتضي إخفاقي

    * * *

    ماذا أقولُ، حكى هناك وههنا
    ما لا يبوحُ تسامرٌ وتساقِ

    يا موطنَ الأحباب كنتُ وكنتَ لي
    فإذا ذهبتَ، فأي شيءٍ باقِ

    في القلب وعدٌ منك كيف أبثُّهُ
    يا خوف إحجامي وشوق لحاقي

    وأظنُّه أصغى إليَّ وقال لي:
    بعد الغياب تكاثرت عُشَّاقي

    * * *

    بُشرَّتُ أنك قادمٌ فتضاحكتْ
    أمّي وجارتنا، فكن مصداقي

    لم يبق لي غير انتظارك طالعاً
    أو نازلاً مِن أيّ نجمٍ راقِ

    أو فاجئاً مِن خلف وهْم تصوُّري أو
    بازغاً كالقمح مِن أعراقي

    أو عاصفاً، أو سارباً، أو كاسحاً
    كالسيل لا يثنيه سورٌ واقِ

    أو سابحاً، أو راكباً طيّارةً
    أو ماشياً كالعاشق الأفّاقِ

    أو آتياً مِن آخر الآتي على
    كتفيك منه حدائقٌ وسواقِ

    مِن أي ناحيةٍ بأية هيئةٍ
    أقبِل، وقل بعد الفراق تلاقِ
    عام 1988م

  • 296 زوجة البلد

    ديوان رواغ المصابيح >  زوجة البلد

    قيل كانت بلا ولَدْ
    زوجها وابنُها البلَدْ

    برتقاليةُ الرؤى
    زعفرانية الخَلَدْ

    وحقيقية المُنى
    وخرافية الجَلَدْ
    * * *

    قلبها كل شارع
    كل بيت، بلا عَددْ

    كل مقهىً لها هوىً
    كل سجنٍ لها كَمَدْ

    * * *

    عندها كل بقعة
    ياسمينيةُ الجسدْ

    كل عرقوب نعجةٍ
    عُنُقٌ أبلجُ الغيَدْ

    كل غصنٍ مدينةٌ
    أمَّمَتْ صنعة الرغَدْ

    * * *

    تُرضع الزهر والحصى
    تعشق الليل والرَّأدْ

    تنفح السائر القُوى
    وتُغنّى لمن قعَدْ

    وتُداني الذي دنا
    وتنادي الذي ابتعدْ

    تسلخ الساعد الذي
    يجتدي غيره المدَدْ

    أهلُها كل واحدٍ
    وهي تبدو بلا أحدْ

    * * *

    وحدها تحمل الرُّبى
    و(صحارَى بني أسدْ)

    وكجدَّات أمِّها
    تُحسن النفث في العُقَدْ

    وتداوي (شهارةً)
    بِرُقَى كاهن (الجنَدْ)

    تسرد الرمل قصةً
    تمنح الصخر معتقَدْ

    تكتب العشق مثلما
    يكتب الشاطئَ الزبَدْ

    تمخض الأمس كي ترى
    مِن رُبَى اليوم بعد غدْ

    * * *

    حولها مِن حنينها
    أنجمٌ تقرأُ الأبَدْ

    فوقَها مِن عظامها
    جُبَّةٌ تشبه البَردَْ

    وعلى نصف رأسها
    نصف تلٍّ مِن الرَّمدْ

    قلبُها كالكتاب في
    كفّها يُرشِد الرَّشَدْ

    * * *

    أي مجنىً درى على
    أي أسرارها انعقَدْ

    أي برقٍ وشى بها
    تحت أردانها اتَّقَدْ

    صغتُ من حكمتي لها
    رُقْيةً تمنع الحسَدْ

    أترى عنفوانها
    مِن جديدٍ إلى أجَدْ

    بادَ مَن بعدِ بعدِها
    وهي في أوَّلِ الأمَدْ

    عام 1989م

  • 297 العصر الثاني..في هذا العصر

    ديوان رواغ المصابيح >  العصر الثاني..في هذا العصر

    عنّت وولّت كهذا الوقت أوقاتُ
    جاءت كأسيادها، ماتت كما ماتوا

    كانت لهم، مثلما كانوا لها فمضت
    كما مضوا، لا هنا أضحت، ولاباتوا

    فكيف أغربَ هذا الوقت مات وما
    ولّى؟ وأسياده ماتوا ومافاتوا

    في كل قصرٍ لعينيه وأعينهم
    يموج عرسٌ وأعيادٌ وعاداتُ

    * * *

    لا الموت يمحو، لكي يرقى النقيض ولا
    لأي حيٍّ مِن التمويت إفلاتُ

    عن ما سيأتي، أتى الماضي وما اعتذرَتْ
    إلاّ (سفينة نوحٍ) والمروءاتُ

    عن يوم (حِطّين) جاء الطين يجرفهُ
    إلى (فلسطين) طيّانٌ وزفّاتُ

    حتى المنايا اللواتي خاض عنترةٌ
    رجعن أصبى، لهنَّ الآن مُوضاتُ

    ماذا تطوّر غير المُسخ يا زمني؟
    مَن قال هذا؟ سكوت الكل إسكاتُ

    إن كانَ مَن زوّروا أنيابهم قُبَلاً
    يعطون حُبّاً، فما هنَّ العداواتُ؟

    * * *

    مَن أنت يا ذاك؟ مَن لو شمَّ مِن (كنَدا)
    (صنعا) لأورق فيه البُنُّ والقاتُ

    وراء سرب القوافي صاعدٌ جبَلاً
    وفي البحور الخليليات حوّاتُ

    حتماً، إلى أي إرهاب ستنسبُهُ
    فأنت – يا خالق الإرهاب – نعّاتُ

    * * *

    يا طفل حَربَين تبدو زوج ثالثةٍ
    لها بإبطيك خالاتُ وعمّاتُ

    ألا ترى القتل يُدمي كل ثانية
    كما تُؤدّى على الدرب التحيّاتُ!

    لا شيء يسمع أذنيه ولافمهُ
    ولا خرافاتك العجلى خرافاتُ

    مَن أنت يا ذاك؟ شطرٌ من مُعلّقةٍ
    وما اسم بيتيك؟ حمّالٌ وزيّاتُ

    أَسْكِتْ قوافيك، حاورني مُرامزةً
    لهنَّ يا صاحبي مثلي مُهمّاتُ

    ..لو كنتَ أرشق من أنّات ساقية
    كفتك عن جمرة القلب الإشاراتُ

    (سيزيف) ناء بصخر واحد وأنا
    صخري جدارٌ حديديٌ وغاباتُ

    (السندباد) امتطى ظهر البحور، أنا
    تأتي وتمضي على صدري المحيطاتُ

    فهل توازي ملايين الرموز قوىً
    الأرض في قبضتيها والسماواتُ؟

    * * *

    – أرى عليك (حزاماً) صُنع والدتي
    لَكُنَّ عقم الحشا يا قرمطياتُ

    لأن أمّك أنبوبٌ صرختَ أسىً
    ليَ الرئاسات قَيناتٌ وزوجاتُ

    لا أنت أغلى، ولا هنَّ الأجَدُّ صباً
    أزرى بنات الهوى، هنَّ الرئاساتُ

    ما كل ما تبتغيه تشتريه، ولا
    تقوى على كل ما تخشاه قُوّاتُ

    لا تنخدع لست يا عصر النجوم، سوى
    بنكٍ إلى حلقهِ تنصبُّ قاراتُ

    * * *

    إذا تداعت بلادٌ، أنت ذو مهَلٍ
    وإن توهَّجَ شعبٌ أنت بغّاتُ

    فكم تُصلّي بباكستان مِن جُمعٍ
    وأنت في (القدس) و(السمُّوع) سبّاتُ

    في (نيكرجوا) رصاصيٌ هوىً ويداً
    في (أم درمان) سبّاكٌ وفتّاتُ

    في (الكرخ) سعدون، في (طُوس) ابن فاطمةٍ
    وإن وجدتَ كويتياً فكوّاتُ

    لأن قلبك ذو بوّابتين، لهُ
    في القصر قصران: غلاّمٌ وبنّاتُ

    * * *

    الآدمية في كفيك محبرةٌ
    وأنت في قبضة الآلات آلاتُ

    لأن بيتك مُبيضَّ السواد، فَمِن
    أقصى حناياك تنهلُّ الزّرافاتُ

    * * *

    كل الرؤوس التي تطغى هنا وهنا
    لهنّ من غابة (الدولار) نَحّاتُ

    يُعلي على كل شعبٍ باسمه شبحاً
    له مِن الوحل أذيالٌ وهالاتُ

    هذي المجنزرة الحُبلى مؤمَّرة
    وذلك المدفع المكبوت كبّاتُ

    * * *

    هل بيتُك الأرض كل الأرض يا شجَني
    وكل بيتٍ من الأجداث أبياتُ؟

    للأرض بيتاً وقبراً أخلَصت مِقَتي
    فمِن جناها الأعادي والحبيباتُ

    مِن أجل مَن تصطفي تهوَى مُعاكِسَهُ؟
    للقلب قلبان: عَشّاقٌ ومَقّاتُ

    أغلوطةٌ تلك؟ بل هذا يقوم بذا
    إن التجاوز وصّالٌ وبتّاتُ

    * * *

    تقول ماذا؟ وعصر المخبرين على
    باب التوابيت: طبّاخٌ، وتوّاتُ

    والهدنةُ النّحس حربٌ نصف قائمةٍ
    بأمر مَن تخدع الحبر العباراتُ؟

    * * *

    هذي الغرابةُ عيناها كَسُرّتها
    مِن المسامير، لا هاكم ولاهاتوا

    ترى ملاستَها في ظل قامتها
    كما تحدِّق في المرآةِ مرآةُ

    ومالها سرُّ موجودٍ ولا عدمٍ
    ولا تنازعَها نفيٌ وإثباتُ

    لأنها انسربَت مِن كل نافذةٍ
    وما درى أي بابٍ رجعة “النّاتو”

    على الجباه العوالي وقع أرجُلِها
    ومالتوقيعها في السمع أصواتُ

    لأنها اليوم تبدي وجه عاشقةٍ
    مثل الحنان الذي يبديه إشماتُ

    * * *

    مَن ذا يراها، ويدري ما يرى، ولها
    تحت التّنكُر إبحارٌ وإخباتُ؟

    كانت تجيء كتمساحٍ على (حَمَلٍ)
    واليوم يرقص فيها (الذئب) و(الشاةُ)

    فيشرب القتلُ والمقتولُ نخب هوىً
    للقتل بالحب – قبل الوقت – ميقاتُ

    * * *

    فهل سيُمسي حصان الأمس طائرةً
    لأن أصل (حَمام) اليوم (حيّاتُ)؟

    هذي التغايير، تشكيل الشكول، إلى
    أخرى، وتذييت ما تفني به الذّاتُ

    يا دُورَهُم، يا بيوت الشعب، يا وطني
    هل هذه الخِرَق الرخوات راياتُ؟

    وياتمادي رُبَى الإِسمنت قل لهمو
    مستعمر اليوم: نبّاشٌ وسَمّاتُ

    في كل منبت عنقود وسنبلةٍ
    تعلو بيوتٌ، وما فيهن بَيّاتُ

    * * *

    هذا التَّصحُر يستغشي الرؤوس، فما
    لهن نبضٌ، وهل للنقع إنباتُ

    مِن أين يومض برقٌ والغمام حصىً
    وموعد السنوات الصفر إسناتُ؟

    ما أنجبَت غير (عبدالناصر) امرأةٌ
    ولا اقتفى (الحسن البصري) قنّاتُ

    هل أمة الفرد أعطت قهرها سبباً
    فألّهت فوقها السوط العمالاتُ؟

    * * *

    قالوا (زمانٌ رديءٌ) باسم مَن شمخَت
    وعسكرت حولها الموت الرَّداءاتُ؟

    لو لم تكونوا، لما كانت، إذا احتشدَت
    أقوى الرَّداءاتِ، قل أين الإجاداتُ؟

    * * *

    هذا الرماد الذي ينساق منتفخاً
    شتّان، في الجمع في التجميع أشتاتُ

    قالوا: لكل زمان آيةٌ، صدقوا
    هذي الشظايا لهذا العصر آياتُ

    كيف اقشعرّيت يا قلب التراب؟ متى
    تحكي؟ أما أزغبَت فيك البداياتُ؟

    في هجس عينيك ماضي كل آتيةٍ
    قلها: أما أينعَت فيك الرواياتُ؟

    * * *

    هل يركض الشوق كي يلقى السؤال فماً
    وكي تلوح لوجه البدء غاياتُ؟

    يا (سيبويه) انزوت في القلب صامتةً
    مليون حتّى، أصَمْتُ القلب إنصاتُ؟

    عام 1989م

  • 298 المنتمي إليه

    ديوان رواغ المصابيح >  المنتمي إليه

    يُحب الناس كل الناس
    حب الأهل والجيرهْ

    يسمّي الحب قلب القلب
    يعطي البغض تفسيرهْ

    يشمُّ تبسُّم الزاري
    ومغزى كل تكشيرهْ

    ويعيي كل خبيّرٍ
    ويلهي كل خِبّيرهْ

    * * *

    ويغضب أن يرى الإنسان
    محكوماً بتسعيرهْ

    بأوضاع كسكّيرٍ..
    يمزُّ بلحم سِكّيرهْ

    * * *

    ويسأل (ظُبر خِيرة) لِمَ
    غدا ظُبْراً بلا خِيرهْ؟

    و(همداناً) بلا همٍّ…
    و(غمداناً) بلا دِيرهْ

    * * *

    ولمْ أضحى (وزير الزير)
    باب حكومة الزِّيرهْ؟

    بكفّيه مُدى تعوي
    وفي شفتيه تكبيرهْ

    له أُمَيَّةٌ تبدو..
    مِن المذياع نحريرهْ

    لأن كيانه ورقٌ
    مِن الدولار واللّيرهْ

    * * *

    لماذا كلهم هذا
    أروح العصر غِرّيرهْ؟

    يسائل وهو يدري ما
    نوايا كل تأشيرهْ

    * * *

    نُصول حمِاه تحملهُ
    ويحمل وحده نيِرهْ

    وتسكنه بيوت الشعب
    مِن (صَبيا) إلى (صِيرهْ)

    ويسكن كِسرتين أدق
    مِن قارورة البيرهْ

    لهذا في الجهاز لهُ
    ملفٌ سيّء السيرهْ

    يُنادَى عندهم كلباً
    وحيناً جرو خنزيرهْ

    لأن بكفّه سِفراً
    وفي عينيه تبشيرهْ

    * * *

    ولا خالٌ له في القصر
    لا أختٌ سِكَرْتيرهْ

    ولا ذخرٌ هناك ولا
    له أمرٌ ولا مِيرهْ

    لأن قياده في كفَّ
    نفسٍ غير شرّيرهْ

    عام 1988م

  • 299 قراء النجوم

    ديوان رواغ المصابيح >  قراء النجوم

    ما الذي أخبرواوماذا أضافوا؟
    بشّروا تارةً، وحيناً أخافوا

    سمعوا ضجّةً، وشاموا حشوداً
    ما دروا أهْوَ مأتمٌ أم زِفافُ؟

    أنصتوا والقلوب تعزف خفقاً
    حدَّقوا والعيون فيها انخطافُ

    أوغلوا في النجوم حدساً ولمساً
    هالهم عاصفٌ وراع انجرافُ

    خلف هذا السنا رُبىً مِن صفيحٍ
    خلف ذاك الضباب أيدٍ لطافُ

    شاق ما لا يرون لَمْحَ رؤاهم
    واعتراهم مما يرون ارتجافُ

    * * *
    زعموا (الدلو) صار بئراً وقالوا:
    مسبح (الحوت) غاص فيه الجفافُ

    لاحظوا (الزهُرة) التي ألمستهم
    وجْنتيها لها نِيوبٌ رهافُ

    وإلى(العقرب) استدلُّوا بأفعى
    ذات ريشٍ لها عليها التفافُ

    * * *
    هل رأوا أرؤس الظروف اللواتي
    فوقنا أينعَت وحان القطافُ؟

    أين منهى العشر العجاف؟ قريبٌ
    إنما قد يليه خمسٌ عجافُ

    قيل فيهن يحتسي كلُّ نهرٍ
    ركبتَيِه وتقشعرُّ الضِّفافُ

    * * *
    ثم تأتي تسعٌ سمانٌ ولكن
    بين (سعدين) حولهن اختلافُ

    هل (لعنسٍ) بين (السَّماكين) نونٌ؟
    مثلما يكسر المُضافَ المُضافُ

    هل ستُمُسي المسدسات، غصوناً
    ويٌغنيّ للغارف الإغترافُ؟

    * * *
    ما الذي أخبروا عن (الثور)؟ قالوا
    حاذَروهُ، وحول قرنيه طافوا

    وعن (الجدي) صار تيساً عجوزاً
    عافهم مذ رأوه شيخاً وعافوا

    هل تجلَّوا (بنات نعشٍ) كعاباً؟
    أخبروا عندهن يحلو العفافُ

    * * *
    وأضافوا رأوا (عطاردَ) سِفراً
    بات يتلو ما في حشاهُ الغلافُ

    كان يقتادهم من السين راءٌ
    ويليه حاءٌ نأى عنه قافُ

    * * *
    إتّئد يا سُرى، هنا شبه ومضٍ
    وانتبه يا دجى، هناك هتافُ

    هل تَدانَى (المرّيخ) منّا قليلاً؟
    هل حدا (المشتري) إلينا انعطافُ؟

    * * *
    “أيها المُنكح الثريّا سُهيلاً:
    أي نجم له بأخرى انشغافُ؟

    تلك كانت، والعشق كان لديها
    مثلما كان للرماح الثِّقافُ

    * * *
    يا صحابي: نجوم هذي العشايا
    ناكساتٌ كما تدبُّ الخرافُ

    غائماتٌ وماعلى الأفق غيمٌ
    كاسفاتٌ وما اعتراها انكسافُ

    * * *
    يا تُرى أيها مسيخات أرضٍ
    ذاك (قيسٌ) ذا (عامرٌ) ذا (مَناف)

    قيل كانوا إن حاربوا أي باغٍ
    لا يُصافي حيّاً، رأوا أن يُصافُوا

    ويقال انتموا إلى الشعب صبحاً
    ومساءً عن منهج الشعب حافُوا

    ويقولون: بعضهم شبه بعضٍ
    مثلما يُشبه الزُّعافَ الزُّعافُ

    وهل المَسخ؛ كن فكان؟ تأدَّب
    إنما أمره – كما قيل كافُ

    * * *
    هل أسَى ذي النجوم أعقاب إثمٍ؟
    ينمحي بالعقوبة الإقترابُ

    خالَها (الشنفرَى) كؤوسَ سُلافٍ
    يوم كانت تموج فيها السُّلافُ

    مِن شعاف الجبال كان يراها
    يوم كانت لكل رعنٍ شعافُ

    * * *
    المدارات أخطأت أم أخلَّت
    نهجها؟ أم أدارها الإعتسافُ؟

    أم رُقيُّ الثرى إليها تفاعَى
    فرقى في عروقها الإنتزافُ

    * * *
    شاهدوا الأنجم الوضيئات بادت
    وخلا للمقنّعات المطافُ

    :فوقنا دونها من الشك سقفٌ
    وعليها من الشظايا لحافُ

    مَن بِنا أقلق المجرَّات بحثاً؟
    هدّنا – يا مَقاذفُ – الإنقذافُ

    أكَّدوا ما رأوا، كهذي الليالي
    منذ شبُّوا حتى على “القرن” نافوا

    * * *
    كيف تَفنى أقوى السواري، وتلهو
    في مداراتها نجومٌ ضعافُ؟

    ما لها في كتابنا اسمٌ وبُرجٌ
    لا ولا بينها هناك إئتلافُ

    * * *
    ألأِهلِ السما – وهم مِن ضياءٍ
    كبني الأرض جَيئةٌ وانصرافُ؟

    فأجابوا: قلنا ل(كيوان) هذا
    فلوى نصفَ حاجبَيه انحرافُ

    وانزوى بين ظهره وحشاهُ
    مثلما يوهن القصيدَ الزُّحافُ

    وسألنا (السُّهَى) فردَّ عطاساً
    ورمى أنفه إلينا الرُّعافُ

    * * *
    مثلنا تمرض النجوم؟ أجابوا:
    قيل أدنى ما تشتكي الإِنخسافُ

    ولها كالورى هوىً وقلوبٌ
    فلماذا لا ترتجي وتخافُ؟

    هل لها مثلُنا بطونٌ وأيدٍ
    ولأشياخها ذقونٌ كثافُ؟

    ربما عندها بطونٌ خوافٍ
    وأكفُّ مخبآتٌ نظافُ

    نحن قُرّاء قلبها، ما عنانا
    وصف أشكالها ولا الإتِّصافُ

    * * *
    هل أرتكم حَظَّ (الجراف) و(مورٍ)؟
    أين (مُورٌ) قالت وأين (الجرافُ)

    علَّ هذين بعض مرآة أمّي
    أسِمانٌ رُباهما أم نحافُ؟

    ما عرفتم عنها، فهلاّ اعترفتم؟
    ليس يمحو القصور مِنّا اعترافُ

    أهي تدري ما سوف يأتي؟ لديكم
    عينُ حدسٍ وفي سناها اكتشافُ

    * * *
    كي تروا ما يلي، تباروا إليهِ
    فهو أبطا، والتائقون خفافُ

    ما لكم والنجوم، للأرض فيكم
    أعينٌ للشموس فيها اصطيافُ

    عام 1989م

  • 300 المهمة

    ديوان رواغ المصابيح >  المهمة

    الصمت أخوَنُ شيءٍ
    في الفترة المدلهمَّهْ

    أيام تجري الطواري
    كالمُخْوِلات المُعِمَّهْ

    وحين لا صوت إلاّ
    للخِسَّةِ المُطلخمّهْ

    * * *

    هنالك الشعر أهدى
    إلى صميم المُلمَّهْ

    إلى حشَا أي ضوءٍ
    فيه الغواشي المُصِمَّهْ

    إلى النجوم اللواتي
    تعمَى إزاء المُغِمَّهْ

    * * *

    مِن مطلع البدء يرنو
    إلى قرار التّتمَّهْ

    مِن وقدة الشوق يرقى
    كالنجمة المُستحمّهْ

    فيمنح الوقت طعماً
    والناس ريحاً مُشِمَّهْ

    * * *

    ما دام في القلب همٌّ
    فللقوافي مُهِمهْ

    تجيء مِن كل نبضٍ
    تثور قبل المُطِمَّهْ

    لكل صبحٍ تُغنّي
    تحمي الغصون المُكِمَّهْ

    تأتمُّ بالشعب حتى
    يُرى إمام الأئمَّهْ

    إليه منهى النواهي
    لقبضتيه الأزِمَّهْ

    1988م

  • 301 بيت.. في آخر الليل

    ديوان رواغ المصابيح >  بيت.. في آخر الليل

    كما يدُقّ الشوقُ بابَ السؤالْ
    يجول في بال الجدار احتمالْ

    يلاحِظ الوقتَ غريبَ المدَى
    وللسواري عن سُراها اشتغالْ

    نوافذ الجيران ملفوتةٌ
    وهذه الأشجار عُوج الظِّلالْ

    * * *

    يصيح صمتاً: كل شيءٍ لهُ
    دخائلٌ مثلُ احتدام القتالْ

    بين الكرى والسهد أطروحةٌ
    بين الممرات الغوافي سجالْ

    حتى الحطام المرتمي، ربما
    يُسِرُّ فنّاً مِن جديد النضالْ

    أخالُهُ يدعو أيا قامتي
    قُومي، ويوُمي – يا حنيني – تعالْ

    لِمَ لا يبوح الليل عن غَورِه
    هل للأماسي كالصبايا دلالْ؟

    * * *

    للريح طعمٌ في حلوق الحصى
    وللحواري بالنجوم اكتحالْ

    هذي الشبابيك لها صبوةٌ
    إلى وصالٍ غير ذاك الصوالْ

    تلك القناديل وإن راوغَت
    لها غموضٌ واضح الانفعالْ

    * * *

    ماذا اعتراني؟ لا أنا عامرٌ
    ولستُ قفراً.. ما اسم هذا المآلْ؟

    يُعبِّر الأحلام، تبدو لَهُ
    ذوات أنيابٍ وأيدٍ طوالْ

    لها أُنوفٌ مثلُ ريش “القطا”
    وأعينٌ مثلُ مدبِّ النِّمالْ

    أقدامُها مثل صدى أنَّةٍ
    أكتافُها مثل جسوم البغالْ

    * * *

    يحسّ رأسين على جيدهِ
    وحيث كان الحلق، حَلّ القَذالْ

    يلفُّ زنديهِ على صدره
    يُصغي كمسلول يقاوي السُّعالْ

    تلوذ ساقاهُ بأضلاعه
    يَهرُّ في إبطيه، وكرُ اغتيالْ

    أمطار هذا الوقت ضوئيّةٌ
    يا سقف هذا وابلٌ أم وبالْ؟

    * * *

    يا آخر اللّيلةِ.. هل هذه
    بدايةٌ ثانيةٌ، أم زوالْ؟!

    عليكَ وجهٌ ما رأت مثلَهُ
    أمُّ الثريا، أو جدودُ الهلالْ

    أذاك برقٌ يحتسي نجمةً
    يا سقف – أم في مقلتيَّ اختلالْ؟

    * * *

    يُكذّبُ السقفُ الكُوى، يغتلي
    بين الزوايا والزوايا جدالْ

    تصبو الحشايا مثلَما ينبري
    سيلٌ يُلَوّي ركبتَيه المسالْ

    * * *

    يا ركن مَن أعطى الزوايا فَماً
    مَن علّم الأحجار قالت وقالْ؟

    هذي الحشايا كبنات الهوى
    هذي المرايا غرّهنَّ الصِّقالْ

    هذي الأواني أعلنَت أنها
    تريد مِن أشكالها الارتحالْ

    لكل رَفٍّ نزوةٌ طفلةٌ
    ولهفةٌ أصبى إلى الانتقالْ

    حتى الغسيل الممتطي مَنْكِبي
    يحمرُّ يُذكي شهوةً في الحبال

    فوقي كركض الجنِّ، تحتي صدىً
    كفرحة الأطيار بالإخضلالْ

    هذا الذي – يا ركنُ – سمَّيتُهُ
    بيتي أنا، أضحى له بيت خالْ

    * * *

    يا سقفُ هذا الغيث لمّا همَى
    أقام كل البيت شِبهَ احتفالْ

    تحوّلت طوباتُهُ أغصناً
    تشكّلَت كلُ حصاةٍ غزالْ

    هل خالَ غيثاً؟ واهمٌ إنَّهُ
    نجمٌ عجوزٌ آخرَ الليل بالْ

    * * *

    ما لاح في ذا البيت؟ ماذا انمحى؟
    لديه سرٌّ مستحيل المنالْ

    مِن تحت رجليه علَت غيمةٌ
    فاخضوضرت عيناه كالبرتقالْ

    * * *

    قل غير ما شاهدت يجري ولو
    ترى بطون السهل تعلو الجبالْ

    ما الوقت؟ كم أوصيتني لا أرى
    ألا تشمُّ الآن ريح اشتعالْ؟

    * * *

    تَحلُّ أمُّ الفجر أزرارَها
    كما يُحنّي البرقُ عشق التّلالْ

    كما يلاقي أمه نازحٌ
    أماته المذياع، تصحو (أزالْ)

    ترمي الثواني جمر أجفانِها
    كمن يرى قبل الأوان المُحالْ

    * * *

    يُقلِّبُ الدهليز أوراقَهُ
    كرأسماليٍّ، بلا رأس مالْ

    يقول لو أني ذرعتُ الدُّجى
    لَوْ لي (صُواعٌ) كي أكيل الرمالْ

    لو كُنتُ حيث السقف والسقف لو
    كان أنا، كَنتُ إله الريالْ

    * * *

    يا رُكن لا أدري هنا مِن هنا
    خلفي كقدّامي، يميني شمالْ

    وأنت كيف الحال يا صاحبي؟
    لم يبق عندي ما أُسمّيه حالْ

    هل تلك ما يدعون حتميَّةً؟
    كم كنت أخشى كل غينٍ ودالْ

    * * *

    ما طول هذا البيت كم عَرضَهَ؟
    تربَّعَت قاعاتهُ واستطالْ

    عناسةُ التأريخ في طينهِ
    تزوّجت فوراً جميع الرجالْ

    على نقيضَيه ارتقى كُلُّهُ
    مِن عِمَّة الأعلى إلى ذي السِّفالْ

    * * *

    أَكُلُّ أحشاءِ الثرى أَسفرت
    تريد مِن أوضارها الإغتسالْ؟

    أذاك بَدءٌ ما له أوّلٌ؟
    أم هذه شيخوخة الإعتدالْ؟

    مِن خارج التقويم جاء الذي
    ما اشمَّ ريّاهُ خيالُ الخيالْ

    عام 1986م

  • 302 فلان.. ابن أبيه

    ديوان رواغ المصابيح >  فلان.. ابن أبيه

    يظل يغنّي وهو أبكى مِن البُكا
    وماقيل أشكى أي عزفٍ ولااشتكى

    كأن له عشرين قلباً يهزُّها
    كما تمسح الريح الشروق المُمَسّكا

    يحس الأسى أكسى إذا كان صامتاً
    ويبدو له أعرى مِن السطح إن حكَى

    يذوب غناءً يهتك السرّ كي يُرى
    ويأبَى أساه أن يُطيع التهتكا

    لأن دموع الناس أضحت أليفةً
    يُغنِّي لغير الدمع، كي يخلعَ (الوِكَى)

    * * *

    يُقلِّبُ عن عيني (جهيمان) حائلاً
    وعن (عروة بن الورد) ينبش (فيلكا(

    وينسج مِن أطياف صِفّين (مالكاً)
    ومِن سرّة “الفسطاط” يستلّ (شربكا)

    يعيد الأُلى لم يعهدوا في عهودهم
    عصاً دولروها أو جبيناً تفرنكا

    لهذا يغنّي واجداً كل حفرةٍ
    بها ثائرٌ قد صارت الآن مسبكا

    * * *

    إذا اصطرعت فيه النقائض قادها
    لترقى وألْفَته لحالَيه أملكا

    فما اختلطت فيه الكواكب والحصى
    ولا اشتبهت فيه (لُوَندا) ب(لرنكا)

    ولا خال يوماً كل بيضاء بيضةً
    ولا ظن ليلاً كل خضراء (ليلكا)

    يمد الضحَى مِن وهجه، ينظر الدُّجَى
    لإِحراقه أدعَى إذا كان أحلكا

    * * *

    رأى مرّةً ثكلَى محا القتلُ زوجَها
    فزوّجها برقاً يرَى القتل مضحكا

    ويوماً رأى شيخاً يقاوي معسكراً
    فحوّله تلاًّ ثنى القصف مُنهَكا

    * * *

    ومرّ بِحُبلَى قال: هاتيه حاملاً
    لرجليه مِن رجليه مهداً ومسلكا

    وقال لأخرى: أنضجي فيكِ ركضَهُ
    فلا يستهلُّ الشوط إلاّ مُحنَّكا

    فقالت: غدا كالديك ينقر صائحاً
    ترى ملَّ نُضجاً؟ بل لأمرٍ تديَّكا

    * * *

    ووافى أباً كان يُلفِّق (زينباً)
    ب(سلمى) وقال الحبُّ يدعوكَ مُشركا

    أتحيي أبا الخطّاب مَن كان قلبُهُ
    ِنوقِ الحجازيات مرعىً ومبركا

    فقال: اوصني، قال: انقلبْ أنت زوجةً
    ورقِّعْ ب(ساموزا) (حسيناً) ليسمُكا

    * * *

    وعاد يغنّي خابزاً ثلث صوتِه
    طريقاً وثلثيه قصيداً مُحكَّكا

    يزف إلى وجه (المُزَلْبي) تحيةً
    بشوشاً ويشتُّم النضار المُشبّكا

    * * *

    ويستفسر السمّاك: كيف تَصيدُهُ
    وتبتاع فولاً بالذي بعت (ديركا(

    ترى ذلك السَّهران يُمسي على الطوى
    ويحرس بستاناً وقصراً مُبنّكا

    * * *

    فيشتفُّ ما خلف المصابيح والكُوى
    كما يقرأ الأبراج راعٍ تفيلكا

    وينصبُّ في جمهور (غزّة) ينتمي
    إليها، ويجتث الدخيل المُمَلَّكا

    * * *

    وفي غمرة العدوى تظاهر وحدَهُ
    وهاج كمن يرمي ب(تيوان) (دهلكا)

    فمسَّاه شرطيٌ وثان وثالثٌ
    أحالوا اليقينيات فيه تشكُّكا

    وقال: ضحايا يسلخون ضحيّةً
    ترى أيَّنا يا سوط للسرِّ أدركا

    وغاص يُغنّي في شوارع قلبه
    كما يفحص الطفل الكتابَ المُفكّكا

    * * *

    وقال لقبرٍ: هل ترى الموت واحداً؟
    أمُرْدي أخي أردى ثموداً ومزدكاً؟

    أما لاح موت اليوم جيلاً معاصراً
    ولكن على أشباح أسلافه اتكا

    لأن أبا نفطٍ – على كل مديةٍ
    وقارورةٍ في أي وكرٍ – تبرمكا

    إذن لست مثوى الصمت بل بيت ثائرٍ
    تنكَّر كي لا يعلموا كيف تكتكا

    وقال: افتني يا قبر، قال: اتّقد هوىً
    فمن لم يمت للشعب مات تأمرُكا

    ومرَّ يُغنّي مخبراً كل بقعةٍ
    هنا عالَمٌ مِن قعر ساقيكِ أوشكا

    * * *

    يحثُّ الربى: كي لا تموتي تفتُّتاً
    على الرمل موتي كالسواقي تحركا

    فقالت: تعلَّم أنت حسن تمسُّكي
    بأرضي، وأحسن بالسلاح التمسكا

    وألِّفْ كتاباً عن جبيني لترتقي
    ولحِّنْ سفوحي كي تُنير التَّصعلُكا

    لأن الغنى والجبن مثنىً كواحدٍ
    إذا أقدرَتهُ فرصةٌ بات أسفكا

    * * *

    وفي السوق لاقى الشعب يحصي نقودَهُ
    مراراً وكان السعر أعلى وأفتكا

    فقال: ترون السوق أغلى، برغمهِ
    سيرخص لوكنتم لما فيه أتركا

    أجابوا: أصبت الرأي صرنا بضاعةً
    فمن أي سوقٍ نشتري الصبر والذكا؟

    * * *

    ومرّ يغنّي يغزل الضوء والندى
    ويرجو بيوتات الصفيح التَّبَرُكا

    فقيل: ملاكٌ جاء مِن آخر السما
    وقيل: مِن الشيطان لكن تأملكا

    وقيل: له مِن جمرة البرق جبهةٌ
    وصوتٌ بعنقود الثريّا تمسوكا

    * * *

    مِن الناس إلاّ أنه ما انثنى ولا
    رأى القهقرى أنجَى ولا الوثب أهلكا

    ولا قال: أنهي إنما ظلّ يبتدي
    ويزكو، لأن الشعب في قلبه زكا

    عام 1988م

  • 303 حزبية.. ومخبرون

    ديوان رواغ المصابيح >  حزبية.. ومخبرون

    لا تخافي منهم، ولكن أفيقي
    صار منهم، مَن كان يُدعى صديقي

    ولماذا أخاف؟ أصبحَ منهم
    زوج أختي وعمتي وشقيقي

    وغدا مِن فريقهم نصف أُمّي،
    والذي كان كله مِن فريقي

    أنتِ محسودةٌ لديكِ اكتفاءٌ
    قل كفاني أني أُغَضُّ بريقي

    * * *
    خنقوا خط هاتفي مِن حشاهُ
    وتقصّوا زفيره وشهيقي

    أين بيت الذي يناديك؟ قلبي،
    لا يُسمَّى مُعلِّقي أو عليقي

    خمّنوا ما يقول نهدي لنهدي
    كيف يُفضي تشوُّقي لُمشيقي

    * * *
    ينعقون إن رأوا بكفّي كتاباً
    ويقولون لي: أغضُّ نعيقي

    ويشمُّون كالكلاب ممرّي
    ولهم مثلُها فضولٌ سليقي

    * * *
    حاولي فهمهم بِرقّة أختٍ
    بل أذيق اللظى المرير مُذيقي

    حبّذي بعض ما يرون، تَغابي،
    فالتغابي يُرضي الغباء الحقيقي

    * * *
    قلت يوماً أُحب شِعر (المعرّي)
    بلّغوا بي، أن المعرّي عشيقي

    وبأني أزورُه كل يومٍ
    وله ورشةٌ جوار (العريقي)

    وبأني في غرفتي أتَخَفّى
    تحت دعوى تساعلي أو صقيقي

    فيظنوني أُناطق شيئاً
    ويجيؤون لا يرون نطيقي

    واعتيادي قبل العصافير أصحو
    ومساءً يُمسي الكتاب لصيقي

    وبأني أأبى الزواج وأدعو
    خير أسياد إخوتي مِن رقيقي

    * * *
    واللواتي يزرنني (أم زيدٍ)
    و(منى المعفري) و(سلوى العذيقي)

    ما سمعنا، يقلن هذا وسيمٌ
    ذا أنيقٌ، أو ذاك غير أنيقِ

    * * *
    قلت يوماً: كان “امرؤ القيس”، صاحت
    عمّتي: كيف تمدحين طليقي؟

    باسم قيسٍ تهذين كل مساءٍ
    فوق ناري ستخبزين دقيقي

    إن ما تغسلين رجليكِ فيه
    ليس ماءً، هذا نزيف حريقي

    مَن تحبّين يا ابنة الحزب؟ أهوى
    قمراً عاشقاً وغصناً عقيقي

    * * *
    قد تقولين لا تطيقين لغواً
    مِن لغاهم، تعلَّمي أن تُطيقي

    المجاراة لا التّحدي، لماذا؟
    كيف أقوى إن لم أُغالبْ مُعيقي؟

    * * *
    مَن أؤاخي، لو ذبت لطفاً لقالوا
    إن سُمّي مُخَبَّأٌ في رحيقي

    لو تحوّلتُ فرخةَ ثعلبوني
    لو تضفدعت خبّروا عن نقيقي

    لو رأوني أُمسي حماراً لنادَوا
    خبراءً يترجمون نهيقي

    إنهم يقبضون تسعين ألفاً
    وأُلوفاً أخرى، ولو، لا تضيقي

    * * *
    رغم أنف الذي رماهم حِيالي
    ما ثنوني، ولن يسدّوا طريقي

    قالت اللُّجّة التي أركبتني
    أخطر العَوم: لن يموت غريقي

    قلتُ: إني أتيت أُوجد شيئاً
    وأُسَقّي برقي، وأُظمي بريقي

    وليكن بيتُنا بما فيه منهم
    لا تكن أنت بعضهم يا رفيقي

    عام 1989م

  • 304 تحقيق.. إلى الموتى والأجنة

    ديوان رواغ المصابيح >  تحقيق.. إلى الموتى والأجنة

    يا من تُدعى القرن العشرين
    الليل دمٌ واليوم طعينْ

    هل فيك عسى ومتى وإلى
    الوقت يحين وليس يحينْ؟

    الساعة تسأل أوّلها
    عن آخرها، والردّ كمينْ

    للظلمة أجبنةٌ شتّى
    والصبح يطلُّ بدون جبينْ

    أمصابيح الأغساق تَرى
    عينيّاً أم ترنو تخمينْ؟

    أرأتك “السَّهْر” ملاييناً
    من وزن (ابن السِّكيِّت) مِئينْ؟

    والشمس أشامت كم دَفنوا
    وكم الآتين إلى التدفينْ؟

    ***
    هل أنت خَليٌّ فوق أسىً
    أم أنت حزينٌ فوق حزينْ؟

    ولماذا هذي الارض غدت
    سجناً يجري، والكل سجين؟

    ولماذا العوسج لا يفنى
    ويموت النرجس والنّسرينْ؟

    ولِما الأبواق هنا وهنا
    كتراعف مليوني عرنينْ؟

    ولما لا يمكن منشودٌ
    وسوى المنشود له التّمكينْ؟

    ***
    أصِباً ما يجري أم خرَفٌ
    أبلغتَ التسع أم التسعينْ؟

    أم عَدُّ التقويمات كما
    يُحصي الشُهبَ الطفلُ المسكينْ؟

    ***
    في قلبك يا هذا شيءٌ
    لا يدعوه القاموس أنينْ

    لا ينظره الصاحي نبضاً
    لا يسمعه السكران رنينْ

    شيءٌ كتذكُّر مخمورٍ
    كبيانٍ ليس له تبيينْ

    كعجوز في فمه شوقٌ
    ويقول القافَ قُبيل الشّينْ

    * * *
    سنواتك حرقٌ أو غرقٌ
    وإذا اعتدلت فاقت تِشرينْ

    للحرب الأولى والأخرى
    أطفالٌ في سِنّ التّسنينْ

    مَنْ ذا تدعوه (تنّيناً)
    أمسى (فاراً) ذاك (التّنينْ)

    * * *

    أتظن (قِيرِنَادا) (زاباً)
    أخرى أم (ايرلندا) (حطّين)؟

    هل تُدني(تتشر)؟ مِن (أروى)
    أترى (ريجن) ك(صلاح الدينْ)؟

    هل مَنْ تمتد مدينتُهُ
    يدنو مِمنّ سبق التمدينْ؟

    يبدو مقياسُك آليّاً
    لا يدري الحُسْنَ مِن التَّحسينْ

    * * *

    لِمَ أنت سخيٌ شكلياً
    وبما خلف الأشكال ضنينْ؟

    هل بين لغاك ومعناها
    سورٌ أعلى مِن (سور الصِّينْ)

    * * *

    الأرض اليوم لظىً ألظى
    فيضان حديدٍ فوق عجينْ

    أهدافٌ يسكت قاصفُها
    وتجيد قنابلُه التَّلقينْ

    غازٌ محظورٌ دولياً
    وله الفوضى وله التَّقنينْ

    لِهبٌ يستدعي (ذاقارٍ)
    وحريقٌ يستعدي (صِفّينْ)

    ومَنْ الأزكى هذا أو ذا؟
    للقبح هنا وهنا تزيينْ

    طلقات تتلو مزموراً
    حجرٌ يتلو: (طه) و(التّينْ)

    (طروادةُ) (صيدا) أو (أكرا)
    لا الحصن يذود ولا التّحصينْ

    * * *

    والقتل السِّري يومياً
    كتعاطي “القات” أو التدخين

    روتينيّاً يمضي يأتي
    وطوارئه فوق الروُّتينْ

    يَسري ليلاً يغدو صبحاً
    يسطو خمساً، يعدو خمسينْ

    * * *

    ويعود مِن (الدهنا) حيناً
    أحياناً يأتي مِن (يبرينْ)

    أحياناً مِن (شرق الأقصى)
    أحياناً مِن (غربي برلينْ)

    ويُصلّي الجمعة في (طنطا)
    ويزور السبت (الأرجنتينْ)

    يحسو (الويسكي) في (هولندا)
    و(الزحلاوي) في (بيت الدينْ)

    يتغدّى في (صبيا) نجماً
    يتعشّى قمراً في (ذِيبينْ)

    * * *

    ريحيٌّ ليس له وطنٌ
    وله في كل حِمىً توطينْ

    قدماه في ساقي (رضوى)
    ويداه في إبطي (صِنّينْ)

    * * *

    وعليه أوسمةٌ ولهُ
    في كل مناسبة تثمينْ

    ولحضرته في لا وقتٍ
    وقتٌ للعزل وللتَّعيينْ

    وله أنيابٌ يبديها
    وله أنيابٌ للتخزينْ

    وأنامله ستّاً ستّاً
    وحلاقمهُ فوق السِّتينْ

    * * *

    يُردي باليمنى واليسرى
    يَرمي بالجوع وبالتَّسمينْ

    ويتوّج هذا أو هذا
    ويسوق الشعب إليه قطينْ

    ولِمَ الجاني أهنا عيشاً
    ومعاش المجني مِن (غِسلينْ)؟

    * * *

    وزحام الشارع والمقهى
    طينٌ ما فيهِ نسغ الطِّينْ

    لا معنى النظرة ودِّيٌ
    لافي قلب التصويت حنينْ

    ومصافحة الأيدي الأيدي
    كعجوز تستهوي (عنّينْ)

    وعناق الراحل والآتي
    سكِّينٌ لا تبدو سكِّينْ

    ومؤامرة الندوات كما
    يحتاج النَّعش إلى تكفينْ

    ريح التبريد تُجمِّعُها
    وتفرِّقُها ريح التَّسخينْ

    * * *

    لغةٌ كالصمت بلا صمتٍ
    وعواءٌ يفسده التّلحينْ

    للدال مُدىً للميم يدٌ
    فبمَ يحكي ويشير (السِّينْ)؟

    أيَرى لا يَسأل غامضةً
    من أبطنها. ولِمَ التبطينْ؟

    * * *

    أشباهٌ ليس لها وجهٌ
    وقرينٌ مشبوهٌ بقرينْ

    حتى ما سمَّوهُ علماً…
    أضحى لأمين السرِّ أمينْ

    * * *

    لا الهمُّ يقود مُهمّتَهُ
    لا غير الهمّ بذاك قمينْ

    لا الصحو يحرّكه شوقٌ
    لا النّوم يسكّنهُ التّسكينْ

    لا ميلادٌ يعطي فرَحاً
    لا موتٌ يستبكي تأبينْ

    * * *

    فهنالك، قِرُّوا يا موتَى
    وهناك، البثْ يا كلَّ جنينْ

    ما للآتي مهدٌ يحنو
    لا يلقى الهدأةَ أيُّ دفينْ

    مَن مات نجا، ودهى الأنجَى
    مَنْ لم يولد ضَمِن التأمينْ

    هذا – يا أنتم – تحقيقٌ
    وافاكم مِن سبأٍ بيقينْ

    * * *

    يا مَن تُدعى حبّاً فتِّش
    عن أزمانٍ في لا تزمينْ

    عن إنسانٍ لا ظرف لهُ
    لا آتيه باليوم رهينْ

    عن أرض أخرى ما خَطرت
    بخيالات القرن العشرينْ

    عام 1988م

  • 305 ذات ليلة

    ديوان رواغ المصابيح >  ذات ليلة

    باتت الريح تلوك النافذهْ
    بعضها من جلد بعضٍ لائذهْ

    ليس تدري ما الذي يأخذها
    لا ترى من أي شيء آخذهْ

    * * *
    تفلذ الأغصان تجري فلذاً
    لا تعي مفلوذة، أم فالذهْ

    ترتمي مما بها موقوذة
    وإلى المجهول تسري واقذهْ

    تنبري من ظهرها مشحوذة
    وتداري ركبتيها شاحذهْ

    * * *
    أين تبغي؟ علها منبوذة
    وتقوت فاستحالت نابذه

    علها تضني السرى باحثةً
    في الكوى عن حانذٍ، أو حانذه

    من يؤاويها.. تنادي وحدها
    والمآوي بالتواري عائذه

    عام 1988

  • 306 استنطاق

    ديوان رواغ المصابيح >  استنطاق

    ل ماذا طريق المهد واللحد واحدُ
    ماذا الذي يأتي، إلى البدء عائدُ؟

    لماذا يظل البدء يبدأ دائماً؟
    لأن التناهي كالبدايات جاهدُ

    لماذا تراب الأرض عالٍ وهابط؟
    لأن مسود التحت كالفوق سائدُ

    * * *
    وهل أنت يا نهر الدقائق ذائب
    على الطين، أو هل أنت كالطين جامدُ؟؟

    وهل أنت مثل الناس لا تبلغ الذي
    تريد، ولاترضى الذي أنت واجدُ؟؟

    * * *
    إلى كم ستجري؟ كم أشبت (ابن دايةٍ)
    أأنت (أبو دايٍ) ومالك صائدُ؟

    خوافيك جدات الشدائد، كالدجى
    تتابعن حتى ما بهن شدائدُ

    أكنت صبياً قبل أن ينبت الثرى؟
    وبعد مشيب الأرض هل أنت راشدُ؟

    لماذا ترق الريح عند الضحى، ولا
    تحول غصوناً في الربيع الجلامدُ؟

    وهذي التواريخ التي تعطس البلى
    أليس لها كالغزو حادٍ وقائدُ؟

    وإلا فكيف الخلف يصبح وجهةً
    ووجهاً له وجهان: آت وبائدُ

    * * *
    لمذا يعود الميت طفلاً بلا صباً
    وتلبس أجفان الشهود المشاهدُ؟

    فلا الأمس قبل اليوم، لا اليوم بعده
    ولكن جرت بالتسميات العوائدُ

    * * *
    هل الليل يا أوضاع يختار وضعه
    ولا تنتقي رؤيا السبات المراقدُ؟

    أرؤياك يا (كانون) مثلك جهمة؟
    ولكن لماذا الشوق -ياصيف- باردُ؟

    ألست ترى الفصلين كيف تشابها؟
    فهذا على هذا من الغش حاقدُ

    * * *
    أبين الثواني والثواني تصارع؟
    أفيهن منقود السجايا وناقدُ؟

    أهذا استجد الآن، أم كان جارياً
    وما قيل عنه؟ ما لجارٍ قواعدُ

    * * *
    أبين الروابي والروابي مطامع
    أفيهن معبود، ومنهن عابدُ؟

    لمذا البيوت الغائرات يلفها
    ركود، وما أوجاعهن رواكدُ؟

    لأن قصوراً تحجب الشمس دونها
    فلا تعرف الأضواء ماذا تكابدُ

    * * *
    لِمَ كاسحات البحر في البحر حرة
    وفي البر لا أحرار إلا المساجدُ؟

    لأن الخليج ابن الخليج استضافها
    لكي يرتخي لا ينتخي فيه ماردُ

    لكي لا تشم الريح أسرار فدفدٍ
    ولا تمتطي ركض الرياح الفدافدُ

    لكي يستعيد الشيخ حمدون جده
    ويحيي -أباه في ابنه- الشيخ حامدُ

    * * *
    أيا بحر كان الماء مورد ظامىءٍ
    فَلِمَ أنت ظمآن على الرمل واردُ؟

    لأن البيوت (الزنك) تجتاز طورها
    فتنبو بمن تدعى الرؤوس الوسائدُ

    لمذا الذي أهل الحمى يرفضونه
    يقوي يديه الطامعون الأباعدُ؟

    على ظهره يأتون من كل موقعٍ
    ويذكون عنه ريحه، وهو خامدُ

    * * *
    ومن ذا يهم الأمر يا همُّ، يا الذي
    تسمى الحمى، هل كل حامٍ محايدُ؟

    فما بال من ناموا كأهل (خزيمةٍ)
    يقولون: أنا -كي تناموا- فراقدُ

    مخالبنا -كي لا تجولوا- جوائل
    حراساتنا منكم عليكم سواهدُ

    فصيحوا إذا شئتم سكوتاً وأغلقوا
    عليكم، وكالأحلام في النوم جاهدوا

    وهبنا لكم حرية الصمت والكرى
    حناناً عليكم، فاحذروا أن تعاندوا

    لِمَ لا يموت الموت كالناس؟ ما الذي
    سيعمل إن باد الورى وهو خالدُ؟

    أللموت أولادٌ وعمٌّ وإخوةٌ
    وأمٌّ بسن العشق زرقاء ناهدُ

    وهذي الليالي المقشعرات هل لها
    بناتٌ؟ وهل لليأس أمٌّ ووالدُ؟

    لماذا لأجيال العوادي عشائر
    وما للمنى عنهنَّ منهنَّ ذائدُ؟

    * * *
    أما للتي تدعى (السعيدة) ساعدٌ؟
    أحقٌّ جناحاها (بكيلٌ وحاشدُ)؟

    أ(حيدان) يدري أنه غير حائلٍ؟
    هل (الجوف) بالجوف (ابن كهلان) جائدُ؟

    * * *
    لماذا الصميميات تغفو على المُدَى
    وتحتل أكتاف الجهود الزوائدُ؟

    إلى أي حينٍ ينكر القلب قلبه
    متى سوف تدري ما تقول الجرائدُ؟؟

    متى تعرف الأمطار أعطش بقعةٍ
    وتسعى إلى من يشتهيها الموائدُ؟

    * * *
    أقول لماذا والجدار يقول لي:
    لمذا ويبدو قائماً وهو قاعدُ

    متى تنمحي يا شاتي الوجه والحشا؟
    إلى أن يذر الصيف تفنى الهداهدُ

    * * *
    وماذا ترجي يا الذي بيته أنا؟
    ومثواك منكود، وثاويك ناكدُ

    إذا أنت ضيَّعت الذي أنت واجد
    فهيهات أن تلقى الذي أنت فاقدُ
    * * *
    تجددْ كقلب النهر يا سيد الأسى
    سترتاد عهداً غير ما أنت عاهدُ

    لهذا التمادي آخر بعد آخرٍ
    أليس له بدءان: أصلٌ، ووافدُ؟

    عام 1987

  • 307 حالة

    ديوان رواغ المصابيح >  حالة

    لهم السلاح ومالنا
    حتى مناقير وريشْ

    نهوي بأول طلقةٍ
    تختار، أو أخرى تطيشْ

    أو ننحني بعصاً كما
    تَنهَدُ أعواد الحشيشْ

    * * *

    يمضي الذي نرجو ويأتي
    غير ما فينا يجيشْ

    من قيل عنه مارد
    شرس غدا عهناً نفيشْ

    عاش الذي قلنا يموت
    ومات من قلنا يعيشْ

    عام 1988

  • 308 رواغ المصابيح

    ديوان رواغ المصابيح >  رواغ المصابيح

    القناديل يا دجى منك أدجى
    المنايا، أم شرطة الليل أنجى؟

    ربما كنت تسأل الآن مثلي
    وأنا أجتدي بإبطيك محجى

    القناديل لا تري الشعب نهجاً
    وتري قاهريه عشرين نهجا

    هل تعي يا دجى لماذا تحابي؟
    ذاك تعميه، ذاك تعطيه وهجا

    من تداجي؟ تمسي لبعض سراجاً
    ولبعض إلى السراديب سرجا

    ولبعض أداة خلعٍ وحرقٍ
    ولبعضٍ تضيء رقصاً وصنجا

    * * *

    أيها النابغي: قل أي شيء
    هز شدقيك، مجك الصمت مجا

    قيل نصف القتال هرج- أراه
    صار كلاً أخفى بناناً وهرجا

    وأخيراً نطقت -بل قلت عني:
    ويح طفل الضياع ماذا تهجا

    * * *

    هل سألت الملثمين إلى كم؟:
    من هداهم إلى الحواري وأزجى؟

    هاهنا أهرقوا، هناك استقادوا
    وهنا خلفوا أنيناً وشجا

    * * *

    يدخلون البيوت من كل ثقبٍ
    يسألون الدخان: من اين عجا؟

    يسلبون السكون طعم كراه
    يرهقون الحصار فتلاً ونسجا

    وينوشون عش كل هزارٍ
    وعلى (الديك) يهدمون (المدجا)

    * * *

    إنهم من بني البلاد، ولكن
    يشبهون الغزاة سلباً وزجا

    قيل هذا الطويل ربته (روما)
    قيل ذاك البطين بالأمس حجا

    قيل هذا الفتى القصير، يوالي
    أمسيات في بيت شقراء غنجى

    ذاك يزهو ويتقي أن يلاقي
    بعض من لقبوه بالأمس (خرجا)

    ذاك يبدي فصاحة السوط ليلاً
    وهو في الصبح ينطق (العجل) علجا

    ذاك يرغي: لا تفقهوا أي علمٍ
    من عصى أمرنا، أطاع (الفرنجا)

    * * *

    أتراهم مدججين سكارى
    ينهكون الجراح فتحاً ورتجا؟

    يذبحون الرجاء في كل قلبٍ
    وينوبون عن بزوغ المُرجّى

    كي يسمى زعيمهم كل شيءٍ
    ويسمى جحيمهم خير ملجا

    * * *

    كيف تغشى يا ليل كل زقاقٍ
    لا ترى من طغى ولا كيف لجا؟

    وإلى كم تسري بطيئاً وتأتي
    لا أفاق الثرى، ولا الغيم ثجا؟

    * * *

    تحت عينيك يقتلون وتغضي
    هل نقيض الحجى بعينيك أحجا؟

    في عيون النجوم شيء كبوحي
    التشاكي، أم حرقة الكبت أشجى؟

    * * *

    أنت ساهٍ، أنا أريد وأعيا
    يا دجى، أينا الحريق المسجا؟

    هل ترى الليلة التي سوف تأتي
    أهي صيفية الأسارير دعجا؟

    -الروابي أدرى بشم السوافي
    وبرصد السماء برجاً فبرجا

    * * *

    قيل يا أرض لا تدورين، قالت:
    صرت أنجر -كالسياسات- عرجا

    يسمع الحكم أي صوتٍ هجاءً
    طمئنيه، يداه أبذى وأهجا

    صنفيه، تلقيه سوطاً وطبلاً
    فسريه، تريه بطناً وفرجا

    * * *

    ولماذا أخرجتني من سكوتي
    وبقلبي أحدثت شرخاً ورجا؟

    كي تميدي، وتركضي كالصبايا
    كي تهزي المروج، مرجاً فمرجا

    كي تقصي ماذا جرى، وتقولي
    أي شيء في قاعة الصمت ضجا

    ألهذا أقلقتني؟ من تسمى؟
    بعض أرضٍ، أدعى (حفاشاً) و(لحجا)

    * * *

    جئت كي تشعري بنهديك يوماً
    هل أنا لا أحس؟ مازلت فجا

    قلت ما تعلمين، كي تطعميه
    لا أنا أهوج، ولا أنت هوجا

    كغموض اعتراف عينيك حبي
    فأجيدي بين الغموضين مزجا

    * * *

    يا النجوم التي عليها أشوي
    أمنياتي، متى سيبلغن نضجا؟

    يا حنين الدجى: إلى كم ستغفو؟
    أي فعلٍ لعقدة الحال أوجى؟

    راوغت أعين المصابيح، خوفاً
    أو رجاءً، وهل رأت من يرجى؟

    عام 1987

  • 309 قبل صحو الرماد

    ديوان رواغ المصابيح >  قبل صحو الرماد

    للوقت أشواك وبعض الغصون
    وأظهر تمشي أمام البطون

    له شعاب من غموض المنى
    ومن سراديب النوايا فنون

    وسوسات مثل طحن الحصى
    وسكتة تحكي سقوف السجون

    وصفرة تسعل في كمها
    وزرقة مثل رنو المنون

    * * *

    له نثيث واحتمال كما
    يستعجل القحط الغمام الهتون

    وشهوة أغبى من المشتهى
    وحكمة فوق طفور الجنون

    من بعضه ينأى إلى بعضه
    كالشبهة الحيرى أمام الظنون

    يزقو ويخبو كالرصاص الذي
    يجوس حتى يرقد المخبرون

    يحصي المرايا والرؤى مثلما
    يحصي المرابي عائدات الديون

    ترى المصابيح الذي يرتئي
    والريح تطوي ما يرى أن تصون
    * * *

    عليه عنق كعصى حارسٍٍ
    وفوقه رأس كأعتى الحصون

    وأوجه ليس لها أعين
    وتحت إبطيه ربىَ من عيون

    * * *

    يرى الثواني من قفاها كما
    يستقرىء الملهى جيوب الزبون

    له يد تندى وأخرى كما
    يخيف وحش صبيةً يلعبون

    * * *

    يبدو سكونياً ولكن له
    تحرك لا يبتدي من سكون

    إلى عصاه يمتطي أنفه
    من منحنى ساقيه يبدي القرون

    وينبري من ذيله مسرعاً
    وينثني من ركبتيه حرون

    * * *

    يهم يرخي عقد سرواله
    تثني يديه غابة من ذقون

    يود يرمي بعضه عنه أو
    ينسل من أشراخ تلك الغضون

    هل كان هذا واشتهى غيره
    أم بعد ما كان، نوى أن يكون؟

    * * *

    يريد أن يحرق كي يبتدي
    مغاير، ما فيه فوق ودون

    لا يمنح اللص مسوحاً ولا
    يعير أثواب الأمين، الخؤون

    * * *

    الصبح فيه ما يراه الورى
    والليل فيه نفس ما يعهدون

    للكأس والساقي شذى المجتني
    فيه، وللبذل الربيعي فتون

    والناس للناس، كعاداتهم
    كأن كل الأرض، بيت حنون

    * * *

    وكل ذي شأن له شأنه
    وطوع أيدي الكل كل الشؤون

    الهمس للمرعى، وبوح الهوى
    لكل قلبٍ، والحكايا شجون

    * * *

    يا سهد ماذا قال نجم السرى؟
    وياكرى هل عدت ملك الجفون؟

    يا قلب هل قلت الذي ينبغي؟
    أم قلت، واستهونت ما لا يهون؟

    عام1989م

  • 310 زائر الأغوار

    ديوان رواغ المصابيح >  زائر الأغوار

    من ذا، كالإيهام المنبي؟
    من ذا يصبيه ومن يصبي؟

    يفشي كتنهد عاشقةٍ
    يستغلق كالسر الحربي

    يطفو من لثغته خبر
    ويوشوش كالفرح العشبي

    يعتم بعيني كاهنةٍ
    يومي كالخفقان القلبي

    أأقول، ويسكت ثانيةً
    كنبيءٍ يهمس: يا ربي

    * * *
    شرقي السحنة ملفوف
    بغموض البحاث الغربي

    يستغبي النجم سذاجته
    ويرى الأغبى لا يستغبي

    * * *
    يستكنه في التبن الملقى
    وجه الجابي ويد المجبي

    من ساق النبتة يستملي
    مكنون التأريخ الشعبي

    من كل حصاةٍ يستقصي
    مرمى “فيضي” مغزى “فيلبي”

    يتلو الأغوار كما يتلو
    جاسوس منشوراً حزبي

    * * *
    ويمد قناديلاً أسنى
    ويشير إلى الرمد: انصبي

    ويفتش عن سوقٍ يغني
    عن هذا المحتكر المربي

    * * *
    من هذا الملغز يا أهلي
    بل هذا المعجز يا صحبي؟

    يغشاني من رأسي حتى
    لا أدري قدمي من جنبي

    * * *
    يا ركب الأنجم من هذا؟
    جوال أهدى من ركبي

    يستجوبني فتضيع يدي
    إن قلت لها: عني لبي

    * * *
    (سيزيف) أرى! هذا يدعو:
    يا صخرة سيلي أو دبي

    يحكي: ماذا سيلي هذا
    يا ذاك الإيماض السلبي

    ورث (اللنبي) غازٍ أدنى
    وجهاً من عرقوب (اللنبي)

    يبدي ما يستهوي فلكي
    ويرنح من حولي قطبي

    حيناً أنظره من عكسي
    وأواناً نجماً من سربي

    * * *
    من ذا يا ريح؟ ألامسهُ
    ينأى ويلوح من قربي

    يكسوه قميص قمحي
    ورداء كالقات (الإبي)

    أأسميه سلمى؟ يخبو
    ظني، فأسميه (وهبي)

    وأذكره وأأنثه
    يلهو بي هذا: ما ذنبي!!

    * * *
    ما إن ألحظه (وهطياً)
    حتى يتراءى لي دربي

    وأميراً أموياً حيناً
    أحياناً صعلوكاً ضبي

    * * *
    خلفي ينصب ويسبقني
    وينادي: يا نعسى هبي

    ويترجم من إبطي لفمي
    رعباً يسلخني من رعبي

    ويمر يفتش عن ريحٍ
    أخرى، لا تخرج من صلبي

    * * *
    أحكي من أين أتى!
    ماذا : هل أصغي سمعي أو هدبي!!

    ساءلت هنا داراً، قالت:
    ما استنبح مقدمه كلبي

    أهدى ذا السفر وأوصاني:
    يا تلك على هذا أنكبي

    وحكت مشمشة: أرغدني
    من جمجمتي حتى كعبي

    وأجاب الوادي حياني
    فأعادت خطرته خصبي

    وأضاف أتى من بعد غدٍ
    كالزائر يسأل ما خطبي

    * * *
    من ذا يا برق؟ يقول يرى
    لمحي، فمتى سيرى سكبي؟!

    يعزو إجداب الأرض إلى
    كسلي: فلمن أشكو جدبي!!

    ويسائل عن برقٍ أقوى
    عن سحب أصدق من سحبي

    عن والدتي الأولى وأبي
    عن أختي الصغرى عن تربي

    عن آخر بستانٍ يزكو
    فيه الصفصاف الأوربي

    يغلي هذا مثلي، أله
    أشواق أحرق من حبي؟

    أأفضل يا هذا خبري؟
    حسبي ومض المعنى حسبي

    هل تبحث عن ماءٍ؟ إني
    من ألفِ أبحث عن صلبي

    * * *
    من ذا تدعوه؟ أخمنه
    سبئياً أضحى لا يسبي

    هل تملك عنه توضيحاً؟
    ما قتل المعنى من دأبي

    عام 1989

  • 311 يا شعر

    ديوان رواغ المصابيح >  يا شعر

    مذ أربعين وأربع
    تقول صمتي واسمع

    أقول نبضك تصغي
    عني، أناجي وتسجع

    تفشي الذي لست أبدي
    أبدي الذي فيك مودع

    * * *

    أهذي وتهذي نداري
    ومضاً يمني ويخدع

    نبكي، نغني، وننسى
    -من ذا يغني ويدمع

    كأن فينا سوانا
    أحن منا وأوجع

    * * *

    ماذا تريد، وأبغي؟
    سراً على البوح أمنع

    نحتاج بعض هجوعٍ
    هل المصابيح تهجع؟

    سلها جميعاً أتدري
    لمن تعاني لتصدع

    قالت: تضيء وتغضي
    عمّن تضر وتنفع

    هل أشبهتنا؟ كلانا
    نضيع في إثر أضيع

    * * *

    قل لي إلى كم نساري
    فينا الحريق الموقع؟

    نظما ونرجو، يلبي
    غير الذي فيه نطمع

    * * *

    تدني أمانيك أحسو
    أشق صدري فترضع

    تطل من قلب قلبي
    من غور عينيك أطلع

    * * *

    نصبو إلى الفن، نلقى
    بنا المرارات أولع

    في مقطعين نغني
    نبكي بعشرين مقطع

    ولا نسلي بهذا
    ولا بذياك نفجع

    * * *

    يا شعر من أين جئنا؟
    قل أنت من أين نرجع

    ألا تلاحظ أنا…
    ننصب من غير منبع

    نأتي الذي ليس يأتي
    نلقى الذي قيل ودع

    وراء وهمٍ رقيع…
    نجتر طيفاً مرقع

    * * *

    لم لا ننضج فينا..
    بدءاً أجل وأنصع؟

    شمساً من الشمس أصبى
    أرضاً من الأرض أوسع

    أما ابتدأنا؟ نوينا
    والآن منا سنشرع

    فلنحترق عل برقاً
    من الرماد سيلمع

    عام 1989

  • 312 أميرة.. تحت سيف العشيرة

    رجعة الحكيم بن زائد >  أميرة.. تحت سيف العشيرة

    الزفة صامتة الروعه
    والأعين صايحة الجوعه

    والزغردة الولهى تنوي
    أن تعصي مرسوم الهجعه

    وتحن، تحن كما اعتزمت
    أن تستبق الريح القلعه

    وكما تهوى حجرٌ صلعا
    أن تصبح داراً في ضيعه

    * * *

    الشوق ينادي معجزةٍ
    كارثة تستغشى وضعه

    من أعلى طيفٍ توقعه
    ويصيح إلى وقع الوقعه

    * * *

    والعاشقة (الروعى) طلعت
    فلقاً نيساني الطلعه

    كأصيل الصيف ذراعاها..
    عيناها، قامتها الربعه

    لوميض تلفتها نغمٌ
    فجري اللثغة والضوعه

    والأنجم تسأل: هل نبتت
    شهباً أسنى هذي الرقعه

    والضحوة تستفتي(الروعى)
    من أركبنا ريش السرعه

    * * *

    هل أسرعنا؟ قولي: كانت
    ليلتنا أقصر من شمعه

    بتنا والحلم فماً بفمٍ
    يعطي نعطي أسخى متعه

    * * *

    وعلام أفقنا لا أدري
    ماذا تدعى هذي الفجعه

    الحكم الدامي محتشدٌ
    والسيف جحيمي النزعه

    * * *

    و(الروعى) تنظر هازئةً
    بالعنف الرجعي، بالرجعه

    بالكاسي جور عشريته
    وحماقته ثوب الشرعه

    ببريق التاج المستعلي
    بالواشي أوصاف الرفعه

    * * *

    وإلى السيف العاري ترنو
    فيهم وتغشاه الصرعه

    لا تحجم يا زوجي الثاني
    فلتلعب خاتمة الخدعه

    * * *

    يثنيه القلب ويدفعه
    صوت: عانق ذات السمعه

    فيجيب كما يتلو أعشى
    أشعاراً غامضة الطبعه

    يا من للقطعة تدفعني
    أرجوك، امنح قلبي دفعه

    أو فكر يوماً، قد تأبى
    أن تسلبها تلك الخلعه

    أو يذوي روض حمائمها
    وحنان الضمة والرضعه

    * * *

    أماه، السيف يضن، أنا
    أستسقيه أحلى جرعه

    في (سقط الزند) قرأت معي
    ما أروحها تلك الضجعه
    * * *

    قاستقصاني شرقاً غرباً
    كلياً ما استثنى قطعه

    من مهوى العقد يدب إلى
    وإلى، وإلى أخفى بقعه

    * * *

    الآن يوضئني بدمي
    وأبي يتوضأ للجمعه

    ويصلي كالشيخين، وما
    كتب الملكان له ركعه

    بالقيل وقالت: باعوها!
    من عرض بنتي للبيعه؟

    بنتي! أبدا الشهم الثاوي
    فيه، أم أبداه صنعه؟

    * * *

    لا تهذر بعد الفوت، أما
    كانت في كفيك الشفعه!

    يا أفتى أهل الصقع بها
    يا من تدعى الشيخ الطلعه

    * * *

    هل تدري أمي أين أنا
    ومن أتخذ الأنثى سلعه؟

    هل قلت لها: تلك اخترقت
    ركلت أذقان (بني زمعه)

    * * *

    أو لست أنا وثمانيةً
    بضعاً منها، ألها بضعه؟

    دعهم وأنا لأمومتها
    ما خبزت في الفرن التسعه

    * * *

    يا أمي إن سنح المبكى
    فأعيريني نصف الدمعه

    فأنا من أعطت عينيها
    وحشاها أنضاء اللوعه

    كست الحب المهتوك شذىً
    فلتشمخ يا حنا (منعه)

    * * *

    قولي: ما ماتت رابضةً
    كالنعجة قامت كال(نبعه)

    وصفي للخمس زميلاتي
    لاقتهم أقوى من سبعه

    وإليها زفت تهنئةٌ
    من برق توهجها لمعه

    * * *

    من هذا الثالث؟ قافيةٌ
    كالقبلة بعد لمى الصفعه

    أضنت شوك الأدغال إلى
    وادي (ذي الراس) إلى(بلعه)

    وسرت إشعاعاً ملتمساً
    من أين سرت تلك الشعه

    1994م

  • 190 بعد سقوط المكياج

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  بعد سقوط المكياج

    الى (الفا- ح)

    غيرَ رأسي… إعطني رأس (جَمَلْ)
    غيرَ قلبي.. اعطني قلب (حَمًلْ)

    ردني ما شئت… (ثوراً) ، (نعجة)
    كي اسميك… يمانياً بطل

    كي اسميك شريفاً… أو ارى
    فيك مشروع شريف محتمل

    سقط المكياج، لا جدوى بأن
    تستعير الآن، وجهاً مفتعل

    ***
    كنت حسب الطقس، تبدو ثائراً
    صرت شيئاً… ما اسمه؟ يا للخجل

    ينفش البوليس، ما حققته
    من فتوح (بالمواسي) في المقل

    ***
    با (لهراوي) با (لسكاكسن).. بما
    يجهل الشيطان… من اخزى الحيل

    تقتل المقتول، كي تحكمه…
    ولكي ترتاح… تشوي المعتقل

    هل اسميل بهذا ناجحاً
    إن يكن هذا نجاحاً.. ما الفشل؟
    ***
    إنما أرجوك، غلطني ولو
    مرة كن آدمياً.. لا أقل

    قل أنا الكذاب، وامنحني
    على حسك الانساني الشعبي، مثل

    فلقد جادلت نفسي باحثاً
    عن مزاياك، فاعياني الجدل

    أنت لا تقبل جهلي إنما
    ليس عندي، للخيانات غزل

    ***
    أي شيء أنت؟ يا جسر العدى
    يا عميلاً، ليس يدري ما العمل

    ردني غيري، لكي تبصرني
    للذباب الآدمي، نهر عسل

  • 191 مغني.. تحت السكاكين

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  مغني.. تحت السكاكين

    بعينيه حلم الصبايا، وفي
    حناياه، مقبرة مستريحه

    * * *

    لنيسان يشدو، وفي صدره
    شتاء عنيف… طيور جريحه

    بلاد، تهم بميلادها…
    بلاد تموت، وتمشي ذبيحه

    بلادان، داخله هذه
    جنين، وهذي عجوز طريحه

    وآت إلى مهده يشرئب
    وماض يئن، كثكلى كسيحه

    زمانان، داخله يغتلي
    دجى كالأفاعي… وتندى صبيحه

    ورغم صرير السكاكين فيه
    يغني، يغني… وينسى النصيحه

    فتخضر عافية الفن فيه
    وأوجاعه وحدهن الصحيحه

    أيا شمعة العمر ذوبي… يلح…
    فتسخو وتومي: أأبدو شحيحه؟

    فيولد في قلبه كل يوم…
    ويحمل في شفتيه ضريحه

    * * *

    يوالي، فيرفض نصف الولاء
    ويبدي العداوات، جلوى صريحه

    له وجهه الفرد… لا يرتدي
    وجوهاً تغطي الوجوه القبيحه

    يعري فضائح هذا الزمان
    ويعري، فيبدو كأنقى فضيحه

    ترى وجهها الشمس فيه كما
    ترى وجهها، في المرايا المليحه

    (يناير 1975)

  • 192 لص تحت الأمطار

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  لص تحت الأمطار

    الليلُ خريفيٌ أرعنْ
    يهمي.. يدوي.. يرمي.. يطعنْ

    يستّلُ حراباً ملهيةً
    يستلقي كالجبل المثخنْ

    يأتي ويعود كالطاحون
    أحجاراً وزجاجاً يطحنْ

    يدعو كالأدغال الغضبى
    يسترخي يفغرُ كالمدفنْ

    يعري.. يتزيّا.. يتبدّى
    أشكالاً.. يبسمُ.. يتغصِّنْ

    في كل جدار يتلوى
    وبكلّ ممرٍّ.. يتأسنْ

    وبلا أسماء يتسمّى
    وبلا ألوانٍ.. يتلّونْ

    ويشمّ بأذنيه، يرنو
    قلقاً كرقيبٍ يتكهّنْ

    من أين أمرُّ؟ هنا وكرٌ
    ملعونٌ.. رادتهُ ألعنْ

    وخصوصياتٌ.. واقفةٌ
    تهذي كالمذياع الألكنْ

    وتقِلّ براميلاً تسطو
    تحت الأضواء ولا تُسجنْ

    أخشاباً جدّ مبروزةٌ
    بأسامي ناس تتزينْ

    * * *
    وهنا شبّاكٌ يلحظُني
    شبحٌ في وجهي يتمعنْ

    شيءٌ.. يهتزُّ كعوسجةٍ
    وعلى قدميهْ.. يتوثّنْ

    بابٌ يستجلي.. زاويةٌ
    تصغي.. منعطفٌ كالمكمنْ

    قنديلٌ يسهو كالغافي
    ويعي كغبي يتفطّنْ

    كبرئٍ عاصٍ يتلقّى
    إعداماً عن حكمٍ معلنْ

    * * *
    ما هذا؟ جمعٌ مصطخبٌ
    يعوي أو يشدو.. يتفنّنْ

    حفُرٌ ترتجُّ روادفُها
    حُزمٌ من قشٍّ تتلحّنْ

    طربٌ في ذا القصر العالي
    أو عرسٌ في هذا المسكنْ

    * * *
    ولماذا أحسدُ مَن يبدو
    فرحاً من عيشتَه ممتَنْ؟

    لا.. لستُ لئيماً يؤسفُني
    أن يهَنا غيري في مأمَنْ

    لكنَّ مسرّات الهاني
    توحي للعاني أن يحزَنْ

    * * *
    حسناً، كفَّ المطرُ الهامي
    وبدأتُ كدربي أتعفّنْ

    وأخذتُ كأمسيتي أهمي
    أترمّدُ.. أدمَى.. أتعجّنْ

    * * *
    أيَسارا يا (صنعا) أمضى
    أم أنتهجُ الدربَ الأيمنْ؟

    هل هذا الأحسنُ أم هذا؟
    يبدو لا شيءَ هنا أحسنْ

    فلتُقدمْ يا “فرحانُ” بلا
    خوفٍ.. ما جدوى أن تأمَنْ

    أقدمتُ.. أظنُّ بلا ظنّ
    وبدون يقين أتيقّنْ

    ومضيتُ مضيتُ.. وصلتُ إلى
    حيٍّ.. كدخيلٍ يتيمّنْ

    فهنا إقطاعيٌّ دسمٌ
    وهنا إقطاعيٌ أسمَنْ

    هذا ما أعتى حارسَهْ
    بل هذا حارسُهُ أخشَنْ

    والدارُ الشامخةُ الأخرى
    تبدو أغنى.. لكنْ أحصَنْ

    * * *
    وهناك عجوزٌ وارثةٌ
    تُعطي.. لو عندي ما أَرهنْ

    هل أغشى منزلَها؟.. أغشى
    فلعلَّ فوائدَهْ أضمنْ

    لا، لا… فيه جبنُ امرأةٍ
    وأنا لو أخنقُها أجبنْ

    البنكُ حراستهُ أقوى
    ويُقال ودائعهُ أثمنْ

    لو كان الأمرُ حراسَته
    لحَسبتُ صعوبتهُ أمكنْ

    البنكُ مغالقهُ أخرى
    تحتاجُ لصوصاً من “لندن”

    كلّ الأموالِ مسلّحةٌ
    بفنون الإرهاب المتقَنْ

    * * *
    فلأرجعْ، حسناً… لا أدري
    أرجوعي.. أم تيهيْ أغبَنْ؟

    سهيلُ غدٌ.. وله طرُقٌ
    أنقى.. ومتاعُبهُ أهونْ

    وبدأتُ أُحسُّ بزوغَ فتىً
    غيري؛ من مِزَقي يتكوَّنْ

    سبتمبر 3791م

  • 193 هاتف.. وكاتب

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  هاتف.. وكاتب

    أكتب… لا تتعطل
    ما اقسي، أن افعل

    صارت كفي، رجلاً
    ما جدوى، أن تكسل؟

    لم استولد خرفاً
    جدد حرفاً مهمل

    تدري؟ للحرف صباً
    يغنى، وصبا يحبل

    * * *
    من يخرجني مني؟
    البحث عن المدخل

    الخفض إلى الأعلى
    الرفع إلى الأسفل

    التوق إلى الأقصى
    الصد عن الأسهل

    الموت إلى الانهى
    البدء من الاءصل

    * * *
    اكتب شعراً، فكراً
    أنفاساِ، تتشكل

    تمهيداً، عنواناً
    تفعيلات أفعل

    اهمس شيئاً، حتى
    كالقمح إلى (المنجل)

    همس الأرض الوجعي
    فن، عند الجدول
    ولخفق البذر صدى
    في إبداع المشتل

    * * *
    أتراني مخنوقاً؟
    أهمس، لا تتمهل

    جرب، فلديك فم
    وجنون يتعقل

    قتلوني، مرات
    اكتب كي لا تقتل

    بدم الموت الثاني
    تمحو الموت الأول

    حاول…. حاولت بلا
    جدوى، ماذا أعمل؟

    * * *
    اشتقت كما يبدو
    ماذا؟ طفح المرجل

    شهوات الحبر على
    شفتيك، دنت تسأل

    تتشكل أقباساً
    أكواخا تتأمل

    مشروعاً جذرياً
    ينسى أن يتأجل

    أطفالا أبطالا
    أشجارا تتهدل

    أظمئت الآن، ولا
    تدري ماذا تنهل؟

    استقبل ما يأتي
    وتخير، ما تقبل

    آتي الماضي، أدهى:
    ماضي الآتي، أعضل !

    * * *
    فلتكتب، تحقيقاً
    عن ماضي المستقبل

    عن أحجار طارت
    وصقوراً تترجل

    عن ماء، صار دماً
    ودمٍ أمسى، مخمل

    عن تاريخ ثان
    عن أشغال تشغل

    عن (صنعاء) ثانية
    من سرتها، ترحل

    عن وجه (يزني)
    ولى، وأتى أجمل

    عن معنى، لا يعني
    عن خجل، لا يخجل

    عن حي لا يحيى
    عن قبر يتغزل

    عن ميت يتندى
    مولوداً مستعمل

    عن زاوية ولدت
    ثورياً مستعجل

    * * *
    من يعطيني لغة
    أعلى، ويداً أطول

    لولي صوت اعتى
    لولي حبر اقتل

    اكتب عما تدري
    تستكشف ما تجهل

    (مايو 1975م)

  • 194 طقوس الحرف

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  طقوس الحرف

    هنا، أرقمُ الصدى
    وأنمحي كالخربشةْ

    وكالصلاة ارتقي
    وأرتمي كالدروشةْ

    أهمي ندى وأرتخي
    كالتربة المرشتّةْ

    ***
    سحابة تزرعني
    تفاحة ومشمشةْ

    نعشاً تجره الحصى
    إلى الوعود المنعشةْ

    مقبرة تلبسني
    عباءة مزركشةْ

    عمامة زيدية
    ولحية منتفشهْ

    ***
    عشية تمدني
    للريح بيداً موحشةْْ

    جنازة هنديةً
    حمامةً معششةْ

    ***
    عصفورة تحملني
    صفيحة منقّشةْ

    جزيرة.. شواطئاً
    سفينة مرقّشةْ

    حقيبة تطبخُني
    قضية مشوشةْ

    أمسية كهفية
    صبيحة مغبشةْ

    بيتاً، كتاباً شارعاً
    مقهىّ، حكايا مدهشةْ
    ***
    ألوهةٌ تعزفُني
    وعداً غريبَ الوشوشةْ

    دقائقاً ورديةً
    مواقفاً مرتعشةْ

    نوفمبر 3791م

  • 195 إهداء: لها..

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  إهداء: لها..

    لتلك التي تفنى وأخلقُ وجهها
    وأرفع نهديها وأبدعُ فاها

    أذوب وأقسو كي أذوب لعلني
    أأوج من تحت الثلوج صباها

    وأنسج للحرف الذي يستفزها
    دمي أعيناً جمرّية وشفاها

    أذكرِّها مرآتها؛ عرق مأرب
    وأنَّ لها فوقَ الجيوب جباها

    وأن أسمها بنت الملوك وأنّها
    تبيعُ بأسواق الرقيق أباها

    وإنَّ لها طيشَ الفتاة وأنها
    عجوزٌ… لعنينِ تبيعُ هواها

    أغني لمن؟!. للحلوة المرّة التي
    أبرعمُ من حزن الرماد شذاها

    لصنعا التي تُردي جميع ملوكها
    وتهوى وتتسجدي ملوك سواها

    لصنعا التي تأتي وتغرب فجأة
    لتأتي ويجتاز الغروب ضحاها

  • 196 امام المفترق الاخير

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  امام المفترق الاخير

    يا شعر… يا تاريخ… يا فلسفة
    من أين يأتي، قلق المعرفة؟

    من أين يأتي؟ كل يوم له
    غرابة… رائحة مرجفه

    نألفه شيئاً… فيبدو لنا
    غير الذي نعتاد… كي نألفه

    لكن له في كل يوم فم
    ثانٍ… يد ثالثة مرهفه

    حيناً له كبر… وحيناً له
    تواضع أغبى من العجرفه

    وتارة تعلو وتهوي به
    أجنحة غيمية الرفرفه

    أصم كالأحجار… لكنه
    يدوي، ولا صوت له، لا شفه

    ينوي كفنان، بلا فكرة
    يغلي… كطيش الفكرة الملحفه

    نحس أنا مأسويون لا
    نملك للمأساة غير الصفة
    يجترنا الخبز، فتقتاتنا
    – من قبل أن نشمها – الارغفه

    نموت ألفي مرة… كي نرى
    كل يد مشبوهة، مسعفه

    ***
    يا دور يا أسواق، ماذا هنا
    موت تغاوي، وجهه الزخرفه

    رعب صليبي، له أعين
    خضر… وأيد بضعة متلفه

    ***
    يا فندق (الزهرا) محال تعي
    قضية (المنصورة) المؤسفه

    ويا (مخا)… ماذا سيبدوا إذا
    تقيأت أسرارها الاغلفه؟

    تفنن الموت… فاضحى له
    جلد أنيق… مدية مترفه

    يمتص بالقتل الحرير كما
    يجتاح، بالوحشية المسرفه

    يلمع الاوباء، كي ترتدي
    براءة أظافرها المجحفه

    من أين نمشي يا طوابير… يا
    سوقاً من الأنياب والهفهفه؟

    من أين يا جدران… يا خبرة
    تزوق التمويت، والسفسفه؟

    من ها هنا… أو من… وتجتازنا
    – من قبل أن نجتازها – الارصفه

    ***
    هل ننثني يا شوط؟ هل ينثني
    نهر يريد العشب، أن يوقفه؟

    هنا طريق، لا يؤدي… هنا
    درب… إلى الرابية المشرفه

    هذا عنيف، وله غاية
    وذا بلا قصد، وما أعنفه
    (مارس 1975)

  • 197 المحكوم عليه

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  المحكوم عليه

    قيل عن (م… ن) اضحى مهيلا
    هل تحريت أنت؟ ما نفع قيلا؟

    …. إشترى مرة أمامي كتاباً
    اسمه… كيف تقهر المستحيلا

    ومضى شاهراً له، كأميرا
    اموي… يهز سيفاً صقيلا

    راح يومي إلى الوزارات.. يحكي
    لصديقين… سوف نشفي الغليلا

    ***
    قلت هل صار ثائراً… وعلى من
    وهو منا… هل يصبح الهرُ فيلا؟

    ذات يوم رأيته وسط مقهى
    ورآني اغضى ومال قليلا

    كان في حلقة من الناس يبدي
    من نزاهاته شروقاً بليلا

    قسم الثائرين صنفين.. صنفاً
    منفعياً، صنفاً نقياً اصيلا

    لاح لي، كالمريب، لا بل تبدى
    كخطير، يريد أمراً جليلا

    ***
    دس يوماً في جيبه شبه ظرف
    قرمزي، لمحته مستطيلا

    مرة اشترى الجريدة… سمى
    نصفها خائناً، ونصفاً دخيلا

    (كي إنمي أميتي اشتريها)
    اعجب العابرين، ارضى (خليلا)

    صنف الكاتبين.. هذا عميلاً
    لعميلٍ، وذا دعاه العميلا

    كان يرنو اليه، كل رصيف
    مثل من يجتلي غموضاً جميلا

    ***
    سكن (القاع) مدة و(شعوباً
    نصف شهرٍ وحل شهراً (عقيلا)

    اجر الدور، باسم بنت اخيه
    واكترى في (المطيط) بيتاً نحيلا

    ***
    وعلى الذكر… كم لديه بيوت..؟
    تسعة.. هل تراه رقماً ضئيلا؟

    إبتنى منزلين، وهو وزير
    سبعة عندما تولى وكيلا

    كان لصاً محصناً، إن تولى..
    وطنياً إذا غدا مستقيلا

    يشتهي الآن منصباً.. ذاك سهل
    وهو يدري إلى الوصول السبيلا

    علًّ أسياده الذين امتطوه
    أنفدوه.. بل واستجادوا البديلا

    لم يكن ثائراً، على أي حال
    إنما قد يقور الآن جيلا

    يستفز الركود أي ضجيج
    أول الانفجار يبدو فتيلا

    ***
    خمسة يقبضون فوراً عليه
    احتياطاً.. لقد ملكنا الدليلا

    سيدي.. لم نجده في أي شبر
    إبحثوا جيداً.. بحثاً طويلا

    هات يا (م… خ) ثلاثين عيناً
    انتخب أنت… من تراه كفيلا

    لم نجده، يقول عنه أناس
    إنه كالرياح، يهوى الرحيلا

    لم نجده، صوت: قبضنا عليه
    ألبسوه، سوطاً وقيداً ثقيلا

    أنزلوه زنزانة، أنت أدرى
    يا أبا الضرب، كيف ترعي النزيلا

    ***
    كيف تلقي يا (م… ن) خلاصاً
    ساءني أن أرى العزيز ذليلا

    أنت أغلى أحبتي من زمان
    كنت شهماً، وما تزال نبيلا

    إن عندي رأياً، عسى ترتضيه
    ليس من عادتي أرد الزميلا

    منزلاً للمدير، اكتبه بيعاً
    سوف ينجيك.. هل تموت بخيلا؟

    ***
    لم يوافق.. إضربه حتى تلاقي
    نصفه ميتاً، ونصفاً عليلا

    ***
    وهنا ضج حارس، كان يصغي
    ما لكم يأكل المثيل المثيلا

    مثلكم كان ثائراً، فرجعتم
    نصف ميلُ، فتاب وارتد ميلا

    كل ما بينكم… سقطتم عراة
    وهوى حاملاً رداء غسيلا

    هل تريدون قتله؟ مات يوماً
    كثلكم… كيف تقتلون القتيلا؟

    (اغسطس 1975)

  • 198 الأخضر المغمور..

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  الأخضر المغمور..

    لكي يستهل الصبح، من آخر السرى
    يحن إلى الأسى، ويعمى لكي يرى

    لكي لا يفيق الميتون، ليظفروا
    بموتٍ جديدٍ.. يبدع الصحو أغبرا

    لكي ينبت الأشجار.. يمتد تربةً
    لكي يصبح الأشجار والخصب والثرى

    لكي يستهل المستحيل كتابه..
    يمد له عينيه، حبراً ودافترا

    ***
    لأن به كالنهر أشواق باذلٍ
    يعاني عناء النهر، يجري كما جرى

    يروي سواه، وهو أظمى من اللظى
    ويهوي، لكي ترقى السفوح إلى الذرى

    لكي لا يعود القبر ميلاد ميتٍ
    لكي لا يوالي قيصر، عهد قيصرا

    لأن دم ” الخضراء ” فيه معلب
    يذوب ندى، يمشي حقولاً إلى القرى

    لأن خطاه، تنبت الورد في الصفا
    وفي الرمل أضحى، يعشق الحسن احمرا

    هنا أو هنا ينمو، لأن جذوره
    بكل جذور الأرض، وردية العرى

    ***
    على أعين (الغيلان) يركض حافياً
    ويجتر من أحجار (عيبان) مئزرا

    يقولون، من شكل الفوارس شكله
    نعم.. ليس تكسياً، لمن قاد واكترى

    له (عبلة) في كل شبر ونسمة
    وما قال إني (عنتر) أو تعنترا

    ولا كان دلال المنايا حصانه
    ولا باع في سوق الدعاوي ولا اشترى

    يحب لذات البذل، بالقلب كله
    يجب ولا يدري، ولاغيره درى

    لأن به سر الحقول تحسه
    يشع ويندى، لا تعي كيف أزهرا

    ***
    حكاياته، لون وضوء، عرفته؟
    كشعب كبير، وهو فرد من الورى

    بسيط (كقاع الحقل) عالٍ (كيافع)
    عميق، كما تكسو العناقيد (مسورا)

    ***
    ومن أين؟ من كل بقاع، لأنه
    يجود ولا يدرون، من أين أمطرا

    يغيم ولا يدرون، من أين ينجلي
    يغيب ولا يدرون، من أين أسفرا

    وقد يعتريه الموت، مليون مرة
    ويأتي وليداً، ناسياً كلما اعترى

    تدل عليه الريح، همساً إلى الضحى
    وتروى عطاياه العشايا، تفكرا

    هناك شدا كالفجر، أوراق هاهنا
    هنا رف كالمرعى، هنالك أثمرا

    لأن خطاه برعمت شهوة الحصى
    لأن هواه، في دم البذر أقمرا

    ترى ما اسمه؟ لا يعرف الناس ما اسمه
    وسوف تسميه العصافير، أخضرا

    (يناير 1976م)

  • 199 ساعة نقاش مع طالبة العنوان

    ديوان لعيني أم بلقيس >  ساعة نقاش مع طالبة العنوان

    ما جاء بين القوسين على لسان البطلة
    أهلاً..! أتريدين العنوان؟
    مهلاً أرجوك لماذا الآن

    لا أدري الساعة… أين أنا
    أو ما اسمي، أو من أي مكان؟

    في صدري تبكي أطيار
    عطشى… في جمجمتي شيطان

    * * *
    “شيطان أنثى أو ذكر”؟
    شيطان (الأعشى) أو (حسان)

    خفق ناري يعزفني
    وصدى كأزاهير الرمان

    * * *
    (هَذي أغراض الشعر كما
    جربت ولادات الوجدان)

    (تغلي كربيع مخبوء
    يشتاق إلى لقيا البستان)

    * * *
    (الطقس رديء ثلجي
    أحياناً… جمري أحيان)

    (أخبار اليوم نفوا، هجموا
    كسروا إحدى كتفي لبنان)

    * * *
    (ألديك جديد تنشدنا؟
    ما زال جنيناً… بل غثيان

    ” غداً المولود سنرقبه”
    تدرين مواعيد الفنان

    * * *
    “ما مطلعها؟.. أقفا نأسى
    من ذكرى سينا والجولان”

    كل الوطن الغالي (سينا)
    وجميع مدائننا (عمان)

    “موشي” ما عاد هناك.. هنا
    وهنا ألفا “موشي ديان”

    من ذا يقتاد سفائننا؟
    يا ريح… الموج بلا شطان

    أتعيد الريح دم القتلى
    وتشب شرايين الميدان؟

    * * *
    أترين مقابرنا يوماً
    تهتاج… فتقذفنا شجعان

    نهمي أمطاراً… أو نهوي
    أشلاء…. أو نمضي فرسان

    “معقول… ما دمنا نشوى
    أن ينضجنا الألم الحران”

    “أسخى الثورات جنى ولدت
    في المنفى أو خلف القضبان”

    أنسيت القهوة: فلتبرد
    ” بردت جداً سئم الفنجان”

    * * *
    “قل لي أقرأت مقالاتي ”
    في أنقى ساعات الإمعان

    وقصائدك الحلوات ضحى
    وغروب صيفي الأجفان

    ديوان يبدو…. لا أحلى
    منه إلا أم الديوان

    “شكراً يا…” وارتبكت ورنا
    من عينيها خبث أمرآتان

    فتناست لهجتها الأولى
    وتناغت كالطفل الجذلان

    وتناعست النبرات على
    شفتيها كالفجر النعسان

    * * *
    “ما بدء قصيدتك الكبرى؟”
    وأضاءت ضحكتها الفستان

    ما زلت أفتش عن صوتي
    وفمي… في معترك ِ الألحان

    وأسائل عن وجهي عني
    عن يومي في تيه الأزمان

    عن حرف حر الوجه له
    نفس غضبي وفم غضبان

    “ألشعر اليوم كما تدري
    ألوان… ليس لها ألوان”

    “كل الأنفاس بلا عبق
    كل الأوتار بلا عيدان”

    “زمن الصاروخ قصائده
    عجلى كالصاروخ العجلان”

    “ولمن تشدو… والقصف هنا
    وهنا… والعصر بلا آذان”

    أيديه فولاذ…. فمه
    طاحون… أرجله نيران

    “يرنو من خلف التيه كما
    ترنو الحيطان إلى الحيطان”

    “أقراص النوم تبيع له
    أهداباً… وهدوءاً يقظان”

    * * *
    ما أضيعنا يا شاعرتي
    في عصر الوزن بلا ميزان

    في ظل الغزو بلا غزو
    في عهد البيع بلا أثمان

    أموازنة القوات سوى
    تجميل مناقير العدوان؟

    * * *
    “فلتسلم فلسفة الأيدي
    ولتسقط فلسفة الأذهان”

    “كل الأوراق بما حملت
    تشتاق إلى ألفي طوفان”

    * * *
    ما أتعبنا.. يا أخت، وما
    أقوى وأمر عدى الإنسان!

    “أدري إنا لم نتغير
    مهما” عصروا “لون الطغيان”

    أترى القرصان وإن لبسوا
    أطرى الأشكال… سوى القرصان

    “تدري.. ما زلت لمولاتي
    نعلاً… وأنا نعل السلطان”

    “قل: لم تترك وثناً لكن..
    … في أنفسنا أصل الأوثان”

    “ما أضعفنا شيء إلا
    ما فينا من طين الإذعان”

    * * *
    “فلأذهب… عفواً طولنا”
    لم تذهب لقيانا.. مجان

    “حسناً عنوانك”… وابتسمت
    عيناها… كعشايا (نيسان)

    صنعا يا سلوى عنواني
    بيتي: في مزدحم الأحزان

    عملي: عزاف مبتدئ
    يبكي أو يشدو للجدران

    صندوق بريد… معروف
    برميل الحرق… أو النسيان

    * * *
    وهدأت برغمي وانصرفت
    ولبسنا الصمت على الأشجان

    12/أبريل/1972م

  • 200 مأساة.. حارس الملك

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  مأساة.. حارس الملك

    سيدي: هذي الروابي المنتنه
    لم تعد كالأمس، كسلى مذعنه

    (نقم) يهجس، يعلي رأسه
    (صبر) يهذي، يحد الألسنه

    (يسلح) يومي، يرى ميسرة
    يرتئي (عيبان) ، يرنو ميمنه

    لذرى (بعدان) ألفا مقلة
    رفعت، أنفاً كأعلى مئذنه

    ***
    أقتلوهم، واسجنوا آباءهم
    واقتلوهم، بعد تكبيل سنه

    أمركم لكن ! ولكن مثلهم
    سيدي: هذي أسامي أمكنه

    هم شياطين، أنا اعرفهم
    حين أسطو، يدعون المسكنه

    (صبر) وغد، أنا رقيته
    كان خبازاً، أحله معجنه

    (نقم) كان حصاناً لابي
    اطحنوه علفاً للاحصنه

    اقتلوا (يسلح) ألفي مرةٍ
    إسحبوا (عيبان) حتى (موسنه )

    أقلعوا (بعدان) من أعرقه
    انقلوا نصف (بكيل) مقبنه

    ***
    أمركم لكن ! ولكن اقطعوا
    رأسه، دع عنك هذى اللكننه

    عن أبي، عن جده مملكتي…
    طلقة بثت خيوط العنعنه

    سيدي: إطلاق نارٍ، ربما
    ثورة، قل تسليات محزنه

    ***
    هاجس في صدر مولانا: أتت
    من تخوفت، أكانت ممكنه

    آخر الهمس، سكوت أو لظي
    أول العزف المدوي دندنه

    الجهات الأربع احمرت، عوت
    السماء الآن، صارت مدخنه

    مهرجان دموي.. ما الذي
    شب عينيه؟ ومن ذا لونه؟

    الشياطين الذين انفلتوا
    عرفوا أدهي فنون الشيطنه

    ***
    إمض يا جندي ومزقهم… نعم
    فرصة اخرج، أرمي السلطنه

    اشعر الثوار أني منهمو
    سوف تبدو سيئاتي حسنه

    لست من عائلة الأسياد يا
    إخواني، إني (مثنى محصنه )

    إنني سيف لمن يحملني
    خادم الأسياد، كل الازمنه

    كنت في كفي (أبي جهل) كما
    كنت في تلك الأكف المؤمنه

    في فمي (ارجورتا هند) كما
    في فمي (الأعراف) و(الممتحنه)

    كنت في كفي (يزيد) شعلة
    في يد (السبط) شظايا مثخنه

    وتمصعبت بكفي (مصعب)
    و(لمروان) حذقت المرونه

    اعرف الموت (مقامات) هنا
    ها هنا أشدو المنايا (الميجنه)

    ينتضيني، من يسمى سيداً
    أو هجيبناً، واليد المستهجنه

    إنني للمعتدي، بي يعتدي
    للمضحي، بي يفدي موطنه

    حين قلتم ثورة شعبية
    جئتكم اشتاق كفاً متقنه

    رافضاً كالشعب أن يدميني
    (اخزم) ثان جديد (الشنشنه)

    ***
    علمت خطوي حماسات الذرى

    قلق الريح وفن المكننه

    لا عيالي شكلوا مبخلة..
    ليديا لا بناتي مجبنه

    ***
    صرت غيري، ولعيني موطني
    صغت جرحي أنجماً مستوطنه

    عن مماتي: وردة تحكي، وعن
    مولدي في الموت تنبي سوسنه

    فترةً، وارتد مولانا إلى…
    ألف مولى، سلطنات (كومنه)

    أي نفع يجتني الشعب إذا
    مات (فرعون) لتبقى الفرعنه؟

    نفس ذاك الطبل، أضحى ستة
    انما أخوى وأعلى طنطنه

    يمنوني، يسروني، توجهوا
    من دعوها الوسط المتزنه

    جاءنا المحتل، في غير اسمه
    لبست وجه النبي القرصنه

    سادتي عفواً ! ستبدو قصتي
    عندكم عادية، ممتهنه

    ***
    كنت سجاناً أدق القيد عن
    خبرة، صرت أجيد الزنزنه

    اقتل المقتول، آدميه إلى…
    أن أرى الإسرار، حمراً معلنه

    ***
    قد تطوت، على تطويرهم
    وأنا نفس الادارة الموهنه

    محنتي أني – كما كنت – لمن
    هزني، مأساة عمري مزمنه

    (أكتوبر 1976)

  • 201 صياد البروق

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  صياد البروق

    وحدي.. نعم كالبحر وحدي
    مني ولي، جزري ومدي

    وحدي وآلاف الربى
    فوقي.. وكل الدهر عندي

    من جلدي الخشبي اخرج
    تدخل الأزمان جلدي

    من لا متى، آتي، أعود
    مضيعاً قلبي وبعدي

    كحقيبة ملأى ولا تدري
    كبابُ، لا يؤدي

    مشروع أغنية، بلا
    صوت، كتاب غير مجد

    شيء يخبئني الدجى
    في زرع سرته ويبدي

    من تشتهي… من أنت يا جندي؟
    هل اسمي غير جندي؟

    حاولت مثلك مرة…
    أبدو ذكياً… ضاع جهدي

    من أنت يا مجدي أفندي؟
    فال لي: (مجدي افندي؟ )

    ماذا تضيف إلى الغروب
    إذا وصفت اللون وردي؟

    هل أنت مثلي؟ أكشف المكشوف
    حين يغيم قصدي؟

    … مثلي ركبت ذرى المشيب،
    وما وصلت سفوح رشدي

    ***
    أسرع… وينجر الطريق،
    وينثني… يعمى ويهدي

    قف عند حدك حيث أنت
    وهل هنا حد لحدي؟

    كانوا هنالك يضحكون
    يوددون فم التعدي

    باسمي يوشون الخيانة
    يسفحون دمي، بزندي

    بي يرفلون ليحفروا
    بيدي في فخذي لحدي

    ***
    فأموت، لكن يغتلي
    في كل ذراتي التحدي

    أهوي بلا كفين… ترفع
    جبهتي، للشمس بندي

    ماذا؟ وأين أنا؟ وأصعد
    من قرارات التردي

    بعد اعتصار الكرم ينشدك
    الرحيق: بدأت عهدي

    ستصير يا هذا الذي
    ادعوه قبري الآن مهدي

    وأجيء من نار البروق….
    يسنبل الاشواق رعدي

    (نوفمير1976م )

  • 202 بعد الحنين

    ديوان لعيني أم بلقيس >  بعد الحنين

    هل تغفرين لو انني
    أبدي الذي حاولت أخفي؟

    سأقول شيئاً تافهاً
    يكفي الذي قد كان يكفي

    ما عاد يسبقني الحنين إليك
    أو ينجر خلفي

    ما كان جباراً هواك
    وإنما قواه ضعفي

    واليوم لا أبكي نواك…
    ولا اقترابي منك يشفي

    أغسطس 1969م

  • 203 زامر القفر العامر

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  زامر القفر العامر

    تغني؟.. أغانيك بين الركام
    عيون يفتتهن الزحام

    نهود تساقط مثل الحصى
    جباه يمزقها الارتطام

    وأنت تغني بلا مبتدا
    بلا خبر عن دنو الختام

    ووجهك فعل له فاعلان
    مضاف إلى جر ميمٍ ولام

    ***
    لهذا تغني بدون انقطاع
    تثور على وجهك ” ابن الحرام ”

    على جلدك البنكنوتي، على
    سعال العشايا، وبيع المنام

    وسوف تغني إلى أن يرف
    صداك ربيعاً ويهمي حمام

    لأنك اشواق راعٍ (بإب)
    وأحلام فلاحةٍ في (شبام )

    وأعراس كاذية في (حراز)
    وأفراح سنبلةٍ في (مرام )

    ***
    لأن حروفك عشبية
    كعينيك يا نيي الاهتمام

    تزمر للسهل كي يشرئب
    وللسفح كي يخلع الاحتشام

    وللمنحنى كي.. يمد يديه
    ويعلي ذوائبه لليمام

    وللبيدر المنطفي، كي يشع
    ويورق في المنجل الابتسام

    وللشمس، كي تجتلي أوجهاً
    دخانية، في مرايا الظلام

    من الحقل جئت نبياً اليه
    وما جئت من (هاشمُ) أو (هشام)

    أغانيك بوح روابي (العدين)
    مناك تشهي دوالي (رجام )

    لأن بقلبك صوم الحقول
    تغني لتسود صفر الغمام

    ***
    هواك اعتناق الندى والغصون
    لأن غرامك غير الغرام

    تموت أسيً، كي تشيع السرور
    تغني – وأنت القتيل – السلام

    (مايو1976م)

  • 204 كانوا رجالاً

    ديوان لعيني أم بلقيس >  كانوا رجالاً

    من نحن.. يا “صرواح” يا “ميتم”؟
    موتى… ولكن ندعي… نزعم

    ننجرُ.. لا نمضي… ولا ننثني
    لا نحن أيقاظ… ولا نوم

    نغفو بلا نومٍ ونصحو بلا
    صحوٍ… فلا نرنو ولا نحلم

    كم تضحك الدنيا وتبكي أسى
    ونحن لا نبكي ولا نبسم

    فلم يعد يضحكنا مضحك
    ولم تعد آلامنا تؤلم

    أضاعت الأفراح ألوانها
    وفي عروق الحزن جف الدم

    ماذا..؟ ألفنا طعم أوجاعنا
    أو لم نعد نشتم… أو نطعم؟
    * * *
    أزقة البترول تمتصنا
    تبصقنا للريح… أو تهضم

    والسيد المحكوم في داره
    في دارنا المستحكم الأعظم

    * * *
    بلادنا كانت، وأبطالنا
    كانوا رجالاً قبل أن يحكموا

    يقال: كانوا فهماء الحمى
    واليوم لا ينوون أن يفهموا

    ثاروا صباح القصف لكنهم
    يوم انتصار الثورة استسلموا

    وبعد عام غيروا لونهم
    وبعد أيام نسوا من هموا

    يا موطني… من ذا تنادي هنا؟
    اسكت.. لماذا..؟ أنت لا تعلم

    إن طويل العمر لا يرتضي
    حباً ينادي… أو صدى يلهم

    ترون أن أنسى يمانيتي
    كي يطمئن الفاتح الأغشم

    * * *
    الصمت أنجى… حسن..! إنما
    في نار صمتي (يمن) مرغم

    هذي بلادي، وهنا إخوتي
    أسكت… تأدب… طافر مجرم

    لكن لماذا؟ ..؟ إن أهلي بنوا
    هنا دياراً، وهنا خيموا

    في كل شبرٍ تنجلي ضحوة
    من خطوهم… أو يزدهي موسم

    هذي الحصى من بعض أشلائهم
    من لحمهم هذي الربى الجثم

    هذا الضحى من وهج أبصارهم
    ومن رؤاهم هذه الأنجم

    ما زلت أدري أن ذا موطني
    … لم لا أناديه وعندي فم؟

  • 205 الفاتح الأعزل

    ديوان لعيني أم بلقيس >  الفاتح الأعزل

    ساهٍ… في مقعده المهمل
    كسؤالٍ ينسى أن يسأل

    كحريق يبحث عن نار
    فيه عن وقدته يذهل

    كجنين في نهدي أم
    لهفى تتمنى أن تحبل

    * * *

    يطفو ويقر كعصفور
    تواق في قفص مقفل

    يستقي كالحلم الظامي
    ويحدق كالطيف الأحول

    فيشم خطى الفجر الآتي
    في منتصف الليل الأليل

    ويصوغ الصمت ضحى غزلاً
    وأصيلاً وردياً أكحل

    ويضيع جمالاً مبذولاً
    في الكشف عن العدم الأجمل

    يشدو للزاوية الكسلى
    ويصيخ إلى الركن الأكسل

    ويفتش عن فمه الثاني
    ويحن إلى فمه الأول

    * * *

    والأربعة الجدران إلى
    عينيه تصغي… تتأمل

    ترنو كفتاة تستجدي
    غزلاً… وإذا ابتسمت تخجل

    * * *

    يغلي ويمور كما يعدو
    في كف العاصفة المشعل

    مرمي كالقبر المنسي
    وإلى كل الدنيا يرحل

    يغزو الأقمار ولا يعيى
    ويخوض البحر ولا يبتل

    * * *

    في كل رواية فنان
    من قصته الفصل الأطول

    في كل تثني أغنية
    أنثى لهواه تتجمل

    في كل كتاب عن بطل
    أخبار عنه لم تنقل

    * * *

    حياً في التاريخ الفاني
    في الكثبان العطشى يخضل

    يقتاد الخيل (كعنترة)
    يجتر الزق مع (الاخطل)

    ويناضل (قيصر) في (روما)
    (كسبرتاكوس) ولا يفشل

    يطوي (الإسكندر) في يده
    ويجول على كتفي (أخيل)

    ويرد اليوم إلى الماضي
    ويعيد الماضي مستقبل

    ويلم الأزمنة الشتى
    لحظات تعرف ما تجهل

    تتشهى “تنوي” تتحدى
    تستأني “تعدو” تتخيل

    فيعفر (ابرهة).. يذكي
    عيني (سنا) بدم المحتل

    يهمي فوق (الجولان) لظى
    يرمي (بالشمر) عن المنهل

    يمحو (سايجون) بإصبعه
    ويمزق (خيبر) بالمنجل

    يلقي عن صهوته (كسرى)
    ويقاتل في (حيفا) أعزل

    يدميه القصف ولا يدمي
    يرديه القتل ولا يقتل

    يهفو من حلق الموت إلى
    أعتاب الميلاد الأحفل

    * * *

    يجتث الكون ليبدأه
    أسخى ويشكله أفضل

    ويصوغ العالم ثانية
    أو يأمره أن يتحول

    * * *

    مرمي يرحل من بعدٍ
    كالهول إلى البعد الأهول

    في كل متاهٍ يستهدي
    في كل حريقٍ يتغسل

    يغزو المجهول بلا وعيٍ
    ويعي لا يدري ما يفعل

    فيعود يشكل ما ألغى
    أو يمضي يمحو ما شكل

    ديسمبر 1972م

  • 206 بين الرجل والطريق

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  بين الرجل والطريق

    كان رأسي في يدي مثل اللفافه
    وأنا أمشي، كباعات الصحافة

    وأنادي: يا ممرات إلى أين
    تنجر طوابير السخافة؟

    يا براميل القمامات، إلى
    أين تمضين..؟ إلى دور الثقافة

    كل برميل إلى الدور..؟ نعم
    وإلى المقهى..؟ جواسيس الخلافة

    ثم ماذا..؟ ورصيف مثقل
    برصيف.. يحسب الصمت حصافة

    ***
    ههنا قصف.. هنا يهمي دم
    ربما سموة توريد اللطافة

    ما الذي..؟ من أطلق النار؟..سدى
    زادت النيران والقتلى كثافة

    لم يعد للقتل وقع..؟ ريما
    لم تعد للشارع الداوي رهافة

    لا فضول يرتئي.. لا خبر
    خيفة كالأمن.. أمن كالمخافة

    ***
    ما الذي؟.. موت يموت يلتقي
    فوق موتي.. من رأى في ذا طرافة؟

    نهض الموتى.. هوى من لم يمت
    كالنعاس الموت..؟ لا شيء خرافه

    ***
    يا عشايا.. يا هنا.. يا ريح.. من
    يشتري رأسي، بحلقوم (الزرافة)؟

    بين رجلي وطريقي، جثتي
    بين كفي وفمي، عنف المسافة

    المحال الآن يبدو غيره
    كذبت (عرافة) (الجوف) العرافة

    ههنا ألقي حطامي..؟ حسناً
    ربما تلفت عمال النظافة

    ربما تسألني مكنسة..ما أنا
    أو تزدري هذي الإضافة

    نوفمبر 1975م

    – في البيت الخامس (عرافة الجوف) وهي ربعة بنت سنان، كانت تتهم النجوم إذا فشلت في تنبئها عن المستقبل.

  • 207 لافتة على طريق العيد العاشر لثورة سبتمبر

    ديوان لعيني أم بلقيس >  لافتة على طريق العيد العاشر لثورة سبتمبر

    أيها الآتي بلا وجه إلينا
    لم تعد منا ولا ضيفاً لدينا

    غير أنا… يا لتزييف الهوى
    نلتقي اليوم برغمي رغبتينا

    سترانا غير من كنا كما
    سوف تبدو غير من كنا رأينا

    أسفاً ضيعتنا… أو ضعت من
    قبضتينا يوم ضيعنا يدينا

    * * *

    قبل عشرٍ كنت منا ولنا
    يا ترى كيف تلاقينا.. وأينا؟

    أنت لا تدري ولا ندري متى
    فرقتنا الريح، أو أين التقينا؟

    وإلى أين مضى السير بنا
    دون أن ندري، ومن أين انثنينا

    * * *

    يوم جئنا الملتقى لم ندر من
    أين جئنا وإلى أين أتينا؟

    ربما جئنا إليه مثلما
    يطفر الإعصار أو سرنا الهوينا

    ربما جئنا بلا وجهين أو
    ضاع وجهانا ومرأى وجهتينا

    * * *

    عبثاً نسأل أطلال المنى
    بعد بؤس المنتهى كيف ابتدينا؟

    كيف ذقنا وجع الميلاد كم
    ضحك المهد لنا أو كم بكينا

    كيف ناغينا الصبا، ماذا انتوى؟
    مهدنا المشؤوم، أو ماذا انتوينا؟

    * * *

    لا نعي كيف ابتدينا… أو متى
    كل ما نذكره أنا أنتهينا؟

    أنت مهما ترتدي أسماءنا
    من أعادينا ومحسوب علينا

    غير أنا كل عام نلتقي
    عادة والزيف يخزي موقفينا

    صنعاء: 26 سبتمبر 1972م

  • 208 نصيحة سيئة

    ديوان لعيني أم بلقيس >  نصيحة سيئة

    إن تريدي سيارةً وإداره
    فلتكوني قوادة عن جداره

    ولتعدي لكل سلطان مالٍ
    كل يوم زواجةً مستعاره

    ولتكوني عميلة ذات مكرٍ
    تشربين القلوب حتى القراره

    ولتبيتي سرير كل وزير
    ولتمني من في انتظار الوزاره
    وبهذا النشاط تمسين أعلى
    من وزيرٍ… وربما مستشاره

    فسراويل الحاكمين تعاني
    رغم تبريدها وثوب الحراراه

    * * *

    أنت أدرى بهم فليس لديهم
    غير ما تعرفين أدنى مهاره

    إنما… هل ترين هذا امتيازاً؟
    مثل هذا يجريه فار وفاره

    * * *

    ليس للحاكمين أي طموحٍ
    غير تحقيق أمسيات العهاره

    والتماس المساعدات لتفنى
    جبهة الشعب تحت نعل التجاره

    واجتلاب المخططين صنوفاً
    كي تضيع البلاد في كل قاره

    * * *

    أنتِ أدرى بهم وليس غريباً
    فالبغايا عيون حكم الدعاره

    أنتِ تشرينهم بدفء الليالي
    فيبيعون في هواكِ الإماره

    وتقودين المنتناتِ إليهم
    فتقودينهم بأخفى إشاره

    * * *

    لا تضيقي فلم يعد ذاك سراً
    إن أقوى الرياح ريح القذاره

    فلتزيدي من النشاط لتبني
    كالسلاطين كل شهر عماره

    تلك أخزى نصيحة فاقبليها
    كي تفوزي – ولاتكوني حماره

    لستِ إلا عبارة ذات وجه
    لوجوه دلت عليها العباره

  • 209 أبو تمام وعروبة اليوم

    ما أصدق السيف! إن لم ينضهِ الكذبُ
    وأكذب السيف إن لم يصدقِ الغضبُ

    بيضُ الصفائحِ أهدى حين تحملها
    أيدٍ إذا غلبتْ يعلو بها الغَلبُ

    وأقبح النصر! نصر الأقوياء بلا
    فهم.. سوى فهم كم باعوا.. وكم كسبوا

    أدهى من الجهلِ علمٌ يطمئن إلى
    أنضاف ناسٍ طغوا بالعلم واغتصبوا

    قالوا: هم البشر الأرقى وما أكلوا
    شيئاً.. كما أكلوا الإنسان أو شربوا!

    * * *
    ماذا جرى… يا أبا تمام تسألني؟
    عفواً سأروي.. ولا تسأل.. وما السببُ

    يدمي السؤال حياءً حين نسأله
    كيف احتفت بالعدى (حيفا) أو (النقبُ)

    من ذا يلبي؟ أما إصرار معتصمٍ
    كلا وأخزى من (الأفشين) ما صلبوا

    اليوم عادت علوجُ (الرومِ) فاتحةً
    وموطن العرب المسلوبُ والسلبُ

    ماذا فعلنا؟ غضبنا كالرجال ولم
    نصدق.. وقد صدق التنجيمُ والكتبُ

    فأطفأت شهبُ (الميراجِ) أنجمنا
    وشمسنا… وتحدت نارها الحطبُ

    وقاتلت دوننا الأبواق صامدةً
    أما الرجال فماتوا… ثم أو هربوا

    ***

    حكامنا إن تصدوا للحمى اقتحموا
    وإن تصدى له المستعمر انسحبوا

    هم يفرشون لجيش الغزو أعينهم
    ويدعون وثوباً قبل أن يثبوا

    الحاكمون و”واشنطن” حكومتهم
    واللامعون.. وما شعوا ولا غربوا

    القاتلون نبوغ الشعب ترضيةً
    للمعتدين وما أجدتهم القِربُ

    لهم شموخ (المثنى) ظاهراً ولهم
    هوى إلى “بابك الخرمي” ينتسبُ

    * * *
    ماذا ترى يا (أبا تمام) هل كذبتُ؟
    أحسابنا؟ أم تناسى عرقهُ الذهبُ؟

    عروبة اليوم أخرى لا ينم على
    وجودها اسمٌ ولا لونٌ.. ولا لقبُ

    تسعوت ألفاً (لعمورية) اتقدوا
    وللمنجم قالوا: إننا الشهبُ!

    قيل: انتظار قطاف الكرمِ ما انتظروا
    نضج العناقيد.. لكن قبلها التهبوا

    واليوم تسعون مليوناً وما بلغوا
    نضجاً.. وقد عصر الزيتونُ والعنبُ

    تنسى الرؤوس العوالي نار نخوتها
    إذا امتطاها إلى أسياده الذنب

    ***
    (حبيب) وافيت من صنعاء يحملني
    نسر وخلف ضلوعي يلهثُ العربُ

    ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي؟
    مليحة عاشقاها: السّلُ والجربُ

    ماتت بصندوق “وضاحٍ” بلا ثمنِ
    ولم يمت في حشاها العشقُ والطربُ

    كانت تراقب صبحَ البعثِ.. فانبعثت
    في الحلم.. ثم ارتمت تغفو وترتقبُ

    لكنها رغم بخل الغيث ما برحت
    حبلى وفي بطنها “قحطانُ” أو “كربُ”

    وفي أسى مقلتيها يغتلي “يمنٌ”
    ثانٍ كحلم الصبا… ينأى ويقتربُ

    * * *
    “حبيب”! تسأل عن حالي وكيف أنا؟
    شبابةٌ في شفاهِ الريحِ تنتحبُ

    كانت بلادك (رحلاً)، ظهر (ناجيةٍ)
    أما بلادي فلا ظهرٌ ولا غببُ

    أرعيت كل جديبٍ لحمَ راحلةٍ
    كانت رعتهُ وماء الروض ينسكبُ

    ورحت من سفر مضنٍ إلى سفرٍ
    أضنى… لأن طريق الراحة التعبُ

    لكن أنا راحلٌ في غير ما سفرٍ
    رحلي دمي… وطريقي الجمرُ والحطبُ

    إذا امتطيت ركاباً للنوى فأنا
    في داخلي… أمتطي ناري وأغتربُ

    قبري ومأساة ميلادي على كتفي
    وحولي العدمُ المنفوخُ والصخبُ

    * * *
    “حبيب”! هذا صداك اليوم أنشدهُ
    لكن لماذا ترى وجهي وتكتئبُ؟

    ماذا؟ أتعجبُ من شيبي على صغري؟
    إني ولدت عجوزاً.. كيف تعتجبُ؟

    واليوم أذوي وطيش الفن يعزفني
    والأربعون على خدي تلتهبُ

    كذا إذا ابيض إيناع الحياةِ على
    وجه الأديبِ أضاء الفكر والأدبُ

    * * *
    وأنت من شبت قبل الأربعين على
    نار (الحماسة) تجلوها وتنتخبُ

    وتجتدي كل لصٍ مترفٍ هبةً
    وأنت تعطيه شعراً فوق ما يهبُ

    شرقت غربت من (والٍ) إلى (ملكٍ)
    يحثك الفقرُ… أو يقتادك الطلبُ

    طوفت حتى وصلت (الموصل) انطفأت
    فيك الاماني ولم يشبع لها أربُ

    لكن موت المجيد الفذ يبدأهُ
    ولادةٌ من صباها ترضع الحقبُ

    * * *
    “حبيب”! ما زال في عينيك أسئلةٌ
    تبدو.. وتنسى حكاياها فتنتقبُ

    وماتزال بحلقي ألف مبكيةٍ
    من رهبة البوح تستحيي وتضطربُ

    يكفيك أن عدانا أهدروا دمنا
    ونحن من دمنا نحسو ونحتلبُ

    سحائب الغزو تشوينا وتحجبنا
    يوماً ستحبل من إرعادنا السحبُ؟

    ألا ترى يا “أبا تمام” بارقنا
    (إن السماء ترجى حين تحتجبُ)

    ديسمبر 1971م

  • 210 مواطن بلا وطن

    ديوان لعيني أم بلقيس >  مواطن بلا وطن

    مواطن بلا وطن
    لأنه من اليمن

    تباع أرض شعبه
    وتشترى بلا ثمن

    يبكي إذا سألته
    من أين أنت؟.. أنت من؟

    لأنه من لا هنا
    أو من مزائد العلن

    * * *

    مواطن كان حماه
    من (قبا) إلى (عدن)

    واليوم لم تعد له
    مزارع ولا سكن

    ولا ظلال حائط
    ولا بقايا من فنن

    * * *

    بلاده سطر على
    كتاب: (عبرة الزمن)

    رواية عن (اسعد)
    اسطورة عن (ذي يزن)

    حكاية عن هدهد
    كان عميلاً مؤتمن

    وعن ملوك استبوا
    أو سبأوا مليون دن

    الملك كان ملكهم
    سواه (قعب من لبن)

    * * *

    واليوم طفل حمير
    بلا أب بلا صبا

    بلا مدينة… بلا
    مخابىء… بلا ربى

    يغزوه ألف هدهد
    وتنثني بلا نبا

    * * *

    يكفيه أن أمه
    (ريا) وجده (سبأ)

    وأن عم خاله
    كان يزين (يحصبا)

    وأن خال عمه
    كان يقود (أرحبا)

    كانوا يضيئون الدجى
    ويعبدون الكوكبا

    يدرون ما شادوا…ولا
    يدرون ماذا خربا

    يبنون للفار العلى
    ويزرعون للدبا

    يا ناسج (الاكليل) قل:
    تلك الجباه من غبا

    أو سمها كواكباً
    تمنعت أن تعربا

    فهل لها ذرية
    من الشموخ والإبا؟

    * * *

    اليوم أرض (مأرب)
    كأمها موجهه

    يقودها كأمها
    فار…وسوط (أبرهه)

    فما أمر أمسها
    ويومها ما أشبهه

    تبيع لون وجهها
    للأوجه المموهه

    * * *

    (تموز) في عيونها
    كالعانس المولهه

    والشمس في جبينها
    كاللوحة المشوهه

    * * *

    فيا(سهيل)هل ترى
    أسئلة مدلهه؟

    متى يفيق ها هنا
    شعب يعي تنبهه؟

    وقبل أن يرنو إلى
    شيء يرى ما أتفهه

    فينتقي تحت الضحى
    وجوهه المنزهه

    يمضي وينسى خلفه
    عاداته المسفهه

    يفنى بكل ذرة
    من أرضه المؤلهه

    هنا يحس أنه
    مواطن له وطن

    يوليو 1970م

  • 211 تقرير إلى عام 71 حيث كنا

    ديوان لعيني أم بلقيس >  تقرير إلى عام 71 حيث كنا

    حيث كنا كما أراد الإمام
    كل دعوى.. منا.. علينا.. اتهام

    إنما سوف ندعي ولتصدق
    يا “وصابان” ولتثق يا (رجام)

    غير أنا وبعد تسع طوال
    حيث كنا كأنما مر عام

    * * *

    كلما جد، أننا قد كشفنا
    أوجهاً دلنا عليها اللثام

    وعرفنا من العمالات صنفاً
    كان أطرى ما أحدث “العم سام”

    يرتدي كل ساعة ألف لون
    وله كل ساعتين نظام

    * * *

    حيث كنا، لكن لماذا أضعنا
    في التعادي سبعاً، وفيم الخصام؟

    جرحتنا الحروب في غير شيء
    وبلا غاية دهانا السلام
    * * *

    الغزاة الذين يوماً تلاشوا
    بقوانا، لهم علينا اقتحام

    إنهم يوغلون فينا ونغضي
    فلماذا… رعناهموا حين حاموا

    * * *

    الركام الذي نفضناه عنا
    ذات يوم له علينا ازدحام

    ونعال الغزاة هي كثير
    فوق أعناقنا جباه وهام

    * * *

    والأباة الذين بالأمس ثاروا
    أيقظوا حولنا الذئاب وناموا

    حين قلنا قاموا بثورة شعب
    قعدوا قبل أن يروا كيف قاموا

    ربما أحسنوا البدايات لكن…
    هل يحسون كيف ساء الختام؟

    مات (سبتمبر) البشير ولكن
    أمه ناهد هواها غلام

    يناير 1971م

  • 212 اعتراف بلا توبة

    ديوان لعيني أم بلقيس >  اعتراف بلا توبة

    إن يدع العلم فلا فرية
    فالصدق كل الصدق فيما ادعى

    لكن سر العلم في نفسه
    كالعسل الصافي خبيث الوعا

    * * *

    يقول: شيطان وشيطانة
    دعت.. فلبى… أوهفت إذ دعا

    ولم يقل: إلف ومألوفة
    تجمعا… سبحان من جمعا

    لأنني استحليت أمسية
    يردني عن درسه موجعا

    إن كنت ألقى نادراً حلوة
    فهو يلاقي… دائماً أربعا

    أريد أنساً مثله… أشتهي
    كالناس أن أروى… وأن أشبعا

    * * *

    يا سيدي المفضال: قالوا: ترى
    تعليم مثلي قط لن ينفعا

    أغلقت باب البيت والدرس في
    وجهي… سألقى الدرس والموضعا
    * * *

    يا (لطف)… مهما لمتني لم أدع
    هذا السلوك الشائن الممتعا

    ولتمنع التعليم عني كما
    تهوى… فخير منك لن يمنعا

    * * *

    أبصرتني من بيتها خارجاً
    كالكلب… أمشي واجفاً مسرعا؟

    نعم.. جرى هذا وإن تبتغي
    شهادة أقوى سل المضجعا

    تقول: أني منكر بعدما
    ألقت لديك التهمة البرقعا

    فلأعتراف… لا ناوياً توبة
    إني ومن سميت بتنا معا

    1947م

  • 213 صنعاني يبحث عن صنعاء

    ديوان لعيني أم بلقيس >  صنعاني يبحث عن صنعاء

    هذي العمارات العوالي
    ضيعن تجوالي… مجالي

    حولي كأضرحةٍ مزورة
    بألوان اللآلي

    يلمحنني بنواظر الاسمنت
    من خلف التعالي

    هذي العمارات الكبار
    الخرس ملأى كالخوالي

    أدنو ولا يعرفنني
    أبكي ولا يسألن: ما لي؟

    وأقول: من أين الطريق؟
    وهن أغبى من سؤالي

    * * *

    كانت لعمي هاهنا
    دار تحيط بها الدوالي

    فغدت عمارة تاجر (هندي)
    أبوه (برتغالي)

    وهناك حصن تآمر كان
    اسمه (دار الشلالي)

    وهناك دار عمالة كان
    اسمها (بيت العبالي)

    وهنا قصور أجانب
    غلفٍ كتجار الموالي

    * * *

    هل هذه صنعاء؟ مضت
    صنعاء سوى كسر بوالي

    خمس من السنوات أجلت
    وجهها الحر (الأزالي)
    * * *

    من أين يا أسمنت أمشي؟
    ضاعت الدنيا حيالي

    بيت ابن أختي في (معمر)
    في (الفليحي) بيت خالي

    أين الطريق إلى (معمر)؟
    يا بناتي يا عيالي

    وإلى (الفليحي) يا زحام…
    ولا يعي أو لا يبالي

    بالله يا أماه دليني
    ورقت لابتهالي

    قالت: إلى (النهرين)..
    قدامي وأمضي عن شمالي

    وإلى (القزالي) ثم أستهدي
    ب (صومعة) قبالي

    من يعرف… (النهرين)؟..
    من أين الطريق إلى (القزالي)
    * * *

    من ذا هناك؟ مسافر
    مثلي يعاني مثل حالي

    حشد من العجلات يلهث
    في السباق وفي التوالي

    وهناك (نصرانية) كحصان
    (مسعود الهلالي)

    وهناك مرتزق بلا وجه…
    على كتفيه (آلي)

    * * *

    اليوم (صنعا) وهي متخمة
    الديار بلا أهالي

    يحتلها السمسار، والغازي،
    ونصف الرأسمالي

    والسائح المشبوه، والداعي،
    وأصناف الجوالي

    من ذا هنا؟ (صنعا)
    مضت واحلتها كل انحلالي

    * * *

    أمي! أتلقين الغزاة
    بوجه مضياف مثالي؟

    لم لا تعادين العدى..؟
    من لا يعادي لا يوالي

    من لا يصارع… لا نسائي
    الفؤاد… ولا رجالي

    إني أغالي في محبة
    موطني… لم لا أغالي؟

    * * *

    من أين أرجع… أو أمر..؟
    هنا سابحث عن مجالي

    ستجد أيام بلا منفى
    وتشمس يا نضالي!

    وأحب فجر ما يهل
    عليك من أدجى الليالي

    3/5/1972م

  • 214 اعتيادان

    ديوان لعيني أم بلقيس >  اعتيادان

    حان لي أن أطيق عنك ابتعادا
    والتهابي سيستحيل رمادا

    وتجيئين تسألين كلهفى
    عن غيابي، وتدعين السهادا

    وتقولين: أين أنت؟ أتنسى؟
    وتعيدين لي زماناً مبادا

    * * *

    أو ما كنتُ أغتلي وأرجي
    قطرات، فتبذلين اتقادا؟

    تزرعين الوعود في جدب عمري
    وتدسين في البذور الجرادا

    * * *

    كان لا بد أن أقول: وداعاً
    وبرغمي لا أستطيع ارتدادا

    غير أني أود أن لا تظني
    إنني خنت أو أسأت اعتقادا
    * * *

    ربما تزعمين أن ابتعادي
    عنك أدنى (رضية) أو (سعادا)

    أو تقولين: إن جوع احتراقي
    عند أخرى لاقى جنى وابترادا

    أطمئني… لدي غير التسلي
    ما أعادي من أجله وأعادى

    * * *

    قد أنادي نداء (قيسٍ) ولكن
    كل (قيس) وكل (لبنى) المنادى

    لي نصيبي من التفاهات، لكن
    لن تريني… أريد منها ازديادا

    * * *

    لم أكن (شهريار) لكن تمادت
    عشرة صورتك لي (شهرزادا)

    كان حبي لك اعتياداً وإلفاً
    وسأنساك إلفة واعتيادا

  • 215 يمني في بلاد الآخرين

    ديوان لعيني أم بلقيس >  يمني في بلاد الآخرين

    من أين أنا؟ من يدري
    أوليست لي جنسيه؟

    نسبي رايات حمر
    وفتوحات ذهبيه

    فلماذا تستغربني
    هذي الزمر الخشبيه

    يا إخواني أصلي من
    صنعاء أمي: (دبعيه)

    صنعاوي، حجري!
    ما صنعاء، ما الحجريه؟

    * * *

    من أين أنا؟ تشويني
    بتغابيها السخريه

    عربي لا تعرفني…
    حتى الدنيا العربيه

    وأبي -قالوا- يمني
    أمي -قالوا- يمنيه

    لكن أنستني لوني
    وفمي.. أيدي الهمجيه

    سنوات جوعى عطشى
    وقيادات تبعيه

    وغرابات لا تروى
    وغرابات مرويه

    * * *

    يا ريح… بلادي خلفي
    ومعي مثلي منسيه

    حتى أرضي يا أرضي
    كأهاليها منفيه!!

    وطني أسفار تمضي
    وتعود بلا أمنيه

    تشريد لا بدء له
    ومسافات وحشيه

    حراس حدود يقظى
    وتقانين وثنيه

    مدن لا أسماع لها
    وزحامات عدميه

    أسواق كبرى أدنى
    ما فيهن البشريه

    وبدائيات غرقى
    في الأقنعة العصريه

    وعلى رغمي أستجدي
    كل الأيدي الحجريه

    * * *

    وبلاد بلادي منفى
    ومتاهات أبديه

    من أين أنا؟.. مجهول
    جوال دون هويه

    وبلا وطنٍ لكني
    موهوم بالوطنيه

    أكتوبر 1972م

  • 216 صبوة

    ديوان لعيني أم بلقيس >  صبوة

    دكتورة الأطفال إني هنا
    من يوم ميلادي بلا مرضعه

    عندي عصافير الهوى تجتدي
    حنان هذي الكرمة الطيعه

    وربما استكذبتِني إنما
    من أين لي… أن أحرق الأقنعه

    ترينني كهلاً وفي داخلي
    من التصابي صبية أربعه

    مجاعة الخمسين في أضلعي
    طفولة أعتى من الزوبعه

    خلف اتزاني مائج صاخب
    سفينة نارية الأشرعه

    * * *

    دكتورة الأطفال لا تبعدي
    عني وعن مأساتي الموجعه

    لقد زرعتُ الحب… لكنني
    ما ذقت إلاّ حنظل المزرعه

    عمري بلا ماضٍ… ومستقبلي
    كأمسيات الغابة المفزعه

    23 يناير 1970م

  • 217 مدينة بلا وجه

    ديوان لعيني أم بلقيس >  مدينة بلا وجه

    أتدرين يا صنعاء ماذا الذي يجري
    تموتين في شعب يموت ولايدري

    تموتين… لكن كل يوم وبعدما
    تموتين تستحيين من موتك المزري

    ويمتصك الطاعون لا تسألينه
    إلى كم..؟ فيستحلي المقام ويستشري

    تموتين… لكن في ترقب مولد
    فتنسين أو ينساك ميعاده المغري

    * * *
    فهل تبحثين اليوم عن وجهك الذي
    فقدتيه أو عن وجهك الآخر العصري

    إلى أين هل تدرين من أين..؟ ربما
    طلعتِ بلا وجه وغبتِ بلا ظهر؟

    تسيرين من قبر لقبر لتبحثي
    وراء سكون الدفن عن ضجة الحشر

    أتستنشقين الفجر في ظلمة بلا
    هدوء.. بلا نجم.. يدل على الفجر؟

    * * *
    خبا كل شيء فيك لا تسألينه
    لماذا..؟ ألا يعنيك شيء من الأمر

    وحتى الروابي فيك باعت جباهها
    وماعرفت ماذا تبيع وما تشري..!

    وحتى عشايا الصيف فيك بلا رؤى
    وحتى أزاهير الربيع بلا عطر

    وحتى الدوالي فيك ضاع مصيفها
    وحتى السواقي ضيعت منبع النهر

    وحتى أغاني الحب مات حنينها
    وحتى عيون الشعر فيك بلا شعر

    أتدرين أن الشمس فوقك لا ترى
    وأن لياليك المريضات لا تسري

    سدى تنشدين الفجر في أي مطلع
    وفي ناظريك الفجر أو ليلة القدر

    يناير 1971م

  • 218 إمرأة وشاعر

    ديوان لعيني أم بلقيس >  إمرأة وشاعر

    أتسائلين من التي
    آثرت… أو أين اشتياقي؟

    وترددين ألست من
    أبدعت صحوي وائتلاقي؟

    شطآن عيني… اخضرار
    مواسمي… دفئي… مذاقي

    بستان وجهي… أمسيات
    جدائلي… ضحوات ساقي

    * * *

    سميتني وهج الضحى
    قمراً يجل على المحاق

    بوح الزنابق والورود
    إلى النسيمات الرقاق

    أنسيتني بشريتي
    ونسيت بالأرض التصاقي..؟

    وذهبت يا أغلى مرايا
    الحسن… أو أحلى نفاق

    أتعود لي… تبكي غروبي؟
    أو تغني لانبثاقي؟

    * * *

    لن تعدمي غيري ولن
    تلقي كصدقي واختلاقي

    قد كنت موثوقاً إليك…
    مَن التي قطعت وثاقي؟

    لما وجدت القرب منك
    أمرّ من سهر الفراق

    آثرت حزن البعد عنك
    على مرارات التلاقي

    * * *

    وبدون توديع ذهبت
    كما أتيت بلا اتفاق

    ونسيت بيتك والطريق
    … نسيت رائحة الزقاق

    لم أدر من أين انطلقت
    … ومن لقيت لدى انطلاقي

    انسقت… لا أدري الطريق
    ولا الطريق يعي انسياقي

    حتى المصابيح التي
    حولي تعاني كاختناقي

    كان اللقاء بلا وجوه
    والفراق بلا مآقي

    * * *

    فلتتركيني للنوى
    أظما وأمتص احتراقي

    وبرغم هذا الجدب لن
    أأسى على الخَل المراق

    * * *

    لكن لماذا تسألين؟
    بمن أهيم… ومن ألاقي؟

    فلتستريحي إنني
    وحدي، وأحزاني رفاقي

    كالسندباد بلا بحار
    كالغدير بلا سواقي

    ورجاي ألا تسألي
    هل مت… أو ما زلت باقي؟

    1971م

  • 219 لعيني أم بلقيس

    ديوان لعيني أم بلقيس >  لعيني أم بلقيس

    لها أغلى حبيباتي
    بداياتي… وغاياتي

    لها غزوي وإرهاقي
    لها أزهى فتوحاتي

    وأسفاري إلى الماضي
    وإبحاري إلى الآتي

    لعيني (أم بلقيس)
    فتوحاتي وراياتي

    وأنقاضي وأجنحي
    وأقماري وغيماتي

    لها تلويحُ توديعي
    لها أشواقُ أوباتي

    أشرق وهي قدامي
    أغرب وهي مرآتي

    إليها ينتهي روحي
    ومنها تبتدي ذاتي

    * * *

    أغني… وهي أنفاسي
    وأسكت وهي إنصاتي

    وأظمأ… وهي إحراقي
    وأحسو… وهي كاساتي

    أموت وحبها موتي
    وأحيا وهي مأساتي

    * * *

    ترويني لظى وهوى
    وأشدو ظامئاً: هاتي

    فتقصيني كعادتها
    وأتبعها كعاداتي

    وأغزل من روايحها
    مجاديفي ومرساتي

    هنا وهناك مولاتي
    وأسأل: أين مولاتي؟

    * * *

    أنا فيها وأحملها
    على أكتاف آهاتي

    على أشواق أشواقي
    على ذرات ذراتي

    وأذوي… وهي تحملني
    فتنمو في جراحاتي

    وأسأل: أين ألقاها؟
    فتغلي في صباباتي

    وترنو من أسى همسي
    ومن أحزان أوقاتي

    ومن صمتي كتمثال
    أشكل وجه نحاتي

    وتبدو من شذا غزلي
    ومن ضحكات حلواتي

    ومن نظرات جيراني
    ومن لفتات جاراتي

    ومن أسمار أجدادي
    ومن هذيان جداتي

    ومن أحلام أطفالي
    ومن أطياف أمواتي

    * * *

    هنا ميلاد غاليتي
    هنا تاريخها العاتي

    هنا تمتد عارية
    وراء الغيهب الشاتي

    تحن إلى الغد الأهنى
    فيمضي قبل أن يأتي

    15 نوفمبر 1972م

  • 220 في بيتها العريق

    ديوان لعيني أم بلقيس >  في بيتها العريق

    من؟.. قلت: أنا يا غزوله
    … أهلاً! بحروف مشلوله

    أهلاً..! في لهجة قاتلة
    تخشى أن تمسي مقتوله

    ماذا تخشين؟.. أليست لي
    بالدار صلات موصوله؟!

    أولست صديقاً تعرفني
    هذي الحجرات المملوله؟!

    * * *

    هذا الدهليز المستلقي
    هذي الجدران المصقوله…

    * * *

    إصعد… لكن هل في فمها
    أخرى؟..أو أذني مخلوله؟

    وصعدت كمجهول قلق
    يجتاز شعاباً مجهولة!

    ومعي صعدت… كانت تبدو
    جذلى بالحسرة مكحوله!

    كمؤمرة… من تحكمهم…
    ماتوا، أو باتت معزوله

    في نصف العمر بعينيها
    أجيالُ وعودٍ ممطوله

    وشظايا معركة بدأت
    نصراً وارتدت مخذوله

    * * *

    شرّفت، وزادت ترحيباً
    كزواق عروس معلوله

    عندي ضيف، ومددت يدي
    لبنانٍ كسلى مقفوله

    أهلاً، فأجاب كمن يلقي
    أعذاراً ليست مقبوله

    * * *

    إجلس، قالتها واقتربت
    تروي أخباراً معقوله

    عندي الجارات، وزوج (هدى)
    وطبيب… إني منزوله
    * * *

    وهنا انتزعتني قهقة
    وصدى نحنحة مغلوله

    فسمعت من الغرف الأخرى
    أنفاس حنايا متبوله

    بوحاً كالحبل المسترخي
    تحت الأثواب المبلوله

    نبرات نداء وجواب
    كلهاث عجوز مسعوله

    ضحكات ذئاب جائعة
    همسات نعاج مأكوله

    * * *

    هل هذا البيت بعزته
    أمسى أحضاناً مبذوله؟

    بيتٌ خداعٌ، ربتُه
    من زيف الدعوى مجبوله

    أيكون الخَل سوى خَلٍ…
    حتى في الكأس المعسوله

    لكن… ما بال الضيف يرى
    وجهي بلحاظٍ مذهوله

    * * *

    ما جئت أفتش عن عبث
    أو عن لحظات مسلوله

    ما جئت لأنزل منطقة
    بنعوش سكارى مأهوله

    قولي لي أنت، بلا ذوق
    فلتذهب… إني مشغوله

    * * *

    ما جئت إليك على أمل
    أسفاري ليست مأموله

    لكني جئت بلا سبب
    رديني، لست المسؤوله

    ورجعت كما أقبلت بلا
    هدف كالريح المخبوله

  • 221 عينة جديدة من الحزن

    ديوان لعيني أم بلقيس >  عينة جديدة من الحزن

    مثلما تعصر نهديها السحابه
    تمطر الجدران صمتاً وكآبه

    يسقط الظل على الظل كما
    ترتمي فوق السآمات الذبابه

    يمضغ السقف وأحداق الكوى
    لغطاً ميتاً وأصداءً مصابه

    مزقاً من ذكريات وهوى
    وكؤوساً من جراحات مذابه

    * * *

    تبحث الأحزان في الأحزان عن
    وترٍ باكٍ وعن حلق ربابه

    عن نعاس يملك الأحلام عن
    شجن أعمق من تيه الضبابه

    تسعل الأشجار، تحسو ظلها
    تجمد الساعات من برد الرتابه

    * * *

    ها هنا الحزن على عادته…
    فلماذا اليوم للحزن غرابه؟

    ينزوي كالبوم يهمي كالدبى
    يرتخي، يمتد، يزداد رحابه

    يلبس الأجفان، يمتص الرؤى
    يمتطي للعنف أسراب الدعابه

    يلتوي مثل الأفاعي، يغتلي
    كالمدى العطشى ويسطو كالعصابه

    يرتدي زي المرائي… ينكفي
    عارياً كالصخر شوكي الصلابه
    * * *

    وبلا حس يغني وبلا
    سبب يبكي ويستبكي الخطابه

    يكتب الأقدار في ثانية
    ثم في ثانية يمحو الكتابه

    للثواني اليوم أيد وفم
    مثلما تعدو على المذعور غابه

    وعيون تغزل اللمح كما
    تغزل الأشباح أنقاض الخرابه

    * * *

    من ينسّينا مرارات العدى؟
    من يقوينا على حمل الصحابه؟

    من يعيد الشجو للأحزان؟ من
    يمنح التسهيد أوجاع الصبابه؟

    من يرد اللون للألوان؟ من
    يهب الأكفان شيئاً من خلابه

    * * *

    كان للمألوف لون وشذى
    كان للمجهول شوق ومهابه!

    * * *

    من هنا..؟ أسئلة من قبل أن
    تبتدي، تدري، غرابات الإجابه

    فبراير 1973م

  • 222 بلاد في المنفى

    ديوان لعيني أم بلقيس >  بلاد في المنفى

    لأن بلادي الحبيبه
    في مرتباها غريبه

    لأنها وهي ملأى
    بالخصب… غير خصيبه

    لأنها وهي حبلى
    بالري عطشى جديبه

    * * *
    جاعت ومدت يديها
    إلى الأكف المريبه

    ثم ارتمت كعجوز
    من قبل بدء الشبيبه

    تنسى المصير ويأتي
    مصيرها في حقيبه

    لأن دار أبيها
    لها مناف رهيبه

  • 223 صنعاء والحلم والزمان

    ديوان لعيني أم بلقيس >  صنعاء والحلم والزمان

    صنعاء يا أخت القبور
    ثوري فإنك لم تثوري

    حاولت أن تتقيئي
    في ليلة عفن العصور

    وأردت قبل وسائل ال
    بنيان تشييد القصور

    ونويت في تشرين أن
    تلدي أعاجيب الزهور

    * * *

    فدهاك غزو مثلما
    يحكون عن يوم النشور

    أيد كأيدي الأخطبوط
    وأوجه مثل الصخور

    فتساقطت شرفاتك ال
    نعسى كأعشاش الطيور

    وانصب إرهاب المغول
    من البكور إلى البكور

    وامتد من باب إلى
    باب كغابات النمور

    حتى رأى “نقم” ذراك
    تخر دامية الظهور

    ورأى قلوبك في الضحى
    الأعمى تفر من الصدور

    ورأى خمائلك الظليلة
    يرتحلن من الجذور

    هرب الجدار من الجدار
    هوى النفور على النفور

    * * *

    صنعاء من أين الطريق
    إلى الرجوع أو العبور؟

    ماذا ترين؟ أتسبحين؟
    أتعبرين بلا جسور؟

    هل تسفرين على الشروق؟
    أتخجلين من السفور؟

    أتزاحمين العالم ال
    مجنون؟ يا بنت الخدور

    شهر، وعدت كما أتيت
    بلا مكان أو شهور

    تتنهدين بلا أسى
    أو تضحكين بلا سرور

    * * *

    صنعاء ماذا تشتهين؟
    أتهدئين لكي تموري

    تتوهجين ولا تعين
    وتنطفين بلا شعور

    كم تحلمين ولا ترين
    وتعتبين على الدهور

    ما زال يخذلك الزمان
    فتبزغين لكي تغوري

    يا شمس صنعاء الكسول
    أما بدا لك أن تدوري

    يوليو 1970م

  • 224 إلا أنا وبلادي

    ديوان لعيني أم بلقيس >  إلا أنا وبلادي

    تسلياتي كموجعاتي، وزادي
    مثل جوعي، وهجعتي كسهادي

    وكؤوسي مريرة مثل صحوي
    واجتماعي بأخوتي كانفرادي

    والصداقات كالعداوات تؤذي
    فسواءٌ من تصطفي أو تعادي

    * * *

    إن داري كغربتي في المنافي
    واحتراقي كذكريات رمادي

    يا بلادي! التي يقولون عنها:
    منك ناري ولي دخان اتقادي

    ذاك حظي لأن أمي (سعود)
    وأبي (مرشد) وخالي (قمادي)

    أو لأني أطعمت أولاد جاري
    ورفاقي دفاتري ومدادي

    أو لأني دفعت عن طهر أختى
    وبناتي مكر الذئاب العوادي

    أو لأني زعمت أن لديهم
    لي حقوقاً من قبل حق (ابن هادي)

    * * *

    يا بلادي هذي الربى والسواقي
    في ضلوعي تنهدات شوادي

    إنما من أنا وليس بكفي
    مدفع والتراب بعض امتدادي!

    ربما كنت فارساً لست أدري
    قبل بدء المجال مات جوادي

    العصافير في عروقي جياع
    والدوالي والقمح في كل وادي

    في حقولي ما في سواها ولكن
    باعت الأرض في شراء السماد

    * * *

    يا ندى.. يا حنان أم الدوالي:
    وبرغمي يجيب من لا أنادي!!

    هذه كلها بلادي… وفيها
    كل شيء… إلا أنا وبلادي!!

  • 225 من منفى إلى منفى

    ديوان لعيني أم بلقيس >  من منفى إلى منفى

    بلادي من يَدَي طاغٍ
    إلى أطغى إلى أجفى

    ومن سجن إلى سجن
    ومن منفى إلى منفى

    ومن مستعمر بادٍ
    إلى مستعمر أخفى

    ومن وحش إلى وحشين
    وهي الناقة العجفا

    * * *

    بلادي في كهوف الموت
    لا تفنى ولا تُشفى

    تنقر في القبور الخرس
    عن ميلادها الأصفى

    وعن وعد ربيعي
    وراء عيونها أغفى

    عن الحلم الذي يأتي
    عن الطيف الذي استخفى

    فتمضي من دجى ضاف
    إلى أدجى… إلى أضفى

    بلادي في ديار الغير
    أو في دارها لهفى

    وحتى في أراضيها
    تقاسي غربة المنفى

    نوفمبر 1971م

  • 226 صنعاء والموت والميلاد

    ديوان لعيني أم بلقيس >  صنعاء والموت والميلاد

    ولدت صنعاء بسبتمبر
    كي تلقى الموت بنوفمبر

    لكن كي تولد ثانية
    في مايو… أو في أكتوبر

    في أول كانون الثاني
    أو في الثاني من ديسمبر

    ما دامت هجعتها حبلى
    فولادتها لن تتأخر

    رغم الغثيان تحن إلى:
    أوجاع الطلق ولا تضجر

    ***
    ينبي عن مولدها الآتي
    شفق دامٍ فجر أشقر

    ميعاد كالثلج الغافي
    وطيوف كالمطر الأحمر

    أشلاء تخفق كالذكرى
    وتنام لتحلم بالمحشر

    ورماد نهار صيفي
    ودخان كالحلم الأسمر

    ونداء خلف نداءات
    لا تنسى (عبلة) يا (عنتر)

    أسماء لا أخطار لها
    تنبي عن أسماء أخطر

    ***
    هل تدري صنعاء الصرعى
    كيف انطفأت؟ ومتى تنشر؟

    كالمشمش ماتت واقفة
    لتعد الميلاد الأخضر

    تندى وتجف لكي تندى
    وترف ترف لكي تصفر

    وتموت بيوم مشهور
    كي تولد في يوم أشهر

    ترمي أوراقاً ميتة
    وتلوّح بالورق الأنضر

    وتظل تموت لكي تحيا
    وتموت لكي تحيا أكثر

  • 227 أنسى أن أموت

    ديوان لعيني أم بلقيس >  أنسى أن أموت

    تمتصني أمواج هذا الليل في شرهٍ صَموت

    وتعيد ما بدأت.. وتنوي أن تفوت ولا تفوت

    فتثير أوجاعي وترغمني على وجع السكوت
    وتقول لي: مت أيها الذاوي… فأنسى أن أموت
    * * *

    لكن في صدري دجى الموتى وأحزان البيوت

    ونشيج أيتامٍ… بلا مأوى… بلا ماء وقوت

    وكآبة الغيم الشتائي وارتجاف العنكبوت

    وأسى بلا اسم.. واختناقات بلا اسم أو نعوت

    * * *

    من ذا هنا؟ غير ازدحام الطين يهمس أو يصوت

    غير الفراغ المنحني.. يذوي.. يصر على الثبوت

    وتعبّهُ الآحاد والجمعُ العوانسُ والسبوت

    ودم الخُطى والأعين الملأى بأشلاء الكبوت

    * * *

    من ذا هنا؟ غير الأسامي الصفر تصرخ في خفوت
    غير انهيار الآدمية… وارتفاع (البنكنوت)
    وحدي ألوك صدى الرياح وأرتدي عري الخبوت
    القاهرة 1971م.

  • 228 الآتية

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  الآتية

    من آخر المرسى تهادت أغنيه
    تجتاز أودية، وتحمل أوديه

    كسريرة ما شم فاها كاهن
    كصبيحةِ، ما شاهدتها الأهويه

    كحديقة، لا تحتويها بقعة
    كحقيقة، أعيت فنون التغطيه

    كفجاءة كانت تهم وتنثني
    كجلية تبدي غموض الأحجيه

    * * *

    تمشي على الأنغام حافية كما
    يمشي الربيع، إلى الرياض المشتيه

    تعلي ذوائبها، وتلبس صوتها
    وتزف أمنية، وترضع أمنيه

    * * *

    تنصب أحلاماً، وتعشب أعيناً
    وترف هازجة، وتعبق موحيه

    وتنوس هاجسة، فيورق حولها
    صبح بدائي، وريا مبديه

    * * *

    تشدو ملاييناً من الأصوات في
    صوت كلا صوت، وتخطر مصغيه

    ولغاتها شتى المعاني، هذه
    تشؤو مؤداها، وتلك مؤديه

    هاتيك أفصح من أسارير الضحى
    هذي أشف، وتستعير التوريه

    * * *

    هل تلك أغنية؟ وكم أفواهها؟
    كم في جوانحا قلوباً معطيه؟

    تحكي المراعي للمراعي همسها
    تبدو الروابي للروابي مغريه

    تروي الثواني للثواني سرها
    تتناخب الحارات كأس التهنيه

    * * *

    من اين تغشى كل بيت يا ترى؟
    من كل باب غير باب التلهيه

    من كل بارقة تجيء مزيحة
    عن كل خافية ركام الأغطيه

    * * *

    تطأ المغنين الذين قلوبهم
    كثيابهم، ووجوههم كالأقفيه

    تمحو مواضعة، وتدخل بدعة
    تجتث أسماء، وتغرس تسميه

    * * *

    تصل التوهج بالتوهج تنهمي
    فرحاً، وتولم في حنايا الأقبيه

    تنأى، فتشمس تحت آباط الربى،
    تدنوا، فتقمر في سقوف الأخبيه

    * * *

    تمتد أنهاراً، تمر تفكراً..
    وتغيم رانية، وتصحو مغضيه

    بيد تركب للغصون معاطساً
    بيدٍ تفصل للعواصف أرديه

    * * *

    ماذا سيدعوها التآمر؟ طفرة
    خطراً، مباغتة؟ سيخشى التعريه

    ويرى نقاوتها فيبدى عشقه
    عبثاً، ليقتلها بدعوى التنقيه

    ويقول عارضة ستصبو مدةً
    وتموت باكيةً صباها مبكيه

    يوم، وتحيي حفلتين وترتخي
    شهر، وتصبح من بنات الأنديه

    * * *

    ويقول ثانيةً: غريب أمرها
    عرضت كتسليةٍ، وليست تسليه

    من ذا تغناها؟ أغنت نفسها؟
    ولدت بلا أبوين هذي المضنيه؟

    من ذا دعاها؟ هل أجابت دعوةً؟
    أهي الإجابة واحتمال الأدعيه؟

    عزفت لكل الناس، كيف تمكنت؟
    ومتى رأت من يستحق التضحيه؟

    كيف اختفت عن كل مقلة راصدٍ؟
    وتسلقت جدران كل الأبنيه!

    من أين جاءت؟ لا كهانات الربى
    أوشت بها، لا الريح عنها مفشيه

    * * *

    ستظل تجهد كي تعلب مدها
    وتظل تكبر، لا تعيها الأوعيه

    حسناً! تغني عكسها من شكلها
    جرب، لقد أنهت زمان التعميه

    ستظل تسأل كيف جاءت، إنها
    جاءت إلى الأشواق أسخى تلبيه

    * * *

    حملت لواء المستحيل وأسفرت
    أضحت لواءً، في يديها الألويه

    وصلت بلا خبرٍ، كأول ضحوة
    من جبهة الآتي، وأول أمسيه

    1985

  • 229 مصطفى

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  مصطفى

    فليقصفوا، لست مقصف
    وليعنفوا، أنت أعنف

    وليحشدوا، أنت تدري
    أن المخيفين أخوف

    أغنى، ولكن أشقى
    أوهى، ولكن أجلف

    أبدى ولكن أخفى
    أخزى ولكن أصلف

    لهم حديد ونار..
    وهم من القش أضعف

    * * *

    يخشون إمكان موتٍ
    وأنت للموت أألف

    وبالخطورات أغرى
    وبالقرارات أشغف

    لأنهم لهواهم..
    وأنت بالناس أكلف

    لذا تلاقي جيوشاً
    من الخواء المزخرف

    * * *

    يجزئون المجزا..
    يصنفون المصنف

    يكثفون عليهم..
    حراسة، أنت أكثف

    * * *

    كفجأة الغيب تهمي
    وكالبراكين تزحف

    تنثال عيداً، ربيعاً
    تمتد مشتىٍ ومصيف

    نسغاً إلى كل جذر
    نبضاً إلى كل معزف

    * * *

    ما قال عنك انتظار
    : هذا انثنى، أو تحرف

    ما قال نجم: تراخى،
    ما قال فجر: تخلف

    تسابق الوقت، يعيا
    وأنت لا تتوقف

    فتسحب الشمس ذيلاً
    وتلبس الليل معطف

    * * *

    أحرجت من قال: غالى
    ومن يقول: تطرف

    إن التوسط موت
    أقسى، وسموه: ألطف

    لأنهم بالتلهي
    أرضى وللزيف أوصف

    وعندك الجبن جبن
    ما فيه أجفى وأظرف

    وعندك العار أزرى
    وجهاً، إذا لاح أطرف

    * * *

    يا “مصطفى”: أي سر
    تحت القميص المنتف

    هل أنت أرهف لمحاً
    لأن عودك أنحف؟

    أأنت أخصب قلباً
    لأن بيتك أعجف؟

    هل أنت أرغد حلماً
    لأن محياك أشظف؟

    لم أنت بالكل أحفى
    من كل أذكى وأثقف؟

    من كل نبض تغني
    يبكون “من سب أهيف”

    إلى المدى أنت أهدى
    وبالسراديب أعرف

    وبالخيارات أدرى
    وللغرابات أكشف

    وبالمهارات أمضى
    وللملمات أحصف

    * * *

    فلا وراءك ملهى
    ولا أمامك مصرف

    فلا من البعد تأسى
    ولا على القرب تأسف

    لأن همك أعلى
    لأن قصدك أشرف

    لأن صدرك أملى
    لأن جيبك أنظف

    * * *

    قد يكسرونك، لكن
    تقوم أقوى وأرهف

    وهل صعدت جنياً
    إلا لترمى وتقطف

    * * *

    قد يقتلونك، تأتي
    من آخر القتل أعصف

    لأن جذرك أنمى
    لأن مجراك أريف

    لأن موتك أحيا
    من عمر مليون مترف

    * * *

    فليقذفوك جميعاً
    فأنت وحدك أقذف

    سيتلفون، ويزكو
    فيك الذي ليس يتلف

    لأنك الكل فرداً..
    كيفية، لا تكيف..

    * * *

    يا “مصطفى”، يا كتاباً
    من كل قلب تألف

    ويازماناً سيأتي
    يمحو الزمان المزيف

    1986م

  • 230 ليليات قيس اليماني

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  ليليات قيس اليماني

    أيستقي ولا يلقى ثماله
    أكل بلاده “غيل الشلاله”؟

    يبيت يثير: ما هذاوماذا
    وكيف تعملقت هذه السفاله؟

    ومن ذا أسكن الكثبات دوراً
    وعلمها الرياسة والعهاله؟

    ومن سمى “شفيقاً “بازلوني”
    وألبس “بربرى” “سلوى شباله”

    * * *
    لمذا ترتدي “حلوان” “روما”؟
    و”واشنطن” لمن لبست “صلاله”؟

    أما اتخذت قناعاً وجه “نجدٍ”
    لتقتل “مذحجاً” بيدي “تباله”

    أزالت “لندن” الأولى وجاءت
    بأخرى غير قابلة الإزاله؟

    تقامر بالعروش وبالمباغي
    تدير البابوية والبقاله

    تؤدي عمرة في كل يوم
    وتنصب لحية المفتي حباله

    ترأس نائباً يبدو جديداً
    وتكتب للرئيس الإستقاله

    فيمسي الحب أروغ من ثعال
    ويغدو القتل أشبق من ثعاله

    * * *
    تسال بكل ناحية دماء
    ولا أخذ يشاهدها مساله

    أكل عيون هذا الوقت أضحت
    فصوصاً تحت أرمدة مهاله؟

    * * *
    أيبغي الشعب نصراً مستحيلاً
    ولا تلقى الخيانات استحاله

    لماذا من يناشد أي عدل
    يكابد قتله باسم العداله؟

    * * *
    يحدق.. والرؤى غابات أيدٍ
    وأذقان كما تحمى الزباله

    وفوق الأرؤس العليا رؤوس
    وللأذيال أذيال مشاله

    وهذي المكتبات تبيع تبناً
    تهندمه البهارج والصقاله

    * * *
    يسائل: كيف ذاك وكيف هذا
    كأن عليه كل الناس عاله

    يفكر كيف يقلع كل سوء
    ويسأل مرتين: بأي آله؟

    * * *
    فيحلم أنه يملي كتاباً
    يفسر كيف علمنة الجهاله

    يعري كل أوكار الأفاعي
    ومن زرعوا نيوباً للنذاله

    ويسكن إصبعاً من كف وهمٍ
    عليه من دخان الشوق هاله

    يسافر من كتاب غير مجدٍ
    إلى ثانٍ يفتش عن علاله

    * * *
    بودي يا أبا زيد الهلالي
    لو أنّ مدينتي أم الهلاله

    لون “براش” في كفي زناد
    ألقنه الفصاحة والجزاله

    * * *
    يجوع ويحتمي بالحبر يلهو
    بمن ورثوا الشراهة والنباله

    بمن خرقوا “البشائر” واقتنوه
    وشادوا بعد “صالة” ألف صاله

    يغني للدجى: “وا ليل داني”
    يغني للضحى: “وا ليل باله”..

    ألا يا بارقاً يوماً سيهمي
    أتدري كيف أزبدت الضحاله؟

    * * *
    يؤرخ كل سجنٍ مات فيه
    ووافق أن يموت بلا كفاله

    يفصل حكم من كانو ملوكاً
    ومن أضحوا ملوكاً بالوكاله..

    * * *
    لكا رزيئةٍ -يا قيس- جد
    وأم حية ولها سلاله

    لكل معاكس -ياقيس- عكس
    تخيل كي ترى البشرى المخاله

    * * *
    يسل الحرف، يشعل مقلتيه
    يحمر قصةً، يشوي مقاله

    ينضج خاطراً، ينهي عموداً
    ويتهم الجريدة بالعماله..

    يهد قصيدة، يبني سواها
    يدوس فم التقاليد المذاله

    * * *
    أترتاب الرقابة في رموزي
    وتحسب عجمة الهندي إماله

    أتفهم في الكتابة يا “كمال”؟
    وأنت طلعت من فخذي “كماله”

    فمن أين ابتنى في “الخط” قصراً
    وفي “القاع” اشترى بيتي “قلاله”

    أيعلو زوج تلك على جبيني؟
    أهذا حلم نومٍ أم ضلاله؟

    * * *
    يبندق كل عنوان ويذكي
    بزنديه المهارة والبساله

    يجوس قرارة الأكوخ، يرقى
    إلى أذقان أصحاب الجلاله

    * * *
    أتصبو أنت يا جدي “جمالاً”
    وتفنى في الصبا أختى جماله

    و”ناجي” كيف أمسى “اللورد ناجي”
    وكان أرث من خوف الشواله

    وياهذا الزحام: أأنت شيء
    سوى حزمٍ من الخرق المجاله!

    لماذا تطبخ الساعات قشاً
    وأستنشي هنا عبق الحثاله؟

    * * *
    يغادر عالماً ينجر ميتاً
    ويدخل عالماً أطرى أصاله..

    يسمي هجعة الأحجار هجساً
    ويدعو النوم فلسفة الملاله

    هنا الأشجار والوادي رفاقي
    وبيني والربى صلة الزماله

    * * *
    من الآتون؟ هل سبقوا مجيئي؟
    أعمر هناء ئي هذي العجاله؟

    أكنت أسير خلفاً أم أماماً؟
    تشابهت الخسارة والهباله

    * * *
    يعود إلى عثور، لا ارتضاه
    ولاحانت لعثرته إقاله

    لتضييع البريد يذوب حبراً
    ويكتب كل خاطرة رسالة

    يطيل عباءة الأشواق حتى
    تعثرها، فيختصر الإطاله

    * * *
    إلى ذاك الذي.. أزجي قبوراً
    إلى ذاك الذي.. أهدي حواله

    يؤمر “عامراً” ويزيح “عمراً”
    يرقي “فاضلاً”، يقصي “فضاله”

    * * *
    يخط وريقة يمحو ثلاثاً
    يقاتل فوق جبهته البطاله

    ينادي: يا أعادي الناس أضحت
    مقاصركم أشف من الغلاله

    * * *
    أما كليت؟ أغفى كل بيتٍ
    أتغفو قيس؟ كلي يا كلاله

    يرى حلماً يهامس كيف يدنو
    يعي ذكرى كرائحة المباله

    * * *
    أينتخل البلاغة كل ليلٍ
    ويصبح ما انتقى غير النخاله

    -سأحرث تربة أخرى وأرمي
    ورائي: قالة تجتر قاله

    * * *
    يحن إلى سوى الغزلان يمضي
    إلى تغيير مرآة الغزاله

    يريد غداً بلا أمسٍ ويهوى
    عروساً ما لها أم وخاله

    * * *
    إلى الآتي، هناك له بلاد
    ستبزغ ذات يومٍ، لا محاله

    لماذا لا تشع كما أرجي؟
    أليس الدهر حالاً بعد حاله

    * * *
    يشم لوعدها قلباً شموخاً
    ووجهاً مثل طهر البرتقاله

    يراها وهي أخفى عنه لكن
    وعود الخير غامضة الدلاله

    1985

  • 231 المقبوض عليه ثانياً

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  المقبوض عليه ثانياً

    أتقول لي غلطان؟ لست بمربكي
    من كم تركت؟ أتستثير تشككي؟

    هذا اسمك الحركي كما سجلته
    ما عدت أعرفه، نسيت تحركي

    هذا هو اسمك ما انمحى، فتشتم
    سنة عن المرحوم (عيسى الدهلكي)

    أنظر إليها.. تلك ليست صورتي
    هذا غلام دون قامة (نيزكي)

    * * *

    قل لي، أتذكر هاهنا زنزانةً؟
    كانت على وجعي تقوم وتتكي

    إن قمت أدمى سقف رأسي سقفها
    وإذا بركت بها أقضت مبركي

    الأخشن المقرور منها مدنفي
    والأملس الحران كان مد لكي

    وعصاك تطبخني لها، تومي: كلي
    هذا اللعين، ومثله كي تسمكي

    أتظنني زاولت غير وظيفتي
    أينوب سجني عنك، إنك مضحكي

    كانت تلفك يوم ذاك عباءة
    وعليك كوفية وجوخ ليلكي

    وعلي فوق نزيف جلدي ما اسمه
    ثوبي، وكان على الجراح مشوكي

    * * *

    أيام كنت تشدني وتسوطني
    وإليك منك، إلى جنابك شتكي

    وأحاور الإنسان فيك وما هنا،
    أحد سوى مستهلكي أو مهلكي

    إن قلت رفقاً، قلت هيا يا يدي،
    هدي قوى هذا المكبل واسفكي

    * * *

    حتى اهتديت إلى مدى ذاتيتي
    أوغلت بحثا في أرومة مسلكي

    فعرفت قلة خبرتي وثقافتي
    وملكت سر تحولي وتفبركي

    وأردت أسرار الرفاق فزدت ما
    لا علم لي، فصرخت: أنت (مدربكي)

    قل ما رأيت وما سمعت ولا تزد
    -داخلت أنفسهم أطلت تحككي

    * * *

    من ذلك اليوم ابتدأت تصيخ لي
    وأنا ابتدأت على يديك تنسكي

    وبعيد أيام، إليك دعوتني
    ألمقتلي؟ ألمخرجي من مضنكي؟

    لا فرق يا هذي المنية نتفي
    ما أبقت الأولى، ويا أخرى العكي

    * * *

    حتى وصلت إليك، زدت جهامةً
    كي تستزيد على الحريق(تمعكي)

    وهنالك استرأيت (فكتور) الذي
    يعلوك، واستفسرت شيخاً كونكي

    ومؤذناً يردي على إفك الزنى
    ويرى الزنازن، لم يقل لا تأفكي

    * * *

    وظللت أحدس، ما هنا يا خطةً
    أضنت جنون الحبك لا تتحبكي

    وسألتني: أتركت طيشك كله
    -صدق تركت وقلت يا نفس اتركي

    وأضفت: دع عنك القراءة واسترح
    -شكراً لنصحك فهي سر تلبكي

    فهمست لي: ستكون يوماً نافعاً
    خذ هذه الآلاف، كن وغداً ذكي

    * * *

    أأنا منحتك؟ قبل عشر هاهنا
    ورأين إذعاني وصدق تبركي

    واعدت لي تفصيل ما لقنتني
    وسمعت مني -يافلان- تفذلكي

    * * *

    فخرجت من أنياب غولك قشةً
    أجتر خاتمتي وبدء تأمركي

    أنشق، ألبس قاتلاً يعتم بي،
    أغشى قتيلاً يستفز تمحكي

    لا القاتل ارتاحت له نفس، ولا
    هجع القتيل، فأين غاية معركي؟

    * * *

    أقبلت نحوي من هناك، فهل هنا
    ثانٍ هناك؟ ومن يحس “تنهنكي”(*)

    يا درب قل شيئاً، أجب يا غيم، يا
    لغة السكوت تهاجسي أو سكسكي

    يا حرتكات “المرسديس” تعطلي
    يا سرة الأرض الدفينة حرتكي

    * * *

    كيف التويت، دخلت أدغالاً بلا
    حد، تشابكها أضاف تشبكي

    لاقيت كل مقربٍ ومسلط
    بوَجِيه قواد وكف برمكي

    أغدقت كي أبتز أكثر فارتضوا
    عبثي، وزكوني وما فيهم زكي

    * * *

    من ذا هداك؟ إليك منك تسكعي
    ما انفك، زندك من خناقي ممسكي

    فخلصت منك إلى الترحل صائحاً:
    يا أم أروى “جمهري أو ميلكي”

    “يادار عاتكة التي” قتلت أبي
    قولي لمن أحببت: لا تتعيتكي

    * * *

    ما دام عندي مبلغ يا وجهتي
    فتأفرقي، وتلندني، وتبجلكي

    وهتفت: يا تلك المصادفة اصنعي
    حظي، ويا تلك المهارة كنكي

    يا صفقة الأفيون لا تتعثري
    يا صفقة الأفلام لا تتوعكي

    حل يا رماد مجوهراتٍ في يدي
    وبسحر نعلي يا رمال تفرنكي

    * * *

    أنا هدمتك وابتنيتك ثانياً؟
    وعمرت هدمي من حطام تفككي

    الأرض تخصبها الندوب، أما أنا
    بعض التراب؟ فهادمي “كمدمكي”

    * * *

    أبعام سبعين انتميت؟ وبعده
    أتخمتم جيبي فذاب تمسكي

    ما كنت من ذاك التحرك تنتوي؟
    الآن سلني عن هموم “توركي”

    ما كنت ثورياً صحيحاً إنما
    حاربت فيكم يوم ذاك تصعلكي

    * * *

    اليوم لا أهذي بإفلاطون، لا
    أدري المعري “جعفري” أو “مزدكي”

    ولذاك أنزل كل قطر أكتري
    “شرتون” أشري ما يريد تهتكي

    * * *

    ويقال أني -رغم باريسيتي
    وتأمركي-مازلت “يحيى الشربكي”

    أتحسني ما زلت كندياً؟ نعم
    البنكنوت مؤوربي و”مؤنتكي”

    * * *

    أعيادة التجميل ما أجدت ولا
    هذي الخواتم، لا دهان مفركي؟

    قد صرت “سابستا” وكنت “محمداً”
    ودعيت “ماترلا” وكنت “البهنكي”

    * * *

    أصبحت قاروناً أجب كم تشتهي
    مني؟ فألف الألف ليس بمنهكي

    لي في “الزبيري” “فلتان” ومنزل
    بمدينة “الإسكان”، لست بمدركي!

    * * *

    خططت من أيام سجنك للغنى؟
    بل كنت أنت -ومادريت- متكتكي

    والآن لا أقوى عليك، فما ترى؟
    هل أنت في هذي التجارة مشركي؟

    لكنني لم أنتهش أحداً، ولا
    إحتزت أسلحة أقول لها افتكي

    ماذا؟ أتسخر يا فلان؟ ألست من
    إبداع سوطي من صياغة مسبكي؟

    لم لا تجرب صوغ نفسك مثلما
    جوهرتني أيام كنت محلكي

    * * *

    إني سقطت على يديك لارتقي
    فهبطت أدنى من نعال مبنكي

    قد كنت ذا ثمن ومذ ملكتني
    فرصاً وأبنية أجدن تملكي

    نكأت جراحي ثروتي، وقبيلها
    لم يبق فيها الجلد حساً ينتكي

    * * *

    أتقول لي: ماذا فعلت بحنكتي؟
    زمن الزنابر والبعوض محنكي

    أَوَ كل الحكاية؟ ربما
    رسبت مرارات أبت أن تنحكي

    يونيو 1984

  • 232 أمسيات في فندق

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  أمسيات في فندق

    أمن بعد عشرين ولت وخمس
    تشم لبشراك خطواً وهمس

    وعن كفها تنقر الباب أنت
    وفي هجس أذنيك تزداد غمس

    وترقب مطلعها في نجومٍ
    تلهى بها الجو قضماً وطمس

    وفي كتبٍ أعشب الصمت فيها
    وأشبعها السوس نخراً وعمس

    * * *

    وحيداً تقاسي انتظار الصباح
    وتتعب لا شيء حدساً ولمس

    ويأتي الصباح الذي مر أمس
    ويدنو المساء الذي عاد أمس

    * * *

    صباح العشيات يا شبه قصرٍ
    مساء الصبيحات يا شبه رمس

    لياليك عرج الثواني، ضحاك
    ينوء بصخر يسميه شمس

    * * *

  • 233 آخر الصمت

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  آخر الصمت

    مثلما ينقل السأم
    مقلتيه إلى القدم

    يصبغ الليل ريشه
    يرتخي، يلبس الورم

    داخلاً فيه، خارجاً،
    بادئاً، كلما اختتم

    راقعاً وجه حارسٍ
    بتلابيب متهم

    راقماً كلما محا
    ماحياً كلما رقم

    * * *

    ينذر الصحو: لا تقف
    يزجر السهد: لا تنم

    يا كرى طلق الرؤى
    يا سهاد اعشق الألم

    * * *

    ما حكى السقف يا كوى؟
    كيف أشواقه وكم؟

    يا مقاهي من دعى؟
    يا دواوين من زعم؟

    يا ممرات من مشى؟
    يا دكاكين من جثم

    هل صبت أ حارة؟
    أي مصباح اقتحم؟

    أي بابٍ لجاره..
    مد حضناً أو ابتسم؟

    * * *

    عنتري على المنى
    حاتمي بلا كرم

    سبئي وما سبا
    هاشمي وما هشم(*)

    القناديل تحته
    مثل لا، ترتدي نعم

    شهوة البرق فوقه
    كلسان بدون فم

    الرؤى في عيونه
    حفر من لظى ودم

    * * *

    ينتدي كل نجمة
    فيه من آخر العدم

    تنحني تحضن الثرى
    عالماً ما له علم

    تدخل البدء مثلما
    يبحث الحبر عن قلم

    فترى وجه حلمها
    مثل نقشين من “إرم”

    * * *

    -هذه نجمة لها
    جرأة الريح والحمم

    تقرن الغور بالربى
    و”جهيمان” بالحرم

    تلك أدهى وإن شكت
    عشق جيران ذي سلم

    تلك أقوى وإن علت
    وجهها طاعة الخدم

    تلك تبدو جديدة
    هل لها إخوة وعم؟

    كيف تنوي ولاترى
    قلبها أعين الظلم

    * * *

    لم تعد تلك أنجمي
    يا “سهى” ما الذي نجم؟

    غيرت نهجها السما؟
    أي طيش بها ألم!

    * * *

    ما الذي ثم؟ هاجس
    خط حرفين ،وانكتم

    خاطر مرَّ من هنا
    شام برقين فانقسم

    * * *

    مثلما يعشب الأسى
    يشرب القهوة الندم

    كجيوش هزيمةٍ
    ينصت الشارع الأصم

    تحمل الريح كالعصى
    قشة أصبحت هرم

    تحتذي نأمة الحصى
    تكتسي كل مزدحم

    ترتعي همسها كما
    ترتعي صوفها الغنم

    * * *

    يخرج اللون من، إلى
    غير لونٍ ولا مشم

    يفقد الهم قلبه
    قبل أن يعرف الأهم

    * * *

    أي صوت له شذى
    أي صمت له حكم؟

    أي بدءٍ له مدى
    يطلب الأبعد الأتم؟

    * * *

    الفرادات غربة
    كيف تنصب في الأعم

    هل تقوم السهول أو
    تنحني قامة القمم؟
    * * *

    لا السؤال استراح، لا
    أفصح الرد، لا وجم

    تحتسي كل لحظةٍ
    صمتها يبدأ النغم

    1986

  • 234 الحقيقي

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  الحقيقي

    يجيء بلا وقتٍ، وبالوقت يلتقي
    أيغدوا أيسري؟ أي وقتيه يتقي؟

    يقاوي سراه، أم يداري غدوه؟
    إلى قصده يجري، ومجراه زئبقي

    * * *
    يقول الحصى: من ذلك الطالع الذي؟
    تقول خطاه للمراعي: تعملقي

    ينادي الأخاديد التي ملها الثوى:
    هناك طريق فاسبقيني أو الحقي

    * * *
    تهس الروابي: من أتى؟ إنه الذي
    إلى فجر عينيه تنادى تحرقي

    يمر ويفضي للشجيرات مثلما
    يقول الشذى للريح: لمي تفرقي

    وتهمس عنه لثغة الحلك مثلما،
    إلى الطل يومي الورد: قبل تفتقي

    تشع بعينيه بكارة حبّه
    ويغري شموخ القلب فيه تعلقي

    * * *
    أكاد اسميه وينبو عن اسمه
    يلوح “كصعدي” ويحكي كمعبقي

    بصوصي كهندي يؤدي شعيرة
    يغيم كغاني، ويصحو كجلقي

    عليه جبين مثل فعلٍ مضارعٍ
    عليه قميص كالهجاء الفرزدقي

    ومن حبه قالوا: تزوج أمه
    أأدعوه منذ الآن: “أوديب” مشرقي

    بودي أسميه، وأعيا لأنه
    يجافي تقاليدي، فأطوي تحذلقي

    * * *
    تلاوين مرآه تروغ أمامه
    إذا اختار وردياًتلقاه فستقي

    وإن شام “بكرياً” تحول “تغلباً”
    وإن “شم” صوفياً دنا منه “بيهقي”

    * * *
    -أتختار لي هذي المرايا وجوهها
    وتبتز وجهي، غير هذا تألقي

    لماذا أرى والوقت يلبس رؤيتي؟
    وأبحث عن نطقي، ويهذي بمنطقي

    * * *
    أيا من تسمى الوقت: من أين جئتني؟
    وهل أنت إلا دفقة من تدفقي؟

    وهل كنت في نسغي قبيل تفتحي؟
    وهل أنت من بعد التفتح مغلقي؟

    صعدت بلا وقتٍ وقلبي على يدي
    كتاب، وهذا وجهك الآن رونقي

    لأني حقيقي فأنت مغايري
    لأني زمان أنت صنعي ومئزقي

    إذن لست مني، إنما منك أقتني
    مشماً لإبراقي ولوناً لبيرقي

    قميصاً غداة العيد يكشف جدتي
    قناعاً يواري عن جفوني تمزقي

    * * *
    على أي حالٍ جئت أختط وجهتي
    فيا هذه الأرض استقري أو اقلقي

    محوت وصايا “العم” قولي ل”عمتي”
    “على غيرنا يا أم عمرٍ تشدقي”

    ومن غير تاريخ الأبوة وابنها
    أتيت فليني يا ذرى أو تبندقي

    تعريت للأمطار والنار والمدى
    وهذا التعري -يا متاريس- خندقي

    أمامي طريق لا يؤدي، وهاهنا
    طريق أراه لا يراني تحققي

    وهذا طريق ما له أي نكهةٍ
    وهذا له شم ولكن تخلقي

    وهذا له وجه عن الجيد مبعد
    وهذا طفيلي محياه غلفقي

    وهذا كسيفٍ “عولقي” يلوح لي
    وهذا كسيف يدعي شكل “عولقي”

    وهذا طريق من طريقين، هل أرى
    طريقاً له قلب ينادي تطرقي؟

    * * *
    أأنشق بين الشهل والصعب يا خطى؟
    أتجتاز شبراً واحداً يا تشققي؟

    أرى ألف نهجٍ، سوف أختار واحداً
    لأني وحيد، فانتخب يا تشوقي

    * * *
    ومن أين يا شتى الممرات يبتدي؟
    أجيبيه يا شتى الأعاصير واصدقي

    أتوصينه يجري على جري وقته؟
    لقد جاء عكس الوقت، كفي وأطرقي

    أيفنى ربيع في مدى شوط ساعةٍ
    ليدعى زمان القحط، ربان زنبقي

    * * *
    لقد جاء هذا يا ليالي لتشمسي
    ويا أرض كي ترمي السعال وتعشقي

    أليس له وجه وحيد وموقف
    كنسغ الدوالي؟ سوف يدعى تسلقي

    ولو جاء قبل اليوم سماه “عاصم”
    كفوراً، وأمسى عند “توماس” هرطقي

    ولو شاهدت صنعا فرادة وجهه
    لسمته “رومياً” ولو كان “مفحقي”

    ولو مر من (تكساس) قالت بأنه:
    “لوممبا” وقالت (مونتكرلو): تزندقي

    يريد لكي يحيا غباءً مطوراً
    ووجهاً تجارياً، ووجهاً تملقي

    * * *
    أيسقط بين البدء والبدء؟ يبتغي
    وثوباً على حشد النقيضين يرتقي

    يروم ابتداع المستحيل فتنثني
    إليه غثاثات الزمان “الخورنقي”

    * * *
    أيصبح وقتاً ثالثاً أين يلتجي؟
    إلى غير وقتٍ، أي موتيه ينتقي؟

    أيرضى الذي يلقى؟ وهل عنه مرجع
    أيفني شقاء الظل أم أصله الشقي

    * * *
    وهل جاء يمحو الوقت أو فيه ينمحي؟
    وهل جاء يطوي الجدب أو منه يستقي؟

    أيرجو الذي يخشى، ويخشى الذي رجا؟
    فيلقى الذي يردي كذاك الذي يقي

    أجاء يوشي باسمه وجه عكسه
    لماذا أتى، هذا السؤال الذي بقي(*)

    1985

  • 235 حكاية طالب

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  حكاية طالب

    مصروفه في كل يومٍ وفير
    أبوه إما سارق أو أمير

    أو عنده أم ك(مرجانة)
    في بيتها كل مساءٍ وزير

    عليه من تغنيجها مسحة
    ومن هدايا زائريها عبير

    * * *
    في كل يوم يكتسي حلة
    أخرى، فيبدو دمية من حرير

    حقيبة تخطو كجاسوسة
    تروم أن تغوي نقياً شهير

    * * *
    تأتي به سيارة وحده
    تعيده أخرى عليها خفير

    يجيء ظهراً أو ضحى مثلما
    يأتي إلى حفل البلاط السفير

    * * *
    يظل مطوياً مدى الوقت لا
    يثيره شيء ولا يستثير

    يجيب إيماءً، ينادي كما
    يمازح الصمت الزجاج الكسير

    * * *
    يا ليت شعري ما اسمه عله
    “سميرة” لكن ينادي “سمير”

    يلوح في العشرين يبديه في
    بداية العشر الغباء النضير

    تحديقه مثل طحين الحصى
    وخطوه يحكي عجين الشعير

    * * *
    يبالغ الأستاذ “رشوان” في
    تدليله، يرعاه كابن المدير

    يدعوه “طه” “أجدع الكل”، بل
    يدعوه “مرسي” عبقرياً خطير

    عليه من ذين وذا هالة
    تحيطه عن أمر والٍ كبير

    “ومصطفى” يعنى بإنجاحه
    فيستحق السبق وهو الأخير

    * * *
    يجتاز صفاً بعد صفٍ وما
    عانى طريقاً أو، أراد المسير

    وبعد عام سوف يرقى إلى
    كلية أعلى، ويدعى الجدير

    ويصبح الدكتور، في داره
    دكتورة من أي ملهىً أجير

    ونحن في التجهيل نذوي كما
    يضيع في قيظ الرمال الغدير

    * * *
    رقوه يا “يحيى”، كما رسبوا
    “عدنان” إذ سمى زهيراً جرير

    تحتاج يا “نعمان” كي ترتقي
    عما طفيلياً وصدراً وثير

    -من قال أني أبتغي رفعةً
    كهذه، هذا طموح حقير

    * * *
    رقوه يا “ملهي”، نعم حظه
    أحظه أم أستذات الحمير؟

    ما شأنه يا “صقر” تشقى به
    أشمه عنوان آتٍ مرير

    هذا الذي من صفنا كم ترى
    له بصنعا أو سواها نظير

    قل أين أهل البيت يا بيتنا
    ولا تقل للفأر أين الضمير

    * * *
    يا “قيس” رقوه، كما رفعوا
    من قسمنا كل كسول غرير

    ورسبوا “نصراً” لنسيانه
    “أم النبي”، هذا امتحان عسير

    وسهلوه كيف شاؤوا لمن
    لاقوه عوناً أو رأوه عشير

    * * *
    يا “زيد” أسكت بيننا من يشي
    دعه، أما أنكرت هذا النكير

    أخاف أستاذاً أرى وجهه
    ولا أرى فيه الوجوه الكثير

    في الليل يسطو هادئاً، في الضحى
    يجتر ساقاً كمبال البعير

    وتحت إبطيه ككراسةٍ
    ولفةٌ فيها جهاز صغير

    * * *
    هذا الذي قال: إله القوى
    أنال إسرائيل رباً قدير

    عرفته يا “صقر”؟ كان اسمه
    “وصفي” وهذا العام يدعى “منير”

    والآن أضحى مستشاراً ولا
    يدري سوى الشيطان ماذا يشير

    وفوق هذا عنده ناهد
    كأنها قارورة من أثير

    عن وحيه رقوا “سميراً” أما
    إرادة التجهيل جهل المصير

    * * *
    “سمير” من يا “مقطري”؟ خلته
    سليل بيت مخبر أو خبير

    تراهما سيان يا صاحبي
    وراء كل ألف سرٌ مثير

    ووالدا هذا؟ حكت عمتي:
    إن أباه مات شهماً فقير

    إذن له أم كما لاح لي
    طريق عرش المال خبث السرير

    تجري التقارير الفظيعات من
    صالونها، وهو الفظيع القرير

    * * *
    ماذا سيأتي بعد ذا؟ هل له
    بعد؟ وهل عمر المآسي قصير؟

    هذا نذير، بل بشير، أصخ
    بشير من؟ ماذا يقول البشير؟

    1985

  • 236 سكران وشرطي ملتحي

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  سكران وشرطي ملتحي

    وقعت يا أحمر العينين تحت يدي
    شكراً أخا اللطف يبدو كنت مفتقدي

    قف حيث أنت، مساء الخير، طبت منىً
    إمكان سيارةٍ ما كان في خلدي

    * * *

    من أين أقبلت هذا الحين تحملني؟
    لن أفقد الحظ طول العمر يا نكدي

    أحرقت نفطاً كثيراً طالباً أحداً
    سكران لولاك يا ملعون لم أجد

    وشت بك الحمرة النشوى ورائحة
    -ما أسعد الورد لو لاقى كمنتقدي

    عما تفتش في جيبي وخاصرتي؟
    -إبلع سؤالك واركب لصق مقتعدي

    * * *
    -من بيت من جئت؟ من ظهري إلى قدمي
    ما زلت سكران، لا تسرع، أطل أمدي

    ناقشتم جيداً؟ من كان أحمسكم؟
    -“طه” وأثقفنا “الحداد والعمدي”

    ترى “الكميت” خزاعياً أباً وهوىً؟
    أم أنت من رأي “غازي” إنه أسدي

    -إخرس، نجوم الدجى يضحكن لي أترى
    كأنهن كؤوس من دم البرد؟

    لديك سيارة أخرى! أتترك لي
    هذي إلى الصبح؟ مت يا وغد بالحسد

    * * *
    -ياهذه الليلة امتدي وياطرقي
    أرجوك طولي وياسيارة اتئدي

    هذا “هتيل المخا” هذا “سبا” وهنا
    بدء “الزبيري” وهذا معرض “الهجدي”

    هذي البيوت حبيباتي نوافذها
    رنو قلبي إلى أيامها الجدد

    * * *
    -انزل وصلنا، بودي أن أظل هنا
    أحسو النجوم وأشوي الليل في كبدي

    فوراً أعشيك ليلاً ساخناً دسماً
    نح المسدس عني لم يقم أودي

    أوصلتك البيت، لكن كيف جاء هنا
    بيتي، وزاد اتساعاً وهو كالوتد؟

    تقول بيتي، أهذا القفر حارتنا؟
    ياهذه الغابة الصخرية ابتعدي

    لعله بيتك الثاني، وأنت به
    ضيف، ولكن يلاقيني كمزدردي

    * * *
    أوصلت سكران؟ هل تمسي عصاي بلا
    أهنى عشاءٍ فيمسي الغبن متسدي

    أدخله نلقي عليه الآن أسئلة:
    جادت ليالي بني ودي ومعتقدي

    إجلس، لماذا تحيينا؟ عرفتكم
    هذا “سعيد” وهذا “أكرم الجندي”

    هذا “حسين” زميلي كان والده
    ضخم العمامة “بحري النهى” “زبدي”

    “نعمان” في حملة “العرقوب” كان معي
    “علوان” كان يولي وحده مددي

    * * *
    كنا تلاميذ أقسام فعسكرنا
    أيلول تحت سناه الأخضر الغرد

    وكانت الثورة الحمراء تنشدنا
    عليكم يا بني أيلول معتمدي

    ما زلت تجتر ذكراها؟ وأنشدها:
    “يادارمية بالعلياء فالسند”

    * * *
    وجدت في جيبه هذا الكتاب، أرى
    “مستقبل النفط” لغو الزور والفند

    وهل كتبت سوى هذا؟ محاولة
    عن “صلح دعان” كراساً عن “العندي”

    * * *
    قالوا تزوجت خمساً، ألف كارثةٍ
    تشقي ثلاثين جلفاً “مريم الصيدي”

    يقال: حاربت في “ردفان” في “حرضٍ”
    وقال: من لم يحارب إنني “قعدي”

    * * *
    والآن سكران؟ لتر بين أربعةٍ
    هل عندكم نصف لتر ينطفي سهدي

    نسقيك تسعين سوطاً، ما سمعت به،
    سوطاً؟ أنوعاً من الويسكي أم البلدي؟

    كالأسود الإنجليزي: هل سمعت به؟ كلا،
    لعلي عرفت الأصفر الكندي

    تحسو مداداً وخمراً، فاسق خطر
    هذا الكتاب دليلي أنت مستندي

    أنزله زنزانة والصبح تجلده
    كم جلدة؟ قلت لا تبخل على أحد

    * * *
    يا أحمد الليلة اشتدت أواخرها
    فقل لها اتقدي فوقي أو ابتردي

    دخلت قارورة أخرى، ستألفها
    واسكر كما شئت سكر الفارس النجد

    تريد جلداً إضافياً لسوطهم؟
    نعم وجسماً إضافياً إلى جسدي

    * * *
    يا “أحمد” اصبر بلا ضيق، صدقت، بلا
    شكوى وياقسوة الزنزانة اجتهدي

    شدي ضلوعي فما لاقيت غانيةً
    سواك قولي أذب خصري وكل غيدي

    لا تبعدي أنت جزء من ثرى وطني
    مني فهيا بهذا المغرم اتحدي

    اليك عشقي بلون البن فابتهجي
    لا بد -يازوجة الإسمنت- أن تلدي

    * * *
    عرفت يا أحمد السكران، كيف ترى؟
    شيئاً سوى الكأس غير المقيل الرغد

    لا بل عرفت بلاداً كنت تجهلها
    وأنت منها وفيها، غيبوا رشدي

    * * *
    من ذا تحاور يا هذا السجين؟ أنا
    هل فيك شخصان؟ أجيال من الكمدِ

    يا جار زنزانتي كن صامتاً أبداً
    وكيف يصمت فرد غير منفرد

    هذيت يوماً وشجوا بالنعال فمي
    ونصف رأسي وقالوا: أخرجوا عقدي

    * * *
    تعال نغشى المصلى كي نغالطهم
    ما اسم ابن أمي؟ أسُمَّى: أحمد القفدي

    كم دفعوك ألوفاً؟ ما دفعت لهم،
    إسمع على الخمسة الآلاف لا تزد

    هم ينهبون فلوساً لا عداد لها
    ويجلدون كما شاؤوا بلا عدد

    فليجلدوا لن يروا ألفاً ولا مئةً
    لو الغبار نقودي والحصى “نقدي” (3)

    صبّوا علي عصاهم فاعتمدت على
    جلدي، على ما تناسى الرعب من جلدي

    * * *
    ذكرت من أنت، غب في الهمس محترساً
    يا صدفة العمر جاري “أسعد القلدي”

    لاقوك سكران مثلي؟ بل أتوا وأنا
    في صحن مدرستي أصحا من “الرأد”

    أنكرت وجهك، مرت بي هنا سنة
    ونصف أخرى، وبرق الوعد لم يعد

    لعل قلب الضحى ينوي مفاجأة
    هنا الضحى والدجى حيلان من مسد

    متى استعاد زمان الجلد سيرته؟
    من “يوم عمران” أو من “ليلة الحمدي”

    ما للبداية بدىٌ كي تلوح لها
    نهاية ذات بدء غير منعقد

    * * *
    مهدت للذاهب الآتي فكيف جرى؟
    قدمت الاثنين -ياهذا- على الأحد

    * * *
    يا “أحمد” انظر بعيداً هل ترى طرفاً؟ يا
    “أسعد” انظر عميقاً غير مبتعد

    ألي غد؟ مر بي عشرون ألف غد،
    من أجل يأتي الذي تدعوه أنت غدي

    أكابد اليوم ما عاناه أمس أبي
    أخشى يلاقي الذي لاقيته ولدي

    يا صاحبي ذاك تكوين النقيض يرى
    في غير مرآة يخفي دفقه الأبدي

    1984

  • 237 زمان للصمت

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  زمان للصمت

    يا صليل الحصى وهجس المراعي
    كيف أشكو؟ صمتي كغاب الأفاعي

    يا تناجي الغصون من ذا أناجي؟
    كيف من مدفن السكوت انتزاعي؟

    الصراصير حرة فلماذا
    تخنق الغصة الجناح الشعاعي؟

    * * *

    أنتوي أن أنوح، يعصي نواحي
    كيف لا أستطيع ما في استطاعي؟

    البكاء الذي أناديه يأبى
    وبرغمي أبكي بلا أي داعي

    هل أغني تفكراً؟ أي خفقٍ
    إنني الآن منشدي واستماعي

    يا روابي أريد أفضي وأعيا
    كيف أفضي ومن أبث اصطراعي

    * * *

    يا بقاعاً بقاعهن كياني
    بت أخشى ألا تكن بقاعي

    يا التي رغم قلبها ضيعتني
    هل أرجي أن تتركي لي ضياعي

    قد تعودت روعة التيه وحدي
    كل خوفي عليك من أن تراعي

    * * *

    يا قضاعية الربى أين يلقى
    عنك مأوى هذا اللعين القضاعي؟

    نكهتي – يا ” لميس”- من دخن ” ميدي”
    معجمي – يا لميس- ” لحجي” ” سناعي”

    * * *

    هل تريدين أن تري نصف وجهي
    ” يافعياً” ونصف وجهي ” يفاعي”؟

    – إن ” حيفان” غير ” عطان” يا ابني
    يل أرى ” المعبري” نقيض ” الشباعي”

    كل بيتٍ هنا، هناك بيوت
    والتلاقي تجمع لا اجتماعي

    والذي ما له قبيل تراه
    “مطرياً” يوماً، ويومين “لاعي”

    بين هذي وتلك يذكي حروباً
    بين هذا وذا خبيث المساعي

    * * *

    غيري يا أمومة العقم هذا
    ضاجعي الشمس والندى يا لكاع

    ياعجوزي تزوجي طفل طفلي
    كي تجيدي رضاعه وارتضاعي

    * * *

    صمتك الآن، أمر مولاة قلبي
    إنما سامحي إذا لم تطاعي

    ربما لو سمعتِ مني تبدى
    خير ما تطمعين فيه طماعي

    شرعة القلب كالينابيع يفضي
    ليس هذا كما ترين اشتراعي

    – حسن، إنما تفجر سكوتاً
    من بهذا أوصى “عدي الرقاعي”

    من تشهى إسكات ذاك المغني
    حين غنى: “وماحملت يراعي”

    * * *

    ياعصافير هل عليكن حظر؟
    هل بأعشاشكن قهر جماعي؟

    هل على بوحكن أي رقيب؟
    هل عليكن بالوشايات ساعي

    هل لديكن حرف جرٍ ونصب؟
    هل يأوزانكن فعل رباعي

    ما الذي عندكن يا بعض أهلي؟
    هل لتغريدكن مغزىً قراعي

    هل سألتن مثل قلبي “رماعاً”
    كيف أجنى لغير كف “الرماعي”؟

    ولماذا ما للحمامات حامٍ
    ولأمن البعوض حامٍ وراعي؟

    * * *

    إن هذا الزمان للصمت فاسكت
    آه، حتى الطيور تهوى انقماعي

    ربما كان همها غير همي
    إنما لوعة الغصون التياعي

    صمتك الآن، ما ابتلعت سكوتي
    لا، ولا أتقن السكوت ابتلاعي

    * * *

    يا هسيس البنات والطل قل لي
    أين أرمي عني هسيس طباعي

    في اقتداري ألا أفوح لو أني
    – يا ضجيج الفراغ- نبت صناعي

    هل أنادي يا منحنى؟ كيف أحكي
    يا شجيرات هل لديكن واعي

    ” دعبلي” الجموح أنت؟ وعندي
    كل عادٍ على التعدي ” خزاعي”

    * * *

    يا دجى هل تصيخ؟ أنماع قبحاً
    وأزيراً ولا أحس انمياعي

    إنهم يلبسون عني قميصي
    ويغوصون كالمدى في نخاعي

    غير هذا ماذا رأيت؟ – لساني
    تحت أقدامهم، جحيم قناعي

    * * *

    أنت يا فجر هل ترى؟ من تنادي؟
    أي فجرٍ، تناومي كاندلاعي

    للثواني هلى انتباهي فحيح
    ولنومي خوار ثورٍ ” سباعي”

    * * *

    ياهبوب الرياح مما تعاني؟
    من تلوي سيري وتيه ارتجاعي

    فوق هذا المضيق هشمت وجهي
    تحت هذا الكثيب غاصت ذراعي

    أرتمي كي أقوم، أرمي حطامي
    وأوالي هذا الرماد الإذاعي

    إنما لست عائلياً تحابي
    ” شرجبياً” على حساب ” اليناعي”

    بل تحيي ” الحدا” بريحان ” صنعأ”
    و” المكلى” بطيب ” نجد الجماعي”

    * * *

    أنت يا بحر ما الذي تبتغيه؟
    غير مائي، قرارةً غير قاعي

    أتمنى أني حديقة كرمٍ
    في ” الحشا” أو حقول قمحٍ ” رداعي”

    تتمنى السهول لو كن بحراً
    كيف تهوى لو كنت سهلاً زراعي؟

    أي شيء عن وضعه اليوم راض
    فتراني مستخذياً لا تضاعي

    * * *

    يا ضحى ما الذي تريد؟ مداراً
    – غير هذا- أمد فيه اتساعي

    أشتهي تسقط النجوم رجوماً
    ينمحي عالم اللظى والتداعي

    تبلع الأرض كل هذا، ليرقى
    عكس هذا، عسى تنام النواعي

    فجأة يا قرارة الأرض قومي
    وافتحي في حشاك أخفى الأواعي

    * * *

    هكذا يا ضحى تخط وتمحو
    – وعلى الأرض والبروق اتباعي

    هل سيبقى لرهبة الصمت وقت؟
    البكارات في انتظار افتراعي

    عام 1984م

  • 238 حوارية الرصيف “ج”

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  حوارية الرصيف “ج”

    يمضي لفيف.. ويليه لفيف
    وأنت ثاوٍ ها هنا يا رصيف

    تستعرض الأطوار مستنكراً
    ومبدياً صبر الحياد الحصيف

    تستقرىء الأقدام هل أنت من
    قراءة الأوجاع مضنىً أسيف

    * * *

    – أنوء بالعبء المضاف الذي
    يضيف يومياً إليه رديف

    كيف ترى الأحزان من تحتها؟
    كما يرى بالسمع قلب الكفيف

    أشم قلب السوق من ساقه
    أعي لنيات المواني صريف

    أحس ما تطوي كواليسهم
    يلوح لي كل قناع خفيف

    أعيا.. لماذا.. تلك ملأى، وذي
    جوعى.. وذا فخم.. وهذا نحيف

    هذي كشيخ ما له لحية
    هذا كأنثى ذات ذقنٍ نتيف

    ذاك الذي يقتاد سيارة
    مثل الذي يستاق جحشاً عجيف

    أتلو نزيفاً ذاهباً عائداً
    إلى متى أتلو كتاباً نزيف؟

    من أين تأتي كل هذه الخطى؟
    من أين يعلو كل هذا العزيف؟

    * * *

    من حيث لا تدري مرايا الضحى
    ولا تجاعيد المساء الشفيف

    يشقيك رعب نابغي وما
    شببت يوماً بسقوط النصيف!

    * * *

    على سرير من دمي أرتمي
    والدمع من قلبي إليه ذريف

    أنوح صمتاً.. أرهف السمع، لا
    يحس إنصاتي لخقتي هفيف

    * * *

    من طينة البؤس وأحجاره
    نشأت للعانين أوفى حليف

    تريد تمشي مثلهم؟ إنني
    أقوى على حمل الزحام الكثيف

    كل الذي فوقي شبيهي فلو
    أصبحت ذا رجلين ماذا أضيف؟!

    أود أني فوق ” لحج” ندى
    أو أنني نهر ببيت ” الذفيف”

    أريد وضعاً ثانياً إنما
    رأسي إلى عرقوب رجلي كتيف

    * * *

    من ذا تنادي ها هنا؟ هل دنا
    من خلف هذا الجدب فصل وريف؟!

    ألا ترى أولئك الشقر كم
    أدموا جنى صيفٍ وأضموا خريف!

    لأنهم يحوون أعتى القوى
    ويملك العجز الضمير العفيف!

    * * *

    هل تكره الاغراب؟: فتش معي
    أقدامهم، عن لون وجهي الأليف

    كانوا فرادى فنموا.. كم أتت
    أعتى رياح من نسيم لطيف

    هاتيك صهيونية زوجها
    – كما تسميه- “كإدوارد” هيف

    أزواج (نيكا) تسعة، أختها
    لها إلى العشرين كلب وصيف

    يمشون مثل الناس.. لكن أرى
    قلوبهم في كل قلبٍ ” كنيف”

    تقيأ الدولار فيهم لكي
    يعاكسوا كل مرامٍ شريف

    يردون أنقى الناس كي يأمنوا
    وكي يجودوا.. يقتلون الرغيف

    يبنون مستشفىً لكي يفتحوا
    مليون قبرٍ.. أي غزوٍ طريف؟!

    جاؤوا يضحون بأهل الحمى
    وهم ضحايا كل قصرٍ منيف

    هل جرمهم يعزى لأسيادهم؟:
    تقبلوا تكليفهم.. يا سخيف!!

    هم قرروا، أسيادهم دبروا
    للعنف طابوراً خبيراً عنيف!

    عدوان (بيجن) قلب (ريجن)كما
    أن هوى (المنصور) شدقا ( سديف)

    * * *

    هل أدمن الشعب العدا أو سها
    عنهم فأمسى الضيف، وهو المضيف؟!

    قل: ظنهم جاؤوا لتطويره
    فما تبدى خائفاً أو مخيف

    ألا تراهم طوروا؟: طوروا..
    لكن سوى المجدي وغير النظيف!!

    قد كنت ثوراً حارثاً ناطحاً
    وحين جاؤوا صرت كبشاً عليف

    تظنهم رقوك؟ لكن إلى
    أدنى.. أتدعوه سقوطاً ظريف

    * * *

    اليوم نفط (الجوف) ناداهم
    وهل دعاهم أمس ملح (الصليف)؟ !

    جاؤوا بلا داعٍ بلا دعوةٍ
    هم المنادى والمنادي اللهيف!!

    * * *

    أنسوا رؤى (صنعا) بساتينها
    نفوا عن الريف الشذى والرفيف

    حلوا محل الأرض.. طالوا.. خصوا
    في كل برقٍ شهوات الوكيف

    تأسمتت كل المجاني هنا
    أضحى (ونيتاً) (ريم وادي ثقيف)

    لأنهم – كي يفرخوا- أوطنوا
    فحيح أيديهم مكان الحفيف

    * * *

    هل هذه يا صاحبي حالة
    لها نقيض؟.. ليس حدسي رهيف

    أخاف أن يرقوا إلى أن يروا
    إنزال قرص الشمس جهداً طفيف

    لكن لماذا يبطىء المرتجى؟
    لأن عكس الشوق يأتي زهيف!

    * * *

    الدهر أدوار.. أتدري متى
    سيضعف الأقوى ليقوى الضعيف؟:

    أنت الذي رددت: بعد الشتا
    صيف، ولكن كيف أشتى المصيف؟!

    الآن، قل لي أنت: ماذا يلي
    هذا؟ ألا تدري بأني رصيف؟!

    * * *

    1983م

  • 239 القصيدة الوطن

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  القصيدة الوطن

    فيم احتجابك يا قصيدة أرتجي
    أن تشرقي، وإليك مني ألتجي!

    أنهد فيك لكي تكوني بنيتي
    ولديك أنسى لهجتي كي تلهجي

    * * *

    أبحرت من جدثي إليك لتبحري
    وسبقت ميعادي لكي تتبرجي

    كي تبدعي مني سواي لأنني
    – رغم اسمي الحركي- مثنى العرفجي

    ولذاك جئت إلى وضوحك بعدما
    ميزت وجه حقيقتي من بهرجي

    * * *

    بستان وجهك يا قصيدة دلني
    اتمانعين الآن أن تتأرجي

    إني اهتديت إلى خبائك فافتحي
    لي مدخلاً، أو حاولي أن تخرجي

    خدي سياجك فهو زيف توهمٍ
    يأبى الجموح عليك أن تتسيجي

    شبق الصبا يحمر في شفتيك.. في
    ساقيك.. يصهل كالحصان اليعوجي

    ما أورقت فيك الشرارات التي
    لا تنطفي، إلا لكي تتأججي

    إن الطفور خيار قلبك قبل أن
    تستجملي مسعاك، أو تستسمجي

    تخشين من غسق الظروف؟ خرافة
    ما احلو لكت إلا لكي تتوهجي

    قمم الهزائم بالظروف تحججوا
    أضعفت بالعدوى لكي تتحججي؟

    أنت الظروف جميعها، فتزيني
    بالأمسيات، وبالصباح تدملجي

    كالصيف أذكي مقلتيك وأمطري
    كدجى الخريف، وكالربيع تعسلجي

    * * *

    أيخيفك التهريج؟ هذا قصده
    كي لا تخافي.. غردي أو هرجي!

    دلي عليك بنار قلبك كله
    لن يسقط الإزعاج حتى تزعجي

    لن تحرقي غسقاً إذا لم تحرقي
    لن تنضجي طبقاً، إذا لم تنضجي

    * * *

    أزعمت نوم البوح فيك سياسة؟
    إن احتمال الصمت موت سجسجي!

    ما أنت يا بنت الأزقة والربى
    كالعابثات، ولا هواك بنفسجي

    لا أنت عاشقة الهروب، ولا أنا،
    بسوى التهرب والسكوت تأدلجي

    * * *

    أترينني في باب خدرك باحثاً
    عن موطني؟.. أرجوك لا تتفرجي

    قولي لمعتسفي طريقك: هاهنا
    تصميم قافلتي، وهذا منهجي

    * * *

    تدرين مأساتي؟ نفاني من هجا
    نسبي، ومن نفخ الغرور المذحجي

    من هجنوا نسبي لأني (حائك)
    مثل الألى سخروا، لأني ( عربجي)

    * * *

    والآن: حوكيني لاصبح حائكاً
    من سوف يغزلني إذا لم تنسجي

    لم يبق غيرك يا قصيدة موئلاً
    وأخاف من أن تنجدي أو تخجلي!!

    أكتوبر 1983م

    * * *

  • 240 فصل من تاريخ الصبح

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  فصل من تاريخ الصبح

    كيف جاء الصباح؟ من أي منحى؟
    هل درى أين بات، أو كيف أضحى؟

    ربما قال: هل أنا جئت حقاً؟
    ولماذا؟ وكيف سميت صبحا؟

    ربما قال: ما فرحت، وقالوا:
    كلما جئت، جاءت الأرض فرحى

    * * *

    هل شكى أن نصفه مات رمياً
    في صباه، ونصفه مات ذبحا؟

    وعلى رغم كسره وهو غصن
    أنبتت كل كسرةٍ منه رمحا

    عله أخبر العصافير صمتاً
    وأجادت إجابة غير فصحى

    عندما اجتاز ربوة صاح ” دوح”
    للكناري وللشحارير: مرحى

    * * *

    قيل عنه: إن العصافير غنت
    قبله: من إلى المناقير أوحى؟

    ربما قال: مات مليون صبحٍ
    وأتى كي يموت بذلاً وكدحا

    وانمحت قبل وقته ألف أرضٍ
    وادعى أن هذه سوف تمحى

    * * *

    قال: كم عاقرت دماً وهي عطشى
    وارتدت صدر كاعبٍ وهي مسحى

    وأرتأت أنها أضافت جمالاً
    وهي أضفت على الشناعات قبحا

    هل درى أن رتقها جر فتقاً
    وهي من فتقها إلى اليوم جرحى؟

    * * *

    ما له لا يبين؟ قال كثيراً
    ما الذي قال؟ أهو يثني ويحلي؟

    وإلى من هفا وأعرض عن من؟
    وعلى من بغضبة اللوم أنحى؟

    أي بشرى أسر؟ المح شيئاً
    ولأمر طوى على السر كشحا

    أي شيء سمعت يا نخل عنه؟
    قال: كل اللغات ومضاً ونفحاً..

    .. قال: هذا الزمان لا ليل فيه
    وهو يطوي النهار جنحاً فجنحا

    قال: في قلبه قلوب ستأتي
    خلف عينيه أعين غير قرحى

    * * *

    وانتمى، قال جده دار عصراً
    وانحنى فاستحال سوراً وصرحا

    ودعاه صباح أيام عادٍ
    قبل ” عادٍ” أتى على الرمل سبحا

    كان قبل الختان ” ديكاً” وأمسى
    ” فرخةً” بعد ما تزوج ” سمحا”

    * * *

    وتلا جده أبوه ولكن
    شك فيما يرى، فخاف وشحا

    وبوعدٍ أعطى ” السها” مقلتيه
    واستماح السراب خبزاً وملحا

    – وأبو أمه- كما قال- أقعى
    في طهور التلال، فامتد سفحا

    * * *

    وحكى: أن عمه كان يوماً
    قائداً، قبل أن يقوم تنحى..

    وروى: أن خاله ديدبان
    مزق الأمسيات غلقاً وفتحاً

    كان يستنبح الحصى، ويرقي
    صخرة، ترضع المجرات نبحا

    كان يستأصل الكروم وينبي
    أنه سوف يزرع البحر قمحا

    * * *

    أمه وحدها، أدارت شعوباً
    وتخلت معروقة الجيد كسحا

    عندما استنوقت جمال بنيها
    غربت كي تطل تيناً وطلحا

    * * *

    خط فصلاً، ما خطه أي صبحٍ
    لا تعاطى هجواً، ولا ذاب مدحا

    قص عن أهله، وأوشك يحكي
    عن مشاريعه، فأضرب صفحا

    ما الذي قال يا جباه الروابي؟
    قال شيئاً، حسبته كان مزحا

    .. خلته قال: سوف يمضي، ويأتي
    عنه ثانٍ أجد أفقاً وضحى

    سره أن نسله سيضحي
    راضياً فوق ما أحب وضحى

    * * *

    قال: هذا ولم يقله، ولكن
    قرأته الرياح، هجساً ولمحا

    واحتوته قصيدة النهر نبضاً
    وانحنى المنحنى يؤلف شرحا

    1986

  • 241 هذا العدم

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  هذا العدم

    صباح ويزحف بدء المساء
    مساء وتعدو جبال الأسى

    وتهمى السوافي حصىً أشعثاً
    دماً أزرقاً، رمداً أملسا..

    فلا الليل يعرف شوق النجوم
    ولا اليوم يدري متى أشمسا

    * * *

    تنام الصبيحات عند البزوغ
    وتنسى العشيات أن تنعسا

    فلا الصبح صبح ولا الليل ليل،
    ترى ذاك أشقى وذا أتعسا

    ولا ذاك بدء، ولا ذا ختام،
    ولا ذاك أضحى، ولا ذا غسا..

    * * *

    غبار يولي، غبار يلي
    دخان جرى، ودخان رسا

    وأرغفة تأكل الآكلين
    وأشربة تحتسي من حسا

    لأن الأفاعي تبيع الحبوب
    لأن الفحيح ارتدى الأكؤسا

    * * *

    وجثت قذائفهم كل غرسٍ
    من الجذر واحتلت المغرسا

    لقد أسكنوا القتل كل البقاع
    لكي يسكنوا فوقها الأنفسا

    * * *

    ولا الريب يرتاب فيما يرى
    ولا الحدس يرنو لكي يحدسا

    ولاعند من قيل عنها عيون
    رؤى تهتك اليأس كي ييئسا

    * * *

    وتلك الكرات التي يمشطون
    لماذا يسمونها أرؤسا؟

    ولا نبأة عن هنا أو هنا..
    ولا في قلوب الثواني عسى

    * * *

    ولا رجل في جلود الرجال

    ولامرأة في جلوب النسا

    زحام عليه كساء يلوح
    كساء ومافيه غير الكسا

    * * *

    فللريح أن ترتدي أوجهاً
    وللرمل أن يحسن الملبسا

    ويجتر كثبانه خلفه..
    وباسم الحصى يرأس المجلسا

    * * *

    وما يمنع الموت أن يستميت
    وما يمنع الحزن أن يخرسا

    وأن يدخل السوس نسغ الكروم
    وأن يسمل العوسج النرجسا

    ولا ذاك يدري لماذا استلان
    ولا ذاك يدري لماذا قسا

    لحرية القحط كل الضجيج..
    ولا يملك البرق أن يهمسا

    * * *

    وكل التزاويق والتسليات
    منىً أعنست وهوىً أعنسا

    وتلك العمارات بؤس كتيم
    بدا في تنكره أبأسا

    * * *

    إلى أين يا عدماً لا يكل..
    ويا مفلسا يرتجي مفلسا؟..

    ويا قابض الريح ركب يدين
    سوى قبضتيك لكي تلمسا

    ويا بارقاً يهجس الغيب فيه
    ألا تدخل المحل كي يهجسا؟

    1985

  • 242 اجتماع طارىء للحشرات

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  اجتماع طارىء للحشرات

    أعلنت سلطانة ” القمل” اجتماعا
    رؤساء ” البق” لبوها سراعا

    وإليها أقبل الأقطاب من
    مملكات ” السل” مثنى ورباعا

    * * *

    جاء شيخ الدود في حراسه
    زارداً بحراً، ومعتماً شراعا

    ملك ” الذبان” وافى نافشاً
    تاجه كي يملأ الجو التماعا

    طار سلطان ” البراغيت” على
    نملةٍ” فازدادت الأض اتساعا

    (الزنابير) توالت مثلما
    هد مرحاضين، مرحاض تداعى

    * * *

    شددوا كل الحراسات امنحوا
    كل ” زنبورٍ” ثلاثين ذراعا

    أحرقوا كل كتاب في حشى
    أمه، نحوا عن المهد الرضاعا

    أغلقوا أبواب أم الريح، لا
    تأذنوا للصبح أن يبدي شعاعا

    أدخلوا كل عيون الشعب من
    سمعه، كونوا رؤاه والسماعا

    * * *

    سيدي: ماذا ترى؟ أخطرهم
    لبسوا الأحجار وامتدوا بقاعا

    كشروا الأحجار!: فتتنا الحصى
    واقتضمنا جبلاً عنهم أشاعا

    وتناهشنا عظام المنحنى
    وقتلنا زوجة الصخر اقتلاعا

    * * *

    ربما ذابوا، أشمتم حمرة؟
    كلها الألوان منتنا خداعا

    هل قنصتم كل واعٍ؟ قيل لي
    وانجلى أنا قنصنا من تواعى

    ما الذي تم؟ قتلنا مئة
    واحتجزنا الأهل، واحتزنا المتاعا

    حسن، لكن لنا تجربة
    إن بدء الصرع يستدعي الصراعا

    وإذن هذا الذي نعمله
    مثلما يستنبح الكلب السباعا

    * * *

    المهم الآن أغفوا أونأوا،
    قل: غدوا أخفى كموناً وانزراعا

    لا تخف سوف نلاقي مدخلاً
    في مخابيهم، ولو كانت قلاعا

    بعد وقتٍ ندعي دعوتهم
    ونؤاخيهم – على الكره- اصطناعا

    وبذا نرقى إلى أرقاهم..
    ومن الأعلى نرى الأدنى اتضاعا

    فننحي جانباً أحمسهم
    ثم نرضي منهم الأرخى طباعا

    قتلوا هذا الردى تجربةً
    فتلمس ميتةً أذكى اختراعا

    لا أرى أنفع من أن أشتري
    قادة منهم، ستبتاع المباعا

    سوف يستغنون عمن تشتري
    ثم ينقادون للأقوى امتناعا

    * * *

    دع هناك الآن، واستغور هنا
    وهنا أقوى على السر اطلاعا

    لا نرى صدعاً يشي عن قعره
    ويرى فينا – إلى القعر- انصداعا

    السكوت الغامص الملقى هنا
    حرض السمع وأعيا الإستماعا

    * * *

    من ترى نمنح من أعواننا؟
    نتخم الأسعى، ونُغري من تساعى

    نبدأ المؤتمر اليوم؟ غداً
    قد أذعنا اليوم، كذب من أذاعا

    ربما بعد غدٍ أنجى؟ نعم
    ندخل القاعة صفاً؟ بل تباعا

    * * *

    وأتى بعد غدٍ فابتدأوا
    جلسة أربت على السقف ارتفاعا

    وبذاك الملتقى دوى الصدى
    وانحنى التاريخ يومين ارتياعا

    قرروا في الجلسة الأولى بأن
    يصلوا ما مات بالأمس انقطاعا

    أن يشيدوا الليل إيواناً، وأن
    ينجروا الأيام باباً و” صواعا”..

    وأرتأوا أن لا تدور الأرض، أن
    تلبس الشمس إزاراً وقناعا

    أن يعيروا الأطلسي كوفيةٍ
    أن يزيدوا قامة ” التمساح” باعا

    أن يحيلوا الغيم قاعاً صفصفاً
    كي يموت البرق جوعاً والتياعا

    أن يبيعوا العصر كي يسترجعوا
    زمناً من قبل أن يلقوه ضاعا

    * * *

    قرروا في الجلسة الوسطى بأن
    يطبخوا الليل، ويعطوه الجياعا

    زوجوا سلطانة القمل ” الدبى”
    للبعوضات اكتروا زوجاً مشاعا

    شكلوا بين الأفاعي لجنة
    أسكتوا بين الصراصير النزاعا

    أصدروا عفواً عن القتلى، كما
    كلفوا الأشجار بالنوم اضطجاعا

    * * *

    قرروا أن يمنعوا الأموات من
    أن يشبوا في حشا الأرض اندفاعا

    فأدانوا أم ” أوديب” كما
    حددوا كفارة ” النمرود” صاعا..

    وأضافوا ” ربذاتٍ ” أربعاً

    “لأبي ذرٍ” لينسى الإبتداعا..

    * * *

    قرروا في الجلسة الأخرى، بأن
    يشتروا الأعصى، ويخشوا من أطاعا

    رأسوا فأراً وثعباناً على
    فأرةٍ شاءت على الأهل انخلاعا

    وأقالوا عنكبوتاً، وانتقوا
    لاشتمام الحبر مقراضاً شجاعا

    * * *

    ألزموا الريح تهب القهقرى
    أوقفوا الأنهار، أصنوها انصياعا

    ولأمن البحر من تلغيمه
    قرروا: أن يستحيل البحر قاعا
    * * *

    قال فأر: نبتنيه مخفراً
    قال بق: فندقاً يوحي انطباعا

    وتبنت عقرب ما ارتأيا
    ورأت في ذا، وفي ذاك انتفاعا

    * * *

    وأقاموا بعد هذا حفلةً
    أنفدوا فيها دم الليل اجتراعا

    وأقروا: أن يسموا من نأى
    عن وصاياهم ” يعوقاً” أو ” سواعاً”

    وبإعلان البيان اقتنعوا
    غير أن الصمت لم يُبدِ اقتناعا

    وبهذا اختتموا أعمالهم
    وابتدت سلطانة القمل الوداعا

    1984
    * * *

  • 243 يا صبح

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  يا صبح

    أتيت خريفاً، كما جئت صيف
    فلست مقيماً، ولا أنت ضيف

    بحسب اعتيادك تمضي تجيء
    وتدعى لطيفاً، ولست اللطيف

    فلا أنت غيب ولا موعد
    ولا أنت حلم ولا أنت طيف

    * * *

    أتبدو جديداً وأنت القديم
    بهذا تضيف إلى الزيف زيف

    لمذا تولي لكي تنثني؟
    أحققت كشفاً فتعطي كشيف

    على حالك اليوم تأتي غداً
    كما جئت من ألف عصر ونيف

    * * *

    فيا صبح غب سنة أو شهوراً
    لنعرف ماذا سيجري وكيف

    وهل أنت شاهدتني يا ” سعيد”؟
    أشميتني يا (رشا) يا ( حذيف؟

    أمر بكم كل يوم، وما
    تمرون بي ساعة أو نصيف

    سآتي وقد بعتموا واديين
    وزدتم رصيفاً أمام الرصيف

    * * *

    ألم تعلنوا ثورة العدل يوماً
    وطورتموا باسمها كل حيف

    سمنتم فيبستموا كل نامٍ
    كما تحتسي خضرة الزرع ( هيف)

    دخائلكم وجر ضب، على
    جذوعكمو قشرة من ( جنيف)

    * * *

    أكنتم حصىً واستحلتم نضاراً؟
    من الكهف جئتم شظايا كهيف

    فكيف تطورتموا من ثمودٍ؟
    أما زلتموا نسل ” عادٍو” ” خيف”

    أطيارة اليوم كانت (عقاباً)؟
    وهل كان جد الصواريخ ” سيف”
    * * *

    1984

  • 244 مهرجان الحصى

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  مهرجان الحصى

    ماذا يسر لسفح الربوة الحجر
    كأن كل حصاةٍ هاهنا خبر

    هاتيك تعطس تأريخاً وفنقلة
    وتلك تعلن من جاؤوا ومن غبروا

    ومن على صهوات المنحنى طلعوا
    ومن على شهقات الربوة انحدروا

    هل تجرحين شذى التأريخ؟ أي شذىً
    هذا الصفى ” حمير” ذاك الصفى ” مضر”

    هاتيك تسأل أختيها وجارتها:
    متى سيطلع من تحت الثرى المطر

    ماذا تقولين؟ سحب اليوم ظامئة
    ينشدن في الريح من عنهن ينهمر

    * * *

    وذي تئن، ترى هذي ملاحتها
    كما يرى وجهه في الشاطىء القمر

    – يا عمتي خط لمس الفجر في عنقي
    شيئاً يترجمه للنجمة السهر

    * * *

    هذي كعينٍ رماها جفنها ومضى
    وذي كقلب جفاه خلفه السفر

    هذي كجيدٍ تقوى بعد حامله
    وذي كخدٍ تمنى لونه السحر

    لكل واحدةٍ شكل وتمتمة
    لكن يوحدهن العجز والضجر

    * * *

    طولية الناب أنثى صوتها لزج
    كسيرة الساق يبدو أنها ذكر

    ملفوتة الجيد ولهى ذات غطرسةٍ
    لعل عشاقها في بابها انتحروا

    أظنها أخت ” عمروٍ” أم ذي ” يزن”
    تلوح ” سهمية” ، هل جدها ” زفر”

    كحلى الأخاديد كانت نصف شاعرة
    مشقوقة الظهر كانت شوق من شعروا

    جمرية الأنف والنابين علقمة
    قمحية الوجه مما سوق الخزر

    * * *

    نردية الكف ” ميسون” يلاحقها
    عرش ابن هندٍ يمنيها وتحتقر

    تهامس الآن: ما ولى (معاوية)
    ولا (يزيد) ولا ثار الألى ثأروا

    يا (بحدلية) هل تطوين ما كتبوا؟
    وما الذي كتبوه هل لهم آثر؟

    تنفين ما ابتكروا من حكمة وعلا
    تدري ” سمية” كم أمثالها ابتكروا

    يا (بحدلية) نامي، تلك معرفتي
    يا ” سيف” ألهتك عما خلفها الصور

    * * *

    يا للحصى أي سر.. كل واحدةٍ
    فيها كتاب غريب الفن مختصر

    لهذه بحة في قلبها شجن
    لأختها غنة في صدرها وتر

    وتلك وردية الاشواق هامسة
    وتلك خفاقة في نبضها خفر

    وذي تفح كأفعى، تلك في فمها
    طين ورغبتها في البوح تستعر

    وتيك تجرح لهفى: أنت عاشقة
    غيري، فتبكي وتعيا كيف تعتذر

    هاتيك تخبر صخراً: إن عمتها
    بأمها عند ذاك الكهف تأتمر

    * * *

    وبين صغرى وكبرى يغتلي جدل
    وبين كسلى وعجلى يعنف الهذر

    وبين حبلى وجوعى يلتظي غضب
    وبين وسطى ودنيا يطفح الشرر

    وبين وسطى ووسطى حرب أقنعةٍ
    وبين نهدى ومسحى يضحك السمر

    * * *

    يا ” فج عطان” أنصت للحصى لغة
    غير اللغات: أما في قلبه وطر؟

    ماذا يقول أتدري؟ ما أقول أنا
    أنا ” الثريا” ولكن ليس لي ” عمر”

    كل له عشقه الثاني وقصته
    والكل يهفو إلى عشقٍ له خطر

    * * *

    يا تل ” ثقبان”” ما أبديت خافية
    قلبي كوجهي، ف ماذا عنك أدخر

    في جبهتي من “علي الفضل” عشر حصى
    ومن تجاعيد ” أروى” في يدي حفر

    أناث “بكرٍ” غصون فوق جمجمتي
    حنين ” عبد يقوثٍ” في دمي سقر

    في سرتي من” لميس” جذر مشمشة
    ومن “لمى” عنب في القلب ينعصر

    أما تنسمت ” وضاحاً” سفرجلة؟
    هناك غصن له من ” روضة” الحور

    ومالذي فيك من باذان”؟ أين غفا؟
    لعله ذلك الينبوت والصبر

    * * *

    ها أنت تنصب تاريخاً له عبق
    ثانٍ يعاكس ما خطوا وما نشروا

    وهل أقول: تعشوا وانتشوا ومشوا
    وألحفوا الأرض من أطراف ما ا تزروا

    أو أدعي أن “عبدالدار” بال هنا
    وأن آل ثمودٍ هاهنا عقروا

    وآل سعدٍ سبوا تسعين جارية
    وآل عمروٍ صباح الجمعة اعتمروا

    وأنهم ذو بيانٍ والورى عجم
    وأنهم أهل فتحٍ والورى غجر

    وأنهم عطسوا في منتهى رجبٍ
    وأنهم سعلوا يوم ابتدا صفر

    * * *

    ماذا دهاك؟ أتخشى أم سكت أسى
    غداً ستحكي؟وماذا الآن تنتظر؟

    من كنت تدعى قديماً ” عروة” ، ” حسناً”؟
    هل صمتك الآن يا ذاك الفتى قدر؟

    لعل سرك لا يقوى عليه فم
    سكت أنت وقال القلب والنظر

    * * *

    يا ذلك الحجر المغمى لديك هوىً
    ما لونه؟ هل رأى من نوعه البشر؟

    لمن تنكرت في ثوب الصخور هنا؟
    غيرت أم جلمدت أسمالك الغير؟

    أجب كما توجز الغيمات صاعقة
    يا سيد الصمت تدري كيف تنفجر

    أما ترى كل سفحٍ مد مسمعه
    واحتك شوقاً كما تستعلف البقر

    يبدو تأهبت كي تفضي معالنة
    كما تأهب كي يتأرج الزهر

    تقول أنت فراغ ما له لغة!
    أما أعاد صداك السفح والشجر؟

    على محياك من وجه الضحى مزق
    وفوق زنديك من طهر الدجى كسر

    يقول عنك الحصى ما لا يعي أحد
    ويدعي أنك الأزمان والسير

    * * *

    قل ما أسر اليك الأمس من نبأ
    لكي ترى ما تعي أيامك الأخر

    لم لا تصيح كمذياع كمئذنةٍ؟
    وهل سكتم لكي يدفق الحجر؟

    1985

  • 245 فنقلة النار والغموض

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  فنقلة النار والغموض

    يا “خور مكسر” ، يا ” المعلا”
    لغة الجدال اليوم أعلى

    أتكون أمثل حجةٍ
    بسوى القذائف غير مثلى؟

    فرأيتما جدل الرصاص
    أحر برهنة وأجلى

    حسناً، ولكن ما الذي
    خط انفجاركما، وأملى؟

    ماذا ، كفجر اليوم لاح؟
    وما الذي، كالأمس ولى؟

    اليوم يتلو القصف..
    والأخبار بعد اليوم تتلى

    كي ترتقي جدل النضال
    عليه أن يصلي ويصلى

    * * *

    فيما التصاعق يا ” معاشق”؟
    لا أرى للأصل أصلا

    سئم السكوت سكوته
    وهل الضجيج الآن ملا؟

    لم لا تجيب؟ لأنني
    تل يجر إليه تلا..

    * * *

    ماذا أتركض يا حريق
    وتزحف الأخبار كسلى؟

    أشكا ” يناير” برده..
    فأتى هنا يشوى، ويغلى؟

    لا القتل أفضل، يا غموض
    ولا السلامة منه فضلى

    * * *

    يا ” دار سعد” لفتةً
    ” يسعد صباحك يا المهلا”

    فوقي روابٍ من، متى
    مما الذي، من هل، وهلا؟

    أأقول قبل تساؤلي
    أهلاً، وكيف الحال، أم لا؟

    * * *

    ماذا تشم تكهناً
    وإشاعة تنبث خجلى

    قصصاً كمسحوق المحارق
    لا تدل ولا تفلى

    حلت مكان اللحية العليا
    – بوجه القول- سفلى

    * * *

    من دق طبل الحرب؟
    جاءت فجأة، ريحاً وطبلا

    لا أعلنت عن بدئها
    لا أنف غايتها أطلا..

    * * *

    ماذا تلاحظه هناك؟
    تحولاً ما زال طفلا

    أتراه حسماً؟ ربما
    بدء الربيع ينث بقلا

    * * *

    يا” شيخ عثمان” استجب
    ماذا ترى؟ أرجوك مهلا

    ” صنعاء” مفعمة بما…
    أججت، كيف تكون أخلى!

    وصداك قهوة ” لاعةٍ”
    قات ” الحديدة” و” المصلى

    * * *

    أنا لست مذياع الخليج
    أرقع البالي بأبلى

    أغبى الكلام، هو الذي
    يبدي أوان الجد هزلا

    من أين أخبر واللهيب
    أمد من نخل ” المكلا”

    من مهرجان النار تصعد
    ثورة أبهى وأملى..

    * * *

    لم لا أسائل ” صيرة”؟
    ستزيد، من، لكن، وإلا

    وترى الطفور توسطاً
    وترى النهاية مستهلا

    وتقول ما سميته
    روعاً: أنا أدعوه حفلا..

    * * *

    أترى طلاوة صوتها
    يا بحر؟ أم رؤياك أطلى؟

    عنها أعي سفراً…
    بعينها بزنديها محلى

    * * *

    يا ” جولد مور” إجابة:
    ما زالت اللحظات حبلى

    أسمعت ” بي بي سي”؟ وهل
    هذا سوى بوقٍ تسلى؟

    هذا ” البعوض” وشى إليه..
    وذلك ” الزنيور” أدلى..

    * * *

    أولئك الغازون ولوا..
    والتآمر ما تولى..

    كانوا تماسيحاً هنا
    وهناك يرتجلون قملا

    * * *

    قل عن هنا: ماذا اعتراه؟
    وما الذي بالأهل حلا؟

    الساعة الخمسون – مثل
    الساعة العشرين- وجلى

    ماذا ترى يبدو غذاً؟
    بدء الصعود، سقوط قتلى

    * * *

    للعلم أسأل، والجواب..
    يحول أسئلة وجهلا

    أرجو الوصول وألتقي
    بسوى الذي أرجوه وصلا

    * * *

    أألوذ بالتأريخ، أنسى..
    ما روى عقلاً ونقلا

    أبدو (علي مقلى) بدون
    إمامة وبدون مقلى

    لا نالني خير التطرف…
    لا اعتدالي نال عدلا
    * * *

    قولي ” كريتر” ما هنا؟
    القصف، أم عيناك أحلى؟

    تزهو بكفيك الخموش..
    كشارب القمر المدلى..

    * * *

    جاؤوا لقتلي: هل أعد..
    لهم، رياحيناً وفلا؟

    هم بعض أهلي، فليكن
    هيهات أرضي الغدر أهلا

    تأبى حمام اليوم، أن
    تلقى صقور النار عزلى
    * * *

    ماذا أسمي ما جرى؟
    حرفاً، ولكن صار فعلا

    الفاتحو باب الردى
    لا يملكون الآن قفلا

    * * *

    أضعفت، أم أن الأسى
    أقوى يداً، وأحد نصلا؟

    أنسيت صقلي يا عراك
    القحط، أم أنهكت صقلا؟

    * * *

    من شب يا ” عدن” اللظى؟
    قالوا: أموت، فقلت: كلا

    ولأنني بنت الصراع..
    فلست أما للأذلا

    ما كان مقلواً من المغازي..
    من الأهلين أقلى

    * * *

    صممت أن لا أنحني
    أن لا أحيل الخمر خلا

    ماذا أضيف إلى الزمان
    إذا عكست البعد قبلا

    * * *

    جاؤوا إليّ وجئتهم
    نارية العزمات عجلى

    جادوا بإرعاد المنون..
    وجدت إرداءً وبذلا

    * * *

    أأقول: يا ” سبئيةً”
    لو كان ذاك الجود بخلا

    لبيت موطني الذي
    كتب اسمه ورداً ونخلا

    ومن المقاتِل، والمقاتَل؟
    من رأى للنار عقلا؟

    ” ردفان” نادى: أن أذود..
    وأن أحيل الصعب سهلا

    فحملت رأسي في يدي
    كي لا تصير الكف رجلا

    * * *

    واليوم أنزف كي أخف..
    وكي أرف أمد ظلا

    ما خلتهن كوارثي
    أنضجنني عركاً وفتلا

    لا أرتئي ما ترتئين
    غداً أخوض الشوط جذلى

    * * *

    هذا الغبار على عيوني
    ثورة حمراء كحلى

    هذه الخرائب زينة
    بمعاصم البطلات أولى

    هذه الرفات ستستطيل
    ربى، ويغدو القبر حقلا

    * * *

    تأتين أخرى؟ غضةً
    وأجد مضموناً وشكلا

    أرخت من يومي غدي
    أنظر: أما أنهيت فصلا؟

    عن ما يكون تخبرين؟..
    هل الذي كان اضمحلا؟

    * * *

    يا هذه خلي الجنون،
    جنون غيري ما تخلى

    أدمنت أكل بنيك، يا
    حمقى: لأن النصر أغلى

    من لا تحارب لا ترى
    فرحى، ولاتبدو كثكلى

    قالت، وقلت، فلا اختفى
    سر، ولا سر تجلى

    يناير 1986

  • 246 حروب وادي عوف

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  حروب وادي عوف

    مثلما تخبط الرياح الرياح
    أدبروا، أقبلوا، أصاحوا، وصاحوا

    مثلما تكمن الأفاعي تخفوا
    وكما تحرق المحاطيب، لاحوا..

    وكما يبرد النحاس ويحمي
    أشهروا، أغمدوا، أغذوا، أراحوا

    * * *

    منعوا كل راتعٍ، كل راعً
    أين نرعى؟ قالوا: الموامي فساح

    كيف نرعى رملاً؟ هنا سوف نرعى
    تحت هذي الرماح تغلي رماح..

    عندنا مثلها، وأيدٍ طوال
    ورؤوس يئج فيها النطاح..

    * * *

    ذاك وادٍ لنبتة (الند) فيه
    ألف نابٍ، وللحصاة نباح

    كل حر في مرتع (الشيخ عوفٍ)
    غير حر، وكل ظلف مباح

    فيه لا تحمل الفتى ركبتاه
    فيه لا يصحب الغراب الجناح

    * * *

    كل هذا احتكار عوفٍ؟ ولم لا!!
    هل على أشمخ الجبال اقتراح؟

    شمخوه، فلا سوى الحرب حتى
    تمتطي لحمها إليه البطاح

    سوف تغدون، والأسنة مغدىً
    وتروحون والمواضي مراح

    * * *

    يا زهير ابتدرت، بل قال عنا
    صح غير صحيح، جد المزاح

    ما ترونا نموت موتاً مشوباً؟
    كيف نخشى إن هب موت صراح

    يا صحابي ما للرجال مشم
    فإذا ما أذكتهم الحرب فاحوا

    ما الذي ترتئية يا قيس؟ عندي
    أن نعي غايةً يراها الكفاح

    حكمة الحرب أن تهد لتبني
    ليس غاياتها: أصابوا أطاحوا

    كم أرقنا منهم، ومنا أراقو
    لا استرحنا، ولا الخصوم استراحوا

    في مدى الحرب، نرتديها جراحاً
    في سوى الحرب، ترتدينا الجراح

    1985

  • 247 كائنات الشوق الآخر

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  كائنات الشوق الآخر

    ل ماذا المقطف الداني
    بعيد عن يد العاني؟

    لماذا الزهر آني
    وليس الشوك بالآني؟

    لماذا يقدر الأعتى
    ويعيا المرهف الحاني؟

    * * *

    أيستسقي الدم الصادي
    ندى، أم خنجراً قاني؟

    أيخشى الرعب رجليه
    أيحذر كفه الجاني

    * * *

    ألا يستفسر المصباح
    كيف دخيلة الراني؟

    وما معنى أسى الشاكي
    وكيف مخافة الهاني؟

    وهل يستوطن المبنى
    حشاه، أم يد الباني؟

    * * *

    أيدري السوق والعجلات
    من ذا يحمل الثاني؟

    ومن أهدى إلى الأجدى
    خطى المضنى أم الضاني؟

    وهل سجادة الأفعى..
    نقيض المرقد الزاني؟

    وكيف يوسوس المفني
    وماذا يحلم الفاني؟

    * * *

    أأستفتيك يا أشجار
    : فوقي غير أغصاني

    كومض الآل إيراقي
    كلغو السكر إعلاني

    وكالحدبات أثدائي
    وكاللصقات ألواني

    أتستفتي أروماتي
    متى يطلعن أفناني؟

    * * *

    أريد مدىً إضافياً
    ثرىً من صنع إتقاني

    وتاريخاً خرافياً
    أعلّق فيه قمصاني

    أيمكن كل مرفوضٍ
    وهذا الشوق إمكاني

    * * *

    أيا بستان هل تصغي؟
    لمن؟ والقحط سلطاني؟

    أليس الموت كاللاموت
    والمشدود كالواني

    * * *

    ترى من أنت كي أفضي
    إليك بكل وجداني؟

    ألست بيوت أحبابي؟
    ولكن أين سكاني؟

    أتذكرهم؟ هنا كانوا
    عناقيدي وريحاني

    على أحضانهم أصبو
    ويستصبون أحضاني

    * * *

    لماذا جئت تشجيني؟
    أأنت رسول نيساني؟

    أتنكر نكهتي؟ كلا
    تلوح كبعض عيداني

    * * *

    ترى هل ينمحي وضعي
    إذا أعلنت كتماني

    لماذا يغتدي طيري
    وأثوي خلف حيطاني

    ألا يا ليتني نهر
    وكل الأرض بستاني

    * * *

    أأستبكيك يا مقهى؟
    بقلبي غير أحزاني

    لأن مشاجباً أخرى
    لبسن بطون أجفاني

    وأنكى ما أعي أني
    أنوء بحمل بنياني

    وأني بعد ما ولى
    بنو عثمان – عثماني

    * * *

    أمامي ظهر أيامي
    وخلفي وجه سجاني

    أمن تحي أرى برقاً
    يريني أنف بركاني

    * * *

    أيابيتا هنا في القلب
    كيف أبث تحناني؟

    إليك أصيخ: هل تحكي؟
    أضعت هناك تبياني

    أقول، يقول عني السقف
    غير لغات أركاني

    لأن أباك ” عنسي”
    وخال الأم ” باذاني”

    * * *

    أتذكر، كنت بنياً
    ولون الباب رماني

    وكان السور قاتياً
    ومرأى الصحن مرجاني

    وكنت تشير “بالكاذي”
    “وبالورس الغويداني”

    وكنت مؤزراً بالطيب
    كالفجر الحزيراني

    وبالأحباب معموراً
    وكنت أحب جيراني

    تنث الشدو ” سعديا”
    وأحياناً ” قمنداني”

    * * *

    أمن قلبي إلى سمعي
    تمد غرام ألحاني؟

    أمن صدري على صدري
    تلم فلول أزماني؟

    هل استوقدت أعراقي؟
    أم استنفرت جدراني؟

    أحس تهدمي يهفو
    الى نزغات شيطاني

    أشم عبير تأريخي
    وأسمع نبض عمراني

    فلا طيفي “نجاشي”
    ولا طيري ” سليماني”

    أطعت زمان إسكاتي
    أأعصي الآن عصياني

    * * *

    أأدنو منك يا مرسى؟
    شؤوني لسن من شاني

    أتقرؤني؟ أما تبدو
    فصولي عكس عنواني؟

    لأن البحر غير البحر
    في قدميه أشجاني

    * * *

    فلا كفاي من أهلي
    ولا الأمواج خلاني

    بحكم الوضع والعادات
    ألقاها وتلقاني

    * * *

    بودي أن أحيل البحر
    وشماً تحت أرداني

    وأرحل تاركاً خلفي
    لأم الرمل أدراني

    * * *

    ألا يا كائنات الشوق
    أين ترين شطآني؟

    أناديكن: من لبى؟
    ومن يا صمت ناداني؟

    وهل هذا الذي أجتر
    كالأنقاض جثماني؟

    * * *

    أيا هذا لمن تهذي؟
    أهاذي صخر إذعاني

    أما استنطقت أشباحاً؟
    بل استنطقن إمعاني

    * * *

    أتسأل طالباً رداً؟
    أليس الحلم إنساني؟

    أما للموج طوفان؟
    وهذا الهجس طوفاني

  • 248 غير ما في القلوب

    ديوان كائنات الشوق الآخر >  غير ما في القلوب

    أقول ماذا يا ضحى، يا غروب؟
    في القلب شوق غير ما في القلوب

    في القلب غير البغض غير الهوى
    فكيف أحكي يا ضجيج الدروب؟

    ويا ثياباً ما شيات على
    مشاجب تفتر فيها الندوب

    ويا رصيفاً يحفر الصبر في
    لوحيه تاريخ الأسى والشحوب

    ويا قصوراً يرتديها الخنى
    وترتدي وجه النبي الكذوب

    ويا جذوعاً لا ينادي بها
    إلا ثقوب طالبات ثقوب

    يا باعة التجميل هذي الحلى
    تهدي إلى ما تحتها من عيوب

    * * *

    أقول ماذا يا نسيم الصبا
    أقول ماذا يا رياح الجنوب؟

    الحرف يحسو قيأه في فمي
    والصمت أقسى من حساب الذنوب

    وهذه الأحلام تغوي كما
    تراوغ الأعمى عجوز لعوب

    * * *

    فعلميني الحرق با كهربا..
    أو علميني يا رياح الهبوب

    أو مدني يا برق أفقاً سوى
    هذا وبحراً غير ذاك الغضوب

    أو حاولي يا سحب أن تطفئي
    قلبي عسى عن قلبه أن يتوب

    * * *

    من أغسق الأيام يا ريح؟ هل
    تدري الثريا أي مسرىً تجوب؟

    كل المدى أيد ذبابية
    صفايح مكسوة بالقطوب

    حوائط تغدو وتسري كما
    تأتي على رياح الجفاف السهوب

    * * *

    وقبرات حوم تجتدي
    سنابلاً يحوين غير الحبوب

    يا كل منقار تناسى الطوى
    لا تزعج القحط الأكول الشروب

    * * *

    تقول ماذا علّ قلب الثرى؟
    أظمى إلى غير السحاب السكوب

    هل في الربى يا شمس غير الربى؟
    هل للكوى معنىً خبيء الجيوب؟

    والسفح هل فيه سواه وهل
    في الورد غير اللون غير الطيوب

    والشمس في طيها غيرها
    فترحل الأولى وأخرى تؤوب؟

    * * *

    يا شمس هل يدري الضحى والدجى
    من علم المنشود فن الهروب؟

    كل له مأساته لا أرى…
    فرقاً ولكن المآسي ضروب

    * * *

    هل يسمع الاسفلت أوجاعه
    أو هل يرى سر الزحام الدؤوب

    وهل يحس (المرسديس) الذي
    يزجي لأضنى اللحم أقوى النيوب؟

    * * *

    هل للمواني أمنيات ترى
    تلك الوجوه الباديات اللغوب؟

    هل تنتوي الشطآن تسعى إلى
    مراكب العانين وقت الركوب؟

    لكل طافٍ باطن راسب
    سيرسب الطافي ويطفو الرسوب

    * * *

    يا كل آتٍ ما أتى مرةً
    خذني وأرضعني جديد الوثوب

    واختر طريقاً ما رآه الذي
    عن كل مدعوٍ وداعٍ ينوب

    في القلب شيء ما له سابق
    وفيه أخفى من نوايا الغيوب

    فيه أمانٍ غير كل المنى
    فيه شعوب غير هذي الشعوب

    * * *

    لم لا يذوب القلب مما به؟
    كم ذاب لكن فيه ما لا يذوب

    رصاصة تعنى بإسكاته
    ما أسكتت ما فيه حتى الحروب

    يهتز للنيران تجتاحه
    مردداً: كل كريم طروب

    1985

  • 249 بين بدايتين

    ديوان زمان بلا نوعية >  بين بدايتين

    أمام بداية المطلع
    وخلف نهاية المقطع

    تموت وتجتدي موتاً
    لتفنى فوق ما تطمع

    ومثل تسكع الأطياف
    تأتي تنثني تقبع

    ***
    تحول تساؤلا يهمي
    ومن إحراقه يرضع

    لماذا يبرق الأدجى؟
    لماذا يخمد الأنصع؟

    لماذا أعشب المبكى؟
    لماذا أجدب المرتع

    لماذا الدر في الأعناق
    والأحجار في المقلع؟

    وهل هذا سوى هذا؟
    من المخدوع والأخدع؟

    لماذا أرتجي أمراً
    ويأتي عكسه أسرع؟

    وأين الفرق بين القبر
    والملهى؟ من الأفظع؟

    ***
    هنا تستقبح الأحلى
    هنا تستجمل الأشنع

    هنا ترقى إلى الأدنى
    هنا تهوي إلى الأرفع

    هنا تدري متى تبني
    هنا تبني الذي تقلع

    هنا تدري متى تنهي
    هنا تنسى متى تشرع

    فترضى كل ما استبشعت
    خوف تقبل الأبشع

    ولا ترضى الذي ترضى
    لأن الموت أن تقنع

    إلى ما لا تعي تصغي
    إلى ما لا ترى تنزع

    ***
    أمام هواجس المرعى
    وخلف روائح المخدع

    ونحو بكارة الميلاد
    إثر غرابة المصرع

    تخوض الرحلة الوجعى
    وأنت بعقمها أوجع

    ***
    ومن سد إلى سيف
    ومن (أروى) إلى (تبع)

    ومن خيل إلى ليل
    ومن رمح إلى مدفع

    ومن بحر إلى رمل
    ومن ريح إلى أربع

    تشق فواجع الأخطار
    خلف تلمس الأفجع

    وراء الأعنف الأقسى
    لأن الأعنف الأمتع

    ***
    وتجتاز الذي تخشى
    ولا تلقى الذي ينفع

    كنهر قبل أن يلقى
    مصباً يرحل المنبع

    لأن الشمس في عينيك
    تجني غير ما تزرع

    تضيع الليلة الأولى
    وتأتي الليلة الأضيع

    وبين الحلم واللاحلم
    يسري وحده المضجع

    ويأتي وحده الغافي
    على الطيف الذي أقلع

    فتنسى وضعها الأوضاع
    لا تخبو ولا تلمع

    ويرخي الصمت رجليه
    على عكازه يركع

    فتمضي المنية الشعثا
    ويأتي الخاطر الأصلع

    ***
    ومن بدء بلا بدء
    تطل إثارة أبرع

    فتعطي وجهك المرقى
    ويعطيك الذي يخلع

    ***
    فلا يأتي الذي يأتي
    ولا يمضي الذي ودع

    أراحت نفسها الأوقات
    لا تأتي ولا ترجع

    ولا تبدي ولا تخفي
    ولا تهنا ولا تجزع

    فلا يحكي الذي يحكي
    ولا يصغي الذي يسمع

    ولا يشدو الذي يشدو
    ولا يبكي الذي يدمع

    ***
    وأنت هناك لا تعيا
    ومثل الريح لا تهجع

    تجيئ بداية روعى
    تعود بداية أروع

    تغني تمتطي موتاً
    بديعياً إلى الأبدع

    فبراير1979م

  • 250 نقوش.. في ذاكرة الريح

    ديوان زمان بلا نوعية >  نقوش.. في ذاكرة الريح

    هنا كالضحى غنوا وكالليل أنصتوا
    كهذي الربى امتدوا كنيسان أنبتوا

    هنا تخبر الأنسام عنهم حدائق
    ويروي أساطير المهارات منحتُ

    رواب ربوا فيها نمت في لحومهم
    وذابوا عليهم ورّدوها وربتوا

    ***
    كما تهجس الأعشاب للغيث لوحوا
    كما يفصح البستان للفجر صوتوا

    كتحديق أفكار بأهداب أنجم
    تنادوا كبوح الورد أعلوا وأخفتوا

    وقبل شعور الأرض بالدفء والندى
    تندوا على أزهى الروابي واخبتوا
    كتشرين جفوا مثل أيار أمطروا
    وكالطيب في أيدي السوافي تشتتوا

    ***
    قبيل الضحى والليل داروا كواكباً
    صباحاً قبيل الوقت للشمس أقتوا

    أضاؤوا سهيلاً أشعلت صيحة الهوى
    نهود الثريا مذ إليها تلفتوا

    محبون أسخى بالقلوب من السنى
    ولكن على العاتي أمر وأعنت

    ***
    من العشق جاؤوا كالأساطير والرؤى
    إلى العشق جاؤوا جمروه وكبرتوا

    وكانوا عفاريتاً من الشوق كلما
    أتوا بقعة أصبوا حصاها وعفرتوا

    وكالصيف رفوا عنقدوا كل ذرة
    وكي يخصبوا في كل جذر تفتتوا

    وكالأرض للأطيار والناس أولموا
    وكالأرض أعطوا كل زاه و(أسنتوا)

    ***
    على كل تل من خطاهم عرائس
    من الشعر تشدو كالسواقي وتصمت

    تضج اخضراراً واحمراراً وصبوة
    وتصغي فيعلوها الأسى والتزمت

    وفي ذاكرات الريح من بعض ما حكوا
    نقوش محوها مرتين وأثبتوا

    هناك يغني باسمهم هًهُنا الصدى
    يغني.. وهل يدري الشذى كيف يسكت؟
    يناير1979م

  • 251 الصاعدون.. من دمائهم

    ديوان زمان بلا نوعية >  الصاعدون.. من دمائهم

    لأنهم من دمهم أبحروا
    كالصبح، من توريدهم أسفروا

    تكسروا ذات خريف هنا
    والآن من أشلائهم، أزهروا

    وقبل إعلان الشذى، حدقوا
    وعن سداد الرؤية استبصروا

    تجمروا في ذكريات الحصى
    ومن حنين التربة اخضوضروا

    ***
    هناك رفوا… ههنا أعشبوا
    هل تضجر الأمواج كي يضجروا؟

    من كل شبر، أبرقوا، أشرقوا
    كيف التقى الميلاد والمحشر؟

    كيف هموا لوناً، سنى؟ كيف من
    تحت الشظايا والحصى أمطروا

    ***
    ماذا يقص التل للمنحنى
    عنهم، ويروي الحقل والبيدر؟

    وكيف تحكي الدار أخبارهم
    ويستعيد القصة المهجر؟

    ***
    ناموا شظايا أنجم في الثرى
    وقبل إسحار الدجى أسحروا

    مؤقتاً غابوا ، لكي يبزغوا
    كي يشمسوا، من بعد ما أقمروا

    عادوا إلى أعراقهم، أورقوا
    منها… ومن أشجارهم أثمروا

    ***
    من حيث يدرون، ومن حيث لا
    ندري… أطلوا، أذهلوا، أسكروا

    لا شيء يدري… أي شيء يرى
    وكيف أضحى غيره المنظر؟

    تعدو إليهم كالصبايا الربى
    يطير كالعصفورة المعبر

    وكل كوخ يمتطي شوقه
    وكل صخر فرس أشقر

    وكل بستان يصيح: اقتطف
    يا كل طاو…. يا عطاش اعصروا

    ***
    من أين جاؤوا؟ كلهم أكدوا
    مماتهم، عن سره أخبروا

    وشكلوه بدعة لونت
    أشكالها الأسواق والسمر

    ***
    قيل: انقضى عشرون عاماً على
    تمزيقهم… قيل انقضت أشهر

    وقال وادٍ: أصبحوا عنده
    وقال سفح: فوقه عسكروا

    وقال نجم: تحت عيني سروا
    والفجر في أهدابهم يسهر

    وقيل: هبوا ضحوة وانثنوا
    كما يتيه العاصف الأغبر

    وقال بعض: شاهدوا دفنهم
    وقال بعض البعض: لم يقبروا

    قيل اختفوا يوماً.. وقيل انطفوا
    وقيل: من حيث انطفوا نوروا

    ***
    وقيل: ذابوا ذرة ذرة
    والأرض في ذراتهم تكبر

    ***
    في كل ملقى، أصبحوا قصة
    على رؤاها، تلتقي الأعصر

    ترق، تغلي، تنهمي خضرة
    تطول، تنسى بدأها، تقصر

    لكن أما ماتوا؟ أمن أعلنوا
    هذا، بآتي وصلهم بشروا؟

    وكيف عادوا من غياب الردى؟
    لأنهم غابوا، وهم حضر

    وكانت الشمس بلا محور
    وكانت الأشعار لا تشعر

    وكل أمرٍ كان يجري كما
    يدبر الماخور والمتجر

    وكانت الألحان طينية
    والوقت عن رجليه يستفسر

    وكل مرأى، كان من لونه
    يفر، يلغي طعمه السكر

    ***
    كانوا زماناً مستحيلاً أتى
    من المحال، انفجروا، فجروا

    ومن يقين الصاعد المفتدي
    ثاروا على عنف الردى، ثوروا

    ***
    أنهوا زماناً، تحت موضاته
    ينهار، لا ينسى ولا يذكر

    كانوا صراعاً، بالنجيع ارتوى
    روى، إلى أن أغصن الخنجر

    إبريل 1978م

  • 252 (أروى).. في الشام

    ديوان زمان بلا نوعية >  (أروى).. في الشام

    يا ثلا (يا إب)، يا (أرحب)
    يا(بنا) يا (لحج)، يا (شرعب)

    كيف يا أحباب أخبركم؟
    أي أشواق الهوى أغلب؟

    أي أسرار أكاشفكم؟
    أي موت باسمكم أنسب؟

    هل يؤدي الصوت؟ أين أنا؟
    أدمعي أو أحرفي أخطب؟

    ***
    هل أقص الآن حادثة
    صدقها، من حلمها أكذب؟

    جمرها أندى فما وصدى
    بعدها من قربها أقرب

    ***
    ههنا في (الشام) سائحة
    إسمها (أروى)، ألا أعجب؟

    مثلها تسعون في (صفد)
    مثلها سبعون في (المرقب)

    إنما كالبن نكهتها
    هجسها كالمشمس الأرغب

    إنها (أروى) بلا فرس
    وبلا تاج، سوى المذهب

    تغتلي العشرون في دمها
    وعلى أهدابها تلعب

    لم تقل لي أين مولدها
    أخبرتني: نجمها العقرب

    ***
    تستجيد الشعر ملتهباً
    وصباها الأشعر الأكتب

    أنتوي من سحرها هرباً
    وإليها يهرب المهرب

    أقتل الساعات، أرقبها
    كارتقاب العائد المركب

    يمتطيني قبل مقدمها
    هاجس كالطائر الأحدب

    ***
    ما لها زوج ولا غزل
    زوجها المستقبل الأصعب

    تعشق الأحداث تخلقها
    تستطيب الأحدث الأرهب

    ترهق الأخبار باحثة
    عن غد بكر المنى أعزب

    ***
    إنها (أروى) وأي شذى!
    كيف يا لحن الهوى أطرب؟

    لاسمها من موطني عبق
    صوتها من موطني كوكب

    من شذى (الكاذي) روائحها
    من ضحى (ثقبان) بل أثقب

    من دوالي (السر) ضحكتها
    صدرها موج من ( المندب)

    ***
    يا يدي… من أين أقطفها؟
    يا فمي… من أيها أشرب؟

    ههنا أشهى، أبض هنا
    ههنا أسنى، هنا أعذب

    كاهتزاز (القات) قامتها
    بعضها من بعضها أطيب

    ***
    كيف أحكي؟ إنها وطني
    حبها من خصبها أخصب

    هل هنا داري ومنتزحي؟
    إنني من غربتي، أغرب

  • 253 دوي الصمت

    ديوان زمان بلا نوعية >  دوي الصمت

    نوفمبر 1978م

    ما الذي يدوي هنا؟ لا شيء يبدو
    كان يبكي الصمت للصمت ويشدو

    كان ينساق جدارٌ موثقٌ
    بجدارٍ.. وأنين الطين يحدو

    كان يرقى، ثم ينحط الحصى
    مثلما ينشق تحت الرمح نهد

    وينث الركن للممشى صدىً
    مثلما ينحل فوق التبن عقد

    * * *

    تخرج الأشياء من أوجهها
    ترتدي أخرى، ووجه الحزن فرد

    * * *

    هًهُنا للمنحنى أفئدة
    للربى ذاكرة للعشب وجد

    للمغارات صبابات لها
    أعين بنية للصخر زند

    * * *

    هذه الكرمة (أروى) هذه
    (روضة الوضاح) هذا التل (سعد)

    هذه الأحجار عشاق غفوا
    هذه الكثبان أشواق وسهد

    ألمحبون الذين احترقوا
    أورقوا… بالتربة انشدوا وشدوا
    * * *

    هًهٌنا الأطلال تصبو مثلما
    يلتقي بعد النوى ثغر وخد

    يذكر القبر صبا أيامه
    وتعي الأنقاض من شادوا وهدوا

    تهجس الأوراق: ردوا عفتي
    ملمسي يا باعة الأشكال ردوا

    تسأل التمويت: ماذا يرتدي؟
    وإلى أي النوادي سوف يندو؟

    * * *

    للثواني لغة عشبية
    للأسى أجنحةٌ تزقو وتعدو

    تنمحي الساعات يأتي القبل من
    آخر البعد وما للآن بعد

    مات وقت الوقت لا يغفو الدجى
    لا الضحى يرنو ولا للبعد عند

    الطفيليون في عري الحصى
    أعرقوا كالطحلب امتدوا ومدوا

    يقرأ(المقوات) عنهم قلبه
    لحظة ثم يرى ماذا أعدوا

    ما الذي تبغون؟ يدري (نقم)
    قصد من جاؤوا ومن أين استجدوا

    تحت أحداق المرايا والرؤى
    أعين أصفى وتحت الجلد جلد

    * * *

    باطنيون ويبدون كما
    حدد الرائي وما للحد حد

    هًهٌنا للتل قلب من لظى
    وله من جمره نسل وجد

    نوفمبر 1978م

  • 254 بطاقة موظف.. متقاعد

    ديوان زمان بلا نوعية >  بطاقة موظف.. متقاعد

    (مصفّى بن يعلى بن مسرى سهيل)
    مكان الولادة (بيت العجيل)

    أبو والدي كان (قيلاً) كلص
    لذا جئت لصاً كنصف بن قيل

    أمت بعرق ٍ إلى (ذي نواس)
    وعرق ٍ إلى جدتي من (هذيل)

    * * *

    عصبت جبيني بنار البروق
    وفي كل واد ٍ تدفقت سيل

    صهيل دمي وصليل فمي
    لأن جدودي سيوف وخيل

    * * *

    كم العمر؟ أعطيته بالحساب
    وأعطيه من غير وزن وكيل

    تزوجت مهراً وسبعين سيفاً
    وأصبحت سيفاً بكفي (عطيل)

    توظفت بعد أبي حارساً
    فأمسيت ليلاً وأصبحت ليل

    * * *

    تقصيت ضيفاً يسمى (جمالاً)
    تعقبت ضيفاً يسمى (الفضيل)

    من الخيط أرخي حبالاً أصوغ
    فصولاً مطولة من فصيل

    وأبدي ميولاً إلى الثائرين
    وأخفي إلى القصر خمسين ميل

    * * *

    فأشري بنصف ريال لحوماً
    وقاتاً وأرتاد(عزرا شميل)

    وأمشي أتمتم بالحوقلات
    أدندن: ( ماذا الجفا يا غزيل)

    وأروي من المنفلوطي سطوراً
    وأصرخ: يا عيل عيلوه عيل!

    * * *

    وكان لمولاي عشرون رأساً
    ولي نصف رأس وعشرون ذيل

    وكانت تراني بيوت(القليس)
    وتعجب كيف ترقى (رميل)

    سمعت (بلندن والباستيل)
    وأعياد (عيسى) و(بابا نويل)

    تطورت سميت بنتي(صباحاً)
    دعوت المقهوي(مدير الهتيل)

    تزوجت (جانين) قلت اذهبي
    إلى النار يا بنت (ناجي ثعيل)

    نموت بأصلي… أنا ابن الكرام
    سموت بنفسي أنا (ابن الطفيل)

    * * *

    وما العمل الآن؟ ماذا بعيد؟
    إلى الآن أعرف ماذا قبيل

    لأني حبلت دخاناً ولدت
    غباراً من الويل أنجبت ويل

    يونيو1978م

  • 255 السلطان..والثائر الشهيد

    ديوان زمان بلا نوعية >  السلطان..والثائر الشهيد

    أسكن كالموتى يا أحمق
    نم.. هذا قبر لا خندق

    لا فرق لديك؟ نجوت إذن
    واخترت المتراس الأوثق

    تدري ما الموت؟ ألا تغفو؟
    أقلقت الرعب وما تقلق

    هل تنسى قتلتك الأولى؟
    وإلى الأخرى تعدو أشوق

    ***
    من ذا أحياك أعيدوه؟
    أعييت الشرطة والفيلق

    هل كنت دفينا؟ لا سمة
    للقبر، ولا تبدو مرهق

    دمك المهدور- على رغمي-
    أصبحت به، أزهى آنق

    أملي بالعافية الجذلى
    ومن الرمح (الصعدي) أرشق

    من أين طلعت أحر صباً
    وأكر من الفرس الأبلق؟

    قالوا: أبحرت على نعش
    ويقال: رجعت على زورق!

    أو ما دفنوك وأعلنا؟
    فلماذا تعلو، تتألق؟

    أركبت المدفن أجنحة
    ونسجت من الكفن البيرق؟

    ***
    ماذا يبدو، من يخدعني؟
    بصري أو أنت؟ من الأصدق؟

    شيء كالحية يلبسني
    سيف بجفوني يتعلق

    ***
    من أين تباغتني؟ أنأى
    تدنو، أستخفي، تتسلق

    تشويني منك رؤى حمر
    يتهددني سيف أزرق

    شبح حرباوي، يرنو
    يغضي، يتقزم، يتعملق

    ***
    من أي حجيم تتبدى؟
    عن أي عيون تتفتق؟

    الوادي باسمك يتحدى
    والتل بصوتك، يتشدق

    الصخر ينث خطاك لظى
    الريح العجلى، تتبندق

    أبكل عيون الشعب ترى؟
    أبكل جوانحه تعشق؟

    تحمر هناك، تموج هنا
    من كل مكان تتدفق

    ***
    قالوا: أخفي… أصبحت على
    سلطاني، تسليطاً مطلق

    تحتل قرارة جمجمتي
    فأذوب، إلى نعلي أغرق

    أردي، لا ألقى من يفنى
    أسطو، لا ألقى من يفرق

    أسبقت إليك؟ فكنت إلى
    تقطيع شراييني أسبق؟

    ***
    شككت الموت بمهنته
    لا يدري يبكي أو يعرق!

    هل شل القتل لباقته
    أو أن فريسته ألبق!

    هل من دمك اختضبت يده
    أو أن أنامله تحرق

    ***
    أقتلت القتل ولم تقتل؟
    أوقعت الخطة في مأزق

    القتل بصنعاء مقتول
    وروائحه فيها أعبق

    ***
    الآن عرفت.. فما الجدوى؟
    سقط التنسيق، ومن نسق

    أضحى القتال هم القتلى
    أرديت (القائد والملحق)

    ***
    كالبذر دفنت، هنا جسدي
    والآن البذر هنا أورق

    فلقلب التربة أشواق
    كالورد، وحلم كالزنبق

    لأنوثتها – كالناس – هوى
    يتلظى، يخبو، يترقرق

    بدماء الفادي تتحنى
    لزفاف مناه تتزرق

    عمقت القبر فجذرني
    فبزغت من العمق المغلق

    السطح إلى الماضي ينمو
    وإلى الآتي، يمنو الأعمق

    من ظلمته، يأتي أبهى
    كي يبتكر الأبهى الأعرق

    ***
    هل أهمس بوحي أو أعلي؟
    ما عاد الهمس، هو الأليق

    يا من مزقني، جمعنا
    – في خط الثورة- من مزق

    ***
    ماذا حققت؟ ألا تدري؟
    وطني يدري، ماذا حقق

    ويعي من أين أتى وإلى…
    وعلى آتيه يتفوق

    1977

  • 68 يانجوم

    ديوان مدينة الغد >  يانجوم

    لفتة “يا نجوم إني أنادي”
    من رآني أومن تجلى المنادى؟

    إنني يا نجوم كل مساء
    هًهُنا أبلغ الشفار الحدادا

    وبلا موعد أمد بناناً
    من حنين لكل طيف تهادى

    لكنوز من شعوذات التمني
    تتبدي ثنى وتخفى فرادى

    أزرع السقف والزوايا فتوحاً
    فتسوق الكوى إليها الجرادا

    وأنادي والريح تمضي وتأتي
    كالمناشير جيئة وارتدادا

    وتقص الذي حكته مراراً
    للروابي ولقنته الوهادا

    وتعيد الذي أعادت وتروي
    من سعال البيوت فصلاً معادا

    من أنادي يا ريح؟ من لست أدري
    هل سيدنو أم يستزيد ابتعادا

    من يراني؟ إني هنا يا عشايا
    أنفخ السقف أو أداري الرقادا

    ورؤى تستفزني وتولي
    ورؤى تزرع المساء سهادا

    وهوى يعزف احتراقي ويشدو
    فأعيد الصدى وأحسو الرمادا

    مارس1967م

  • 69 في الليل

    ديوان من أرض بلقيس >  في الليل

    لا مشفقٌ حولي ولا إشفاقُ
    إلا المُنى والكوخُ والإخفاقُ

    البردُ والكوخُ المسجُى والهوى
    حولي وقلبي والجراحُ رفاقُ

    وهنا الدُجى يسطو على كوخي كما
    يسطو على المستضعف العملاقُ

    فلمنْ هنا أصغي؟ وكيف؟ وما هنا
    إلا أنا، والصمتُ، والإطراقُ

    أغفي الوجودُ ونام سُمارُ الدُجى
    إلا أنا والشعرُ والأشواقُ

    وحدي هنا في الليل ترتجفٌ المنى
    حولي ويرتعش الجوى الخَفاقُ

    وهنا وراء الكوخٍِ بستانٌ ذوتْ
    أغصانُهُ وتهاوتِ الأوراق

    فكأنه ُ نعشٌ يموجُ بصمتِهِ
    حُلمُ القبورِ ويعصفُ الإزهاقُ

    نسيَ الرَبيعُ مكانَه وتشاغلتْ
    عنُه الحياةُ وأجفلَ الإشراقُ

    عُربانُ يلتحف السكينة والدُجى
    وتئنُ تحت جذوعهِ الأعراقُ

    * * *
    والليلُ يرتجلُ الهمومَ فتشتكي
    فيه الجراحُ وتصرخ الأعماقُ

    والذكرياتُ تكرَ فيه وتنثني
    ويتيهُ فيه الحبً والعشاقُ

    تتغازلُ الأشواقُ فيهِ وتلتقي
    ويضمُ أعطافَ الغرام عناقُ

    * * *
    والناسُ تحت الليلِ: هذا ليلُه
    وصْلٌ وهذا لوعةٌ وفراقُ

    والحبُ مثلُ العيشِ: هذا عيشُهُ
    ترفٌ وهذا الجوعُ والإملاقُ

    في الناسِ منْ أرزاقهُ الآلاف أو
    أعلى وقومٌ ما لهمْ أوراقُ

    هذا أخي يرْوى وأظما ليس لي
    في النَهرِ لا حقُ ولا استحقاقُ

    * * *

  • 70 رحلة التية

    ديوان في طريق الفجر >  رحلة التية

    سنة 1373هـ

    هدني السجن وأدمى القيد ساقي
    فتعاييت بجرحي ووثاقي

    وأضعت الخطو في شكوك الدجى
    والعمى والقيد والجرح رفاقي

    ومللت الجرح حتى… ملني
    جرحي الدامي مكثي وانطلاقي

    وتلاشيت فلم يبق سوى
    ذكريات الدمع في وهم المآقي

    * * *
    في سبيل الفجر ما لاقيت في
    رحلة التيه وما سوف ألاقي

    سوف يفنى كل قيدٍ وقوى
    كل سفاحٍ، وعطر الجرح باقي

    سوف تهدي نار جرحي إخوتي
    وأعير الأنجم الوسنى احتراقي

    فلنا شعب فمن ينكرني
    وهو في دمعي وسهدي واشتياقي؟

    أنا ألقاه شجوناً ومنىً
    فألاقيه هنا قبل التلاقي

  • 71 وراء الرياح

    ديوان مدينة الغد >  وراء الرياح

    تقولين لي: أين بيتي مزاح؟
    من النار زاد رمادي جراح؟

    تقولين لي أين؟ وبيتي صدى
    من القبر، جدرانه من نواح

    وتيه وراء ضياع الضياع
    وخلف الدجى ووراء الرياح

    هناك قراري على اللا قرار
    وفي لا غدو وفي لا رواح

    وراء النوى حيث لا برعمٌ
    جنينٌ ولا موعد من جناح

    أموت وأستولد الأغنيات
    وأبذلها للبلى في سماح

    وأحلم حيث الرؤى ترتمي
    على غاية من لهاث النباح

    وحيث الأفاعي تبيع الفحيح
    وتمتص جوع الحصى في ارتياح

    لماذا أجيب؟ وتستنبتين
    سؤالاً يبرعم حلم الصباح

    فأصغي وأسمع من لا مكان
    صدى واعداً زنبقي الصداح

    وأشتم صيفاً خجول القطاف
    تلعثم في وجنتيك وفاح

    وناغى على شاطئي مقلتيك
    منى رضعاً، ووعوداً شحاح

    أحلن رمادي حريقاً صموتاً
    وأورقن في شفتيه فباح

    لأنا التقينا، ولدنا الشروق
    وأهدى لنا كل نجم وشاح

    فماج بنا منزل من شذا
    ومن أغنيات الصبا والمراح

  • 72 من أغني

    ديوان من أرض بلقيس >  من أغني

    هَهُنا في المنزل العاري الجديبْ
    أحتسي الدَمعَ وأقتاتُ النَحيبْ

    هَهُنا أشكو إلى اللَيلِ وكمْ
    أشتكي واللَيلُ في الصَمتِ الرهيب

    وأبثُ الشعرَ آلامَ الهوى
    وأنادي اللَيلَ والصًمتُ يجيبْ

    فإلى منْ أنفثُ الشكوى؟ إلى
    أيً سمعِ أبعثُ اللحن الكئيبْ؟

    وإلى من أشكي الحبً إلى
    منْ إلى منْ؟ إنني وحدي غريبْ

    هَهُنا يا ليلُ وحدي والجوى
    بين أضلاعي لهيبٌ في لهيبْ

    * * *

    ولمنْ أشدو؟ ومنْ أشدو؟ فيا
    لجنوني منْ أغنًي بالنًسيبْ

    ما لقلبي يعبَثُ الحبََ به
    عبثَ الإعصارِ بالغصن ِالرطيبْ

    من أغنَي؟ لا حبيباً؟ لا ولا
    لي من الدنيا على الدنيا نصيبْ

    آه شاعرٌ والشعرُ من
    محنتي! أوًاه ما أشقى الأديبْ

    شاعرٌ والشعر عمري في غدٍ
    أين عمري أين.. في اليوم القريبْ

    ** ** **

  • 73 تحدي

    ديوان في طريق الفجر >  تحدي

    15/7/1381هـ
    هددونا بالقيد أو بالسلاح
    واهدروا بالزئير أو بالنباح

    وكلوا جوعنا وسيروا على أش
    لائنا الحمر، كالخيول… الجماح

    واقرعوا فوقنا الطبول وغطوا
    خزيكم بالتصنع الفضاح

    هددونا لن ينثني الزحف حتى
    يزحف الفجر من جميع النواحي

    * * *

    قسماً لن نعود حتى ترانا
    راية النصر في النهار الضاحي

    خوفونا بالموت: إنا استهنا
    في الصراع الكريم بالأرواح

    قد ألفنا الردى كما تألف الغا
    بات عصف الخريف بالأدواح

    واحتقرنا قطع الرؤوس وأدم
    نا المنايا في حانة السفاح

    فاحفروا دربنا قبوراً فإنا
    سوف نمضي للدفن أو للنجاح

    * * *

    نحن شعب أعيا خيال المنايا
    وتحدى يد الزمان الماحي

    كلما أدمت الطغاة جناحاً
    منه أدمى نحورها بجناح

    أتعب السجن والقيود ولم يتعب
    وأغفى سجانه وهو صاحي

    ساهر كالنجوم يستولد الفجر
    ويومي إليه بالأجراح

    أيها العابثون بالشعب زيدوا
    ليلنا واملأوه بالأشباح

    لغموا دربنا: ومدوا دجانا
    واطفئوا الشهب وانتظار الصباح

    سوف نمشي على الجراحات حتى
    نشعل الفجر من لهيب الجراح

    فاستبيحوا دماءنا تتورد
    وجنة الصبح بالدم المستباح

    إنما تنبت الكرامات أرضٌ
    “سمدت تربها” عظام الأضاحي

    ودماء الشهيد أنضر غارٍ
    في جبين البطولة اللماح

    وجراحاتنا على الأفق أبهى
    شفقٍ لامٍ وأزهى وشاح

    قد أجبنا صوت المروءات لما
    عربد الظالم النيد الإباحي

    وابتنى القصر من ضلوع الملا
    يين، وجوع الأجير والفلاح

    فخلعنا عن صدره قلب “شم
    شون” وعن وجهه قناع “سجاح”

    نحن سرنا على الدماء إليه
    وعلى النار والقنا والصفاح

    وانطلقنا على المنايا كأنا
    نتمنى الحتوف في كل ساح

    لم ترنح مصباحنا أي ريح
    دمنا الزيت في فم المصباح

    * * *

    نحن شعب خضنا إلى الفجر هولاً
    فاغراً في الطريق كالتمساح

    وعبرنا ليلاً كألسنة الحيات
    والدرب عاصفٌ بالتلاحي

    وتفشت دماؤنا في الروابي
    السمر، كالعطر في مهب الرياح

    بيننا والمرام خطوة عزمٍ
    واثبٍ كالضحى شباب الطماح

    قسماً لم نقف عن السير حتى
    نضفر الغار جبين الكفاح

  • 74 فارس الأطياف

    ديوان مدينة الغد >  فارس الأطياف

    كان اسمه (يحيى) وكان يوافي
    بيتاً من الميعاد والإخلاف

    وافاه أول مرة كمجدف
    أعطى الضياع قيادة المجداف

    وغداة حيا الباب قطّب لحظة
    وصفا كوجه الوارث المتلاف

    وهفا إلى لقياه أنضر مدخل
    تومي روائحه إلى الأضياف

    وأتاه ثانية فماس أمامه
    ثوب كوشي الموسم الهفهاف

    فكأن كل خميلة ألقت على
    كتفيه أرديه من الأفواف

    ماذا وراء الثوب؟ فجر راسب
    يهوي ويستحيي وفجر طاف

    ورنا إلى الشباك يرجو فاختفت
    وارتد بالوعد الجلي الخافي

    وغدا إليه فرق شيء ظنه
    حسناء ترفل في ثياب زفاف

    ودعا (حسيناً) مرة فأجابه
    صوت كساقية من الأصداف

    فأشتم أترف ربوة أجنت له
    ودنا فغابت عن يد القطاف

    فهنا مزار من طفولات الضحى
    ومن الشذى وأصايل الأصياف

    يمضي إليه على الحنين وينثي
    منه على فرس من الأطياف

    هي لم تعده ويرتجي ميعادها
    وسدى ينعقد خضرة الصفصاف

    فيرود كالسمسار متجر عمها
    ويشيد بالبياع والأصناف

    ويعود قبل العصر يقصد جدها
    في البيت يطري حمقه ويصافي

    ومضى يصادق عند مدخل بابها
    مقهى وباباً كالخفير الجافي

    وبلا محاولة رآها مرة
    جذلى كحقل الزنبق الرفاف

    كان المساء الغض عند رجوعه
    حقلاً ربيعياً ونهر سلاف

    حقاً رآها كالضحى والبوح في
    نظراته كالطائر الخواف

    خلف الزجاج تبرجت وأظلها
    شعر كأهداب الغروب الصافي

    كانت تغني حينذاك وتنتقي
    ثوباً وترمي بالقميص الضافي

    وأمام مرآة تعري نصفها
    وتموج تحت المئزر الشفاف

    لِم لا يناديها؟ وكيف؟ ويختفي
    عنه اسمها ويضيع في الأوصاف

    شفقية الشفتين كحلى ناهد
    صيفية ثلجية الأعطاف

    وخلا الطريق فلم يصخ إلا إلى
    أصدائها وعبيرها الهتاف

    ومشى يحدق والذهول الحلو في
    عينيه يبسم كالصبى الغافي

    ويعيد فيتهم المنى ويعوده
    حلم سخى الهمس والإرجاف

    فيشيد مملكة ويستولي على
    أسمى الرؤوس وأعرض الأكتاف

    ويرن مذياع فيمسي مطرباً
    في زحمة التصفيق والإرهاف

    يشدو فتحتشد المسامر حوله
    مواجه الأثداء والأزداف

    ويمد خطوته فيركض “عنتر”
    فيى صدره ويكر (عبد مناف)

    فيغير يطعن أو يحوز فلانة
    وفلانة بشريعة الأسياف

    فإذا اسمه أخبار كل مدينة
    وإذا صداه مسامر الأرياف

    وتلين خطوته فيصبح تاجراً
    تكسوه أبهة من الآلاف

    إن النقود سلاح كل مقاتل
    ما كان أصدق حكمة الأسلاف!

    من كان أوضع من (مثنى) فاحتوى
    مالاً وأصبح أشرف الأشراف

    سأفوق من أثروا وتخبر جدتي
    أن الزمان يرق بعد جفاف

    وتقص أمي كيف كان دعاؤها
    حولي قناديلاً تضيء مطافي

    وانجر يهمس للطيوف ويجتلي
    وعداً من الإغداق والإسراف

    ويحول الدنيا بلمعة خاطر ٍ
    قيثارة موهوبة العزاف

    فيعد مشروعاً وينجز ثانياً
    كالبرق يحمله إلى الأهداف

    وغداً ستخبر كل بنت أمها
    عنه وتحسد أختها وتجافي

    وتنافس الحلوات بنت مزاره
    فيه وتمنحه بلا استعطاف

    وإلى مدى التحليق يرفعه هوى
    وهوى يخوض به مدى الإسعاف

    ورنا بلا قصد فخال تحركاً
    يدنو كقطاع من الأجلاف

    من ذا هناك؟ وكان يسعل حارسُ
    ويقص ثان ٍ فرقة الآلاف

    وأجاب هر هرة فأجال في
    وجه السكون توسم العراف

    فاعتاده شبح عليه عباءة
    شعثاً ووجه كالضريح العافي

    واحتج منعطف أطارت صمته
    ونعاسه نقالة الإسعاف

    ماذا دنا منه؛ توثب غابة
    من أذرع صخرية الأخفاف؟

    ومشى كمتهم تكشر حوله
    وحشية المنفى ووجه النافي

    وأشار مصباح فأنكر وجهه
    ويديه في إيمائه الخطاف

    ورأى هواجسه على ظل الدجى
    كدم الشهيد على يد السياف

    وأحس عمته تقول لأمه:
    رجع ابن قلبك: فأمني أو خافي

    وهناك أخبره التعثر أنه
    يمضي ويرجع وهو طاو حاف

    يونيو 1966م

  • 75 من أين؟

    ديوان مدينة الغد >  من أين؟

    من أين تهمسين لي؟
    فتستعيد الأهويه

    من أين؟ إنني على
    أيدي الظنون ألهيه

    من حيث لا أعي ولا
    تدرين أي أحجيه؟!

    وتهمسين لي كما
    يندى اخضرار الأوديه

    كما تبوح جنة
    حبلى بأسخى الأعطيه

    فيشرئب منزلي
    من الثقوب المصغيه

    عريان يغزل الصدى
    أسرّة وأعطيه

    يمد كله إليك
    حضنه وأيديه

    أتشعرين أنني
    ألقاك كل أمسيه

    على جفون خاطر
    أو احتمال أمنيه

    يطيربي إليك من
    هنا، جناح أغنيه

    يناير1965م

  • 76 في الجراح

    ديوان في طريق الفجر >  في الجراح

    28/11/1382ه
    22/4/1963م
    وحدي وراء اليأس والحزن
    يجترني محنٌ إلى محن

    وطفولة الفنان… تذهلني
    عن ثقل آلامي وعن وهني

    فأنا طفل بدون صباً
    واليأس مرضعتي ومحتضني

    وعداوة الأنذال تتعبني
    وتغسل الأدران بالدرن

    وتفوح جيفتها هنا وهنا
    كالريح في المستنقع النتن

    وتغيب عن دربي… وأعينها
    في الدرب غابات من الإحن

    وعداي أقزامٌ… يخوفهم
    صحوي ويرتاعون من وسني

    ما خوفهم مني؟ وما اقترنت
    بالحقد أسراري ولا علني

    خافوا لأن الشر مهنتهم
    وأنا بلا شرٍ بلا مهن

    ولأنني أدري نقائصهم
    ولأنهم خانوا ولم أخن

    ولأنهم باعوا عروبتهم
    وعلوت فوق البيع والثمن

    ورضيت أن أشقى وأسعدهم
    وهج الوحول وزخرف العفن

    * * *
    أحيا كعصفور الخريف بلا
    ريشٍ، بلا عشٍ بلا فنن

    أقتات أوجاعي وأعزفها
    وأشيد من أصدائها سكني

    وأتيه كالطيف الشريد بلا
    ماضٍ، بلا آتٍ، بلا زمن

    وبلا بلاد: من يصدقني؟
    إني هنا روح بلا بدن

    من ذا يصدق أن لي بلداً
    عيناه من حرقي ولم يرني؟

    وأنا هنا أرضعت أنجمه
    سهدي ووسد ليله شجني

    أأعيش فيه وفوق تربته
    كالميت الملقى بلا كفن؟

    وولائدي بسفوحه نهرٌ
    ومشاعل خضرٌ على القنن

    ماذا؟ أيدري إخواتي وأبي
    أني يمانيٌ بلا يمن؟

    هل لي هنا أو هاهنا وطنٌ؟
    لا، لا: جراحي وحدها وطني

  • 77 رائد الفراغ

    ديوان مدينة الغد >  رائد الفراغ

    طاوٍ يريد بلا إرادة
    ظمآن يجترع اتقاده

    هيمان تركض فيه أشواق
    الجنين إلى الولاده

    فيفتش الأطياف عن إيماء
    قرط أو قلاده

    عن وعد باذلة تجود
    فيستزيد إلى الزياده

    لفتاتها لحن تتوق إليه
    أخيلة الإجاده

    ويسائل الأشباح من
    أعصى ومن أدني قياده؟

    من أملأ الجارات من
    أشهى يحوم بكل غاده

    ويغيب في حمى السهاد
    يعيد كارثة معاده

    وكما يقدر يرتمي
    في دفء (تقوى) أو(سعاده)

    ويمد زنديه ويهصر من
    يظن بلا هواده

    ويمور حتى يشتكي
    قلق الفراش إلى الوساده

    ويعود يغفو أو يحرق
    في ندامته شهاده

    ***
    حتى أطلت ليلة
    معطاءة الأيدي جواده

    منحته من رغد المواسم
    فوق أحلام الرغاده

    وعلى صبيحتها دهته
    صيحة ، وأدت رقاده

    ضاعف كراء البيت أو دعه…
    أتحرمني الإفاده؟
    ماذا يقول (لمدفن)
    ورث الغباوة والسياده

    ذهبت ملامح وجهه
    وتجلمدت فيه البلاده

    من أين يعطي من قطعت
    سبيله وحكرت زاده

    حسناً سأتركه أضفه
    إلى مبانيك المشاده

    وانجر يرتاد الفراغ
    ويطعم الشوك ارتياده

    والريح تبصقه وتصفع
    في ملامحه بلاده

    ديسمبر سنة 1965 م

  • 78 يوم العلم

    ديوان في طريق الفجر >  يوم العلم

    بمناسبة افتتاح دار المعلمين بصنعاء عام 1377هـ
    ماذا يقول الشعر؟ كيف يرنم؟
    هتف الجمال: فكيف يشدو الملهم

    ماذا يغني الشعر؟ كيف يهيم في
    هذا الجمال؟ وأين أين يهوم؟

    في كل متجهٍ ربيعٌ راقصٌ
    وبكل جوٍ ألف فجرٍ يبسم

    يا سكرة ابن الشعر هذا يومه
    نغم يبعثره السنى ويلملم

    يوم تلاقيه المدارس والمنى
    سكرى كما لاقى الحبيبة مغرم

    يوم يكاد الصمت يهدر بالغنا
    فيه ويرتجل النشيد الأبكم

    يوم يرنحه الهنا وله… غدٌ
    أهنا وأحفل بالجمال وأنعم

    * * *
    يا وثبة “اليمن السعيد” تيقظت
    شبانه وسمت كما يتوسم

    ماذا يرى “اليمن” الحبيب تحققت
    أسمى مناه وجل ما يتوهم

    فتحت تباشير الصباح جفونه
    فانشق مرقده وهب النوم

    وأفاق والإصرار ملء عيونه
    غضبان يكسر قيده ويدمدم

    ومضى على ومض الحياة شبابه
    يقظان يسبح في الشعاع ويحلم

    * * *
    وأطل “يوم العلم” يرفل في السنى
    وكأنه بفم الحياة… ترنم

    يوم تلقنه المدارس نشأها
    درساً يعلمه الحياة ويلهم

    ويردد التاريخ ذاكره وفي:
    شفتيه منه تساؤلٌ وتبسم

    يوم أغنيه ويسكر جوه
    نغمي فيسكر من حلاته الفم

    * * *
    وقف الشباب إلى الشباب وكلهم
    ثقة وفخر بالبطولة مفعم

    في مهرجان العلم راف شبابه
    كالزهر يهمس بالشذى ويتمتم

    وتألق المتعلمون… كأنهم
    فيه الأشعة والسما والأنجم

    * * *
    يا فتية اليمن الأشم وحلمه
    ثمر النبوغ أمامكم فتقدموا

    وتقحموا خطر الطريق إلى العلا
    فخطورة الشبان أن يتقحموا

    وابنوا بكف العلم علياكم فما
    تبنيه كف العلم لا يتهدم

    وتسأءلوا من نحن؟ ما تاريخنا؟
    وتعلموا منه الطموح وعلموا

    * * *
    هذي البلاد وأنتم من قلبها
    فلذٌ وأنتم ساعداها أنتم

    فثبوا كما تثب الحياة قويةً
    إن الشباب توثبٌ وتقدم

    لا يهتدي بالعلم إلا نيرٌ
    بهج البصيرة بالعلوم متيم

    وفتى يحس الشعب فيه لأنه
    من جسمه في كل جارحةٍ دم

    يشقى ليسعد أمةً أو عالماً
    عطر الرسالة حرقةٌ وتألم

    فتفهموا ما خلف كل تسترٍ
    إن الحقيقة دربة وتفهم

    قد يلبس اللص العفاف ويكتسي
    ثوب النبي منافق أو مجرم

    ميتٌ يكفن بالطلاء ضميره
    ويفوح رغم طلائه ما يكتم

    * * *
    ما أعجب الإنسان هذا ملؤه
    خير وهذا الشر فيه مجسم!

    لا يستوي الإنسان هذا قلبه
    حجرٌ وهذا شمعة تتضرم

    هذا فلانٌ في حشاه بلبلٌ
    يشدو وهذا فيه يزأر ضيغم

    ما أغرب الدنيا على أحضانها
    عرسٌ يغنيها ويبكي مأتم!

    بيت يموت الفأر خلف جداره
    جوعاً وبيتٌ بالموائد متخم

    ويد منعمةٌ تنوء… بمالها
    ويظل يلثمها ويعطي المعدم

    * * *
    فمتى يرى الإنسان دنيا غضةً
    سمحا فلا ظلمٌ ولا متظلم؟

    يا إخوتي نشئ المدارس يومكم
    بكر البلاد فكرموه تكرموا

    وتفهموا سفر الحياة فكلها
    سفرٌ ودرسٌ والزمان معلم

    ماذا أقول لكم وتحت عيونكم
    ما يعقل الوعي الكريم ويفهم؟

  • 79 لا اكتراث

    ديوان مدينة الغد >  لا اكتراث

    رويه أو حطمي في كفه القدحا
    فلم يعد ينتشي أو يطعم الترحا

    لا لم يحس ارتواء أو يجد ظمأ
    أو يبتهج إن غدت أحلامه منحا

    سدى تمنين من ماتت رغائبه
    من طول ما اغتبق واصطبحا

    فعاد لا يرتجي ظلاً ولا شجراً
    ولا يراقب وعداً جد أو مزحا

    إذا اشتهى اقتات شلوا من تذكره
    وامتص ما خط في رمل الهوى ومحا

    كالطيف يحيا بلا شوق ولا حلم
    ولا انتظار رجاء ضن أو سمحا

    ينقر السهد عن ميعاد أغنية
    كطائر جائع عن سربه نزحا

    وينزوي كضريح يستعد صدى
    يبكي ويهزج (لا حزناً ولا فرحاً )

    لا تسألي: لم يعد من تعرفين هنا
    ولّى وخلف من انقاضه شبحا

    آسي بقاياه أو شظي بقيته
    للريح لم يدر من آسى ومن جرحا

    سبتمبر سنة 1965م

  • 80 نهاية حسناء ريفية

    ديوان مدينة الغد >  نهاية حسناء ريفية

    كما تذبل الداليات الصبايا
    ذوت في سخاء المُنى والعطايا

    وكالثلج فوق احتضار الطيور
    تراخت على مُقلتيها العشايا

    وكابن سبيل جثت وحدها
    تهدج خلف الضياع الشكايا

    وتسعل في صدرها أمسيات
    من الطين تبصق ذوب الحنايا

    ويوماً أشار أخوها القتيل:
    تعالي تشهت يديك يدايا

    فناحت كبنت مليك غدت
    بأيدي (التتار) أذل السبايا

    أهذي أنا؟ وتعيد السؤال
    وتبحث عن وجهها في المرايا

    أماكان ملء قميصي الربيع؟
    فأين أن؟ في قميصي سوايا

    وفر سؤال خجول تلاه
    سؤال، على شفتيها تعايا

    وأين الفراش الذي امتصني
    أيرثي هشيم الغصون العرايا

    وذات مساء تمطى السكون
    كباغ يهم بأدهى القضايا

    وأقعى يهز إزاء الجدار
    أكفاً من الشوك خرس النوايا

    وفي الصبح أهدت لها جارتان
    غبياً رضي الرقى والسجايا

    يفض الكتاب ويشوي البخور
    ويستل ما في قرار الخفايا

    فتشتم أمس المسجى يعود
    وتجتره من رماد المنايا

    وتنتظر الزائرين كأم
    تراقب عود بنيها الضحايا

    فلا طيف حب يشق إليها
    سعال الكوى أو فحيح الزوايا

    وكان يمد المساء النجوم
    إليها معبأة بالهدايا

    وتتئد الشمس قبل الغروب
    توشي رؤاها بأزهى الخبايا

    ويجثو الصباح ملياً يرش
    شبابيكها بأرق التحايا

    وتحمل عن وهج أسمارها
    رياح الدجى هودجاً من حكايا

    وكانت كما يخبر الذاكرون
    أبض الغواني وأطرى مزايا

    وانظر من صاحبات (السمو)
    ولكنها بنت أشقى الرعايا

    تهادت من الريف عام الجراد
    تعاطي المقاصير أحلى الخطايا

    وفي بدء (نسيان) حث الخريف
    إليها من الريح أمضى المطايا

    فشظى كؤوس الهوى في يديها
    وخبأ في رئتيها الشظايا

    وخلف منها بقايا الأنين
    وعاد، فأنهى بقايا البقايا

    سبتمبر سنة 1965م

  • 81 مع الحياة

    ديوان من أرض بلقيس >  مع الحياة

    يا حياتي ويا حياتي إلى كم
    أحتسي من يديك صاباً وعلقم

    وإلى كم أموت فيك وأحيا
    أين مني القضا الأخير المحتم

    أسلميني إلى الممات فإني
    أجد الموت منك أحنى وأرحم

    وإذا العيش كان ذلاً وتعذيباً
    فإن الممات أنجى وأعصم

    ***
    ما حياتي إلا طريق من الأشواك
    أمشي بها على الجرح والدم

    وكأني أدوس قلبي على النار
    وأمضي على الأنين المضرم
    لم أفت مأتماً من العمر إلا
    وألاقي من بعده ألف مأتم

    وحياة الشقا على الشاعر الحسـ
    ـاس أدهى من الجحيم وأدهم

    ***
    وأنا شاعر وما الشعر إلا
    خفقاتي تذوب شجواً منغم

    شاعر صان دمعة فتغنى
    بلغات الدموع شعراً متيم

    علمته الطيور أحزانها البكـ
    ـما فغنَّى مع الطيور ورنم

    ***
    إيه يا شاعر الحياةوماذا
    نلت منها إلا الرجاء المهشم

    أنت باك ٍ تحنو على كل باك
    أنت قلب على القلوب مقسم

    قد قرأت الحياة درساً فدرساَ
    وتجليت كل سر مكتم

    فرأيت الحياة لم تصف إلا
    لعبيد الحطام والذل والدم

    طيبها للئام لا الملهم الشادي
    وهيهات أن تطيب لملهم

    ***
    أيهذي الحياة ما أنت إلا
    أمل في جوانح اليأس مبهم

    غرة تضحك العبوس وتبكي
    فرحاً هانئاً وتشقي منعم

    ***
    يا حياتي وما حياتي وما معنى
    وجودي فيها لأشقى وأظلم

    رب رحماك فآلمتاه طويل
    والدجى في الطريق حيران أبكم

    قد أتيت الحياة بالرغم مني
    وسأمضي عنها إلى القبر مرغم

    أنا فيها مسافر زادي الأحـ
    ـلام والشعر والخيال والمجسم

    وشرابي وهمي، وآهي أغاريـ
    ـدي ونوري عمى الظلام المطلسم

    ليس لي من غضارة النور لحظ
    لا ولا في يدي سوى الظفر درهم

    ليت شعري ما لي إذا رمت شيئاً
    حال بيني وبينه القفر واليم

    لم أجد ما أريد حتى الخطايا
    أحرام علي حتى جهنم؟!!

    كل شيء أرومه لم أنله
    ليتني لم أرد ولا كنت أفهم

    أنا أحيا مع الحياة ولكن
    عمري ميت الأماني محطم

    ليتني والحياة غرم وغنم
    نلت من صفوها على العمر مغنم

    ** ** **

  • 82 ليلة

    ديوان في طريق الفجر >  ليلة

    رنت والدجى في خاطر الصمت هادىء
    يطاوعه حلم وحلم يناوئ

    وبين حنايا الليل دهر مكفنٌ
    قديم ودهر في حناياه ناشئ

    رنت والسنى في مقلة الليل متعبٌ
    يئن وفي دور المدينة طافئ

    * * *

    فلاحت لعينيها خيالات عابرٍ
    يحث الخطى حيناً وحيناً يباطئ

    وجالت بعينيها هناك وهاهنا
    فطالعها وجهٌ على العشق طارئ

    وقالت: من الآتي؟ فأرعد قلبه
    وأخجل عينيه الغرام المفاجئ

    ورفت له من كل مرأى صبابةٌ
    وضج حنين بين جنبيه ظامئ

    وقال: فتىً تاهت سفينة عمره
    وغابت وراء اليأس عنه المرافئ

    يفتش عن سلواه في التيه مثلما
    يفتش عن أهليه في الطيف لاجئ

    فحارت به واحتار في الحب مثلها
    فهل تبدأ الشكوى؟ وهل هو بادئ؟

    * * *

    ولفهما ظل السكينة والهوى
    يعاند أحيانا أحياناً وحيناً يمالئ

    فحدق يستقصي مفاتن جسمها
    كما يتقصى أحرف السطر قارئ

    * * *

    وقال: فتاتي فيك تورق فتنةٌ
    ويختال فجر كالطفولة هانئ

    ويهتز في نهديك موجٌ مضرم
    عميقٌ وفي عينيك يحلم شاطئ

    وألفاظك النعسا تشع كأنها
    على شفتيك الحلوتين لآلئ

    وضمتهما في زحمة الحب نشوةٌ
    وهوم في حضن الخطيئة خاطئ

    فتاة يموج الحسن فيها وترتمي
    عليها الصبابات الجياع الظوامئ

    جمالٌ وإغراء وروحٌ نديةٌ
    وجسمٌ بأحضان الغواية دافئ

  • 83 كانت وكان

    ديوان مدينة الغد >  كانت وكان

    كانت له حيث لا ظل ولا سعف
    من النخيل الخوالي ،ناهد نصف

    وكان أرغد نصفيها الذي ابتدأت
    أو انمحى من صباها الياء والألف

    أغرى ، وأفتن ما في بعض فتنتها
    طفولة ،وامتلاء مثمرهيف

    كانت له بعض عام، لا يمت إلى
    ماض ولا امتد من إخصابه خلف

    ولى ،ولا خبر يهدى إليه وفي
    حقائب الريح، من أخباره تحف

    وقصة لملم التاريخ أحرفها
    فاستضحك الحبر في كفيه والصحف

    وغاب أول يوم عن تذكره
    وفي تظنيه من إيمائه نتف

    كان الخميس أو الاثنين واحتشدت
    مواقف ، تدفع الذكرى وتلتقف

    في بدء تشرين ، نادته نوافذها
    فحام كالطيف ، يستأني وينجرف

    هل ذاك مخدعها؟ تومي النجوم على
    جبينه وعلى عينيه تعتكف

    بل تلك غرفتها أو تلك أيهما
    أو هذه وارتدت ازياءها الغرف

    وبعد يوم وليل جاء يسألها
    عن عمها اخبروه انه دنف

    من ذا تريد؟ وتسترخي عبارتها
    فيأكل الأحرف الكسلى ويرتشف

    ويدعي أنهم قالوا: أليس لها
    عمٌ ويعتصر الدعوى وينتزف

    ويستزيد جواباً هل هنا سكنٌ؟
    أظنٌ (بيت فلان) أهله انصرفوا

    وخانه الريق، فاستحلت تلعثمه
    وأحضر في شفتيها العذر والأسف

    ونصف (كانون) زارت بنت جارته
    فأفشت الخبر الأبواب والشُرف

    وقالت امرأة: من تلك؟ والتفتت
    أخرى، تكذب عينيها وتعترف

    وعرفتها عجوز كل حرفتها
    صنع الخطايا لوجه الله تحترف

    وقصت امرأة عنها لجدتها
    فصلاً، كما ذاب فوق الخضرة الصدف

    فعوذتها وقالت: كنت أشبهها
    لكن لكل طويل يا ابنتي طرف

    وغمغم الشارع المهجور: من خطرت
    كما تخطر تل مائج ترف

    وحين عادت وحياها على خجل
    ردت، وما كان يرجو ، ليتها تقف

    وخلفها اقتاده وعد السراب إلى
    بيت نضيج الصبا جدرانه الشغف

    حتى احتستها شفاه الباب لا أحد
    يومي إليه، ولا قلب له ، يجف

    وظن وارتاب حتى اشتم قصته
    كلب هناك وثور كان يعتلف

    وعاد من حيث لا يدري على طرق
    من الذهول إلى المجهول ينقذف

    فأعتاد ذكراه بيت مسه فمها
    في دربها ، وبظل الدار يلتحف

    وقربت دارها من ظل ملجئه
    يد تعلم من إغداقها السرف

    وكان يصغي فتدعو غيرها ابنتها
    وجارة غيرها تخفي وتنكشف

    متى تبوح وهل يفضي بخطرتها
    درب ويخبر عنها الريح منعطف؟

    وحل شهر رمادي الخطى هرم
    ضاعت ملامحه، واسترخت الكتف

    وفي نهايته، جاءت تُسائله
    عن هرها… لم يزرنا، فاتنا الشرف

    فنغمت ضحكة كسلى ، طفولتها
    جذلى، على الرقة المغناج تنقصف

    فمد كفاً خجولاً وانحنى فرنا
    من وجهها الموعد المجهول والصلف

    وكان يرنو، وجوع الأربعين على
    ذبول خديه يستجدي ويرتجف

    وقال ما ليس يدري فأدعت غضباً:
    من خلتني؟ قل لغيري: إنني كلف

    وأعرضت واستدارت: كيف شارعنا؟
    حلو… أما ساكنوه السوء والحشف؟

    (فلانة) لم تدع عرضاً و(ذاك) فتى
    يغوي ويكذب في ميعاده والحلف

    من ذلك اليوم يوم(الهر) كان له
    عمر ومتجه غض ومنصرف

    واحضر قدامه عش تدلله
    على رفيق الدوالي روضة أنف

    أجنت له أيها يدعو مجاعته
    وأي أفنانها يحسو ويقتطف؟

    ومر عهد كعمر الحلم يرقبه
    متى يعود يمنيه ويختلف؟

    وكان فيه كمولود على رغد
    أنهى رضاعته التشريد والشطف

    كانت له ويقص الذكريات على
    طيف يقابل عينيه وينحرف

    واليوم في القرية الجوعى بضيعة
    درب، ودرب من الأشواك يختطف

    يسيح كالريح في الأحياء يلفظه
    تيه، ويسخر من تصويبه الهدف

    أغسطس سنة 1965م

  • 84 أنا

    ديوان من أرض بلقيس >  أنا

    ما بين ألوان العناء
    وبين حشرجة المنى

    ما بين معترك الجرا
    ح وبين أشداق الفنا

    ما بين مزدحم الشرور
    أعيش وحدي هاهنا

    لم أدر ما السلوى؟ ولم
    أطعم خيالات الهنا

    الحب والحرمان زا
    دي والغذاء المقتنى

    * * *
    وحدي هنا خلف الوجود
    وخلف أطياف السنا

    وهنا تبنتني الحياة
    وما الحياة وما هنا

    أنا من أنا؟ الأشوا
    ق والحرمان والشكوى أنا

    أنا فكرة ولهى معانيـ
    ـها التضني والضنى

    أنا زفرة فيها بكاء الـ
    ـفقر آثام الغنى

    * * *

    أهوى وألقى غير ما
    أهوى ، ف ماذا أشتهي؟

    لا أسعد المهوى ولا
    جوع الهواية ينتهي

    أنا حيرة المحروم تنـ
    ـتحر المنى في صمته

    * * *
    وأنا حنين تائه
    بين المحبة والشقا

    أظما وأظما للجما
    ل وأين مني المستقى

    * * *
    يا قلب هل تلقى المرا
    د وما المراد وما اللقا

    عمري تمرغ في اللهيـ
    ـب ولذه أن يحرقا

    لا فارق اللهب الرما
    د ولا الرماد تفرقا

    * * *
    فمتى متى يطفي الفنا الـ
    موعود عمري الأحمقا

    كيف الخلاص ولم يزل
    روحي بجسمي موثقا

    لا الموت يختصر الحيا
    ة ولا انتهى طول البقا

    لا القيد مزقه السجـ
    ـين ولا السجين تمزقا

    حيران لم يطق الحيا
    ة ولم يطق أن يزهقا
    * * *
    يا آسر العصفور رف
    قاً بالجناح المتعب

    سئم الركود ولم يزل
    في قبضة الشوك الغبي

    درن التراب مجسد
    في الشيخ ، في ثوب الصبى

  • 85 شاعر الكأس والرشيد

    ديوان في طريق الفجر >  شاعر الكأس والرشيد

    لو تسامت عقولنا عن هوانا
    لهدينا الهدى وقدنا الزمانا

    ولسرنا وخطونا يلد الفجر
    المغني… وينبت الريحانا

    لو تلظت قلوبنا بسنى الحب
    لما عانت العيون الدخانا

    لو كبحنا غرورنا لملأنا
    من عطايا الوجود وسع منانا

    فعطايا الحياة أوسع من
    آمال أبنائها وأسخى حنانا

    لو ملكنا الهدى لما سل كفٌ
    خنجراً راعفاً وأدمى سنانا

    كيف يستل بعضنا روح بعضٍ
    ألنحيي مآتماً واضطغانا؟

    ونسمي لص الحياة شجاعاً
    ونسمي عف اليدين جبانا

    * * *

    نحن غرس الإله يحصده الله
    لماذا تعيث فيه… يدانا؟

    ما لنا نسبق الحمام إلينا
    وهو أمضى يداً وأحنى بنانا؟

    ونخاف العدى وحين نعادي
    هل درينا أنا خلقنا عدانا؟

    لو نفضنا شرورنا لرأينا
    أوجه الخير في الضياء عيانا

    نحن نبدي عيوبنا حين نرمي
    بالخطايا فلانةً أو فلانا

    نحن لو لم نكن أصول الخطايا
    ما رأينا ظلالها في سوانا

    كم سألنا التفتيش عن جيفة الإث
    م وسرنا والإثم يحدو خطانا!

    وهتكنا مخابىء الإثم في الحي
    وعدنا نفتش الأكفانا

    * * *

    لا تنم: يا “أبا نواسٍ” أما
    كنت أثيماًفي لهوه… يتفانى؟

    أوما كنت أظرف الناس في القصف
    وأعلى الغواة فناً وشانا؟

    فهتكنا عنك الستار كأن لم
    يخطر الإثم بيننا عريانا

    هل تخوفت غضبة السوط في الدن
    يا وهل ذقت في القبور الأمانا؟

    لست أدري ماذا لقيت، لماذا
    غبت في الصمت لم تحرك لسانا؟

    إن تمت هيكلاً فقد عشت أف
    كاراً وأورقت في الشفاه بيانا

    أين منك الردى؟ وأقوى من الأح
    ياء ميت يسهد… الأذهانا

    عشت عصراً ولم يزل كل عصرٍ
    يتساقى فجورك الفنانا

    تلك ألحانك الظوامي كؤوسٌ
    تتغنى فتسكر الندمانا

    لكأني ألقاك في لحنك الظمآن
    روحاً ملحناً،… وكيانا

    وذهول الإلهام يرعش عينيك
    كما ترعش الصبا الأقحوانا

    وأحس “الرشيد” ينزل دنياه
    كما ينزل الصباح الجنانا

    وتغنيه وهو ينتزف الكأس
    ويسقي المدللات الحسانا

    والندامى الصباح بين يديه
    وكؤوسٌ تنأى وأخرى تدانى

    والمليحات مهرجانٌ من الحسن
    يغني من الهوى مهرجانا

    وهو يلهو لهو الشجي ويمضي
    في جنون الهوى يعري القيانا

    فترى في الندي ألف ربيع
    ينثر العطر والسنى ألوانا

    وصباحاً من الحسان العرايا
    مغرماً يعزف الهوى ألحانا

    وخصوراً تميد بين زنودٍ
    بضةٍ تنهب الخصور اللدانا

    وصدوراً نهدى تضم صدوراً
    واحتضاناً غضاً يلف احتضانا

    والجمال العريان يطغي المحبين
    ويهوى الجنون والطغيانا

    * * *

    ما ترى يا “أبا نواسٍ”؟ ترى
    الأكواب ملأى وتحتسي الحرمانا

    تتشهى مدامةً… لم تجدها
    فتغني خيالها الفتانا

    لو وجدت الرحيق ما ذبت شجواً
    وتحرقت في المنى أشجانا

    شاعر الحب حين يهجره المح
    بوب يفتن في الحنين افتنانا

    عشت تبكي على المدام وتذرو
    في هوى الكأس دمعك الهتانا

    وتنادي الهناء في كل وهمٍ
    وتهني البساط والصولجانا

    * * *

    بدعة الذل أن تحن وتبكي
    وتغني “الرشيد” و”الخيزرانا”

    ملك يرضع الدنان كما يهوى
    وأنت تغني الدنانا

    و”الأمين” النديم يمنعك الخمر
    ويحسو وتنحني ظمآنا

    وهو في القصر يحتسي عرق الشعب
    ويروي القيان والغلمانا

    يملأ الكأس من دموع اليتامى
    ويغني على نشيج الحزانى

    ويرى أنه أمينٌ على الدين
    وإن ضيع الرشاد وخانا

    كيف يحمي دين الآله ظلومٌ
    يتحدى الأله والإنسانا؟

    يدعي عصمة الملائكة الطهر
    ويأتي ما يخجل الشيطانا

    * * *

    هكذا يا “أبا نواسٍ” تلوى
    حولك الشعب في الجراح وهانا

    كيف مرغت وجهك الحر في الذل
    وأسلست للطغاة العنانا؟

    وتغنيت “للأمين” فأصغى
    وتراخى في غيَّه وتوانى

    وتخيرت “للرشيد” بحوراً
    قلدت جيده الغليظ جمانا

    وهززت “الخصيب” فاهتز جن
    باه وذوبت مقلتيك فلانا

    وتباكيت بين كفيه كالطفل
    فيا للشموخ كيف استكانا؟!

    * * *

    كيف ألقاك يا أخا الكأس في
    المدح ذليلاً ومطرقاً خجلانا؟

    تسأل الصمت كيف حلت قوا
    فيك من الذل والنفاق مكانا؟

    أفترضى للفن أخزى مكانٍ؟
    إن للفن حرمةً وصيانا

    وألاقيك في ترنمك الخمري
    ربيعاً مرنماً… جذلانا

    تعزف العطر والفتون المندى
    وتهز الشباب والعنفوانا

    * * *

    لا تقل لي: كيف التقينا؟ وقل لي:
    بارك الفن والخيال لقانا!

    شاعر الكأس قرَّب الطيف عهدينا
    فكيف اتفاقنا؟ كيف كانا؟

    بعد العهد بيننا فادَّكرنا
    واختصرنا بالذكريات الزمانا

    واعتنقنا على النوى والتقينا
    نتشاكى من الأسى ما عنانا

    أنا أشقى كما شقيت ولكن:
    لا تتمتم… وأينا أشقانا؟

    لا تسلني: فمحنتي أن لي في الـ
    يأس أهلاً وفي الأسى إخوانا

    نحن من نحن؟ مزهران من الشوق
    كلانا لحن العذاب كلانا

    “شاعر الكأس والرشيد” وداعاً
    وسلاماً يشذيك آناً فآنا

  • 86 مغني الهوى

    ديوان في طريق الفجر >  مغني الهوى

    شعبان سنة 1376هـ
    لا تسخري يا أخت بالشاعر
    تكفيه بلوى دهره الساخر

    رفقاً بغريد الهوى إنه
    ينوح نوح الطائر… الحائر

    يبكي بترديد الأغاني وما
    للحنه والحب… من آخر

    فلا تضيقي بمغني الهوى
    وهل يضيق الروض بالطائر؟

    تذكري خلف النوى عاشقاً
    يلقاك في وجدانه الذاكر

    أوما إلى كف الهوئ قلبه
    إيماءة العنقود للعاصر

    محرق الأنفاس تسري به
    ظنونه حول الدجى العابر

    * * *

    والليل وادي الحب تنثال من
    سكونه الذكرى على الساهر

    وتلتقي الأشجان في جوه
    مواكباً في موكب سادر

    تمر بالأشواق أطيافه
    كما تمر الغيد.. بالعاهر

    وتستثير النائمين الرؤى
    وتضحك الأوهام للسامر

    كم شاق هذا الليل إلى
    خلٍ ومطواعاً إلى نافر

    وجالت الأحلام فيه كما
    يجول سر الحب في الخاطر

    وضم مشتاقٌ مشوقاً به
    وحن ملهوفٌ إلى زائر

    * * *

    سل الدجى عن طيف “ليلى” وكم
    حياه “مجنون بني عامر”
    وسله عن أخبار أهل الهوئ
    من أبعد الماضي إلى الحاضر

    فإنه رحالة الدهر… كم
    سرى الهوى في ركبه السائر

    مسافرٌ يسري ويطوي السرى
    على جناح الفلك الدائر

    رحالة الأزمان يزجي إلى
    مستقبل الدهر صدى الغابر

    * * *

    كم في حنايا الليل سرٌ
    وما أكتمه للسر… والظاهر!

    ينساق في الصمت وفي صمته
    حنين مهجور إلى هاجر

    وشوق مفتون إلى فتنة
    ووجد مسحورِ إلى ساحر

    وحقد مظلومٍ على ظالمٍ
    وضغن مأسور على آسر

    * * *

    يا أخت: هل ألقى إليك الدجى
    أشواق قلبٍ بالشقا زاخر؟

    يستولد الآمال لكن كما
    يستولد العنين من عاقر

    * * *

    يا ربة الحسن هنا مغرمٌ
    يصغي لنجوى طيفك العاطر

    معذبٌ تاريخه قصةٌ
    حيرى كقلب التاجر الخاسر

    رقي عليه إنه كله
    قلبٌ شجي الشعر والشاعر

  • 87 بشرى النبوءة

    ديوان في طريق الفجر >  بشرى النبوءة

    بشرى من الغيب ألقت في فم الغار
    وحياً وأفضت إلى الدنيا بأسرار

    بشرى النبوة طافت كالشذى سحراً
    وأعلنت في الربى ميلاد أنوار

    وشقت الصمت والأنسام تحملها
    تحت السكينة من دارٍ إلى دار

    وهدهدت “مكة” الوسنى أناملها
    وهزت الفجر إيذاناً بإسفار

    * * *
    فأقبل الفجر من خلف التلال وفي
    عينيه أسرار عشاقٍ وسمار

    كأن فيض السنى في كل رابيةٍ
    موجٌ وفي كل سفحٍ جدولٌ جاري

    تدافع الفجر في الدنيا يزف إلى
    تاريخها فجر أجيالٍ وأدهار

    واستقبل الفتح طفلاً في تبسمه
    آيات بشرى وإيماءات إنذار

    وشب طفل الهدى المنشود متزراً
    بالحق متشحاً بالنور والنار

    في كفه شعلةٌ تهدي وفي فمه
    بشرى وفي عينه إصرار أقدار

    وفي ملامحه وعدٌ وفي دمه
    بطولة تتحدى كل جبار

    * * *
    وفاض بالنور فاغتم الطغاة به
    واللص يخشى سطوع الكوكب الساري

    والوعي كالنور يخزي الظالمين كما
    يخزي لصوص الدجى إشراق أقمار

    نادى الرسول نداء العدل فاحتشدت
    كتائب الجور تنضي كل بتار

    كأنها خلفه نارٌ مجنحةٌ
    تعدو وقدامه أفواج إعصار

    فضج بالحق والدنيا بما رحبت
    تهوي عليه بأشداقٍ وأظفار

    وسار والدرب أحقادٌ مسلحةٌ
    كأن في كل شبرٍ ضيغماً ضاري

    وهب في دربه المرسوم مندفعاً
    كالدهر يقذف أخطاراً بأخطار

    * * *
    فأدبر الظلم يلقي ها هنا أجلاً
    وها هنا يتلقى كف… حفار

    والظلم مهما احتمت بالبطش عصبته
    فلم تطق وقفةً في وجه تيار

    رأى اليتيم أبو الأيتام غايته
    قصوى فشق إليها كل مضمار

    وامتدت الملة السمحا يرف على
    جبينها تاج إعظامٍ وإكبار

    * * *
    مضى إلى الفتح لا بغياً ولاطمعاً
    لكن حناناً وتطهيراً لأوزار

    فأنزل الجور قبراً وابتنى زمناً
    عدلاً… تدبره أفكار أحرار

    * * *
    يا قاتل الظلم صالت هاهنا وهنا
    فظايعٌ أين منها زندك الواري

    أرض الجنوب دياري وهي مهد أبي
    تئن ما بين سفاحٍ وسمسار

    يشدها قيد سجانِ وينهشها
    سوطٌ… ويحدو خطاها صتت خمار

    تعطي القياد وزيراً وهو متجرٌ
    بجوعها فهو فيها البايع الشاري

    فكيف لانت لجلاد الحمى “عدنٌ”
    وكيف ساس حماها غدر فجار؟

    وقادها زعماءٌ لا يبررهم
    فعلٌ وأقوالهم أقوال أبرار

    أشباه ناسٍ وخيرات البلاد لهم
    – يا للرجال – وشعبٌ جائع عاري

    أشباه ناسٍ دنانير البلاد لهم
    ووزنهم لا يساوي ربع دينار

    ولا يصونون عند الغدر أنفسهم
    فهل يصونون عهد الصحب والجار

    ترى شخوصهم رسميةً وترى
    أطماعهم في الحمى أطماع تجار

    * * *
    أكاد أسخر منهم ثم يضحكني
    دعواهم أنهم أصحاب أفكار

    يبنون بالظلم دوراً كي نمجدهم
    ومجدهم رجس أخشابٍ وأحجار

    لا تخبر الشعب عنهم إن أعينه
    ترى فظائعهم من خلف أستار

    الآكلون جراح الشعب تخبرنا
    ثيابهم أنهم آلات أشرار

    ثيابهم رشوةٌ تنبي مظاهرها
    بأنها دمع أكباد وأبصار

    يشرون بالذل ألقاباً تسترهم
    لكنهم يسترون العار بالعار

    تحسهم في يد المستعمرين كما
    تحس مسبحةً في كف سحار

    * * *
    ويلٌ وويلٌ لأعداء البلاد إذا
    ضج السكون وهبت غضبة الثار!

    فليغنم الجور إقبال الزمان له
    فإن إقباله إنذار إدبار

    * * *
    والناس شرٌ وأخيارٌ وشرهم
    منافق يتزيا زي أخيار

    وأضيع الناس شعبٌ بات يحرسه
    لص تستره أثواب أحبار

    في ثغره لغة الحاني بأمته
    وفي يديه لها سكين جزار!

    حقد الشعوب براكينٌ مسممةٌ
    وقودها كل خوان وغدار

    من كل محتقر للشعب صورته
    رسم الخيانات أو تمثال أقذار

    وجثةٌ شوش التعطير جيفتها
    كأنها ميتةٌ في ثوب عطار

    * * *
    بين الجنوب والعابثين به
    يومٌ يحن إليه يوم “ذي قار”

    * * *
    يا خاتم الرسل هذا يومك انبعثت
    ذكراه كالفجر في أحضان أنهار

    يا صاحب المبدأ الأعلى، وهل حملت
    رسالة الحق إلا روح مختار؟

    أعلى المبادىء ما صاغت لحاملها
    من الهدى والضحايا نصب تذكار

    فكيف نذكر أشخاصاً مبادئهم
    مبادىء الذئب في إقدامه الضاري؟!

    يبدون للشعب أحباباً وبينهم
    والشعب ما بين طبع الهر والفار

    ما لي أغنيك يا “طه” وفي نغمي
    دمعٌ وفي خاطري أحقاد ثوار؟

    تململت كبرياء الجرح فانتفزت
    حقدي على الجور من أغوار أغواري
    * * *
    يا “أحمد النور” عفواً إن ثأرت ففي
    صدري جحيمٌ تشظت بين أشعاري

    “طه” إذا ثار إنشادي فإن أبي
    “حسان” أخباره في الشعر أخباري

    أنا ابن أنصارك الغر الألى قذفوا
    جيش الطغاة بجيشٍ منك جرار

    تظافرت في الفدى حوليك أنفسهم
    كأنهن قلاعٌ خلف أسوار

    نحن اليمانين يا “طه” تطير بنا
    إلى روابي العلا أرواح أنصار

    إذا تذكرت “عماراً” ومبدأه
    فافخر بنا: إننا أحفاد “عمار”

    “طه” إليك صلاة الشعر ترفعها
    روحي وتعزفها أوتار قيثار

  • 88 الليل الحزين

    ديوان من أرض بلقيس >  الليل الحزين

    كئيب بطيء الخطا مؤلم
    يسير إلى حيث لا يعلم

    ويسري ويسري فلا ينتهي
    سراه ولا نهجه المظلم

    وتنساب أشباحه في السكون
    حيارى بخيبتها تحلم

    هو الليل في صمته ضجة
    وفي سره عالم أبكم

    كأن الصبابات في أفقه
    تئن فترتعش الأنجم

    حزين غريق بأحزانه
    كئيب بآلامه مفعم

    كأن النجوم على صدره
    جراح يلوح عليها الدم

    ***
    هو الليل يطوي بأعطافه
    قلوباً بأشواقها تضرم

    تساهره أعين الساهرين
    وتقتات أحلامه النوم

    ويشكو إلى جوه عاشق
    ويشدو على صمته ملهم

    يناجي المعنى المعني به
    ويهفو إلى المغرم المغرم

    ويبتهج القصر في ظله
    وينتحب الكوخ والمعدم

    ففيه التآويه والأغنيات
    وفي طيه العرس والمأتم

    وفي صدره سر هذا الوجود
    ف ماذا يذيع وما يكتم؟

  • 89 بين ذهاب ومعاد

    ديوان في طريق الفجر >  بين ذهاب ومعاد

    18 صفر سنة 1380ه

    تلفتت كالسارق الخائف
    إلى العشيق اللاهث الراجف

    مذعورةً ترتاع من خطوها
    من الخيال الكاذب الطائف

    شرشفها المذعور كالغصن في
    جو الخريف الأصفر العاصف

    تمشي ويمشي إثها والدجى
    حوليهما كالراهب العاكف

    وانطلقت وانقض في إثرها
    كاالبرق في إيماضه الخاطف

    * * *

    حتى احتوى شخصيهما مخدعٌ
    غضٌ كأفراح الصبا الوارف

    فالليل رقصٌ عابثٌ كالصبا
    ومعزفٌ يشدو بلا عازف

    ولاح وهمان لعينيهما
    كواقفٍ يصغي إلى واقف

    فقنعت وجهيهما صفرةٌ
    كذكريات المذنب الآسف

    وأعتم الجو فلم يخشيا
    على ستار الحب من كاشف

    وأنصت الليل ولم يستمع
    إلا شكاوى عمره التالف

    كأنه شيخٌ على وجهه
    مقبرة من عهده السالف

    شيخٌ له وجه كدجل الرؤى
    ولحيةٌ تدعو يد الناتف

    أصغى فلم يسمع سوى غيمه
    وثرثرات المطر الواكف

    وخطو فلاحٍ هناك أنحنى
    يمحو بقايا العرق النازف

    * * *

    هنا اطمأنت واطمأن الفتى
    إلى اللقاء الصاخب القاصف

    وحدقت في وجه محبوبها
    تحديقة الظامي إلى الغارف

    ووسوست ما سر إطراقه
    وما ورا إطراقة العارف؟!

    هل أذهلته فتنتي أم أنا
    أسعى وراء الموعد الآزف؟

    هل أجتديه؟ آه أم التجي
    إلى سلاحي المدمع الذارف؟!

    أم لا ينم الوجه عن قلبه؟
    أم حبه كالدرهم الزائف؟

    لا “لم يكن” إني أرى قلبه
    في عينيه كالشره الواجف

    عيناه في عيني لكن متى
    يدني فمي من فمه الراشف؟

    وأومات في ثغرها بسمةٌ
    إيماءة الزهر إلى القاطف

    فضمها حتى ارتمت وارتمى
    على السرير الناعم العاطفي

    فضم سكَيراً وسكيرةً
    وشد مشغوفاً إلى شاغف

    * * *

    وعاد والفجر وراء الدجى
    لمحٌ كهجس الخاطر الكاسف

    وفجأةً أومت بنان السنى
    إيماءه الحسن إلى الواصف

    وأقبل الفجر وفي جيده
    قلادةٌ من جرحه الراعف

    فالدرب في إشراقه جدولٍ هاتف
    مزغردٌ في جدول هاتف

    وكبرياء البعث أهزوجةٌ
    على شفاه الموكب الزاحف.

  • 90 المنتحر

    ديوان في طريق الفجر >  المنتحر

    جمادى الآخرة سنة 1377هـ
    لفظ الروح فا طمأنت ضلوعه
    وأنطفا شوقه ونام ولوعه

    وقع المتعب الكئيب على الموت
    ف ماذا جرى وكيف وقوعه؟

    جفت الكأس في يديه وأشتى
    فيه وادي المنى ومات ربيعه

    حار في الموت والحياة… كراع
    ضاع تحت الدجى وضاع قطيعه

    كلما ساءل الدجى أين يمضي
    لج في الصمت واستفاض خشوعه

    وأنحنى كالعجوز وأنساق كالمخمور
    وامتد في السكون هزيعه

    ***
    لا تسل ذلك الفتى: كيف صاح
    الجرح فيه؟ وكيف صم سميعه

    كيف أسرار قلبه أي سر
    كان يطوي وأي سر يذيعه؟

    هم بالموت والظنون تواري
    حوله الخوف تارة وتشيعه

    وتلكا فدار في ذهنه “سقراط”
    هذا اسمه وهذا لموعه

    ذلك الفيلسوف لم يدر هل أحسن
    صنعاً أم كيف ساء صنيعه؟!

    جرعه الكأس أنهت العمر فيه
    فانتهى أصل شره وفروعه

    وتلكا الفتى وحار أيشري
    من يد الموت عمره أم يبيعه

    أو مات كفه إلى خنجر الموت
    وأوما إلى الحياة نزوعه

    ***
    ليس يدري أي الأمرين أحلى
    سعيه نحو حتفه أم رجوعه؟

    طاوع الخنجر الأصم يديه
    حين كادت يمينه لا تطيعه

    وتوارى في صدره خنجر الموت
    فضج الحشا وفارت صدوعه

    والتوى حوله الردى كالأفاعي
    وتلوى كالأفعوان صريعة

    وتراخت على الفراش يداه
    ثم أغفى وفي يديه جيعه

    ***
    متعب طال عمره وشقاه
    وتمادت جراحه ودموعه

    طالما شب من دماه شموعاً
    للهوى فأنطفى الهوى وشموعه

    حين لم يستطع بلوغ مناه
    مات: والموت كل ما يستطيعه

    وانطوى عمره الطويل فألقى
    قيده وانتهى شقاه وجوعه

    وانزوى حيث لا يحس صديقاً
    يجتبيه ولا عدواً يروعه

    ***
    نزل المضجع الأخير فلانت
    قسوة الترب واستراح ضجيعه

    اسكت القبر فيه كل ضجيج
    واحتواه سكونه وهجوعه

    إنما القبر مضجع يستوي
    العالم فيه رفيعه ووضيعه

    نافقت بيننا الحياة فهذا
    حل كوخاً وذاك طالت ربوعه

    يا لظلم الحياة ما أعدل القبر
    تساوى فيه الوجود جميعه!

    ***
    لا تلم ذلك الفتى حين أردى
    نفسه فالشقا الطويل شفيعه

    وانتحار المضيم أخصر للضيم
    وأجدى من أن يطول خضوعه

    مزق العمر حين ضيعه العمر

    وحمق حفظ الفتى ما يضيعه

    كم شوت روحه الضلوع ويوماً
    لفظ الروح فاطمأنت ضلوعه

    ** ** **

  • 91 يوم المعاد

    ديوان في طريق الفجر >  يوم المعاد

    18 ذو الحجة 1378ه

    يا أخي يا ابن الفدى فيم التمادي
    وفلسطين تنادي وتنادي؟

    ضجت المعركة الحمرا.. فقم:
    نلتهب.. فالنور من نار الجهاد

    ودعا داعي الفدى فلنحترق
    في الوغى، أو يحترق فيها الأعادي

    يا أخي يا ابن فلسطين التي
    لم تزل تدعوك من خلف الحداد

    عد إليها، لا تقل: لم يقترب
    يوم عودي قل: أنا “يوم المعاد”

    عد ونصر العرب يحدوك وقل:
    هذه قافلتي والنصر حادي

    عد إليها رافع الرأس وقل:
    هذه داري، هنا مائي وزادي

    وهنا كرمي، هنا مزرعتي
    وهنا آثار زرعي وحصادي

    وهنا ناغيت أمي وأبي
    وهنا أشعلت بالنور اعتقادي

    هذه مدفأتي أعرفها
    لم تزل فيها بقايا من رماد

    وهنا مهدي، هنا قبر أبي
    وهنا حقلي وميدان جيادي

    هذه أرضي لها تضحيتي
    وغرامي ولها وهج اتقادي

    ها هنا كنت أماشي إخوتي
    وأحيي ها هنا أهل ودادي

    هذه الأرض درجنا فوقها
    وتحدينا بها أْعدى العوادي

    وغرسناها سلاحاً وفدً
    ونصبنا عزمنا في كل وادي

    وكتبنا بالدما تاريخها
    ودما قوم الهدى أسنى مداد

    هكذا قل: يا ابن “عكا” ثم قل:
    هاهنا ميدان ثاري وجلادي

    يا أخي يا ابن فلسطين انطلق
    عاصفاً وارم العدى خلف البعاد

    سر بنا نسحق بأرضي عصبةً
    فرقت بين بلادي وبلادي

    قل: “لحيفا” استقبلي عودتنا
    وابشري ها نحن في درب المعاد

    واخبري كيف تشهتنا الربى
    أفصحي كم سألت عنا النوادي!

    قل: لاسرائيل يا حلم الكرى
    زعزعت عودتنا حلم الرقاد

    خاب “بلفور” وخابت يده
    خيبة التجار في سوق الكساد

    لم يضع، لا لم يضع شعب أنا
    قلبه وهو فؤادٌ في فؤادي

    قل: “لبلفور” تلاقت في الفدى
    أمة العرب وهبث للتفادي

    * * *

    وحد الدرب خطانا والتقت
    أمتي في وحدةٍ أو في اتحاد

    عندما قلنا: اتحدنا في الهوى
    قالت الدنيا لنا: هاكم قيادي

    ومضينا أمة تزجي الهدى
    اينما سارت وتهدي كل هادي

  • 92 بعد الضياع

    ديوان في طريق الفجر >  بعد الضياع

    عام 1379هـ

    إلى من أسير؟ أهاض المسير
    قواي وأدمى جناحي الكسير

    وكيف المسير ودربي طويلٌ
    طويل وجهدي قصيرٌ قصير؟!

    فكنت كفرخ أضاع الجناح
    وتدعوه أشواقه أن يطير

    ولي أمنياتٌ كزهر القبور
    يموت ويرعشه الزمهرير

    أجر خطاي فأخشى العثار
    وتجتاحني رغبه كالسعير

    فحيناً أهب كطفل لعوبٍ
    وحيناً أدب كشيخ حسير

    وآونةً أرتمي في الجراح
    كما يرتمي في القيود الأسير

    وتدفعني وحشة الذكريات
    وتثني خطاي طيوف المصير

    * * *

    أمامي غيوب وسرٌ رهيبٌ
    وخلفي عذابٌ وماضٍ مرير

    إلى أين أمضي وهل أنثني؟
    أمامي خطيرٌ وخلفي خطير

    هنا هزني من وراء المنى
    نداءٌ كضحك الصبي الغرير

    كخفق الأماني كنجوى غديرٍ
    شذي الصدى زنبقي الخرير

    فجئت إليك كمن يلتجي
    إلى واحة من جحيم الهجير

    ورف عليَّ هواك الحنون
    رفيق الربيع الشذي الخضير

    فلا تسألي من هداني إلي؟
    هداني إليك صباك النضير

    أتخفين عني وحولي شذاك
    يوشي الدروب ويغشى الأثير

    فأقبلت في الطيب أمشي إليك
    على ألف أغنية من عبير

    ولما التقينا احتضنا الهوى
    كما يحضن الفجر صدر الغدير

    وغناك حبي فلاقى لديك
    صدىً ناعماً مترفاً كالحرير

    وناديت فيك هوىً أولاً
    وناديت في الحبيب الأخير

    * * *

    وسرنا جميعاً يداً في يدٍ
    نغني كثيراً ونبكي كثير

    وطاب لنا منزلٌ واحدٌ
    صغير كعش الهزار الصغير

    ولم تسأليني: أعندي سرير؟
    لأن المحبة أحنى سرير

    وهل لي سريرٌ أنا شاعرٌ
    شعوري غنيٌ وجيبي فقير

    وحسبي أنا من عطايا الوجود
    شعورٌ غني وفكرٌ منير

    إذا كان همي شرابٌ وقوتٌ
    فما الفرق بيني وبين الحمير

    خلقت حنوناً لكل الأنام
    بأرجاء قلبي قرار قرير

    أعزي الفقير وأرثي الغبي
    على عجزه وأهني القدير

    أعزي الجميع وأهوى الجميع
    ومحتقر الناس أدنى حقير

    وأستلهم الدمع والأغنيات
    ونوح النعي وصوت البشير

    أنا شاعر يا”ابنة العم” لي
    من الحب نبعٌ شهيٌ غزير

    وشعر رقيق كحلم الصباح
    على مقل الياسمين المطير

    فحسبي وحسبك ديوان شعرٍ
    وبيتٌ صغيرٌ وحبٌ كبير

    وكأسٌ من الشوق والذكريات
    وأغنية من شذاك المثير

    إذا قرت النفس لذ المقام
    وساوى التراب الفراش الوثير

    فقد يتعس الجدب كوخ المقل
    وتشقي الرفاهة قصر الأمير

    يضيق الفقير ويشقى الغني
    فلا ذاك بدعٌ ولا ذا نكير

    فذا يشتهي لم يجد بلغةً
    وهذا يعاف الغذاء الوفير

    ويخفي وراء الطلاء الأنيق
    صدوع الحنايا وخزي الضمير

    فومض السعادة من حوله
    كومض الأشعة حول الضرير

    فكم مترفٍ مبتلى بالألوف
    وكم كادحٍ هانىءٍ باليسير

    # # # #
    لنا يا “ابنة العم” من حبنا
    حنانٌ يغني وعيش غضير

    وفن يضم هوانا… كما
    يضم السميرة أشهى سمير

    ويحتضن الحب والأمنيات
    كما تحضن الكأس كف المدير

    إليك انتهت رحلتي في الضيا
    ع فأنسيتني هولها المستطير

    فلقياك كالظل بعد الهجير
    وكالنصر بعد الجهاد العسير

  • 93 مصرع طفل

    ديوان في طريق الفجر >  مصرع طفل

    وها هي القصيدة إليك مع أجمل العزاء على طفلك الوحيد.
    19 رمضان سنة 1378هـ
    كيف انتهى من قبل أن يبتدي
    هل تنطفي الروح ولم توقد؟

    وكيف أنهى السير من لم يرح
    في دربه المجهول أو يغتدي؟

    وافى من الديجور يحبو إلى
    كهف السكون النازح الأسود

    ألقى به المهد إلى قبره
    لم يقترب منه ولم يبعد

    * * *

    ما باله خف إلى موته؟
    هل كان والموت على أموعدا؟

    ما أقصر الشوط وأدنى المدى
    ما بين عهد اللحد والمولد!

    * * *

    يا من رأى الطفل يعاني الردى
    ويرفع الكف كمن يجتدي!

    كأنه في خوفه… يحتمي
    بكفه من صولة المعتدي!

    وكلما انهال عليه انطوى
    يلوذ بالثوب… وبالمرقد

    وتارة يرنو إلى أمه
    وتارة يلقي يداً في يد

    ومرةً يرجو أبا مشفقاً
    ومرةً يرنو إلى العود

    * * *

    يهوى أبوه لو يذود القضا
    عنه وتهوى الأم لو تفتدي

    يا من شهدت الطفل في موته
    ألم تمت من روعة المشهد؟!

    * * *

    يا صائد العصفور رفقاً به
    فلم يخض جواً ولم يصعد

    أتى يغني الروض لكنه
    لم ينشق الروض ولم ينشد

    طفلٌ كعصفور الروابي طوى
    ردا الصبا من قبل أن يرتدي

    أهل في بدء الصبا فانطفى
    لم يهد حيراناً ولم يهتد

    * * *

    ونام في حضن الهنا مبعداً
    عن الأعادي وعن الحسد

    عن ضجة الدنيا وأشرارها
    وعن غبار العالم المفسد

    تدافع الطفل إلى قبره
    فنام تحت الصمت كالجلمدا

    ما أسعد الطفل وأهنى الكرى
    على سكون المرقد المفرد!

    * * *

    هنا ثوى الطفل وأبقى أباً
    يبكي وأماً في البكا السرمدي

    تقول في أسرارها أمه:
    لو عاش سلوى اليوم، ذخر الغد!

    لو عاش لي يا رب، لو لم يمت
    أو ليته يا رب، لم يوجد

    * * *

    هل خاف هذا الطفل جهد السرى
    فاختزل الدرب ولم يجهد؟

    ما باله جف وري الصبا
    حوليه والعيش الظليل الندي؟!

    مضى كطيف الفجر لم يقتطف
    من عمره غير الصبا الأرغد

    لم يطعم الدنيا ولم يدر ما
    في سوقها من جيد أو ردي

    حبا من المهد إلى لحده
    لم يشق في الدنيا ولم يسعد

    فهاك يا “عبدالعزيز” الرثا
    شعراً حزين الشدو والمنشد

    يبكي كما تبكي وفي شجوه
    تعزية عن طفلك الأوحد

  • 94 مروءات العدو

    ديوان في طريق الفجر >  مروءات العدو

    شوال سنة1378 هـ
    يخوفني بالنهب والقتل ناقم
    عليً وهل لي ما أخاف عليه؟

    إذا رام نهبي لم يجد ما يرومه
    وإن رام موتي فالمصير إليه

    إذا سل روحي سلني من يد الشقا
    وخلصني من شره بيديه

    وأطلقني من سجن عمري فقاتلي
    عدو، مروءات الصديق لديه

    ** ** **

  • 95 خطرات

    ديوان في طريق الفجر >  خطرات

    1380هـ
    قال لي: هل تحس حولك رعبا
    وعجاجاً كالنار طار وهبا؟

    فكأن النجوم شهقات جرحى
    جمدت في محاجر الأفق تعبى

    قلت: إن الطريق شب عراكاً
    آدمياً في أجيف الغنم..شب

    فكأني أشتم في كل شبرٍ
    ميتةً تستثير كلباً.. وكلبا

    أقوياءٌ تفني الضعاف وتدعو
    خسة الغالبين نصراً وكسبا

    * * *

    قال: إنا نبكي الضعيف صريعاً
    ونهني القوي رغباً ورهبا

    زعم المرء أنه علة الدنيا
    فأشقى ما هب فيها ودبا

    واستباح ابنه وأردى أخاه
    وتولى تراث قتلاه غصبا

    فكأن الثرى رفات ضحايا
    زورتها السنون طيناً وعشبا

    * * *

    قلت: لا توقظ “المعري” فيلقى
    “أم دفرٍ” أغوى خداعاً وأصبى

    ويرانا أخس من أن يثير الهجو
    أو نستحق نقداً وسبا

    لا تذكر “أبا العلا” إن جيل اليو
    م أضرى من جيل أمس وأغبى
    * * *

    وهنا قال صاحبي: لا تعامى
    فترى ألمع المحاسن ذنبا

    يا أخي: والهوى يصم ويعمي
    كيف ترضى الهوى دليلاً وركبا؟

    فتأمل تجد صراعاً… كريماً
    وصراعاً جم النذالات خبا

    وقتيلاً يغفو ويسهر ثاراً
    وشهيداً يندى سلاماً وحبا

    ودماً في الثرى تجمد جمراً
    ودماً في السماء أورق شهبا

    ونفاحاً أخزى هجوماً وترباً
    سمدته الدماء فاخضر خصبا

    * * *

    وذكرنا أنا نسير وأغفى
    جهدنا والطريق ما زال صعبا

    دربنا كله عجاجٌ وريحٌ
    كفنت جوه رماداً وحصبا

    وظلام ٌ تأله الشر فيه
    وتمطى شيطانه فتنبا

    وصراع إن أطفأ الضعف حرباً
    شب حقد الرماد حرباً فحربا

    * * *

    كيف نسري؟ وراءنا عاصف يط
    غى، وقدامنا أعاصير نكبا

    يتلهى بخطونا عبث الريحين،
    دفعاً إلى الأمام وجذبا

    قلت: ليت الممات ينهي خطانا
    قال: ما كل من دعا الموت لبى

    يا رفيقي: الموت شر… وأدهى
    منه… أنا نريده وهو يأبى

    * * *

    قال لي: لا تقف: تقو بزندي
    مضينا نشد بالجنب جنبا

    واتحدنا جنباً كأنا اختلطنا
    وجمعنا القلبين في الجنب قلبا

    فاهتدى سيرنا كأنا فرشنا
    لخطانا مباسم الفجر دربا

    وانتشى جونا انتشاء الندامى
    وأدار النجوم أكواب صهبا

    يشعل الحب من دجى الأفق فجراً
    يسفح العطر في طريق الأحبا

    * * *

    ونظرنا في الأفق وهو بقايا
    من ظلام محمرة الوجه غضبى

    وخيال السنى يجرب عينيه
    فيطوي هدباً ويفتح هدبا

    وسألنا: فيم التعادي؟ وفيما
    نخضب الليل بالجراحات خضبا؟

    ولماذا نجني المنايا… بأيدينا،
    ونرمي الحياة في الترب تربا؟

    والورى أخوة ففيم التعادي؟
    وهو أخزى بدءاً وأشأم عقبى؟

    أمنا الأرض “يسعد الأم” أن
    تلقى بنيها صباً يعانق صبا

  • 96 بين ليل وفجر

    ديوان في طريق الفجر >  بين ليل وفجر

    1378هـ
    في هجعة الليل المخيف الشاتي
    والجو يحلم بالصباح الآتي

    والريح كالمحموم تهذي والدجى
    في الأفق أشباحٌ من الإنصات

    والشهب أحلامٌ معلقة على
    أهداب تمثالٍ من الظلمات

    والطيف يخبط في السكينة مثلما
    تتخبط الأوهام في الشبهات

    والظلمة الخرسا تلعثم بالرؤى
    كتلعثم المخنوق بالكلمات

    * * *

    في ذلك الليل المخيف مضى فتىً
    قلق الثياب مروع الخطوات

    يمشي وينظر خلفه وأمامه
    نظر الجبان إلى المغير العاتي

    ويرى الحتوف إذا تلفت أو رنا
    ويحس أصداءً بلا أصوات

    ويعود يسأل نفسه ما خيفتي؟
    ماذا أحس؟ وأين أين ثباتي؟

    ماذا يخوفني أنا رجل السرى؟
    وأنا رفيق الليل والفلوات

    هل ليلتي غير الليال؟ أم أنا
    غيري… أكاد الآن انكر ذاتي

    أين الصباح وأين مني قريتي؟
    والرعب قدامي وفي لفتاتي

    * * *

    وهنا تراءت للمروع عصبةٌ
    كالذعر شيطانية اللمحات

    شعثٌ كأهل الكهف إلا أن في
    نظراتهم همجية الشهوات

    وتقلبت مقل العصابة في الفتى
    وكأنها تشويه بالنظرات

    وتخيلت “كيس النقود” فأبرقت
    رغباتها في الأعين الشرهات

    وتململت فيها الشراسة مثلما
    يتململ الزلزال في الهضبات

    والتاع فيها الشر فانهالت على
    ذاك الفتى بالضرب والطعنات

    فاستل خنجره وكسر وحده
    وحشية الوثبات بالوثبات

    وتلفتت تلك العصابة حولها
    فرأت بعين الوهم ظل سراة

    * * *

    وهناك لاذت بالفرار وأدبرت
    ملعونة الروحات والغدوات

    وغدت يصادم بعضها بعضاً كما
    تتصادم الآلات بالآلات

    وجثا الفتى بين الجراح كمدنفٍ
    يستنجد العواد بالزفرات

    وتلكأت عند التوجع روحه
    بين الممات وبين نصف حياة

    وامتد في حضن الطريق وداؤه
    حي وصفرته من الأموات

    وتداعت الأوجاع فيه والتظت
    فيه الجراح الحمر كالجمرات

    وإذا تهيأ للنهوض تثاءبت
    فيه الجراح تثاؤب الحيات

    * * *

    وعلى يمين الدرب كوخٌ تلتقي
    في صدره النكبات بالنكبات

    بين القصور وبينه ميلٌ وما
    أدنى المكان وأبعد الرحمات!

    يشكو إلى جيرانه فيصمهم
    عنه ضجيج القصف واللذات

    كوخ إذا خطرت به ريح الدجى
    أومى إلى السكان بالرعشات

    “سنوات يوسف” عمره وجداره
    آبداً تنوءبأعجف السنوات

    فيه العجوز وبنتها وغلامها
    يتذكرون موارد الأقوات

    فالحقل جدبٌ ظامىءٌ وسماؤه
    صحوٌ تلوح كصفحة المرآة

    والأغنياء، وهل ترق قلوبهم؟
    لا ، إنها أقسى من الصخرات

    وتغلغوا في الصمت فانتبهوا على
    شبحٍ ينادي الصمت بالأنات

    فإذا فتىً قلق الملامح يختفي
    تحت الجراح الحمر والخفقات

    فمشى ثلاثتهم إليه وانثنوا
    بالضيف بين الدمع والآهات

    وروى لهم خبر العصابة أنها
    سدت عليه الدرب بالهجمات

    وتهيجت فيه الجراح فصدها
    وتسترت بالليل كالحشرات

    فدنت فتاة الكوخ تمسح وجهه
    وتبلسم الأجراح بالدعوات

    وتبل من دمه يديها إنها
    تشتم فيه أعبق النفحات

    وترى به ما ليس تدري هل ترى
    سر القضا؟ أم آية الآيات

    فإذا الجراح تنام فيه ويشتفي
    ويرد عمراً كان وشك فوات

    وإزاءه البنت الجميلة كلها
    روح سماويٌ وطهر صلاة

    يتجاوب الإغراء في كلماتها
    كتجاوب الأوتار بالنغمات

    أغفى الجريح على السكون وأغمضت
    أجفان من حوليه كف سبات

    والكوخ في حرق الأسى مترقبٌ
    بشرى ترف عليه كالزهرات

    * * *

    والليل تمثالٌ سجينٌ يرتجي
    فك القيود على يد النحات

    فبدا احمرار في الظلام كأنه
    لعنات حقدٍ في وجوه طغاة

    وتسلل السحر البليل على الربى
    كالحلم بين الصحو والغفوات

    بندى وينثر في البقاع أريجه
    ويرش درب الفجر بالنسمات

    وصبت على الجبل الشموخ أشعةٌ
    مسحورةٌ كطفولة القبلات

    فكأنما الجبل المعمم بالسنى
    ملك يهز الفجر كالرايات

    رفع الجبين إلى العلا فتقلبت
    في رأسه الأضواء كالموجات

    وتسلق الأفق البعيد شموخه
    فترى عمامته من الهالات

    وتلألأت فوق السفوح مباسمٌ
    وردية الأنفاس والبسمات

    وانصب تيار الشروق كأنه
    شعل النبوة في أكف هداة

    وغزا الدروب فأجفلت قطاعها
    ووجوههم تحمر بالصفعات

    وتصايحت تلك العصابة ما أرى؟
    هذي الجهات المشرقات عداتي

    أين المفر؟ وأين أطلب مهرباً؟
    والنور يسطع من جميع جهاتي

    كيف الفرار؟ وليس لي كهف ولا
    درب فيا لي!! يا لسوء مماتي!

    وأفاق أهل الكوخ حين ثقوبه
    تومي إلى الأبصار بالومضات

    فدنا ثلاثتهم يرون جريحهم
    فإذا الفتى في سكرة الفرحات

    نفض النعاس وشد فيه جراحه
    واستقبل الدنيا بعزم أباة

    ورمى إلى كف الغلام وأمه
    بعض النقود ودعوة البركات

    وصبا إلى كف الفتاة وقال: يا
    “نجوى” خذي نخب الزفاف وهاتي

    وطوى الجراح وهب يقتاد السنى
    ويبشر الأكواخ بالخيرات

    ويقود تاريخاً وينبت خطوه
    فجراً ينير مسالك القادات

    * * *

    فضح الصباح المجرمين فأصبحوا
    أخبار جرمٍ في فم اللعنات

    وتعالت الأكواخ تنظر أهلها
    يضعون “غار النصر” في الهامات

    لمس الربيع قلوبهم وحقولهم
    فاخضوضرت بالبشر والثمرات

    والجو يلقي النور في الدنيا: كما
    تلقي السيول مناكب الربوات

    والزهر في وهن الشباب مفتحٌ
    فوق الغصون كأعين الفتيات

    والأفق يورق بالأشعة والندى
    والأرض تمرح في حلي نبات

    * * *

    وهنا انتهى دور الجرائم وابتدى
    دورٌ وريف الظل كالجنات

    فتجمع الإخوان بعد تفرقٍ
    وانضم شمل الأهل بعد شتات

    صرعت أباطيل الدجنة يقظةٌ
    أقوى من الإرهاب والقوات

    والدجل يذهب كالجفاء ولم تدم
    إلا الحقيقة فوق كل عتاة

    إن الحياة مآتم تفضي إلى
    عرسٍ وأفراحٌ إلى حسرات

    لكنها بخريفها وشتائها
    وبصيفها… حكمٌ ودرس عظات

    فاختر لسير العمر أية غايةٍ
    إن الحقيقة غاية الغايات

  • 97 جريح

    ديوان في طريق الفجر >  جريح

    لا تسل عن أنينه وسهاده
    إن في جراحه جراح بلاده

    إن في جراحه جراحات شعبٍ
    راكد الحس حيه كجماده

    ثائرٌ يحمل البلاد قلوباً
    في حشاه وشعلة في اعتقاده

    وهب الشعب قلبه ودماه
    وأحاسيسه وصفو وداده

    فهو أصواته إذا ضج في الن
    اس ونجوى ضميره في انفراده

    إنه ثائر يريد ويسمو
    فوق طاقاته… سمو مراده

    أوقد الحقد في حناياه ثاراً
    عاصفاً يستفز نار زناده

    * * *

    فمضى والعناد في مقلتيه
    صارخٌ، والجحيم في أحقاده

    وتلقى الرصاص من كل فجٍ
    وهو ما زال في جنون عناده

    كلما أومأ الفرار إليه
    أمسكت قبضة الوغى بقياده

    وتحدى الحتوف حتى تلظت
    حوله وانتهت بقايا عتاده

    * * *

    عاد كالسيف حاملاً من دمه
    شفقاً يخبر الدنا عن جلاده

    والجراح التي تراها عليه
    كالعناوين في سجل جهاده

    وارتمى في الفراش والثأر فيه
    ساهر ينذر الوغى بمعاده

    لم ينم لحظةً وإن نام هزت
    ذكريات الوغى سكون وساده

    وتلظت فيه الجراح فأوهت
    جسمه وانطفى حماس اعتداده

    يسأل الصمت والمنى كيف يشفي
    كبرياء الجراح من جلاده

    فهو بين الطموح والعجز والأش
    واق كالصقر في يدي صياده

    * * *

    لا تلمه إذا شكا إن شكواه
    وأناته دخان اتقاده

    إن أنفاسه غبارٌ وجمرٌ
    من شظايا فؤاده ورماده

    كلما قال آه! أو صعد الأنف
    اس شاهدت قطعةً من فؤاده

    وإذا صاح جوعه في الحنايا
    فرفات المنى بقية زاده

    عمره المدلهم سجن وينكي
    جرحه أن عمره في ازدياده

    فهو يشقى في يقظة العين با
    لشعب ويشقى بحلمه في رقاده

    مل طول الحياة لا نال منها
    ما يرجى ولادنا من حصاده

    والشقي الشقي من مل طول العمر
    والعمر لم يزل في امتداده

  • 98 لقيتها

    ديوان في طريق الفجر >  لقيتها

    شعبان 1379هـ

    أين اختفت في أي أفق سامي؟
    أين اختفت عني وعن تهيامي؟

    عبثاً أناديها وهل ضيعتها
    في الليل أم في زحمة الأيام؟

    أم في رحاب الجو ضاعت؟ لا: فكم
    بثيت أنسام الأصيل غرامي

    ووقفت أسأله وقلبي في يدي
    يرنو إلى شفق الغروب الدامي

    وأجابني صمت الأصيل… وكلما
    أقنعت وجدي.. زاد حر ضرامي

    * * *
    وإذا ذكرت لقاءها ورحيقها
    لا قيت في الذكرى خيال الجام

    وظمئت حتى كدت أجرع غلتي
    وأضج في الألام أين حمامي

    وغرقت في الأوهام أنشد سلوةً
    ونسجت فردوساً من الأوهام

    * * *
    وأفقت من وهمي أهيم… وراءها
    عبثاً وأحلم أنها قدامي

    وأظنها خلفي فأرجع خطوةً
    خلفي… فتنشرها الظنون أمامي

    وأكاد المسها فيبعد ظلها
    عني… وتدني ظلها أحلامي

    وأعود أنصت للسكينة والربى
    وحكاية الأشجار والأنسام

    وأحسها في كل شيءٍ صائتٍ
    وأحسها في كل حي… نامي

    في رقة الأزهار في همس الشذى
    في تمتمات الجدول… المترامي

    * * *
    فتشت عنها الليل وهو متيمٌ
    الكأس في شفتيه وهو الظامي

    والغيم يخطر كالجنائز والدجى
    فوق الربى كمشانق الإعدام

    وسألت عنها الصمت وهو قصيدةٌ
    منثورة تومي إلى النظام

    ووقفت والأشواق ترهف مسمعاً
    بين الظنون كمسمع النمام

    والنجم كأس عسجديٌ… ملؤه
    خمرٌ تحن إلى فم “الخيام”

    وهمست أين كؤوس إلهامي وفي
    شفتي أكواب من الإلهام

    * * *
    والريح تخبط في السهول كأنها
    حيرى تلوذ بهدأة الآكام

    وكأن موكبها… قطيعٌ ضائعٌ
    بين الذئاب يصيح: أين الحامي؟

    وتلاحقت قطع الظلام كأنها
    في الجو قافلةٌ من الإجرام

    وتلفت الساري إلى الساري كما
    يتلفت الأعمى إلى المتعامي

    وأنا أهيم وراءها يجتاحني
    شوقٌ وتقتاد الظنون زمامي

    وسألت ما حولي وفتشت الرؤى
    وغمست في جيب الظلام هيامي

    فتشت عنها لم أجدها في الدنا
    ورجعت والحمى تلوك عظامي

    * * *
    وأهجت آلامي وحبي فالتظت
    ولقيتها في الحب والآلام

    وتهيأت لي في التلاقي مثلما
    تتهيأ الحسناء للرسام

    وتبرجت لي كالطفولة غضةً
    كفم الصباح المترف البسام

    وجميلةٌ فوق الجمال ووصفه
    وعظيمةٌ أسمى من الإعظام

    تسمو كأجنحة الشعاع كأنها
    في الأفق أرواحٌ بلا أجسام

    لا: لا تقل لي: سمها فجمالها
    فوق الكناية فوق كل أسامي

    إني أعيش لها وفيها إنها
    حبي وسر بدايتي وختامي

    وأحبها روحاً نقياً كالسنى
    وأحبها جسماً من الآثام

    وأحبها نوراً وحيرة ملحدٍ
    وأحبها صحواً وكأس مدام

    وأريدها غضبى وإنسانيةً
    وشذوذ طفلٍ واتزان عصامي

    * * *
    دعني أغرد باسمها ما دام في
    قدحي ثمالاتٌ من الأنغام

    فتشت عنها وهي أدنى من منى
    قلبي: ومن شوقي وحر أوامي

    ولقيتها يا شوق أين لقيتها؟
    عندي هنا في الحب والآلام

  • 99 وحدة الشاعر

    ديوان في طريق الفجر >  وحدة الشاعر

    10رمضان سنة 1380هـ

    حلم الآتي وذكرى الغابر
    مسرح الشعر ودنيا الشاعر

    ذكريات الأمس تغريه كما
    يفتن المهجور طيف الهاجر

    والغد المأمول في أشواقه
    صورةٌ من كل حسنٍ باهر

    صورة كالوعد من أحلى فمٍ
    كابتساماتٍ اللقاء العاطر

    وكعيني طفلةٍ ترنو إلى
    مقلتي طفلٍ كسول الناظر

    عالم الشاعر ذكرى ومنىً
    وحنينٌ كالجحيم الهادر

    يقطف الأحلام والذكرى كما
    يقطف العنقود كف العاصر

    أي ذكر؟ أي شوقٍ عادني
    فإذا قلبي جناحاً طائر

    وإذا الدنيا بكفي معزفٌ
    ساحرٌ في كف شادٍ ماهر

    تارةً أشدو وأصغي تارةً
    لروايات الزمان الساخر

    فيقص الدهر من دنيا أبي
    ذكراً تخجل وجه الذاكر

    وأنا أحمل ذكراه… كما
    يحمل المظلوم سوط الجائر

    وأغني عز أجدادي الألى
    فخروا بالعجز فخر القادر

    ومن الأجداد؟ ما شرعتهم؟
    شرعة الوحش الغبي الكاسر

    ومخازيهم تراث خالدٌ
    ورثوه كابراً عن كابر

    كيف أنسى الأمس واليوم ابنه
    والغد الآتي وليد الحاضر

    وأنا ابن الشعر قلبي عالمٌ
    من حنينٍ وحنانٍ غامر

    ترتمي الأدهار حولي مثلما
    يرتمي موج العباب المائر

    والدنا في عزلتي هائمةٌ
    كهوى “ليلى” وطيف “العامري”

    وحدتي صمت يغني ورؤى من
    عصا “موسى” وعجل “آلسامري”

    من شذوذ الطفل من زهو الفتى
    من أسى الشيخ الفقير العاثر

    من خيالات الشياطين ومن
    حكمة الرسل ودجل الساحر

    من ضراعات المساكين ومن
    خيلاء المستبد القاهر

    من هوى التاجر في الربح ومن
    شبح الإفلاس حول التاجر

    من شكاوى عاشقٍ يمشي على
    قلبه نحو حبيبٍ… نافر

    وحدتي وحيٌ ودنيا من هدىً
    وضلالٍ ويقينٍ حائر

    وحنان وانتظارٍ خائفٍ
    ورجاءٍ كابتسام الغادر

    وهوىً يضحك للطيف كما
    يضحك الروض لعين الزائر

    وحدتي أرجوحةٌ من فكرٍ
    دائراتٍ كالشروق الدائر

    وبنات الفن حولي زمرٌ
    كرياحين الربيع الزاهر

    وأنا كالرغب المحروم في
    موكب الغيد المثير السافر

    أشتهي تلك فتدنو أختها
    من يدي كالأبي الصاغر

    حلوة تدنو وتخفى حلوةٌ
    كالسنى خلف الظلام العاكر

    هذه تعطي ولا أسألها
    وأناجي تلك نجوى الخاسر

    ولعوبٌ أجتدي نفحتها
    وهي تأبى وتمني خاطري

    وعدها يبعث ذكرى “حاتمٍ”
    ووفاها صورة من “مادر”

    كم تناديني فتغري لوعتي
    وتولي كالحليب… الماكر

    والدجى مقبرةٌ تغفو على
    حلم النعش ونوح القابر

    قلق الصمت كرؤيا مومسٍ
    هجعت بين ذراعي فاجر

    كأماني ظالمٍ يرنو إلى
    مقلتيه شبحٌ من ثائر

    خائفٌ يسري وفي أعطافه
    صلف الطاغي وتيه الكافر

    وتضيع الشهب ي موكبه
    كخيالات المريض الساهر

    ودخان الحقد في أهدابه
    كالخطايا فوق عرضٍ عاهر

    يخطر الشيطان فيه وعلى
    شفتيه قهقهات الظافر

    وخفوق الصمت ينبي أن في
    سره ضوضاء زحفٍ طافر

    والرؤى تشتق من خلف الربا
    مطلع اليوم الهتوف الزاخر

    وتبث الغيب شكوى توبةٍ
    تتشهى بسمةً من غافر

    وأنا وحدي أناغي هاتفاً
    من فم الوحي الشذي الطاهر

    وهدوء الكوخ يستفسرني
    هل أغني للفراغ السادر؟

    قلت إني شاعر، في وحدتي
    ألف دنيا من طيوف الشاعر

  • 100 أنا وأنت

    ديوان في طريق الفجر >  أنا وأنت

    يا ابن أمي أنا وأنت سواءٌ
    وكلانا غباوةٌ وفسوله

    أنت مثلي مغفل نتلقى
    كل أكذوبةٍ بكل سهوله

    ونسمي بخل الرجال اقتصاداً
    والبراءات غفلةً وطفوله

    ونسمي شراسة الوحش طغيا
    ناً ووحشية الأناس بطوله

    ونقول: الجبان في الشر أنثى
    ووفير الشرور وافي الرجوله

    ونرى أصل “عامرٍ” تربةٍ الأر
    ض و”سعداً” نرى النجوم أصوله

    فننادي هذا هجين وهذا
    فرقدي الجدود سامي الخؤوله

    نزعم الإنتقام حزماً وعزماً
    وشروب النجيع حر الفحولة

    * * *

    يا ابن أمي شعورنا لم يزل طفلا
    وها نحن في خريف الكهوله

    كم شغلنا سوق النفاق فبعنا
    واشترينا بضاعةً مرذوله

    لا تلمني ولم ألمك لماذا؟
    يحسن الجهل في البلاد الجهوله.

  • 101 سلوى

    ديوان في طريق الفجر >  سلوى

    16 شعبان سنة 1382هـ

    سلوى ويهمس في ندائي
    أمل كأغنية الضياء

    سلوى ويرتد الصدى
    بجوابها: يا لانتشائي

    أي المنى تخضر في
    جدبي وتزهر بالهناء

    وتعيد “تموزاً” وتغزل
    من أشعته رادائي

    من ذا إزائي؟ هل هنا
    سلوى؟ “فنيسانٌ” إزائي

    يشدو أمامي بالشذى
    ويزنبق الذكرى ورائي

    سلوى، وأصغي، واسمها
    بفمي ربيعٌ من غناء

    وشذا صداها في هواي
    مواسمٌ بيض العطاء

    وأعود أصغي والصدى
    يدنو ويوغل في التنائي

    * * *

    فأفيق أبني في مهب
    الريح عشاً من هباء

    وعراصف المأساة تطفئني
    فيحترق انطفائي

    وأنا أغنية لأن تحرقي
    عطر… البقاء

    والصمت حولي كالضغائنٍ
    في عيون الأدنياء

    والسهد أفكارٌ معلقة ٌ
    بأهداب الفضاء

    والليل بحرٌ من دخان
    شاطئاه من الدماء

    جوعان يبتلع الرؤى
    ويمج دمع الأشقياء

    يهذي كما يروي المشعوذ
    معجزات الأنبياء

    ويعب خمراً من دم
    الذكرى جحيمي الإناء

    وأنا هناك روايةٌ
    للحزن تبحث عن “روائي”

    أبكي على سلوى أناجيها
    أغنيها… بكائي

    وأعيد فيها مأتمي
    أو أبتدي فيها عزائي

    وحدي أناديها، وعفواً
    نلتقي: في لا لقاء

    تبدو وتغرب فجأةً
    كالحلم يدنو وهو نائي

    أو تنثني جذلى كفجر
    الصيف في صحو الهواء

    وتسيل في وهمي رحيقاً
    من عناقيد السماء

    وهناك أبتدىء الرحيق
    فينتهي قبل ابتدائي

    فأعود أحتضن الشقاء
    لأنني أم الشقاء

    ومواكب الأشباح في
    جوي كحيات العراء

    كتثاؤب الأحزان في مقل
    اليتامى الأبرياء

    والظلمة الخرساء
    تفني قريتي قبل الفناء

    وتشد أعينها وتوصيها
    بصبر الأغبياء

    فيتاجر الحرمان فيها
    بالصلاة وبالدعاء

    بالحوقلات، وبالأنين
    وحشرجات الكبرياء

    ويبيع أخلاق الرجال
    ويشتري عرض النساء

    * * *

    وأنا كأهلي: ميتٌ
    أحيا كأهلي بادعائي

    وأعيش في أوهام سلوى
    والأسى زادي ومائي

    أشدو لتعذيبي كما
    تشدو البلابل للشتاء

    والموعد االمسلول يبسم
    كابتسامات المرائي

    ويعيد لحناً نائحاً
    كسعال أمي في المساء

    فتلم بي أطياف سلوى
    كالصبيات الوضاء

    وترف حولي موسماً
    أسخى وأوسع من رجائي.

  • 102 حوار جارين

    ديوان في طريق الفجر >  حوار جارين

    خطراتٌ وأمنتياتٌ عذارى
    جنحت وهمه فرق وطارا

    وسرى في متاهة الصمت يشدو
    مرة للسرى ويصغي مرارا

    ويناجي الصدى ويومي إلى الطيف
    ويستنطق الربى والقفارا

    وتعايا كطائرٍ ضيع الوكر، وأدمى
    الجناح… والمنقارا

    ليس يدري أين المصير ولكن
    ساقه وهمه الجموح فسارا

    وهنا ضج “يامنى” أين نمضي
    وإلى زي غايةٍ نتبارى؟

    والطريق الطويل أشباح موتٍ
    عابسات الوجوه يطلبن ثارا

    موحش يحضن الفراغ على الصمت
    كما تحضن الرياح الغبارا

    تأكل الشمس ظلها في مواميه
    كما يأكل الغروب النهارا

    * * *

    أين يا ليلتي إلى أين أسري؟
    والمنايا تهيء الأظفارا

    والدجى هاهنا كتاريخ سجانٍ
    وكالحقد في قلوب الأسارى

    يتهادى كهودجٍ من خطايا
    حار هاديه في القفار وحارا

    ويهز الرؤى كما هدهد السكير
    سكيرةً تعاني الخمارا

    والرؤى تذكر الصباح المندى
    مثلما يذكر الغريب الديارا

    وهي ترنو إلى النجوم كما تر
    نو البغايا إلى عيون السكارى

    والأعاصير تركب القمم الحيرى
    كما يركب الجبان الفرارا
    * * *

    إيه، يا ليلتي وما أكبر الأخطا
    ر قال: لا تحتسبها كبارا!

    قال من في الوجود أقوى من الأخطا
    ر؟ قال: من يركب الأخطارا!

    وتهادى يرجو المفاز وتغشى
    دربه غمرةٌ فيخشى العشارا

    قلقٌ بعضه يحاذر بعضاَ
    ويده تخشى اليمين اليسارا

    حائر كالظنون في زحمة الشك
    وكالليل في عيون الحيارى

    * * *

    ولوى جيده فأومى إليه
    قبسٌ شع لحظةً وتوارى

    فرأى في بقية النور شخصاً
    كان يعتاده صديقاً وجارا

    قدماه بين التعثر والوحل
    ودعواه تقطف الأقمارا

    فتدانى من جاره ورآه
    مثلما ينظر الفقير النضارا

    ودعاه إلى المسير فألوى
    رأسه وانحنى يطيل الإزارا

    وثنى عطفه وضج وأرغى
    وتعالى ضجيجه وأشارا

    فانحنى جاره وقال: أجيني
    هل ترى صحبتي شناراً وعارا؟

    أنت مثلي معذبٌ فكلانا
    صورة للهوان تخزي الإطارا

    فاطر بهرج الخداع ومزق
    عن محياك وجهك المستعارا

    كلنا في الضياع والتيه فانهض:
    ويدي في يديك نوفع منارا

    * * *

    قال: أين الهوان؟ فاذكر أبانا
    إنه كان فارساً لا يجارى

    إننا لم نهن وأجدادنا الفرسان
    كانوا ملء الزمان فخارا

    إننا لم نهن أما كان جدانا
    الحسيبان “حميراً” و”نزارا”

    * * *

    فانتخى جاره وقال: وما الأجداد؟
    سل عنهم البلى والدمارا

    فخرنا بالجدود فخر رمادٍ
    راح يعتز أنه كان نارا

    قد يسر الجدود منك ومني
    أن يرونا في جبهة المجد غارا

    * * *

    وهنا أصغيا إلى أنة الأوارق
    والريح تعصف الأشجارا

    فإذا بالشروق ينخز في الليل
    كما ينخز اللهيب الجدارا

    وتمادى الحوار في العنف حتى
    أسكتت ضجة الصباح الحوارا

    وتراءى الصباح يحتضن السحر
    كما تحضن الكؤوس العقارا

    وبنات الشذى تحيي شروقاً
    شاعرياً يعنقد الأفكارا

    والصبا ترعش الزهور فتومي
    كالمناديل في زكف العذارى

  • 103 الطريق الهادر

    ديوان في طريق الفجر >  الطريق الهادر

    هتافٌ هتافٌ وماج الصدى
    وأرغى هنا وهنا أزبدا

    وزحف مريدٌ يقود السنا
    ويهدي العمالقة المردا

    تلاقت مواكبه موكباً
    يمد إلى كل نجمٍ يدا

    عمائمه من لهيب البروق
    وأعينه من بريق الفدا

    أفاق فناغت صبايا مناه
    على كل أفق صباً أغيدا

    وهب ودوى فضج السكون
    ورجعت الريح ما رددا

    وغنى على خطوه شارعٌ
    ودربٌ على خطوه زغردا

    ومنعطفٌ لحنت صمته
    خطاه ومنعطفٌ غردا

    مضى منشداً وضلوع الطريق
    صنوجٌ توقع ما انشدا

    وأقبل يسترجع المعجزات
    ويستنهض الميت والمقعدا

    ويبدو مداه فيمضي العنيد
    يحاول أن يسبق الأعندا

    فتطغى مشاهده كالحريق
    ويقتحم المشهد المشهدا

    ويرمي هنا وهناك الدخان
    ويوحي إلى الجو أن يرعدا

    * * *

    هو الشعب طاف بإنذاره
    على من تحداه واستعبدا

    وشق لحوداً تعب الفساد
    وتنجر تبتلع المفسدا

    و أومأ بحبات أحشائه
    إلى فجره الخصب أن يولدا

    أشار بأكباده فالتقت
    حشوداً مداها وراء المدى

    وزحفاً تجنح درب الصباح
    ويستنفر الترب والجلمدا

    وينتزع الشعب من ذابحيه
    ويعطي الخلود الحمى الأخلدا

    ويهتف: يا شعب شيد على
    جماجمنا مجدك الأمجدا

    وعش موسماً أبدي الجنى
    وعسجد بإبداعك السرمدا

    وكحل جفونك بالنيرات
    وصغ من سنى فجرك المرودا

    لك الحكم أنت المفدى العزيز
    علينا ونحن ضحايا الفدا

    * * *

    ودوى الهتاف: “اسقطوا يا ذئاب”
    ويا راية الغاب ضيعي سدى

    وكر شباب الحمى فالطريق
    ربيع تهادى وفجر بدا

    ومر يضيء الحمى كالشموع
    يضيء توهجها معبدا

    ويزجي عذارى بطولاته
    فيتشح الجرح والسؤددا

    ويغشى على الظلم أبراجه
    فيزري به وبما شيدا

    ويكسر في كف طاغي الحمى
    حساماً بأكباده مغمدا

    وتندى خطاه دماً فائراً
    يذيب خطاه دماً كاد أن يجمدا

    ويلقي على كل درب فتىً
    دعته المروءات فاستشهدا

    ويدني إلى الموت حكماً يخوض
    من العار مستنقعاً أسودا

    ويجتر أذيال “جنكيز خان”
    ويقتات أحلامه الشردا

    ويحدو ركاب الظلام الأثيم
    فيبتلع الصمت رجع الحدا

    ويحسو النجيع ولا يرتوي
    فيطغى، ويستعذب الموردا

    رأى الشعب صيداً فأنحى عليه
    وراض مخالبه واعتدى

    فهل ترتجيه؟ ومن يرتجي
    من الوحش إصلاح ما أفسدا؟

    وهل تجتدي ملكاً شره
    سخي اليدين.. عميم الجدا؟

    وحكماً عجوزاً حناه المشيب
    وما زال طغيانه أمردا

    تربى على الوحل من بدئه
    وشاخ على الوحل حيث ابتدا

    ف ماذا يرى اليوم؟ جيلاً يمور
    ويهتف “لاعاش حكم العدا”

    * * *

    رحفنا إلى النصر زحف اللهيب
    وعربد إصرارنا عربدا

    ودسنا إليه عيون الخطوب
    وأهدابها كشفار المدى

    طلعنا على موجات الظلام
    كأعمدة الفجر نهدي الهدى

    ونرمي الضحايا ونسقي الحقول
    دماً يبعث الموسم الأرغدا

    لنا موعد من وراء الجراح
    وها نحن نستنجز الموعدا

    وهل يورق النصر إلا إذا
    سقى دمنا روضه الأجردا

    أفقنا فشبت جراحاتنا
    سعيراً على الذل لن يخمدا

    رفعنا الرؤوس كأن النجوم
    تخر لاهدابنا سجدا

    وسرنا نشق جفون الصباح
    وننضح في مقلتيه الندى

    فضج الذئاب، من الطافرون؟
    وكيف؟ ومن أيقظ الهجدا

    وكيف استثارعلينا القطيع؟
    ومن ذا هداه؟ وكيف أهتدى؟

    هنا موكبٌ أبرقت سحبه
    علينا وحشدٌ هنا أرعدا

    وهز القصور فمادت بنا
    وأشعل من تحتنا المرقدا

    وكادت جوانحنا الواجفات
    من الذكر أن تلفظ الأكبدا

    * * *

    ف ماذا رأت دولة المخجلات؟
    قوىً أنذرت عهدها الأنكدا

    بمن تحتمي، واحتمتبالرصاص
    وعسكرت اللهب الموقدا

    ولحنت الغدر أنشودةً
    من النار تحتقر المنشدا

    ونادت بنادقها في الجموع
    فأخزى المنادي جواب الندا

    وهل ينفد الشعب إن مزقته
    قوى الشر؟ هيهات أن ينفدا

    فردت ينادقها والخسيس
    إذا ملك القوة استأسدا

    وجبن القوى أن تعد القوى
    لتستهدف الأعزل المجهدا

    واردى السلاح لأردى الأنام
    وأجوده ينصر الأجودا

    ويوم البطولات يبلو السلاح
    إذا كان وغداً حمى الأوغدا

    فأي سلاحٍ حمى دولةً
    تغطي المخازي بأخزى ردا؟

    وتأتي بما ليس تدري الشرور
    ولا ظن “إبليس” أن يعهدا

    لمن وجدت؟ من أشذ الشذو
    ذ ومن أغبن الغبن أن توجدا

    بنت من دم الشعب عرشاً خصيباً
    ورضت جماجمه مقعدا

    وأطفت شباباً أضاءت مناه
    فأدمى السنا حكمها الأرمدا

    وسل كيف مدت حلوق الردى
    إليه فأعيا حلوق الردى؟

    وكم فرشت دربه بالحراب
    فراح على دمه… واغتدى

    وروى التراب المفدى دماً
    مضيئاً يصوغ الحصى عسجدا

    وعاد إلى السجن يذكي النجوم
    على ليله فرقداً فرقدا

    ويرنو فينظر خضر الرؤى
    كما ينظر الأعزب الخردا

    فتختال في صدره موجةٌ
    من الفجر تهوى المدى الأبعدا

    ويهمس في صمته موعدٌ
    إلى الشعب لا بد أن تسعدا

    سينصب فجرٌ ويشدو ربيعٌ
    ويخضو ضر الجدب أنى شدا

    فهذي الروابي وتلك السهول
    حبالى وتستعجل المولدا

  • 104 لا تقل لي

    ديوان في طريق الفجر >  لا تقل لي

    28/11/1382هـ
    22/4/1963م
    لا تقل لي: سبقتني ولماذا
    لا أوالي وراءك الإنطلاقا؟

    لم اسابقك في مجال التدني
    والتلوي: فكيف أرضى اللحاقا؟

    أنا إن لم يكن قريني كريماً
    في مجال السباق عفت السباقا

    لا تقل: ضاع في الوحول رفاقي
    وأضاعوا الضمير والأخلاقا

    لم أضيع أنا ضميري وخلقي
    وكفاني أني حسرت الرفاقا

    لا تقل كنت صاحبي فادن مني
    لست أشري ولا أبيع نفاقا

    لا تقل لي أين التقينا؟ ولا أين
    افترقنا، فنحن لم نتلاقى؟

    قد نسيت اللقاء يوماً وإنى
    لست أدري متى نسيت الفراقا؟

    لا تذق صراحتي فهي مرٌّ
    إنما من تذوق المر ذاقا

  • 105 حين يصحو الشعب

    ديوان في طريق الفجر >  حين يصحو الشعب

    جمادى الآخرة 1379هـ

    أعذر الظلم وحملنا الملاما
    نحن أرضعناه في المهد احتراما

    نحن دللناه طفلاً في الصبا
    وحملنا إلى العرش غلاما

    وبنينا بدمانا عرشه
    فانثنى يهدمنا حين تسامى

    وغرسنا عمره في دمنا
    فجنيناه سجوناً وحماما

    * * *

    لا تلم قادتنا إن ظلموا
    ولم الشعب الذي أعطى الزمام

    كيف يرعى الغنم الذئب الذي
    ينهش اللحم ويمتص العظاما؟

    قد يخاف الذئب لو لم يلق من
    نابه كل قطيعٍ يتحامى

    ويعف الظالم الجلاد لو
    لم تقلده ضحاياه الحساما

    لا تلم دولتنا إن أشبعت
    شره المخمور من جوع اليتامى

    نحن نسقيها دمانا خمرةً
    ونغنيها فتزداد أواما

    ونهني مستبداً، زاده
    جثث القتلى وأكباد الأيامى

    كيف تصحو دولة خمرتها
    من دماء الشعب والشعب الندامى؟

    * * *

    آه منا آه! ما أجهلنا؟!
    بعضنا يعمى وبعض يتعامى

    نأكل الجوع ونستقي الظما
    وننادي “يحفط الله الإماما”

    سل ضحايا الظلم تخبر أننا
    وطنٌ هدهده الجهل فناما

    دولة “الأجواخ” لا تحنو ولا
    تعرف العدل ولا ترعى الذماما

    تأكل الشعب ولا يسري إلى
    مقلتيها طيفه العاني لماما

    وهو يسقيها ويظمى حولها
    ويغذيها ولم يملك طعاما

    تشرب الدمع فيظميها فهل
    ترتوي؟ كلا: ولم تشبع أثاما

    عقلها حول يديها فاتحٌ
    فمه يلتقم الشعب التقاما

    * * *

    يا زفير الشعب: حرق دولةً
    تحتسي من جرحك القاني مداما

    لا تقل: قد سئمت إجرامها
    من رأى الحيات قد صارت حماما؟

    أنت بانيها فجرب هدمها
    هدم ما شيدته أدنى مراما

    لا تقل فيها قوى الموت وقل:
    ضعفنا صورها موتاً زؤاما

    سوف تدري دولة الظلم غداً
    حين يصحو الشعب من أقوى انتقاما؟

    سوف تدري لمن النصر إذا
    أيقظ البعث العفاريت النياما

    إن خلف الليل فجراً نائماً
    وغداً يصحو فيجتاح الظلاما

    وغداً تخضر أراضي، وترى
    في مكان الشوك ورداً وخزامى.

  • 106 هكذا أمضي

    ديوان في طريق الفجر >  هكذا أمضي

    رجب سنة 1378هـ

    سهدت وأصباني جميل سهادي
    فأهرقت في النسيان كأس رقادي

    وسامرت في جفن السهاد سرائراً
    لطافاً كذكرى من عهود وداد

    ونادمت وحي الفن أحسو رحيقه
    وأحسو وقلبي في الجوانح صادي

    إذا رمت نوماً قلقل الشوق مرقدي
    وهزت بنات الذكريات وسادي

    وهازجني من أعين الليل هاتفٌ
    من السحر في عينيه موج سواد

    له شوق مهجور، وفتنة هاجرٍ
    وأسرار حيٍ في سكون جماد

    له تارةً طبع البخيل… وتارةً
    له خلق مطواعٍ وطبع جواد

    تدور عليه الشهب وسنى كأنها
    بقية جمر في غضون رماد

    * * *

    لك الله يا بن الشعر كم تعصر الدجى
    أغاريد عرس أو نحيب حداد

    تنوح على الأوتار حيناً وتارةً
    تغني وحيناً تشكي وتنادي

    كأنك في ظل السكينة جدولٌ
    يغني لوادٍ أو ينوح لوادي

    هو الشعر.. لي في الشعر دنيا حدودها
    وراء التمني خلف كل بعاد

    ألا فلتضق عني البلاد فلم يضق
    طموحي وإن ضاقت رحاب بلادي

    ولا ضاق صدري بالهموم لأنها
    بنات فؤادٍ فيه ألف فؤاد

    ولا قهرت نفسي الخطوب وكم غدت
    تراوحني أهوالها وتغادي

    * * *

    قطعت طريق المجد والصبر وحده
    رفيقي، ومائي في الطريق وزادي

    ومازلت أمشي الدرب والدرب كله
    مسارب حياتٍ وكيد أعادي

    ولي من ضميري ألف دنيا من المنى
    وفجر من الذكرى وروضة شادي

    ولي في لهيب الشوق في حيرة السرى
    دليلٌ إلى الشأو البعيد وحادي

    هو الصبر زادي في المسير لغايتي
    وإن عدت عنها فهو زاد معادي

    ولا: لم أعد عن غايتي، لم أعد ولم
    يكفكف عناد العاصفات عنادي

    فجوري عليَّ يا حياة أو ارفقي
    فلن أنثني عن وجهتي ومرادي

    فإن الرزايا نضج روحي وإنها
    غذاء لتاريخي ووري زنادي
    * * *

    سأمضي ولو لاقيت في كل خطوةٍ
    حسام “يزيدٍ” أو وعيد “زياد”

    ألا هكذا أمضي وأمضي ومسلكي
    رؤوس شياطين وشوك قتاد

    ولو أخرت رجلي خطاها قطعتها
    وألقيت في كف الرياح قيادي

    فلا مهجتي مني إذا راعها الشقا
    ولا الرأس مني إن حنته عوادي

    ولا الروح مني إن تباكت وإن شكا
    فؤادي أساه فهو ليس فؤادي

    هو العمر ميدان الصراع وهل ترى
    فتى شق ميداناً بغير جهاد؟

  • 107 حديث نهدين

    ديوان في طريق الفجر >  حديث نهدين

    كيف أنساه هل تناسيه يجدي؟
    وهو والذكريات والشوق عندي

    وهو أدنى من الأماني إلى القلب،
    وبيني وبينه… ألف بعد

    واشتهاء العناق يحلم في جيدي
    بانفاسه فيمرح عقدي

    عندما يهبط الظلام أراه:
    ماثلاً في تصوراتي وسهدي

    آه إني أخال زنديه في قدي
    تشدَّانني فيختال.. قدي

    فكأني أضمه في فراشي
    وهو يجني فمي ويقطف خدي

    ثم أصغي إلى الفرش فلا أسمع
    إلا حديث نهدٍ لنهد

    حلمٌ كاليقين يدنيه مني،
    وخيال يخفيه عني ويبدي

    فأرى طيفه أواناً حنوناً
    وأواناً في مقلتيه تعدي

    ليت أني أراه في صحوة الصبح
    فماً ضارعاً يغني بحمدي

    كلما ذاب في الخشوع تأبيت
    ورديت رغبتي شر رد

    وتحديت ناظريه بإعراضي
    وأشعلت حبه بالتحدي

    وتجاهلته وقلبي يناديه
    وجسمي يكاد يحرق بردي

    ثم يجترني ويجذب جسمي
    حضنه جذب قاهرٍ مستبد

    وهنا: أحتويه بين ذراعي،
    وأطويه بين لحمي وجلدي

    ليت لي ما رجوت أو ليتني أم
    حوه: مني من ذكرياتي ووجدي

    ليتني يا جهنم الهجر أدري
    من هواه ومن تبدل بعدي؟!

    ليته في الشجون مثلي مهجور
    فيشتاقني ويذكر عهدي

    ويعاني الجوى ويشقى كما أش
    قى، بأطيافه وذكراه وحدي

    * * *

    هكذا ترجمت مناها وللليـ
    ل عبوسٌ، كأنه موج حقد

    والظلام الظلام في كل مرأى
    قدرٌ جاثمٌ يخيف ويردي

    صامتٌ والعتو في مقلتيه
    ظامىءٌ كالسلاح في كف وغد

    والخيالات موكبٌ من حيارى
    تائهٌ يهتدي وحيران يهدي

    وحنين الصباح في خاطر الأنسام
    كالعطر في براعم ورد

  • 108 زحف العروبة

    ديوان في طريق الفجر >  زحف العروبة

    1958م
    لبيك وازدحمت على الأبواب
    صبوات أعيادٍ وعرس تصابي

    لبيك يا بن العرب أبدع دربنا
    فتن الجمال المسكر الخلاب

    فتبرجت فيه المباهج مثلما
    تتبرج الغادات للعزاب

    واخضرت الأشواق فيه والمنى
    كالزهر حول الجدول المنساب

    ومضى به زحف العروبة والدنى
    ترنو، وتهتف عاد فجر شبابي

    إنا زرعناه منىً وجماجماً
    فنما وأخصب أجود الإخصاب

    ويحدق التاريخ فيه كأنه
    يتلو البطولة من سطور كتاب

    * * *

    عاد التقاء العرب فاهتف يا أخي
    للفجر، وارقص حول شدو ربابي

    واشرب كؤوسك واسقني نخب اللقا
    واسكب بقايا الدن في أكوابي

    هذي الهتافات السكارى والمنى
    حولي تناديني إلى الأنخاب

    خلفي وقدامي هتاف مواكبٍ
    وهوىً يزغرد في شفاه كعاب

    والزهر يهمس في الرياض كأنه
    أشعار حبٍ في أرق عتاب

    والجو من حولي يرنحه الصدى
    فيهيم كالمسحورة المطراب

    والريح ألحان تهازج سيرنا
    والشهب أكواب من الأطياب

    إنا توحدنا هوىً ومصائراً
    وتلاقت الأحباب بالأحباب

    أترى ديار العرب كيف تضافرت
    فكأن “صنعا” في “دمشق” روابي

    وكأن “مصر” و”سوريا” في “ماربٍ”
    علم وفي “صنعا” أعز قباب

    لاقى الشقيق شقيقه، فاسألهما
    كيف التلاقي بعد طول غياب؟

    * * *

    اليوم ألقى في “دمشق” بني أبي
    وأبث أهلي في الكنانة ما بي

    وأبث أجدادي بني غسان في
    ربوات “جلق” محنتي وعذابي

    وأهيم والأنسام تنشر ذكرهم
    حولي فتنضح بالعطور ثيابي

    وأهز في ترب “المعرة” شاعراً
    مثلي: توحد خطبه ومصابي

    وأعود أسأل “جلقاً” عن عهدها
    “بأميةٍ” وبفتحها الغلاب

    صورٌ من الماضي تهامس خاطري
    كتهامس العشاق بالأهداب

    * * *

    دعني أغرد فالعروبة روضتي
    ورحاب موطنها الكبير رحابي

    “فدمشق” بستاني “ومصر” جداولي
    وشعاب “مكة” مسرحي وشعابي

    وسماء “لبنانٍ” سماي وموردي
    “بردى” ودجلة والفرات شرابي

    وديار عمانٍ” دياري.. أهلها
    أهلي وأصحاب العراق صحابي

    بل إخوتي ودم “الرشيد” يفور في
    أعصابهم ويضج في أعصابي

    شعب العراق وإن أطال سكوتهُ
    فسكوته الإنذار للإرهاب

    سل عنه سل عبدالإله وفيصلاً
    يبلغك صرعهما أتم جواب

    لن يخفض الهامات للطاغي ولم
    يخضع رؤوس القوم للأذناب

    وطن العروبة موطني أعياده
    عيدي، وشكوى إخوتي أوصابي

    فاترك جناحي حيث يهوى تحتضن
    جو العروبة جيئتي وذهابي

    يا ابن العروبة شد في كفي يداً
    ننفض غبار الذل والأتعاب

    فهنا هنا اليمن الخصيب مقابرٌ
    ودمٌ مباحٌ واحتشاد ذئاب

    ذكره بالماضي عسى يبني على
    أضوائه مجداً أعز جناب

    ذكره بالتاريخ واذكر أنه
    شعب الحضارة مشرق الأحساب

    صنع الحضارة والعوالم نومٌ
    والدهر طفل في مهود تراب

    ومشى على قممم الدهور إلى العلا
    وبنى الصروح على ربى الأحقاب

    وهدى السبيل إلى الحضارة والدنا
    في التيه لم يحلم بلمح شهاب

    فمتى يفيق على الشروق ويومه
    يبدو ويخفى كالشعاع الخابي

    يا شعب مزق كل طاغٍ وانتزع
    عن سارقيك مهابة الأرباب

    وأحذر رجالاً كالوحوش كسوتهم
    خلعاً من “الأجواخ” والألقاب

    خنقوا البلاد وجورهم وعتوهم
    كل الصواب وفصل كل خطاب

    لم يحسبوا للشعب لكن عنده
    للعابثين به أشد حساب

    صمت الشعوب على الطغاة وعنفهم
    صمت الصواعق في بطون سحاب

    فاحذر رجالاً كالوحوش همومهم
    سلب الحمى والفخر بالأسلاب

    شهدوا تقدمك السريع فأسرعوا
    يتراجعون به على الأعقاب

    لم يحسنوا صدقاً ولا كذباً سوى
    حيل الغبي وخدعة المتغابي

    * * *

    قل للإمام: وإن تحفز سيفه
    أعوانك الأخيار شر ذئاب

    يومون عندك بالسجود وعندنا
    يومون بالأظفار والأنياب

    هم في كراسيهم قياصرةٌ وهم
    عند الأمير عجائز المحراب

    يتملقون ويبلغون إلى العلا
    بخداعهم وبأخبث الأسباب

    من كل معسول النفاق كأنه
    حسناً تتاجر في الهوى وترابي

    وغداً سيحرقون في وهج السنى
    وكأنهم كانوا خداع سراب

    وتفيق “صنعاء” الجديد على الهدى
    والوحدة الكبرى على الأبواب

  • 109 رحلة النجوم

    ديوان في طريق الفجر >  رحلة النجوم

    شعبان سنة 1382هـ
    أين عشي وجدولي وجناني؟
    أين جوي؟ أين بر أماني؟

    اين مني بقيةٌ من جناحي!
    فر مني الجواب، ضاع لساني

    غير أني أسائل الصمت عني
    وانكسار الجواب يدمي حناني

    هل أنا من هنا؟ وهل لي مكانٌ؟
    أنا من لا هنا، ومن لا مكان

    كم إلى كم أمشي، ودربي ظنونٌ
    ومداه قاصٍ عن الوهم دان؟

    وسأبقى أسير في غير دربٍ
    من ترابٍ، دربي ظنون الأماني

    وأعاني مر السؤال، ويتلو
    ه سؤالٌ أمر مما أعاني

    هل هنا موطني؟ وأصغي: وهل
    لي موطن غيره على الأرض ثاني؟

    وطني رحلة النجوم فأهلي
    وأحبائي النجوم الرواني

    ودياري تيه الخيال وزادي
    ذكرياتي والأغنيات دناني

    فليخني الزمان والشعب إني
    شعب شعبي، أنا زمان الزمان

    يتلاقى الزمان والشعب في روحي
    شجيين يعزفان كياني

    من أنا؟ شاعر، حريق يغني
    وغنائي دمي، دخان دخاني

    فحياتي سر الحياة وشدوي
    لحن ألحانها، معاني المعاني

    وضياعي سياحة العطر في الريـ
    ح، وتيهي مزاره من أغاني

  • 110 عيد الجلوس

    ديوان في طريق الفجر >  عيد الجلوس

    3جمادى الآخرة 1378هـ

    هذا الصباح الراقص المتأود
    فتنٌ مهفهفةٌ وسحرٌ أغيد

    ومباهج ما إن يروقك مشهدٌ
    من حسنه حتى يشوقك مشهد

    الفجر يصبو في السفوح وفي الربى
    والروض يرتشف الندى ويغرد

    والزهر يحتضن الشعاع كأنه
    أم تقبل طفلها وتهدهد

    في مهرجان النور لاح على الملا
    عيد يبلوره السنا… ويورد

    فهنا المفاتن والمباهج تلتقي
    زمراً تكاد من الجمال تزغرد

    عيد الجلوس أعر بلادك مسمعاً
    تسألك أين هناؤها؟ هل يوجد؟

    تمضي وتأتي والبلاد وأهلها
    في ناظريك كما عهدت وتعهد

    يا عيد حدث شعبك الظامي متى
    يروى؟ وهل يروى وأين المورد؟

    حدث ففي فمك الضحوك بشارةٌ
    وطنيةٌ، وعلى جبينك موعد

    فيم السكوت ونصف شعبك ها هنا
    يشقى.. ونصفٌ في الشعوب مشرد؟

    يا عيد هذا الشعب، ذل نبوغه
    وطوى نوابغه السكون الأسود

    ضاعت رجال الفكر فيه كأنها
    حلمٌ يبعثره الدجى ويبدد

    للشعب يومٌ تستثير جراحه
    فيه ويقذف بالرقود المرقد

    ولقد تراه في السكينة… إنما
    خلف السكينة غضبة وتمرد

    تحت الرماد شرارة مشبوبةٌ
    ومن الشراره شعلةٌ وتوقد

    لا، لم ينم ثأر الجنوب وجرحه
    كالنار يبرق في القلوب ويرعد

    لا، لم ينم شعب… يحرق صدره
    جرح على لهب العذاب مسهد

    شعب يريد ولا ينال كأنه
    مما يكابد في الحجيم… مقيد

    * * *

    أهلاً بعاصفة الحوادث، إنها
    في الحي أنفاس الحياة تردد

    لو هزت الأحداث صخراً جلمداً
    لدوى وأرعد باللهيب الجلمد

    بين الجنوب وبين سارق أرضه
    يوم تؤرخه الدما وتخلد!

    الشعب أقوى من مدافع ظالمٍ
    وأشد من بأس الحديد وأجلد

    والحق يثني الجيش وهو عرمرمٌ
    ويفل حد السيف وهو مهند

    لا أمهل الموت الجبان ولا نجا
    منه، وعاش الثائر المستشهد

    يا ويح شرذمة المظالم عندما
    تطوى ستائرها ويفضحها الغد!

    وغداً سيدري المجد أنا أمةٌ
    يمنيةٌ شما، وشعب أمجد

    وستعرف الدنيا وتعرف أنه
    شعب على سحق الطغاة معود

    فليكتب المستعمرون بغيظهم
    وليخجلوا، وليخسأ المستعبد

    عيد الجلوس وهل نصت لشاعرً
    هناك وهو عن المسرة ميعد؟

    فاقبل رعاك الله تهنئتي وإن
    صرخ النشيد وضج فيه المنشد

    واعذر إذا صبغ التنهد نغمتي
    بالجرح فالمصدور قد يتنهد

  • 111 كلنا في انتظار ميلاد فجر

    ديوان في طريق الفجر >  كلنا في انتظار ميلاد فجر

    شعبان سنة 1378هـ

    يا رفاق السرى إلى أين نسري
    وإلى أين نحن نجري ونجري؟

    دربنا غائمٌ يغطيه ليلٌ
    فكأنا نسير في جوف قبر

    دربنا وحشةٌ وشوكٌ ووحلٌ
    وسباعٌ حيرى، وحيات قفر

    ومتاهٌ تحير الصمت فيه
    حيرة الشك في ظنون “المعري”

    والرؤى تنبري كظمآن تهوي
    حول أشواقه خيالات نهر

    والدجى حولنا كمشنقة العمر
    كوادي الشقا: كخيمات شر

    راقد في الطريق يتسد الصم
    ت، ويومي بألف نابٍ، وظفر

    ذابلٌ والنجوم في قبضتيه
    ذابلاتٌ كالغيد في كف أسر

    * * *

    يا رفاق السرى إلى كم نوالي
    خطونا في الدجى إلى لا مقر؟

    أقلق الليل والسكون خطانا
    وخضبنا بجرحنا كل صخر

    وغرسنا هذا الطريق جراحاً
    واجتنينا الثمار حبات جمر

    فإلى كم نسير فوق دمانا؟
    أين أين القرار، هل نحن ندري؟

    كلنا في السرى حيارى ولكن
    كلنا في انتظار ميلاد فجر

    كلنا في انتظار فجرٍ حبيبٍ
    وانتظار الحبيب يصبي ويغري

    يا رفاقي لنا مع الفجر وعدٌ
    ليت شعري متى يفي؟ ليت شعري!

    * * *

    وهنا أدرك الفتور قوانا
    وانتهى الزاد وانتهى كل ذخر

    ومضينا كالطيف نصغي فهزات
    سمعنا نغمةٌ كرنات تبر

    فجرحنا السكون حتى بلغنا
    بيت حسنا يدعونها أخت عمرو

    فقرتنا لحماً وحسناً شهياً
    وحديثاً كأنه ذوب سحر

    وذهبنا وفي دمانا حنينٌ
    جائع ينخر الضلوع ويفري

    وطغى حولنا من السفح موجٌ
    من ضجيج كأنه هول حشر

    فإذا قريةٌ تدير ضراباً
    وتريش السهام حيناً وتبرى

    فاقتربنا نستكشف الأمر لكن
    أي كشفٍ نحسه أي أمر

    أعين تقذف اللظى ونفوسٌ
    مثخناتٌ تنسل من كل صدر

    وجسوم حمر تنوش جسوماً
    في ثياب من الجراحات حمر

    وتهز الخناجر الحمر… أيدٍ
    ترتمي كالنسور في كل نحر

    وانطفت حومة الوغى فاندفعنا
    في سرانا نلف ذعراً بذعر

    ورحلنا والليل في قبضة الأف
    ق كتابٌ يروي أساطير دهر

    وشددنا جراحنا وانطلقنا
    وكأنا نشق تيار… بحر

    * * *

    هوم الطيف حولنا فالتفتنا
    نحوه كالتفات سفرٍ لسفر

    وسمعنا همساً من الأمس يروي
    قصة الفاتحين من أهل “بدر”

    فنصتنا للطيف إنصات صب
    لمحبٍ يقص قصة هجر

    وسرى في السكون صوت ينادي
    يا رفاق السرى وأحباب عمري

    يا رفاقي تثاءب الشرق وانسلَت
    عذارى الصباح من كل خدر

    والعصافير تنفض الريش في الوكر
    وتنفي النعاس من كل وكر

    وكأن الشعاع أيدٍ من الورد
    المندى.. تهز أهداب زهر

    وكأن الغصون أيدي الندامى
    وشفاه أكواب خمر

    ومضى سيرنا وقافلة الفج
    ر تصب الهدى على كل شبر
    فإذا دربنا رياض تغني
    في السنا والهوى زجاجات عطر

    نحن في جدولٍ من النور يجري
    وخطانا تدري إلى أين تجري.

  • 112 نحن والحاكمون

    ديوان في طريق الفجر >  نحن والحاكمون

    شوال 1381هـ

    أخي، صحونا كله مأتم
    وإغفاؤنا ألمٌ أبكم

    فهل تلد النور أحلامنا
    كما يلد الزهرة البرعم؟

    وهل تنبت الكرم ودياننا
    ويخضر في كرمنا الموسم؟

    وهل يلتقي الري والظامئو
    ن، ويعتنق الكاس والمبسم؟

    لنا موعد نحن نسعى إليه
    ويعتاقنا جرحنا المؤلم

    فنمشي على دمنا والطريق
    يضيُعنا والدجى معتم

    فمنا على كل شبر نجيعٌ
    تقبله الشمس والأنجم
    * * *

    سل الدرب كيف التقت حولنا
    ذئاب من الناس لا ترحم

    وتهنا وحكامنا في المتاه
    سباعٌ على خطونا حوم

    يعيثون فينا كجيش المغول
    وأدنى إذا لوح المغنم

    فهم يقتنون ألوف الألوف
    ويعطيهم الرشوة المعدم

    ويبنون دوراً بأنقاض ما
    أبادوا من الشعب أو هدموا

    أقاموا قصوراً مداميكها
    لحوم الجماهير والأعظم

    قصوراً من الظلم جدرانها
    جراحاتنا ابيض فيها الدم

    * * *

    أخي إن أضاءت قصور الأمير
    فقل: تلك أكبادنا تضرم

    وسل: كيف لنَا لعنف الطغاة
    فعاثوا هنا وهنا أجرموا؟

    فلا نحن نقوى على كفهم
    ولاهم كرام فمن ألوم؟

    إذا نحن كنا كرام القلوب،
    فمن شرف الحكم أن يكرموا

    وإن ظلمونا ازدراءً بنا
    فأدنى الدناءات أن يظلموا

    وإن أدمنوا دمنا فالوحوش
    تعبُ النجيع ولا تسأم

    وإن فخروا بانتصار اللئام
    فخذلاننا شرفٌ مرغم

    وسائلنا فوق غاياتهم
    وأسمى، وغاياتنا أعظم

    فنحن نعف وهم إن رأوا
    لأدناسهم فرصةً أقدموا

    وإن صعدوا سلماً للعروش
    فأخزى المخازي هو السلم

    * * *

    وما حكمهم جاهلي؟ الهوى
    تقهقه من سخفه الأيم

    وأسطورة من ليالي (جديس)
    رواها إلى “تغلبٍ” “جرهم”

    ومطعمهم رشوةٌ والذباب أكولٌ
    إذا خبث المطعم

    رأوا هدأة الشعب فاستذأبوا
    على ساحة البغي واستضغموا

    وكل جبانٍ شجاع الفؤاد،
    عليك، إذا أنت مستسلم

    وإذعاننا جرَأ المفسدين
    علينا وأغراهم المأثم

    * * *

    أخي نحن شعب أفاقت مناه
    وأفكاره في الكرى تحلم

    ودولتنا كل ما عندها
    يدٌ تجتني وحشاً يهضم

    وغيدٌ بغايا لبسن النضار
    كما يشتهي الجيد والمعصم

    وسيف أثيم يحز الرؤوس
    وقيدٌ ومعتقل مظلم

    وطغيانها يلتوي في الخداع
    كما يلتوي في الدجى الأرقم

    وكم تدعي عفةً والوجود
    بأصناف خستها مفعم!

    وآثامها لم تسعها اللغات
    ولم يحو تصويرها ملهم

    أنا لم أقل كل أوزارها
    تنزه قولي وعف الفم

    تراها تصول على ضعفنا
    وفوق مآتمنا تبسم

    وتشعرنا بهدير الطبول
    على أنها لم تزل تحكم

    وتظلم شعباً على علمه
    ويغضبها أنه يعلم

    وهل تختفي عنه وهي التي
    بأكباد أمته تولم؟

    وأشرف أشرافها سارقٌ
    وأفضلهم قاتلٌ مجرم

    * * *

    عبيد الهوى يحكمون البلاد
    ويحكمهم كلهم درهم

    وتقتادهم شهوة لا تنام
    وهم في جهالتهم نوَم

    ففي كل ناحيةٍ ظالمٌ
    غبي يسلطه أظلم

    أيا من شبعتم على جوعنا
    وجوع بنينا، ألم تتخموا؟

    ألم تفهموا غضبة الكادحين
    على الظلم؟ لا بد أن تفهموا؟

  • 113 في الطريق

    ديوان من أرض بلقيس >  في الطريق

    وحده يحمل الشقا والسنينا لا معين وأين يلقى المعينا
    وحده في الطريق يسحب رجليه ويطوي خلف الجراح الأنينا

    متعب يعبر الطريق ويمضي
    وحده يتبع الخيال الحزينا.

  • 114 قصة من الماضي

    ديوان في طريق الفجر >  قصة من الماضي

    شوال سنة 1379هـ
    خذها فديتك يا شقيقي
    ذكرى أرق من الرحيق

    وألذا من نجوى الهوى
    بين العشيقة والعشيق

    خذها أرق من السنى
    في خضرة الروض الوريق

    واذكر تهادينا على
    كوخ الطفولة والطريق

    وأنا وأنت كموثقين،
    نحنُ في القيد الوثيق

    نمشي كحيرة زورقٍ
    في غضبة اللج العميق

    ونساجل الغربان في الود
    يان أصوات النعيق

    وإذا ذكرت لي الطعام،
    أكلت أنفاسي وريقي

    * * *

    أيام كنا نسرق الرمان
    في الوادي السحيق

    ونعود من خلف الطريق
    وليلنا أحنى رفيق!

    ونخاف وسوسة الرياح،
    وخطرة الطيف الرشيق

    حتى نوافي بيتنا..
    والأهل في أشقى مضيق

    فيصيح عمي والشراسة،
    في محياه الصفيق

    وهناك جدتنا تناغينا
    مناغاة الشفيق

    تهوى الحياة وعمرها
    أوهى من الخيط الدقيق

    وأبي وأمي حولنا
    بين التنهد والشهيق

    يتشاكيان من الطوى
    شكوى الغريق إلى الغريق

    شكواهما صمتٌ كما
    يشكو الذبال من الحريق

    ويحدقان إلى السكون،
    ورعشة الكوخ العتيق

    والليل ينصت للضفادع،
    وهي تهذي بالنقيق

    والشهب تلمع كالكؤوس،
    على شفاهٍ من عقيق

    * * *

    وجوارنا قوم لهم
    إشراقة العيش الطليق

    من كل غرٍ لم يمز
    بين الأغاني والنهيق

    وتظنه رجلاً وخلف
    ثيابه وحش حقيقي

    وتراه يزعم شخصه
    من جوهر المسك الفتيق

    يتحادثون عن النقود،
    حديث تجار الرقيق

    يتخيرون ملابساً
    تصبي وتغري بالبريق

    ونماذجاً براقةً
    لأناقة الخزي العريق

    * * *

    يمشون في نسج الحرير،
    فهم رجال من حرير

    وكأنهم من خلق نساجٍ
    وخياطٍ قدير

    لولا خداع ثيابهم
    كسدوا بأسواق الحمير

    فقراء من خلق الرجال،
    ويسخرون من الفقير

    ويسائلون مع الرجال،
    عن المشاكل والمصير

    ومصيرهم بيت البغي،
    وبيت خمارٍ شهير

    وهناك بنتٌ غضة
    أحلى من الورد المطير

    ترنو وفي نظراتها
    لغة الدعارة والفجور

    وحديثها كالجدول
    السلسال فضي الخرير

    حسناء تطرح حسنها
    للمترفين، وللأجير

    فجمالها مثل الطبيعة،
    للنبيل.. وللحقير

    في مشيها رقص الحسان،
    وخفة الطفل الغرير

    ويكاد يعشق بعضها
    بعضاً من الحسن المثير

    أودى أبوها وهو في
    إشراقة العمر القصير

    كان امرءاً يجد الضعيف،
    يمينه أقوى نصير

    يحنو وينثر… ما له
    للطفل والشيخ الكبير

    يرعى الجميع فكله
    قلبٌ سماوي الضمير

    جادت يداه بما لديه،
    وجاد بالنفس الأخير

    فذوت صبيته الجميلة،
    كالزنابق في الهجير

    وبكت إلى أختي كما
    يبكي الأسير إلى الأسير

    ومشت على شوك المآسي
    الحمر واليتم المرير

    ومضت تدوس الشوك،
    والرمضا على القلب الكسير

    والحزن في قسماتها
    كالشك في قلب الغيور

    تعرى فتكسوها الطبيعة
    حلة الحسن النظير

    صبغت ملامحها الطبيعة
    من سنا البدر المنير

    من وقدة الصيف البهيج
    وهدأة الليل الضرير

    من خفقة الشجر الصبور،
    على رياح الزمهرير

    ومن الأشعة والشذى
    وصراحة الماء النمير

    فتعانقت فيها المباهج،
    كالأشعة… والعبير

    فجمالها قبل الحنين،
    وصدرها أحنى سرير!

    * * *

    قل لي أتذكر يا أخي
    من تلك جارتنا الشهيَه؟

    هي فوق فلسفة التراب
    وغلظة الأرض الدنيه

    رحمت مجانين الغواية
    فهي مشفقة غويه

    بنت الطبيعة فهي ظل
    الحب، والدنيا الشذيه

    كانت ربيع الأمنيات،
    وأغنيات الشاعريه

    فانصت إليَّ فلم تزل
    من قصة الماضي بقيه

    جاءت بها الذكرى، وما
    الذكرى؟ خلود الآدميه

    حدق ترى ماضيك فيها،
    فهي صورته الجليه

    أواه! ما أشقى ذكي
    القلب، في الأرض الغبيه

    * * *

    ما كان أذكى “مرشداً”
    وأبر طلعته الزكيه!

    كان ابتسامات الحزين،
    وفرحة النفس الشجيه

    عيناه من شعل الرشاد،
    وكله من عبقريه

    إن لم يكن في الأنبياء
    فروحه المثلى نبيه

    قتلته في الوادي اللصوص،
    فغاب كالشمس البهيه

    كان ابن عمي يزدريه،
    فلا يضيق من الزريه

    ومن ابن عمي؟ جاهل
    فظٌ كليل الجاهليه

    يرنو إلينا.. مثلما
    يرنو العقور إلى الضحيه

    نعرى، ويسبح في النقود،
    وفي الثياب القيصريه

    ونذوب من حرق الظماء
    وعنده الكأس الرويه

    والكأس تبسم في يديه،
    كابتسامات الصبيه

    والكرم في بستانه
    يلد العناقيد الجنيه

    حتى تزوج أربعاً
    اشقته واحدةٌ شقيه

    فكأن ثروته دخانٌ
    ضاع في غسق العشيه

    فهوى إلينا والتقينا،
    كالأسارى في البليه

    * * *

    وأتى الخريف وكفه
    تومي بأشداق المنيه

    وتوقع الحي الفنا
    فتغيرت صور القضيه

    وتحرك الفلك الدؤوب
    فأقبلت دنيا رخيه

    وتضوع الوادي بانسام
    الفراديس النديه

    قل لي: شقيقي هل ذكر
    ت عهود ماضينا القصيه

    خذها فديتك قصةً
    دفاقة النجوى سخيه

    وإلى التلاقي يا أخي
    في قصةٍ أخرى طريه

    والآن أختتم الكتا
    ب ختامه أزكى تحيه!

    أخوك: عبدالله البردوني

  • 115 عذاب ولحن

    ديوان في طريق الفجر >  عذاب ولحن

    21ربيع الثاني سنة 1381هـ
    لمن أرعش الوتر المجهدا
    وأشدو وليس لشدوي مدى؟

    وأنهي الغناء الجميل البديع
    لكي أبدأ الأحسن الأجودا

    واستنشد الصمت وحدي هنا
    وأخيلتي تعبر السرمدا

    فأسترجع الأمس من قبره
    وأهوى غداً قبل أن يولدا

    وأستنبت الرمل بالأمنيات،
    زهوراً، واستنطق الجلمدا

    وحيناً أنادي وما من مجيبٍ
    وحيناً أجيب وما من ندا

    وأبكي ولكن بكاء الطيور
    فيدعونني الشاعر المنشدا

    * * *

    لمن أعزف الدمع لحناً رقيقاً
    كسحر الصبا كابتسام الهدى؟

    لعينيك نغمت قيثارتي
    وأنطقتها النغم الأخلدا

    أغنيك وحدي وظل القنوط،
    أمامي وخلفي كطيف الردى

    وأشدو بذكراك لم تسألي
    لمن ذلك الشدو أو من شدا؟

    كأن لم نكن نلتقي والهوى
    يدلل تاريخنا الأمردا

    وحبي يغنيك أصبى اللحون،
    فيحمر في وجنتيك الصدى

    ونمشي كطفلين لم نكترث
    بما أصلح الدهر أو أفسدا

    ونزهو كأنا ملكنا الوجود،
    وكان لنا قبل أن يوجدا

    وملعبنا جدولٌ من عبيرٍ
    إذا مسه خطونا.. غردا

    وأفراحنا كشفاه الزهور،
    تهامسها قبلات الندى

    أكاد أضم عهود اللقاء،
    وألثمها مشهداً مشهدا

    وأجتر ميلاد تاريخنا
    وأمتشق المهد والمولدا

    وأذكر كيف التقينا هناك،
    وكيف سبقنا هنا الموعدا؟

    وكيف افترقنا على رغمنا؟
    وضعنا: وضاع هوانا سدى

    حطمنا الكؤوس ولم نرتوي
    وعدت أمد إليها اليدا

    وأخدع بالوهم جوع الحنين،
    كما يخدع الحلم الهجدا

    أحن فأقتات ذكرى اللقاء
    لعلي بذكراه أن أسعدا

    واقتطف الصفو من وهمه
    كما يقطف الواهم الفرقدا

    أتدرين أين غرسنا المنى؟
    وكيف ذوت قبل أن نحصدا؟

    تذكرت فاحترت في الذكريا
    ت وحيرت أطيافها الشردا

    إذا قلت: كيف انتهى حبنا؟
    أجاب السؤال: وكيف ابتدا؟

    فأطرقت أحسو بقايا البكا
    ء وقد أوشك الدمع أن ينفدا

    وأبكي مواسمك العاطرا
    ت وأيامها الغضة الخردا

    ومن فاته الرغد في يومه
    مضى يندب الماضي الأرغدا

    * * *

    أصيخي إلى قصتي إنني
    أقص هنا الجانب الأنكدا

    أمضُ الأسى أن تجور الخطوب
    وأشكو فلا أجد المسعدا

    وأشقى ويشقى بي الحاسدون
    وما نلت ما يخلق الحسدا

    علام يعادونني! لم أجد
    سوى ما يسر ألد العدا!

    حياتي عذابٌ ولحن حزين
    فهل لعذابي ولحني مدى؟

  • 116 نجوى

    ديوان من أرض بلقيس >  نجوى

    أناجيك يا أخت روحي كما
    يناجي الغريب خيال الحمى

    وأهفو إليك مع الأمنيات
    كما يرتمي الفكر نحو السما

    وأظما إليك فتروي المنى
    خيالي ويزداد روحي ظما

    وأبكي ويبكي خيالي معي
    نشيداً يباكي الدجا الأبكما

    * * *

    أيا قلب كم ذبت في حبها
    لحوناً مضرجة بالدما

    وكم هزني طيفها في الدجا
    وكم هز قيثاري الملهما

    وكم ساجلتني خيالاتها
    كما ساجل المغرم المغرما

    فما عطفت قلبها رحمة
    ولا فكرت آه أن ترحما.

  • 117 لا تسألي

    ديوان في طريق الفجر >  لا تسألي

    وكان التساؤل والجواب زاد الرحيل: وهكذاأجاب..وهكذا سأل..

    22 رجب سنة 1379هـ

    لا تسألي يا أخت أين مجالي؟
    أنا في التراب وفي السماء خيالي

    لا تسأليني أين أغلالي سلي
    صمتي وإطراقي عن الأغلال؟

    أشواق روحي في السماء وإنما
    قدماي في الأصفاد والأوحال

    وتوهمي في كل أفقٍ سابحٌ
    وأنا هنا في الصمت كالتمثال

    أشكو جراحاتي إلي ظلي كما
    يشكو الحزين إلى الخلي السالي

    والليل من حولي يضج وينطوي
    في صمته كالظالم المتعالي

    يسري وفي طفراته ووقاره
    كسل الشيوخ وخفة الأطفال

    وتخاله ينساق وهو مقيدٌ
    فتحسه في الدرب كالزلزال

    وأنا هنا أصغي وأسمع من هنا
    خفقات أشباحٍ من الأهوال

    ورؤى كألسنة الأفاعي حوماً
    ومخاوفاً كعدواة الأنذال

    وأحس قدامي ضجيج مراقدٍ
    وتثاؤب الآباد والآزال

    وتنهداً قلقاً كأن وراءه
    صخب الحياة وضجة الأجيال

    والطيف يصغي للفراغ كأنه
    لصٌ يصيخ إلى المكان الخالي

    وكأنه “الأعشي” يناجي “ميةً”
    ويلملم الذكرى من الأطلال

    والشهب أغنية يرقرقها الدجى
    في أفقه كالجدول السلسال

    والوهم يحدو الذكريات كمدلجٍ
    يحدو القوافل في بساط رمال

    والرعب يهوي مثلما تهوي على
    ساح القتال جماجم الأبطال

    * * *

    وهنا ترقبت انهياري مثلما
    يترقب الهدم الجدار البالي

    وسألت جرحي هل ينام ضجيجه؟
    وأمر من رد الجواب سؤالي!

    وأشد مما خفت منه تخوفي
    وأشق من وعر الطريق كلالي!

    وأخس من ضعفي غروري بالمنى
    واليأس يضحك كالعجوز حيالي!

    وأمض من يأسي شعوري أنني
    حي الشهية، ميت الآمال

    أسري كقافلة الظنون وأجتدي
    شبح الظلام وأهتدي بضلالي

    وأسير في الدرب الملفح بالدجى
    وكأنني أجتاز ساح قتال

    وأتيه والحمى تولول في دمي
    وترتل الرعشات في أوصالي

    * * *

    لا تسأليني عن مجالي: في الثرى
    جسدي وروحي في الفضاء العالي

    وسألتها: ما الأرض؟ قالت إنها
    فلوات أوحاشٍ وروض صلال

    إن كنت محتالاً قطفت ثمارها
    أولاً: فانك فرصة المحتال

    وأنا هنا أشقى وأجهل شقوتي
    وأبيع في سوق الفجور جمالي

    * * *

    والعمر مشكلة ونحن نزيدها
    بالحل إشكالاً إلى إشكال

    لا حر في الدنيا فذو السلطان في
    دنياه عبد المجد والاشغال

    والكادح المحروم عبد حنينه
    فيها: ورب المال عبد المال

    والفارغ المكسال عبد فراغه
    والسفر عبد الحل والترحال

    واللص عبدالليل والدجال في دنياه
    عبد نفاقه الدجال

    لا حر في الدنيا ولا حريةٌ
    إن التحرر خدعة الأقوال

    الناس في الدنيا عبيد حياتهم
    أبداً عبيد الموت والآجال

    * * *

    وسألتها ما الموت: قالت: إنه
    شط الخضم الهائج الصوال

    وسكونه الحاني مصير مصائرٍ
    وهدوؤه دعهٌ وعمق جلال

    ما لي أحاذره وأخشى قوله
    وأنا أجر وراءه أذيالي؟!

    أنساق في عمري إليه مثلما
    تنساق أيامي إلى الآصال

    * * *

    وسألتها: فرنت وقالت: لا تسل،
    دعني عن المفضول والمفضال!

    أسكت! فليس الموت سوقاً عنده
    عمر بلا ثمنٍ، وعمر غالي!!

  • 118 الجناح المحطم

    ديوان في طريق الفجر >  الجناح المحطم

    خطرة وانبرى النذير وصاحا
    الحريق الحريق يطوي الجناحا

    وتعالى صوت النذير وألوى
    أمل العمر وجهه وأشاحا

    ودنا من هنا الحريق وأومى –
    بارق الموت من هناك ولاحا

    ورنا السفر حوله ليس يدري
    هل يرى الجد أم يحس المزاحا؟

    تارة يرقب الخلاص وأخرى
    يرقب اليأس والهلاك المتاحا

    وتعايا حيناً يقلب كفيـ
    ه وحيناً يشد بالراح راحا

    وإذا النار تحتوي مارد الجو
    ويجتاحه الحريق اجتياحا

    خطوة في الرحيل واختصر الموت
    مسافاته الطوال الفساحا

    وأطاح الجناح بالركب في الجو
    وأودى الجناح فيه وطاحا

    من رآه يخر في الهوة الحيرى،
    ويستنجد الربى والبطاحا؟

    من رآه على الصخور رفاتاً
    وشظايا تعطي الرماد الرياحا؟
    من رأى الصقر حين مد إلى النا
    ر جناحاً وللفرار جناحا؟

    وهوى الطائر الكسير ودوى
    موكب الرعب ملؤه وتلاحى

    وارتمى يطرح الجناح المدمى
    مثلما يطرح القتيل السلاحا
    * * *

    وانطوى الركب في السكون وأطفت
    هجعة الرمل عزمه والطماحا

    وانتهى عمره وهل كان إلا
    في مدى النفس غدوةً أو رواحا

    خلع العمر فاطمأن وأغفى
    واستراحت جراحه واستراحا

    مات، والشعب بين جنبيه قلبٌ
    خافق يطعم الحنين الجراحا

    ويضم البلاد خلف الحنايا
    أمنياتٍ وذكرياتٍ ملاحا

    لم يكد شعبه يذوق هناءً
    منه حتى بكى وأبكى وناحا

    * * *

    أيها الركب! يا شهيد المعالي!
    هل رأيت الحياة شراً صراحا!

    أم فقدت النجاح في العمر حتى
    رحت تبغي عند الممات النجاحا

    عندما قبل الثرى منك جراحاً
    أورق الترب من دماه وفاحا

    هكذا المجد تضحيات، وغبنٌ
    عمر من لم يخض إلى المجد ساحا

    إنما الموت والحياة كفاحٌ
    يكسب النصر من أجاد الكفاحا

    لا استراح الجبان لا نام جفناه
    ولا أدركت خطاه الفلاحا

    إنما الموت مرة والدم المهدور
    يبقى على الزمان وشاحا

    كم جبانٍ خاف الردى فأتاه
    وتخطى ستاره واستباحا

    ونفوسٍ شحت على الموت لكن
    أي موتٍ صان النفوس الشحاحا؟

    كم مليكٍ يأوي إلى القصر ليلاً
    ثم يأوي إلى التراب صباحا

    * * *

    شرعة المجد أن تصار في المج
    د، وتستل للصفاح صفاحا

    أيها الركب! نم هنيئاً ودعنا
    نعتسف بعدك الخطوب الجماحا

    ووداعاً يا فتية اليمن خض
    را وداعاً بحرقة الصدر باحا

  • 119 أم الكرم

    ديوان من أرض بلقيس >  أم الكرم

    نشوة النور وأحلام الجنان
    وشذا الأنسام والجو الجماني

    رقصت في الروضة الغنّا كما
    ترقص الحور على شدو المثاني

    وصبت معجزة الحسن بها
    صبوة السّكر بأعطاف الغواني

    بلدة الفن و”أم الكرم” في
    حضنها الحاني صبت أم الدنان

    نسق الفن حواشي كرمها
    فتعانقن على بعد المكان

    وطلى بهجتها صفو الندى
    والصباح الطفل وردي البنان

    والعناقيد على أغصانها
    كالنهود العاطفيات الحواني

    وتدلت كالقروط البيض من
    أذن الغيد المليحات الحسان

    * * *

    روضة فوحاء فردوسية
    تلد اللذات آناً بعد آن

    كلها راح وروح عبق
    وظلال وتثني غصن بان

    وزهور تبعث العطر كما
    تبعث السكر العناقيد الدواني

    تفرش الجو جمالاً وشذاً
    والثرى ظلاً ندي العطف هاني

    * * *

    الهوى الممراح فيها والصبا
    وحوار الوصل فيها والتداني

    وفنون الحسن فيها والغنا
    مهرجان يرتمي في مهرجان

    والعصافير على أدواحها
    كالقياثير على أيدي القيان

    تسكب اللحن على مرقصها
    فتوشي الجو رقصاً وأغاني

    وكأن النهر في أحضانها
    شاعر ذوبه فرط الحنان

    ومحب كلما ناجى الهوى
    طلسمت نجواه “فوضاء” الزمان

    فتخال النهر محموم الغنا
    مطرباً هيمان معقود اللسان

    وكأن الروضة الغنا على
    مائه فجر الهوى طفل الأماني

    * * *

    بلد توحي مجاليه إلى
    مزهر الفنان أبكار المعاني

    قلت للشعر وقد ساجله
    نغم الفن وسحر الإفتنان

    أتراه سرق الفردوس أم
    هو فردوس بحضن الأرض ثاني.

  • 120 عتاب ووعيد

    ديوان في طريق الفجر >  عتاب ووعيد

    وجهت هذه القصيدة إلى الطاغية أحمد في تصور شعري..

    1جمادى الآخرة سنة 1380ه

    لماذا لي الجوع والقصف لك؟
    يناشدني الجوع أن أسألك

    وأغرس حقلي فتجنيه أن
    ت، وتسكر من عروقي منجلك

    لماذا؟ وفي قبضتيك الكنوز،
    تمد إلى لقمتي أنملك

    تقتات جوعي وتدعى النزيه،
    وهلى أصبح اللص يوماً ملك؟

    لماذا تسود على شقوتي؟
    أجب عن سؤالي وإن أخجلك

    ولو لم تجب فسكوت الجوا
    ب ضجيجٌ… يردد ما أنذلك!

    لماذا تدوس حشاي الجريح،
    وفيه الحنان الذي دللك

    ودمعي، ودمعي سقاك الرحيق
    أتذكر “يا نذل” كم أثملك؟!

    فما كان أجهلني بالمصير
    وأنت لك الويل ما أجهلك!

    غداً سوف تعرفني من أنا
    ويسلبك النبل من نبلك

    * * *
    ففي أضلعي.. في دمي غضبة
    إذا عصفت أطفات مشعلك

    غداً سوف تلعنك الذكريات
    ويلعن ماضيك مستقبلك

    ويرتد آخرك المستكين
    بآثامه يزدري أولك

    ويستفسر الإثم: أين الأثيم؟
    وكيف انتهى؟ أي درب سلك؟

    * * *
    غداً لا تقل تبت: لا تعتذر
    تحسر وكفن هنا مأملك

    ولا: “لاتقل” أين مني غدٌ؟
    فلا لم تسمر يداك الفلك

    غداً لم أصفق لركب الظلام
    سأهتف: يا فجر: ما أجملك!

  • 121 صراع الأشباح

    ديوان في طريق الفجر >  صراع الأشباح

    وحدي ومقبرة جواري
    والوهم الأشباح داري

    والأفق يشرق بالدجى
    ويلوك حشرجة الدراري

    والريح تزحف كالجنائز
    في حشود من غبار

    والنجم محمر الشعاع
    كأنه أحلام ثار

    وكأن عينيه تشتهي جارةٍ
    وحنين جار

    وأنا أتيه.. كنجمةٍ
    حيرى، تفتش عن مدار

    وكأني طيف ” الفرزدق”
    يجتدي ذكرى “نوار”

    وأرود منزل غادة
    كالصيف عاطرة المزار

    وكأنني أمشي على حرقي
    وأشلاء اصطباري
    ودنوت منها فانتشت
    شفتاي، واخضر افتراري

    ورنت إلي فتمتمت
    ودنت، وغابت: في التواري

    وأردت عذراً فانطوى
    في خاطري الخجل اعتذاري

    وهمست: أين فمي؟
    وناري في دمي تقتات ناري

    ورجعت أحمل في الحشا
    حرقاً… كحيات القفار

    وأحاور الحسناء في صمتي
    فيدنيها حواري

    فأظنها حولي رحيقاً
    في كؤوسٍ من نضار

    تبدو وتخفى كالطيوف،
    وتستقر بلا قرار

    وتكاد تقلع ثوبها
    حيناً وترمي بالخمار

    وأكاد أحضن ظلها
    جسداً من الرغبات عاري

    وطفقت أزرع من رما
    ل الوهم كرماً في الصحاري

    فدوت حيالي ضجةٌ
    غضبى كدمدمة انفجار

    وسعت إليَّ غابةٌ
    تومي بأشداق الضواري

    وعصابة براقة الألوان،
    دامية الشفار

    تمشي فيحترق الحصا
    والريح تقذف بالشرار

    وأحاطها ومض البروق،
    فسجلت اخزى اندحار

    * * *
    والليل يبتلع السنى
    والخوف يرتجل الطواري

    فتصارع الأشباح أشباحاً
    على شر انتصار

    وهنا استجرت بساحرٍ
    بادي التقى نتن الإزار

    يهذي ويقتاد النزيل
    إلى لصيقات العثار

    ويبيع ساعات الفجور
    لكل بائعةٍ وشاري

    لص يتاجر بالحنا
    ويزينه كذب الوقار

    ويكاد ينفر بعضه
    من بعضه أشقى نفار

    ويثور إن ناوأته
    في الإثم كالنمر المثار

    وبلا انتظارٍ كشرت
    في وجهه (ذات السوار)

    فاهتاج وابتدر العصا
    ودوت عاصفة الدمار

    فانقض كالثور الذبيح،
    يخور، يخنق بالخوار

    ورمت به للموت يكنسه
    إلى دار البوار

    وتهافت الجيران فاتقد
    الشجار على الشجار

    فشردت عنه كطائرٍ
    ظمآن طار من الإسار

    والريح تبصقني وتروي
    للشياطين احتقاري

    * * *
    وكأن أنهاراً تناديني
    وتنضب في المجاري

    فأعب من عفن الرؤى
    وحلاً ووهماً من عقار

    وأفر من نفسي إلى نفسي،
    وأهرب من فراري

    أهوى على ظلي كما
    يهوي الجدار على الجدار

    وأسائل الأحلام من
    دنيا ترق على انكسار

    * * *
    لا تسكتي: لم أنتحر
    إني أقل من انتحاري

    أنا من بحثت عن الردى
    في كل رابيهٍ وغار

    ونسيت مأتم زوجتي
    وأبي وحشرجة احتضاري

    * * *
    هل خلف آفاق المنى
    دنيا أجل من انتظاري؟!

    خضراء طاهرة الجنى
    والري، دانية الثمار

    ومواسم تندى وتولم
    للغراب، وللهزار

    للقبرات وللصقور،
    وللعصافير الصغار

    * * *
    إني كبرت عن الهوى
    والزيف والحب التجاري

    وبصقت دنيا جيفةٍ
    تؤذي وتغري بالشعار

    وتصوغ من قذر الخطا
    يا السود رايات الفخار

    ومللت تيهاً ميت الـ
    ألوان، مكرور الإطار

    وسئمت أشباحاً أدا
    ريها، وأشم من أداري

    ولعنت وجهي المستعا
    ر وكل وجه مستعار

    وهفت إليَّ نسيمةٌ
    جذلى كأمال العذاري

    كتبسم الأفراح في
    مقل الصبيات الغرار

    * * *
    وتثاءب الفجر الجريح
    كمن يفيق من الخُمار

    وانشق أفق الغيب عن
    عهد المرواءات الكبار

    وكأن دنيا أشرقت
    كالحور من خلف الستار

    تلقي المحبة عن يميني
    والبراءة عن يساري

    وسرت حكايات المدينة
    كالخيالات السواري

    ووجدتني أنهار وحدي
    واستفقت على انهياري

    ونهضت والدنيا كما
    كانت تفاخر بالصغار

    وتهاوت الدنيا التي
    خلق افتناني وابتكاري

    فوددت لو ألقى كذاب
    الليل، صدقاً في النهار

  • 122 منها وإليها

    ديوان من أرض بلقيس >  منها وإليها

    أنت يا كل من أحب وأهوى
    في حنيني شعرٌ وفي الصمت نجوى

    أنت في كل دقةٍ من فؤادي
    نغماتٌ من خمرةٍ الحب نشوى

    وغناءٌ مدلهٌ ينشر الحب
    صداهُ وفي فم الصمت يُطوى

    في ضلوعي إليك شوقٌ وقلبٌ
    شاعرٌ يعزف الصبابات شدوا

    وعتاب يفضي إليك فإن لا
    قاك أغضى وذاب في القلب شكوى

    وبقلبي إليك شعرٌ سأروي
    ه وشعرٌ في خاطري ليس يروى

    أي فنٍ أشدو وماذا أغني
    كِ وفن الجمال أسمى وأقوى

    أي لحنٍ أهدي إليك ومعنا
    كِ لحونٌ تسمو على الفن زهوا

    آه جف النشيد إلا نشيداً
    أنا فيه أذوب عضواً فعضوا

    آه يا قلب إنها صبوة الحسـ
    ن المغنى وأنت أصبى وأغوى

    حسنها شاعر الفنون وحبي
    عبقري يطارح الحسن شجوا

    كل شعرٍ غنيته فهو منها
    وإليها والفن يحسوه صفوا.

  • 123 في طريق الفجر

    ديوان في طريق الفجر >  في طريق الفجر

    27 جمادى الآخرة سنة 1382هـ

    أسفر الفجر فانهضي يا صديقه
    نقتطف سحره ونحضن بريقه

    كم حننا إليه وهو شجونٌ
    في حنايا الظلام حيرى غريقه

    وتباشيره خيالات كأسٍ
    في شفاه الرؤى، ونجوى عميقه

    وظمئنا إليه وهو حنين
    ظامىء يرعش الخفوق شهيقه

    واشتياق يقتات أنفاسه الحمر
    ويحسو جراحه… وحريقه

    وذهولٌ كأنه فيلسوفٌ
    غاب في صمته يناجي الحقيقه

    وطيوف كأنها ذكرياتٌ
    تتهادى من العهود السحيقه

    واحتضنا أطيافه في مآقينا
    كما يحضن العشيق العشيقه

    وهو حب يجول في خاطرينا
    جولة الفكر في المعاني اللدقيقه

    والتقينا نريق دمع المآقي
    فأبت كبرياؤنا أن نريقه

    واحترقنا شوقاً إليه وذبنا
    في كؤوس الهوى لحوناً رقيقه

    وانتظرناه والدجى يرعش الحلم
    على هجعة القبور العتيقه

    والسرى وحشة وقافلة الس
    فر يخاف الرفيق فيها رفيقه

    وظلامٌ لا ينظر المرء كفي
    ه ولا يسعد الشقيق شقيقه

    هكذا كان ليلنا فتهادى
    فجرنا الطلق فالحياة طليقه

    * * *

    فانظري: “يا صديقتي” رقصة الفجر
    على خضرة الحقول الوريقه

    مهرجان الشروق يشدو ويندى
    قبلاتٍ على شفاه الحديقة

    فانهضي نلثم الشروق المغني
    ونقبل كؤوسه ورحيقه

    واخطري يا صديقتي في طريق الفجر
    كالفجر، كالعروس الأنيقه

    واذكرى أننا نعشنا صباه
    وحدونا، على خطاه الرشيقه

    وسكبنا في مهده دفء قلبي
    نا وأحلامنا العذارى المشوقه

    نحن صغنا أضواءه من هوانا وفرشنا
    بالأغنيات طريقه

    وشدونا في دربه كالعصاف
    ير… وشدو الغرام فيض السليقه

    لن نطيق السكوت فالصمت للميـ
    ت وتأبى حياتنا أن نطيقه

    * * *

    نحن من نحن؟ نحن تاريخ فكرٍ
    وبلادٍ في المكرمات عريقه

    سبقت وهمها إلى كل مجدٍ
    وانتهت منه قبل بدء الخليقه

    فابسمي: عاد فجرنا وهو يتلو
    للعصافير من دمانا وثيقه

  • 124 إلى قارئي

    ديوان في طريق الفجر >  إلى قارئي

    من القبر من حشرجات التراب
    على الجمر من مهرجان الذباب

    ومن حيث كان يدق القطيع
    طبول الصلاة أمام الذئاب

    ويهوي كما يرتمي في الصخور
    قتيلاً على كتفيه.. مصاب

    ومن حيث كانت كؤوس الجراح
    تزغرد بين شفاه الحراب

    ومن حيث يحسو حنين الربى
    غبار المنى ونجيع السراب

    ومن حيث يتلو السؤال السؤال
    ويبتلع الذعر وهم الجواب

    عزفت اصفرار الرماد العجوز
    ليحمر فيه طفور الشباب

    وحرقت أنفاسي المطفئات
    وأطفأتها بالحريق المذاب

    * * *

    أتشم يا قارئي في غناي
    دخان المغني وشهق الرباب؟

    وتسمع فيه أنين الضياع
    تبعثره عاصفات الضباب

    فإن حروفي اختلاج السهول
    وشوق السواقي، وحفق الهضاب

    وشوق الرحيق بصدر الكروم
    إلى الكأس والثلج في كل باب

    وخوف المودع غيب النوى
    وسهد المنى في انتظار الإياب

    أنا من غزلت انتحار الحياة
    هنا شفقاً من زفير العذاب

    ولحنته سحراً يحتسي
    رؤى الفجر بين ذراعي كتاب

    وتنبض فيه عروق السكون
    ويمتد في ثلجه الالتهاب

    ويتقد الشوق في مقلتيه
    ويظمأ في شفتيه العتاب

    22/2/1383هـ
    14/7/1963م

  • 125 راهب الفن

    ديوان من أرض بلقيس >  راهب الفن

    ساهر الجرح لم ينم
    كيف يغفو على الضرم

    مؤلم كلما بكى
    سخر الجرح وابتسم

    لا تسل عنه إنه
    ضاع في زحمة الظلم

    شاعر يعزف الشقا
    ويغني الدجا الأصم

    حار في الحب قلبه
    حيرة الصمت في القمم

    راهب الفن صدره
    للصبابات مزدحم

    كلما كتم الهوى
    فضح الفن ما كتم

    كلما صان سره
    ضج في الصدر واحتدم

    لم يطق حشمة الجوى
    من رأى الشاعر احتشم؟

    لا تسل ما شدا ولا
    كيف غنى الهوى؟ وكم؟

    شاعر ذاب صمته
    في كئوس الهوى نغم

    وسقاه الحنين من
    كأسه خمرة العدم

    إن تاريخ عمره
    قصة الحب والألم

    كلما ارتاد مرتعاً
    للهوى عاد بالندم.

  • 126 من هواها

    ديوان من أرض بلقيس >  من هواها

    أنا وحدي هنا وكلي لديها
    أسكب القلب قبلة في يديها

    فهي خلف البعاد والوهم يدني
    ها ويدني إلى فمي شفتيها

    من صباها جنيت أزهار شعري
    واقتطفت اللحون من وجنتيها

    من هواها أذوب منها ، وفيها
    من هواها بكيت منها عليها

    كلما شئت أن أفر بقلبي
    من هواها فررت منها إليها

    * * *

    أين عنها أحيد أو
    أين بالقلب أنفر

    وهي جوي ومهبطي
    وهواي المسعر

    وهي في القلب عالم
    بالصبابات يزخر

    * * *

    وهي في الصدر ألف قلب يغني
    بهواها وموجة من لهيب

    إنها وحدها نصيبي من ال
    حب ويا حب أين مني نصيبي؟

    هي دنيا تموج بالسحر والدل
    وترفض بالسنا والطيوب

    حلوة كالأشعة الزهر كالأش
    واق كالشعر كالخيال العجيب

    فهي فن مجسد يلهم الفن
    حوار السما ونجوى الغيوب

    * * *

    وهي سحر مركب
    وفتون مجسم

    كل صوت يمر في
    شفتيها ترنم

    وكأن الحروف من
    ثغرها الحلو تبسم

    * * *

    كلما حدثت تلألأت الأل
    فاظ من ثغرها كفجر الربيع

    ومشت في حديثها نشوة ال
    حسن وترنيمة الدلال الطبيعي

    إنها والهوى بأعطاف لحني
    رقصة السحر والجمال الرفيع

    حبها في فمي نشيد أغني
    ه ولحن مذوب في دموعي

    لا فراق وإن تناهى بها البع
    د وقلبي وحبها في ضلوعي

    * *
    لا انقطاع فحبنا
    أبدي وملهم

    حبنا شاعر على
    ربوة الخلد يحلم

    لا انفصال فإننا
    في عروق الهوى دم.

  • 127 محنة الفن

    ديوان من أرض بلقيس >  محنة الفن

    أنا من غازل الجمال وغنى
    للمعالي لحناً وللحب لحنا

    عاش بين الهوى وبين منى ال
    مجد ولم يلق عمره ما تمنى

    واستخف الحياة بالشدو حتى
    زادها فوق حسنها البكر حسنا

    قلبي القلب يحمل الأمس واليو
    م ويلقي لمقبل العمر ظنا

    قلبي القلب لم يفارقه آت
    لا ، ولا الأمس في حناياه يفنى

    قلبي القلب إن بكى رقص ال
    دنيا بكاه وحول الدمع فنا

    ***
    دمعة الفن بسمة في شفاه ال
    خلد أصفى من الصباح وأسنى

    في ظلال الربيع قطرت أنفا
    سي نشيداً أرق منه وأحنى

    وعصرت الشجون في الروضة ال
    غنا لحوناً أندى وفناً أغنا

    ***
    من جمال الحياة سلسلت أنغا
    مي وغنيت عطفها فتثنى

    من هموم الجياع غنيت للجو
    ع وصغت الهموم بحراً ووزنا

    وتخيرت للغني غناءً
    مترفاً راقصاً كأعطاف حسنا

    أنا أشدو لكل قلب طروب
    أنا أبكي لكي قلب معنى
    ***
    “محنة الفن” محنة تتعب ال
    فنان والخلد من معانيه يهنا

    كل ما بي أودعته الشعر لكن
    في ضميري شعرً أنا منه مضنى

    لا تسلني يا صاحبي أي شعري
    كان أعلى أو أيه كان أدنى

    أجمل الشعر نغمة لم أوقعها
    وصمتي يطوي لها ألف معنى

    فتنفس يا صمت شعري بما ف
    يك لعلي يا شعر أن أطمئنا
    وتأوه لعل آهاتك الجر
    حى تلاقي في ضجة الكون أذنا

    آه يا شعر آه قد قيد الصمت
    أغانيك فاتخذ منه سجنا.

  • 128 منبت الحب

    ديوان من أرض بلقيس >  منبت الحب

    هاهنا لاح لنا الحب وغابا
    وتشظى في يد الأمس وذابا

    نبت الحب هنا كيف غدا
    في تراب المنبت الزاكي ترابا

    هذه البقعة ناغت حبنا
    فصبا الحب عليها وتصابى

    وسقتنا الحب صفواً وهنا
    ثم اسقتناه ذكرى وانتحابا

    كان حب ثم أضحى قصةً
    تنقل الأمس خيالاتٍ كذابا

    قصةً تائهةً نقرؤها
    من فم الذكرى فصولاً وكتابا

    هذه البقعة كم تعرفنا
    كم سقيناها ترانيماً عذابا

    وزرعناها وداعاً ولقاً
    وفرشناها حواراً وعتابا

    ليتها تنطق كي تنشدنا
    قصة القلبين خفقاً واضطرابا

    ليتها تصغي لنا نسألها
    عن هوانا ليتها تعطي جوابا

    ***
    نحن ذقنا الحب فيها خمرةً
    وصحونا فوجدناه سرابا

    نحن غنينا شبابينا هنا
    وتلفتنا فلم نلق الشبابا

    ***
    منبت الحب دعانا للهنا
    فمضينا ننهب الصفو انتهابا

    منبت الحب حوانا ظله
    لحظة وانقلب الظل التهابا

    فسكبنا حوله كأس المنى
    وملأنا الكأس دمعاً وعذابا

    ورجعنا عنه نستجدي البكا
    ونباكي أملاً في الحب خابا.

  • 129 البعث العربي

    ديوان من أرض بلقيس >  البعث العربي

    وحدة المجد والفخار التليد
    زعرعت مرقد الصباح الجديد

    واستطارت تحث قافلة الفتح
    وتطوي الحدود بعد الحدود

    وتناجي العدا بألسنة النار
    وبالموت من شفاه الحديد

    وحدة يعربية وانطلاق
    عربي يهز صمت اللحود

    إنما العرب ثورة وحدتها
    يقظة البعث وانتفاض الوجود

    فابن “يحيى” مؤزر “بجمالٍ”
    “وجمالٌ” مؤزر “بسعودِ”

    وحدت شملهم كبار الأماني
    والدم الحر واعتزاز الجدود

    قد تلاقى الحجاز واليمن الميـ
    مون والنيل في اتحاد الجهود

    واستفاقت مواطن العرب الشـ
    ـم فعودي يا راية العرب عودي

    واذكري في المعارك الحمر “سعدا”
    و” عليا” و”خالد بن الوليد”

    تأنف العرب أن تدوس حماها
    الحر شر العبيد أدنى العبيد

    آن آن الفدى وثار الدم الحر
    يذيب القيود إثر القيود

    يا نفوس اليهود ذوبي، وذوبوا
    من لظى الغيظ يا عبيد اليهود

    فجيوش الجهاد تزحف للثأ
    ر وتهفو إلى الحمى المنشود

    يا فلسطين حققت وحدة العر
    ب أمانيك فاطمحي واستزيدي

    وانفضي عن رباك سود الليالي
    واستفيقي على زئير الأسود

    هذه “غزة” تفيض التهاباً
    والجنود الأباة تلو الجنود

    وعلى “جدة” تجدد عهد الـ
    ـعرب واهتاج للوثوب المجيد

    ***
    يا بريطانيا وقد هيئ الميـ
    ـدان هيا إلى العراك العنيد

    إنما نحن أمة تبذل الأر
    واح في ذمة العلا والخلود

    تفتدي المجد بالنفوس وتشفي
    غلة الثأر من جراح الشهيد

    فتخلي عن الجنوب وخلي
    ” كمران” المصون حر البنود

    دون ما تبتغين صاعقة المو
    ت وبرق القنا وقصف الرعود

    ويل من يعمر القصور على الن
    ار ولا يتقي حماس الوقود

    أمة العرب ضمها صلف الجر
    ح المدمى وكبرياء الحقود

    كلها أقسمت بأن تنثر الأر
    واح دون الحقوق نثر الورود

    وتروي صدر الجهاد وتمحو
    عن جباه الأباة ذل السجود

    وترى مجدها البعيد بعيداً
    ولواها يرف خلف العبيد

    جددت بالي العهود وأحيت
    ميت المجد والإبا من جديد

    وتسامت تشيد مستقبل العر
    بِ على زهوة الصباح الوليد

  • 130 تحت الليل

    ديوان من أرض بلقيس >  تحت الليل

    منك الجمال ومني اللحن والشادي
    يا خمرة الحب في أكواب إنشادي

    وحدي أغنيك تحت الليل محتملاً
    جوع الغرام ، وأشواق الهوى زادي

    هنا أناجيك والأطياف تدفعني
    في عالم الحب من واد إلى وادي

    والقلب في زحمة الأشواق مضطرب
    كزورق بين إرغاء وإزباد

    ووحشة الظلمة الخرسا تهددني
    كأنها حول نفسي طيف جلاد

    والصمت يجثوعلى صدر الوجودوفي
    صمتي ضجيج الغرام الجائع الصادي

    والليل يسري كأعمى ضل وجهته
    وغاب عن كفه العكاز والهادي

    كأنه فوق صمت الكون قافلة
    ضلت وضل الطريق السفر والحادي

    ولم أزل أتشهى منك بارقةً
    من عاطف الحب ، أو إشراق إسعاد

    وحبك الحب أخفيه فأنفشه
    شعراً فينصب خافيه إلى البادي

    وحدي أناديك من خلف الشجون فيا
    نجية الحب نادي لوعتي نادي

    فطالما تهت في دنيا هواك وما
    هومت خلف الخيال الرائح الغادي

    أهفو إليك وحولي كل أمنية
    تفنى ولليأس حولي ألف ميلاد

    واليأس يطغى وجوع الحب في كبدي
    يضج ما بين إبراق وإرعاد.

  • 131 فلسفة الجراح

    ديوان من أرض بلقيس >  فلسفة الجراح

    متألم. مما أنا متألم؟
    حار السؤال. وأطرق المستفهم

    ماذا أحس؟ وآه حزني بعضه
    يشكو فأعرفه وبعض مبهم

    بي ما علمت من الأسى الدامي وبي
    من حرقة الأعماق ما لا أعلم

    بي من جراح الروح ما أدري وبي
    أضعاف ما أدري وما أتوهم

    وكأن روحي شعلة مجنونة
    تطغى فتضرمني بما تتضرم

    وكأن قلبي في الضلوع جنازة
    أمشي بها وحدي وكلي مأتم

    أبكي فتبتسم الجراح من البكا
    فكأنها في كل جارحة فم

    ***
    يا لابتسام الجرح كم أبكي وكم
    ينساب فوق شفاهه الحمرا دم

    أبداً أسير على الجراح وأنتهي
    حيث ابتدأت فأين مني المختم

    وأعارك الدنيا وأهوى صفوها
    لكن كما يهوى الكلام الأبكم

    وأبارك الأم الحياة لأنها
    أمي وحظي من جناها العلقم

    حرماني الحرمان إلا أنني
    أهذي بعاطفة الحياة وأحلم

    والمرء إن أشقاه واقع شؤمه
    بالغبن أسعده الخيال المنعم

    ***
    وحدي أعيش على الهموم ووحدتي
    باليأس مفعمة وجوي مفعم

    لكنني أهوى الهموم لأنها
    فكر أفسر صمتها وأترجم

    أهوى الحياة بخيرها وبشرها
    وأحب أبناء الحياة وأرحم

    وأصوغ “فلسفة الجراح” نشائداً
    يشدو بها اللاهي ويشجى المؤلم

  • 132 أمي

    ديوان من أرض بلقيس >  أمي

    تركتني هاهنا بين العذاب
    ومضت، يا طول حزني واكتئابي

    تركتني للشقا وحدي هنا
    واستراحت وحدها بين التراب

    حيث لا جور ولا بغي ولا
    ذرة تنبي وتنبي بالخراب

    حيث لا سيف ولا قنبلة
    حيث لا حرب ولا لمع حراب

    حيث لا قيد ولا سوط ولا
    ظالم يطغى ومظلوم يحابي

    ***
    خلفتني أذكر الصفو كما
    يذكر الشيخ خيالات الشباب

    ونأت عني وشوقي حولها
    ينشد الماضي وبي – أواه – ما بي

    ودعاها حاصد العمر إلى
    حيث أدعوها فتعيا عن جوابي

    حيث أدعوها فلا يسمعني
    غير صمت القبر والقفر اليباب

    موتها كان مصابي كله
    وحياتي بعدها فوق مصابي

    ***
    أين مني ظلها الحاني وقد
    ذهبت عني إلى غير إياب

    سحبت أيامها الجرحى على
    لفحة البيد وأشواك الهضاب

    ومضت في طرق العمر فمن
    مسلك صعب إلى دنيا صعاب

    وانتهت حيث انتهى الشوط بها
    فاطمأنت تحت أستار الغياب

    ***
    آه “يا أمي” وأشواك الأسى
    تلهب الأوجاع في قلبي المذاب

    فيك ودعت شبابي والصبا
    وانطوت خلفي حلاوات التصابي

    كيف أنساك وذكراك على
    سفر أياتي كتاب في كتاب

    إن ذكراك ورائي وعلى
    وجهتي حيث مجيئي وذهابي

    كم تذكرت يديك وهما
    في يدي أو في طعامي وشرابي

    كان يضنيك نحولي وإذا
    مسني البرد فزنداك ثيابي

    وإذا أبكاني الجوع ولم
    تملكي شيئاً سوى الوعد الكذاب

    هدهدت كفاك رأسي مثلما
    هدهد الفجر رياحين الروابي

    ***
    كم هدتني يدك السمرا إلى
    حقلنا في (الغول) في (قاع الرحاب)

    وإلى الوادي إلى الظل إلى
    حيث يلقي الروض أنفاس الملاب

    وسواقي النهر تلقي لحنها
    ذائباً كاللطف في حلو العتاب

    كم تمنينا وكم دللتني
    تحت صمت الليل والشهب الخوابي

    ***
    كم بكت عيناك لما رأتا
    بصري يطفا ويطوى في الحجاب

    وتذكرت مصيري والجوى
    بين جنبيك جراح في التهاب

    ***
    ها أنا يا أمي اليوم فتى
    طائر الصيت بعيد في الشهاب

    أملأ التاريخ لحناً وصدى
    وتغني في ربا الخلد ربابي

    فاسمعي يا أم صوتي وارقصي
    من وراء القبر كالحور الكعاب

    ها أنا يا أم أرثيك وفي
    شجو هذا الشعر شجوي وانتحابي.

  • 133 روح شاعر

    ديوان من أرض بلقيس >  روح شاعر

    صافحتك القلوب قبل النواظر
    واستطارت إلى لقاك الخواطر

    وتلقاك عالم اليمن الحر
    كما لاقت النفوس البشائر

    وارتمى يسكب التراحيب ألوا
    ناً كما تسكب اللحوم القياثر

    وتملت نزولك اليمن الخضرا
    ففاضت بالأغنيات الحناجر

    وتنزلت في معاني حماها
    مثلما ينزل الشعاع المحاجر

    وهفا الموطن الكريم يحيي
    مشعل العلم في سناك الباهر

    وتغلغلت في حناياه كالإيمان
    كالطهر في عفاف الضمائر

    كالمنى في القلوب كالدم في الأبدان
    كالسكر في دماغ المعاقر

    قد تلقاك موطني ينثر التر
    حيب في راحتيك نثر الجواهر

    وانتشى من شعاعك العلم لما
    زرت “دار العلوم” يا خير زائر

    وازدهي الشعر ينثر النغم الحل
    وكما ينثر الربيع الأزاهر

    قد رأى “موطني” بمرآك “مصراً”
    منبت الفن والإبا والعباقر

    مصر أم الحجاز واليمن ال
    سامي وأم الشآم أم الجزائر

    وحدة العرب راية في رباها
    ومنى العرب في يديها زواخر

    شادها الله للعروبة داراً
    وابتناها بنيّرات الزواهر

    بلدة تنبت العلوم وأرض
    تلد المجد والعلا والمفاخر

    نيلها المستفيض أنشودة الله
    على مسمع الليالي العوابر

    وحماها كنانة الله تر
    مي في وجوه العدا السهام الثوائر

    * * *
    يابن مصر التي تلاقت عليها
    شيم العرب والنفوس الحرائر

    علمك العلم ينشر الدين في الدنيا
    كما تنشر الشعاع المنائر

    وتجوب الشعوب في خدمة الإسلام
    والحق وارتباط الأواصر

    إيه عزام أنت وعي من النيل
    إلى العرب تستثير المشاعر

    وسفير تشيد الوحدة الشما
    وتستنهض السنا في البصائر

    وتنادي البلاد للإتحاد الحر
    والاتحاد أقوى مناصر

    إن في وحدة العروبة مجداً
    خالداً ثائراً على كل ثائر

    إنما العرب أمة وحدتها
    لغة الضاد والدما والعناصر

    إنما العرب أمة هزت الدنيا
    وشقت سود الخطوب العواكر

    إن للعرب غابراً داس “كسرى”
    وتمشى على رؤوس القياصر

    فاستمدي يا أمتي من سنا الما
    ضي معاليك واعمري خير حاضر

    يأنف المجد أن يلاقي بنيه
    في يدي غاصب وفي كف آسر

    فاطمحي أمتي إلى كل مجد
    وانهضي نهضة الصباح الباكر

    يا سفير التضامن الحر غنت
    سعيك الحر أمنياتي الشواعر

    وتلاشت على هوى العرب روحي
    نغماً ملهم الغنا والمزاهر

    ونشيداً أفرغت فيه أحاسيسي
    وذاتي وخافقي والسرائر

    فتلقى يا شاعر النيل شعري
    فهو شعر عنوانه “روح شاعر”.

  • 134 بعد الحب

    ديوان من أرض بلقيس >  بعد الحب

    لا تسل كيف ابتدينا
    لا، ولا كيف انتهينا

    لا تقل كيف انطوى الحب
    ولا كيف انطوينا

    ملعب دار بعمرينا
    فولى من لدينا

    وانقضى الدور فعدنا
    عنه من حيث أتينا

    لا تسل كيف تناء
    ي نا ولا كيف التقينا

    لا تقل كنا وكان الشـ
    ـوق منا وإلينا

    هل شربنا خمرة الحـ
    ـب وهل نحن ارتوينا

    آه لا خمر ولا حب
    متى كان وأينا

    لاحت الكأس لثغريـ
    ـنا وجفت في يدينا

    * * *
    عندما لاح بريق الكأ
    س ولت بالبريق

    وارتشفنا من رحيق
    الحب أطياف الرحيق

    وتلاشى حلم الصفو
    كأنفاس الغريق

    هكذا كان تلاقينا
    على الدور الأنيق

    * * *
    وانتهى الدور وها
    نحن انتهينا من صبانا

    حيث طاف الحب كالوهم
    وكالوهم تفانى

    وانطوى عنا كما تطوي
    الدياجير الدخانا

    وتركنا في رمال الحب
    آثار خطانا

    غير أنَّا قد نسينا
    أو تناسينا لقانا
    وسألنا الوهم بعد الحـ
    ـب هل كنا وكانا

    أين منا الملعب الطفل
    تناغيه مُنانا

    * * *
    ملعب درنا به حينا
    فأصبانا وملا

    ملعب ما كان أصفا
    ه وما أشهى وأحلى

    غاب في الأمسفولينا
    عن الأمس وولى

    وتسلينا ومن لم
    يلق ما يهوى تسلى.

  • 135 أنا والشعر

    ديوان من أرض بلقيس >  أنا والشعر

    هاتي التآويه يا قيثارتي هاتي
    ورددي من وراء الليل آهاتي

    وترجمي صوت حبي للجمال ففي
    نجواك – يا حلوة النجوى – صباباتي

    قيثارتي صوت أعماقي عصرت بها
    روحي وأفرغت في أوتارها ذاتي

    * * *
    قيثارتي أنت أم الشعر لم تلدي
    إلا غنا الخلد أو لحن البطولات

    أودعت نجواك آيات النبوغ فيا
    قيثارتي لقني التاريخ آياتي

    وغردي بخيالاتي العذاب فما
    حقيقة السحر إلا من خيالاتي

    وشاعر الطبع موسيقى الغيوب إذا
    غنى أرى الأرض أسرار السموات

    قيثارتي إنني ابن الشعر انجبني
    للخلد ، للعبقريات الفتيات

    وللحياة وللدنيا ونضرتها
    للحب للنور للزهر الصبيات

    * * *
    وحدي مع الشعر هزتني عواطفه
    فرقصت عطفه النشوان رناتي

    وشف لي خافي الدنيا وألهمني
    سحر الجمال وأسرار الجلالات

    وهبت للشعر إحساسي وعاطفتي
    وذكرياتي وترنيمي وأناتي

    فهو ابتسامي ودمعي وهو تسليتي
    وفرحتي وهو آلامي ولذاتي

    يفنى الفنا ! وأنا والشعر أغنية
    على فم الخلد يا رغم الفنا العاتي

    أحيا مع الشعر يشدو بي وأنشده
    والخلد غاياته القصوى وغاياتي.

  • 136 الشمس

    ديوان من أرض بلقيس >  الشمس

    أطلت من الأفق بنت السماء
    مغلفة بالشعاع الندي

    ووشت بساط الفضا بالسنا
    وباللهب البارد العسجدي

    وبالوهج الدافيء المشتهي
    وبالمنظر السحري الأجود

    فجنت بها نشوات الصبا
    وفاضت بصدر الضحى الأمرد

    وأهدت سناها السماوي إلى
    رؤوس الربا والثرى الأوهد

    إلى الطود والسهل والمنحنى
    إلى الماء والطين والجلمد

    إلى الكوخ والقصر مهد الغنى
    إلى السوق والسجن والمعبد

    ووزعت النور في العالم
    ين وجادت على العبد والسيد

    على المترفين على البائ
    سين على المجتدى وعلى المجتدي

    وأدت رسالتها حرة
    إلى أقرب الكون والأبعد

    جرى عدل بنت السما في الوجو
    د حفياً بجيده والردي

    وأنفقت النور أم الضحا
    فزادت ثراءً إلى سؤدد
    وأربت جمالاً وزادت سناً
    ونوراً إلى نورها السرمدي

    وطالت حياة فما تنتهي
    من العمر إلاّ لكي تبتدي

    وأعطت فدام سنا ملكها
    جديد الصبى دائم المولد

    وما زادها كثر إنفاقها
    سوى الترف الأكثر الأخلد

    * * *
    لقد ضرب الله أمثاله
    ومن يضلل الله لا يهتدي

  • 137 سائل

    ديوان من أرض بلقيس >  سائل

    مررت بشيخ أصفر العقل واليد
    يدب على ظهر الطريق ويجتدي

    ثقيل الخطا يمشي الهوينى بجوعه
    وأحزانه مشي الضرير المقيد

    ويمضي ولا يدري إلى أين ينتهي
    ولم يدر قبل السير من أين يبتدي

    ويزجي إلى الأسماع صوتاً مجرحاً
    كئيباً كأحلام الغريب المشرد

    يمد اليد الصفرا إلى كل عابر
    ولم يجن إلا اليأس من مدة اليد

    فيلقي على الكف النحيل جبينه
    ويسأل هل في الأرض ظل لمسعد

    هو الشر ملء الأرض والشر طبعها
    هو الشر ملء الأمس واليوم والغدِ

    وهذا غبار الأرض آهات خُيّبٍ
    وهذا الحصى حبات دمع مجمد

    رمى الشيخ فيما حوله نظرة الأسى
    ومر كطيف المستكين المهدد

    فيا للفقير الشيخ يمشي على الطوى
    وفي مأتم الشكوى يروح ويغتدي

    يظن أكف الناس تهوي بجودها
    إليه ولم يبصر سوى وهمه الردي

    وجوع يلوي نفسه في ضلوعه
    فينساق لا يدري إلى أين يهتدي.

  • 138 الشاعر

    ديوان من أرض بلقيس >  الشاعر

    طائر عشه الوجود وقلب
    ملهم عاشق وروح نبيله

    ركب الله في طبيعته الفن
    وفي فكره طموح الفضيله

    ينشر اللحن في الوجود ويطوي
    بين أضلاعه الجراح الدخيله

    يفعم الكون من معانيه شهداً
    ورحيقاً حلواً ويطفي غليله

    ويوشي الحياة سحراً كما وش
    ت خيوط الصباح زهر الخميله

    وفنوناً ألذ من بسمة الطفل
    ومن نسمة الصباح العليله

    وحواراً أرق من قبل الحب
    على وجنة الفتاة الجميله

    أنت – يا شاعر الحياة – حياة
    و”كمنج” حي ودنيا ظليله

    تعشق النور والندى وسمو ال
    روح في النشء والعقول الجليله

    وتحب الطموح في الأنفس العظمى
    وتحنو على النفوس الضئيله

    تستشف الجمال من ظلم الليل
    ومن زهرة الربيع البليله

    من سكون الدجا ومن هجعة الصح
    را ومن وحشة القفار المهيله

    وترى الورد في الغصون خدوداً
    قانيات والليل عيناً كحيله

    قد عرفت الجمال في كل شيء
    وتغنيت همسه وهديله

    وتوحدت للجمال تناجيه
    وللفن تستقي سلسبيله

    ورفضت النفاق والزور والزل
    فى وخليت للورى كل حيله

    ونبذت الرواغ والملق المخ
    زي وأعباءه الجسام الثقيله

    لم تحاول وظيفة المنصب العا
    لي ولا تبتغي إليه وسيله

    لا ولا تعشق النقود اللواتي
    نقشتها يد الحياة الذليله

    قد تخليت للجمال تناجي
    هالة الوحي والسماء الصقيله

    فرأيت الفضائل البيض في الدن
    يا ولم تلمح الخنى والرذيله

    عشت في الطهر للخيال تواف
    يه كما وافت الخليل الخليله

    طائراً عن عوالم الشر لما
    أودع الله فيك روحاً غسيله.

  • 139 حين يشقى الناس

    ديوان من أرض بلقيس >  حين يشقى الناس

    أنت ترثي كل محزون ولم
    تلق من يرثيك في الخطب الألد

    وأنا يا قلب أبكي إن بكت
    مقلة كانت بقربي أو ببعدي

    وأنا أكدى الورى عيشاً على
    أنني أبكي لبلوى كل مكد

    حين يشقى الناس أشقى معهم
    وأنا أشقى كما يشقون وحدي!

    وأنا أخلو بنفسي والورى
    كلهم عندي ومالي أي عندي

    لا ولا لي في الدنا مثوى ولا
    مسعد إلا دجا الليل وسهدي

    لم أسر من غربة إلا إلى
    غربة أنكى وتعذيب أشد

    متعب أمشي وركبي قدمي
    والأسى زادي وحمى البرد بردي

    والدجا الشاتي فراشي وردا
    جسمي المحموم أعصابي وجلدي

  • 140 ليالي الجائعين

    ديوان من أرض بلقيس >  ليالي الجائعين

    هذي البيوت الجاثمات إزائي
    ليل من الحرمان والإدجاء

    من للبيوت الهادمات كأنها
    فوق الحياة مقابر الأحياء

    تغفو على حلم الرغيف ولم تجد
    إلا خيالاً منه في الإغفاء

    وتضم أشباح الجياع كأنها
    سجن يضم جوانح السجناء

    وتغيب في الصمت الكئيب كأنها
    كهف وراء الكون والأضواء

    خلف الطبيعة والحياة كأنها
    شيء وراء طبائع الأشياء

    ترنو إلى الأمل المولي مثلما
    يرنو الغريق إلى المغيث النائي

    وتلملم الأحلام من صدر الدجا
    سوداً كأشباح الدجا السوداء

    * * *
    هذي البيوت النائمات على الطوى
    نوم العليل على انتفاض الداء

    نامت ونام الليل فوق سكونها
    وتغلفت بالصمت والظلماء

    وغفت بأحضان السكوت وفوقها
    جثث الدجا منثورة الأشلاء

    وتململت تحت الظلام كأنها
    شيخ ينوء بأثقل الأعباء

    أصغى إليها الليل لم يسمع بها
    إلا أنين الجوع في الأحشاء

    وبكا البنين الجائعين مردداً
    في الأمهات ومسمع الآباء

    ودجت ليالي الجائعين وتحتها
    مهج الجياع قتيلة الأهواء

    * * *
    يا ليل، من جيران كوخي؟ من هم
    مرعى الشقا وفريسة الأرزاء

    الجائعون الصابرون على الطوى
    صبر الربا للريح والأنواء

    الآكلون قلوبهم حقداً على
    ترف القصور وثروة البخلاء

    الصامتون وفي معاني صمتهم
    دنيا من الضجات والضوضاء

    ويلي على جيران كوخي إنهم
    ألعوبة الإفلاس والإعياء

    ويلي لهم من بؤس محياهم ويا
    ويلي من الإشفاق بالبؤساء

    وأنوح للمستضعفين وإنني
    أشقى من الأيتام والضعفاء

    وأحسهم في سد روحي في دمي
    في نبض أعصابي وفي أعضائي

    فكأن جيراني جراح تحتسي
    ري الأسى من أدمعي ودمائي

    ناموا على البلوى وأغفى عنهمو
    عطف القريب ورحمة الرحماء

    ما كان أشقاهم وأشقاني بهم
    وأحسني بشقائهم وشقائي.

  • 141 وهكذا قالت

    ديوان من أرض بلقيس >  وهكذا قالت

    أشقيتني من حيث إمتاعي
    فلينعني من ظلمك الناعي

    آلفتني حتى ألفت اللقا
    تركتني وحدي لأوجاعي؟

    أطمعتني فيك فخلفتني
    لجوع آمالي وأطماعي

    ورحت – لا عدت – وألقيتني
    وديعة في كف مضياع

    إن لم يكن لديك قلب، فهل
    رحمت قلباً بين أضلاعي

    رعيتني حتى ملكت الغنى
    عني فكنت الذئب في الراعي

    يا ظالمي والظلم طبع الخنى
    قطفت عمري قبل إيناعي

    قد ضاع ما أرجو فما خيفتي
    إذا دعاني للفنا داعي

    لا ، لم أعاتبك فقد أقلعت
    عنك شجوني أي إقلاع

    إن كنت خداعاً فإن الورى
    ما بين مخدوع وخداع

    ما بين غلاب ومستسلم
    ما بين محروم وإقطاعي

    أواه كم أشقى وأسعى إلى
    قبري وويح السعي والساعي

    وهكذا قالت، وفي صوتها
    دموع قلب جد ملتاع

  • 142 أثيم الهوى

    ديوان من أرض بلقيس >  أثيم الهوى

    جريح الإبا صامت لا يعي
    وفي صمته ضجة الأضلع

    وفي صدره ندم جائع
    يلوك الحنايا ولم يشبع

    تهدده صيحة الذكريات
    كما هدد الشيخ صوت النعي

    ويقذفه شبح مفزع
    إلى شبح موحش مفزع

    ويصغي ويصغي فلم يستمع
    سوى هاتف الإثم في المسمع

    ولم يستمع غير صوت الضمير
    يناديه من سره الموجع

    فيشكو إلى من؟ وما حوله
    سوى الليل أو وحشة المخدع

    كئيب يخوفه ظلمه
    فيرتاع من ظله الأروع

    وفي كل طيف يرى ذنبه
    ف ماذا يقول وما يدعي؟

    فيملي على سره قائلاً:
    أنا مجرم النفس والمطمع

    أنا سارق الحب وحدي! أنا
    خبيث السقا قذر المرتع

    هوت إصبعي زهرة حلوة
    فلوثت من عطرها إصبعي

    توهمتها حلوة كالحيا
    ة فكانت أمر من المصرع

    أنا مجرم الحب ! يا صاحبي
    فلا تعتذر لي فلم تقنع

    ولا ، لا تقل معك الحب بل
    جريمته والخطايا معي

    ومال إلى الليل والليل في
    نهايته وهو لم يهجع

    وقد آن للفجر أن يستفيق
    وينسل من مبسم المطلع

    وكيف ينام “أثيم الهوى”
    وعيناه والسهد في موضع

    هنا ضاق بالسهد والذكريات
    وحن إلى الحلم الممتع

    فألقى بجثته في الفراش
    كسير القوى ذابل المدمع

    ترى هل ينام وطيف الفجور
    ورائحة الإثم في المضجع؟

    وفي قلبه ندم يستقي
    دماه وفي حزنه يرتعي

    وفي مقلتيه دموع وفي
    حشاه نحيب بلا أدمع

    ف ماذا يلاقيوماذا يحس
    وقد دفن الحب في البلقع

    وعاد وقد أودع السر من
    حناياه في شر مستودع

    ف ماذا يعاني؟ ألا إنه
    جريح الإبا صامت لا يعي

  • 143 عروس الحزن

    ديوان من أرض بلقيس >  عروس الحزن

    صوتها دمع وأنغام صبايا
    وابتسامات وأنات عرايا

    كلما غنت جرى من فمها
    جدول من أغنيات وشكايا

    أهي تبكي أم تغني أم لها
    نغم الطير وآهات البرايا؟

    صوتها يبكي ويشدو آه ما
    ذا وراء الصوت ما خلف الطوايا؟

    هل لها قلب سعيد ولها
    غيره قلب شقي في الرزايا؟

    أم لها روحان: روح سابح
    في الفضا الأعلى وروح في الدنايا؟

    أم تلاقت في حنايا صدرها
    صلوات وشياطين خطايا؟

    أم تناجت في طوايا نفسها
    لحن عرس وجراحات ضحايا؟

    لست أدري. صوتها يحرقني
    بشجوني إنه يدمي بكايا

    كلما طاف بسمعي صوتها
    هز في الأعماق أوتار شجايا

    وسرى في خاطري مرتعشاً
    رعشة الطيف بأجفان العشايا

    أترى الحزن الذي في شجوها
    رقة الحرمان أم لطف السجايا

    أم تراها هدجت في صوتها
    قطع القلب وأشلاء الحنايا

    كلما غنت.. بكت نغمتها
    وتهاوى القلب في الآه شظايا

    هكذا غنت ، وأصغيت لها
    وتحملت شقاها وشقايا

    * * *
    يا عروس الحزن ما شكواك من
    أي أحزان ومن أي البلايا؟

    ما الذي أشقاك يا حسنا؟ وهل
    للشقا كالناس عمر ومنايا؟

    هل يموت الشر؟ هل للخير في
    زحمة الشر سمات ومزايا؟

    كيف تعطي أمنا الدنيا المنى
    وهي تطوي عن أمانينا العطايا

    ولقوم تحمل البذل كما
    يحمل الخل إلى الحسنا الهدايا

    هل هي الدنيا التي تحرمني
    أم تراخت عن عطاياها يدايا؟

    أنا حرماني وشكوى فاقتي
    أنا آلامي ودمعي وأسايا

    لم يرع قلبي سوى قلبي أنا
    لا ولا عذبني شيء سوايا!

    جارتي، ما أضيق الدنيا إذا
    لم تشق النفس في النفس زوايا

  • 144 عودة القائد

    ديوان من أرض بلقيس >  عودة القائد

    لمن الجموع تموج موج الأبحر
    وتضج بين مهلل ومكبر

    لمن الهتاف يشق أجواز الفضا
    ويهز أعطاف النهار المسفر

    ولمن تجاوبت المدافع وانبرت
    صيحاتها كضجيج يوم المحشر

    لمن الطبول تثرثر الخفقات في
    ترنيمها المتهدج المتكسر

    ولمن زعاريد الحسان كأنها
    خفقات أوتار ورعشة مزهر

    ولمن تفيض حناجر الأبواق من
    أعماقها بترنم المستبشر

    للقائد الأعلى الموشح بالسنا
    علم الفتوح وقاهر المستعمر

    لولي “عهد الملك” بناء الحمى
    حلم البطولة والطموح العبقري

    أهلاً “ولي العهد” فانزل مثلما
    نزل الشعاع مباسم الزهر الطري

    أشرقت في مقل الجزيرة كالضحا
    كالصبح كالسحر الندي المقمر

    وعلى جبينك غار أكرم فاتح
    وعلى محياك ابتسام مظفر

    لما طلعت أفاقت (الخضرا) على
    فجر بأنفاس الخلود معطر

    وتعانقت فتن الجمال وتمتمت
    بالعطر أعراس الربيع الأخضر

    وتسابق الإنشاد فيك وهازجت
    نغم المعري أغنيات البحتري

    وهفت إليك من القوافي جوقة
    سكرى متيمة الغناء المسكر

    * * *
    يا من تشخصت المنى في شخصه
    وأهل فجر عدالة وتحرر

    حقق طموح الشعب واجعل حلمه
    فوق الحقيقة فوق كل تصور

    وافيت فانتفضت أماني أمة
    شما وشق البعث مرقد “حمير”

    ويكاد “ذويزن” يبعثر قبره
    ويطل حمير من وراء الأعصر

    بلقيس يا أم الحضارة أشرقي
    من شرفة الأمس البعيد وكبري

    واستعرضي زمر الأشعة واسبحي
    فيها بناظرك الكحيل الأحور

    مولاتي الحسنا أطلي وانظري
    من زهوة الأجيال ما لم تنظري

    وتغطرسي ملء الفتون وعنوني
    فمك الجميل ببسمة المستفسر

    هانحن نبني فوق هامة مأرب
    وطناً ونبني ألف صرح مرمري

    ونشيد في وطن العروبة وحدة
    فوق الثريا خلف أفق “المشتري”

    هي وحدة العرب الأباة تسنمت
    في ربوة التاريخ أرفع منبر

    وتعانقت صنعا ومصر وجلق
    فيها عناق الشوق والحب البري

    وجرى على النيل المصفق صنوه
    بردى فصفق كوثر في كوثر

    وارتادت “الخضرا” الكنانة فانتشت
    نسمات مأرب في أصيل الأقصر

    لولاك يا بطل الخلافة ما احتوى
    صنعا وجلق حضن أم الأزهر

    صافحت مصر فزدت في بنيانها
    “هرماً” إلى الهرم الأشم الأكبر

    أرض الجنوب – وأنت نخوة ثأرها
    ظمى تحن إلى الصراع الأحمر

    أرضي ودار أبي وجدي لم تزل
    في قبضة المتوحش المتنمر

    تطوي على حلم الجهاد عيونها
    وتئن تحت الغاصب المستهتر

    لا حرمة الإنسان تزجره ولا
    شرف الضمير ولا نهى المتحضر

    متجبر وأصم لم يسمع سوى
    رهج الحديد المارد المتجبر

    فازحف إليه يا بن بجدتها على
    لجج السلاح الفاتح المتهور

    يا خير من لبى ومن نودي ومن
    يغشى الوغى كالهول كالليث الجري

    هذي زعامتك الفتية قصة
    بفم الفتوح وفي شفاه الأدهر

    * * *
    يا بدر هذا الشعب أنت زعيمه
    وهواك سحر غرامه المتسعر

    حملتك روح الشعب إيماناً فلم
    تخفق بحب سواك بل لم تشعر

    فاسلم لتاريخ الزعامة آية
    بيضا كبهجة عصرك المتبلور

  • 145 طائر الربيع

    ديوان من أرض بلقيس >  طائر الربيع

    يا شاعر الأزهار والأغصان
    هل أنت ملتهب الحشا أو هاني

    ماذا تغني، من تناجي في الغنا
    ولمن تبوح بكامن الوجدان؟

    هذا نشيدك يستفيض صبابة
    حرى كأشواق المحب العاني

    في صوتك الرقراق فن مترف
    لكن وراء الصوت فن ثاني

    كم ترسل الألحان بيضاً إنما
    خلف اللحون البيض دمع قاني

    هل أنت تبكي أم تغرد في الربا
    أم في بكاك معازف وأغاني

    * * *
    يا طائر الإنشاد ما تشدو ومن
    أوحى إليك عرائس الألحان

    أبداً تغني للأزاهر والسنا
    وتحاور الأنسام في الأفنان

    وتظل تبتكر الغنا وتزفه
    من جو بستان إلى بستان

    وتذوب في عرش الجمال قصائداً
    خرساً وتستوحي الجمال معاني

    لا الحزن ينسيك النشيد ولا الهنا
    بوركت يا بن الفن من فنان

    * * *
    يا بن الرياض – وأنت أبلغ منشد
    غرد وخل الصمت للإنسان

    واهتف كما تهوى ففنك كله
    حب وإيمان وعن إيمان

    دنياك يا طير الربيع صحيفة
    ذهبية الأشكال والألوان

    وخميلة خرسا يترجم صمتها
    عطر الزهور إلى النسيم الواني

    والزهر حولك في الغصون كأنه
    شعر الحياة مبعثر الأوزان

    والعشب يرتجل الزهور حوالماً
    ويرف بالظل الوديع الحاني

    وطفولة الأغصان راقصة الصبا
    فرحاً ودنياها صباً وأماني

    والحب يشدو في شفاه الزهر في
    لغة الطيور وفي فم الغدران

    والورد يدمى بالغرام كأنه
    من حرقة الذكرى قلوب غواني

    * * *
    يا طائر الإلهام ما أسماك عن
    لهو الورى وعن الحطام الفاني

    تحيا كما تهوى الحياة مغرداً
    مترفعاً عن شهوة الأبدان

    لم تستكن للصمت ؛ لم تذعن له
    بل أنت فوق الصمت والإذعان

    هذي الطبيعة أنت شاعر حسنها
    تروي معانيها بسحر بيان

    ترجمت أسرار الطبيعة نغمة
    أبدية في صوتك الرنان

    وعزفت فلسفة الربيع قصيدة
    خضرا من الأزهار والريحان

    * * *
    هذا ربيع الحب يملي شعره
    فتناً معطرة على الأكوان

    يصبو ودنيا الحب في أفيائه
    تصبو على إشراقه الفتان

    الفن فنك يا ربيع الحب يا
    سحر الوجود وفتنة الأزمان

  • 146 سحر الربيع

    ديوان من أرض بلقيس >  سحر الربيع

    رصّع الدنيا أغاريداً وشعرا
    وتفجر يا ربيع الحب سكرا

    وافرش الأرض شعاعاً وندى
    وترقرق في الفضا سحراً وإغرا

    يا ربيع الحب لاقتك المنى
    تحتسي من جوك المسحور سحرا

    يا عروس الشعر صفق للغنا
    وترقص في ضفاف الشعر كبرا

    أسفرت دنياك للشعر كما
    أسفرت للعاشق المحروم عذرا

    فهنا الطير تغني وهنا
    جدول يذري الغنا رياً وطهرا

    وصبايا الفجر في حضن السنا
    تنثر الأفراح والإلهام نثرا

    والسهول الخضر تشدو والربا
    جوقة تجلو صبايا اللحن خضرا

    فكأن الجو عزف مسكر
    والحياة الغضة الممراح سكرى

    والرياحين شذيات الغنا
    تبعث اللحن مع الأنسام عطرا

    وكأن الروض في بهجته
    شاعر يبتكر الأنغام زهرا

    وكأن الورد في أشواكه
    مهج أذكى عليها الحب جمرا

    وكأن الفجر في زهر الربا
    قبلة عطرية الأنفاس حرا
    * * *
    يا ربيع الحب يا فجر الهوى
    ما أحيلاك وما أشذاك نشرا

    طلعة فوحا وجو شاعر
    عاطفي كله شوق وذكرى

    تبعث الدنيا وتجلو حسنها
    مثلما تجلو ليالي العرس بكرا

    وتبث الحب في الأحجار لو
    أن للأحجار أكباداً وصدرا

    أنت فجر كلما ذر الندى
    أنبتت من نوره الأغصان فجرا

    أنت ما أنت جمال سائل
    لم يدع فوق بساط الأرض شبرا

    وفتون ملهم يضفي على
    صبوات الفن إلهاماً وفكرا

    وترانيماً وفناً كله
    عبقريات توشي الأرض تبرا

    ما ربيع الحب يا شعر وما
    سحره أنت بسحر الكون أدرى

    كلما أورقت الأعشاب في
    حضنه أورقت الأرواح بشرى

    هو سر الأرض غذته السما
    وجلته فتناً بيضاً وسمرا

    ورواها الفن لحناً للهوى
    وأدارته كؤوس الزهر خمرا

    منظرُ أودعه فن السما
    من فنون الخلد والآيات سرا

  • 147 هائم

    ديوان من أرض بلقيس >  هائم

    قلبه المستهام ظمآن عاني
    يحتسي الوهم من كؤوس الأماني

    قلبه ظامىء إليك فصبي
    فيه عطر الهوى وظل التداني

    واذكري قلبه الحبيس المعنى
    واملئي الكأس من رحيق الحنان

    إنه عاشق وأنت هواه
    إنه فيك ذائب الروح فاني

    أنت في همسه مناجاة أوتا
    ر وفي صمته أرق الأغاني

    إنه في هواك يحرق بالحب
    ويدعوك من وراء الدخان

    سابح في هواك يهفو كفكر
    شاعر يرتمي وراء المعاني

    أين يلقاك أين ماتت شكاوا
    ه وجفت أصداؤه في اللسان

    إنه ظامىء إلى ريك الحا
    ني مشوق إلى الظلال الحواني

    تائه في الحنين يهوى كروح
    ضائع يسأل الدجا عن كيان

    ظامىء يشرب الحريق المدمى
    ويعاني من الظما ما يعاني

    أنت في قلبه الحياة وكل الح
    ب كل الهوى وكل الغواني

    فيك كل الجمال فيك التقى الحس
    ن وفيك التقت جميع الحسان

    لم يهب قلبه سواك ولكن
    لم يذق منك غير طعم الهوان

    فامنحيه يا واحة الحب ظلاً
    وانفضي حوله ندى الأقحوان

    واسكبي الفجر في دجاه ورفي
    في شقا حبه رفيف الجنان

    إنه هائم يعيش ويفنى
    بين جور الهوى وظلم الزمان

    ميت لم يمت كما يعرف النا
    س ولكن يموت في كل آن

  • 148 الغبار والمرائي الباطنيَّة

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  الغبار والمرائي الباطنيَّة

    ها هنا الجدران، تدمى وتفكر
    وعلى أرؤوسها تمشي، وتنظر

    بعضها يزحم بعضاً هارباً
    بعضها يقبل كالخيل ويدبر

    بعضها يمشي، ولا يمشي، يرى
    مثلما يستقرىء الأسرار، مخبر

    المرائي، باطنيات هنا
    تحجب الرئي، وفي عينيه تسفر

    يجهد الابصار، في رؤيتها
    وسوى ما ينفع التقرير، يبصر

    عجباً رغم التعري، تنطوي
    ذاتها فيها، وذات الغير تظهر

    * * *
    ما الذي شاهدت، تقتضِ مهنتي
    أن أرى سراً، فيخفى وأقدر

    المداد الأبيض السري بلا
    أي سر… ما الذي يبدي ويضمر؟

    تبذر الأوراق… لكن ما لها
    في يديك اتسخت من قبل تثمر؟

    لم تكن غير أجير، لا تخف
    إن أغبى منك، من سوف يؤجر

    من، الى، مثل ذباب يرتمي
    مثل ذكرى، لا تلاقي من تذكر

    مثل أفكار أضاعت فمها
    وتلاقيه، فتنسى أن تعبر

    لا يعي الآتي، إلى أين ومن،
    ليس يدري صادر، من أين يصدر

    * * *
    الغبار امتد سقفاً أرجلاً
    أعينا مثل الحصى، تغلي وتمطر

    ايدياً رملية دودية
    تكتب الأحلام، والريح تفسر

    * * *
    حسناً ماذا؟ هوى السقف: ابتدا
    وابتدت بعض شقوق الأرض تقمر

    ربما عاد كما كان؟ سدى
    التقى الوجه، ومرآة المبشر

    الرفاة المكرميات التقت
    بدأت من تحت جلد الموت، تزهر

    (مايو 1976)

  • 149 طيف ليلي

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  طيف ليلي

    هز كفيه، وأرجف
    لحظة، ثم توقف

    وبلا داع، تأنى
    مثل من ينوي، ويأسف

    مثل من – بالخوف – يردي
    وهو من قتلاه، أخوف

    * * *
    مرحباً شرفت لكن
    ما اسمه؟ من أين شرف؟

    فجاة جاء، كوحش
    وعلى الفور، تلطف

    عله شم عبير (القات)
    فأخضر وفوف

    وارتدى جلداً (معينياً)
    وجلباباً منصف

    وتبدى، كنديم
    كمغولي، تصوف

    كطفيلي، قديم
    خارج من جوف، مقصف

    * * *
    كان في يمناه تابوت
    وفي يسراه معزف

    لونه من كل واد
    شكله من كل متحف

    وله وجه شتائي
    وسروال مزخرف

    وقوام شبه قزم
    وقذال، نصف أهيف

    وفضول يملك الدنيا
    بدينار مزيف

    هكذا يبدو، ولكن
    سر ماضيه، مغلف

    ربما كان أميراً
    أو لسمسار موظف

    أو (لذي ريدان) سيفاً
    أو نبياً، دون مصحف

    * * *
    ربما مات مراراً
    ربما أبقى، وأتلف

    ربما أشتى بنيسان
    وفي كانون، صيف

    ربما للريح غنى
    ربما للصمت ألف

    فهو يلغو، كغبي
    ويرائي، كالمثقف

    مثل من يعني ويحكي
    غير ما يعني، محرف

    * * *
    يعرف الباب، فيدنو
    ثم ينسى، ما تعرف

    حلمه أكبر من عينيه
    من كفيه أعنف

    يركض الشك بهدبيه
    ويستلقي، كمترف

    تسعل الاشياء كالاطفال
    كالفيران تزحف

    وهو كالشباك ساه
    وكحد السيف مرهف

    راحل وهو قعيد
    طائر وهو مسلحف

    بيد، يومي بأخرى
    يرعش الذقن المنتف

    * * *
    ساعة وارتد، لكن
    وجهه عندي تخلف

    عند ذاك الركن، أقعى
    عند هذا الركن، رفرف

    في رؤى السقف، تندى
    وعلى الباب، تكثف

    ها هنا كالوعد، أغرى
    وهنا كالموت، طوف

    ها هنا مثلي، تشهى
    وهنا مثلي، تفلسف

    (مارس 1976)

  • 150 الضباب.. وشمس هذا الزمان

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  الضباب.. وشمس هذا الزمان

    يشتهي الصمت، أن يبوح فينسى
    ينتوي أن يرق، يمتد أقسى

    ينزوي خلف ركبتيه، كحبلى
    يرعش الطلق بطنها، وهي نعسى

    أي شيء تسر يا صمت؟ تعلو
    وجهه صخرتان، شهثا وملسا

    ربما لا يحس، أو ليس يدي
    وهو يغلي بالحس، ماذا أحسا

    * * *
    تشرئب الثقوب، مثل أكف
    فاقدات البنان، تشتاق لمسا

    ينبس العشب، بالسؤال كطفل
    يتهجى قحط الضاعة درسا

    قبل أن تبزغ البراعيم، ترمي
    لفتات، تخاف لمحاً وهجساً

    يحذر الميت رمسه، وجنين
    قاذف وجهه، إلى المهد رمسا

    * * *
    ما الذي يستجد؟ لا شيء يجدي
    كل شيء، يبيع وجهيه بخسا

    وجهك الداخلي، لعينيك منفى
    وجهك الخارجي، لرجليك مرسى

    أنت مثلي، بيني وبيني جدار
    وجدار بيني، وبينك أجسى

    أصبحت (عامر) جواداً (لروما)
    وجلوداً سمراً، يخبئن (فرسا)

    بعد (باذان) جاء باذان ثان
    (عبدري) سبا (يريما) و(عنسا)

    كان يسطو (جنبول) ثم توارى
    وانتفى باسمه (لذيبان) (عبسا)

    ما الذي يستجد؟ تنوي بروق
    تنهمي تنثني، من الخوف نفسا

    * * *
    يمتطي نفسه الضباب، ويأتي
    كالمسجى، يلقن الصمت همسا

    يجتوي كل معبر، يتلوى
    في عيون الكوى، رؤى جد خرسا

    * * *
    يحتذي ساعديه، عينيه يهوي
    خاسئاً يرتقي، أحط وأخسى

    كجدار ينهار، فوق جدار
    كغبار، يستنزف الريح جنسا

    يتبدى، عليه جلد الصحاري
    وطلاء، تشم فيه، (فرنسا)

    وركام من التلاوين، حتى
    لا يبقى لأي (حرباء) لبسا

    كجراد له حوافير خيل
    كملاه، من بولها تتحسا…

    * * *
    صمت ما الوقت؟ لا أرى ما أسمي
    لا الصباح ابتدى ولا الليل أمسى

    لم يعد – يا ضباب – للوقت وقت
    والمكان انمحى؟ على الريح أرسى

    أني يا ضباب، أسمع شيئاً
    اسمه موطني، يغني ويأسى

    ملء هذا الرحاب يمتد يرمي
    عنه نفساً، ويبتدي منه نفسا

    ذاك وادي (عسى) نعم كان يوماً
    وتخطى وادي (عسى) من تعسى

    أتراه؟ يحر، يرنو بعيداً
    ومناه تجتاز، عينيه حدسا

    ما الذي؟ لا تحسه ! كيف تدري؟
    ومتى كنت؟ أنت تملك حسا

    * * *
    أترى هذه العيون الدوامي
    تحت رجليك؟ سوف تنبت شمسا

    شمس هذا الزمان، من تحت تبدو
    ثم تعلو، تفجر الموت عرسا

  • 151 فراغ..

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  فراغ..

    ماذا هنا أفعله؟
    يشغلني أشغله

    أعطيه نار داخلي
    ما عنده يبذله

    يجرحني، أحسه
    يشربني، آكله

    يمتصني أذيبه
    يحرقني، أشعله

    يذهلني من عدمي
    عن عمقه، أذهله

    * * *
    ماذا هنا؟ أرفضه
    ماذا هنا؟ أقبله

    من ذا هنا يقتلني؟
    ماذا هنا أقتله؟

    لا شيء غير ميت
    وميت يحمله

    * * *
    الوقت لا يمضي ولا
    يأتي خوت أرجله

    أقدامه رؤوسه
    رؤوسه أسفله

    أمامه وراءه…
    آخره أوله

    لا ينتهي لغاية
    لأن لا بدء له

    * * *
    ماذا أقول يا هنا؟
    وما الذي أعمله؟

    ماذا؟ ومثلي ميت
    هذا الذي أسأله

    (يوليو 1975)

  • 152 ليالٍ بيروتية.. في حقائب سائح عربي

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  ليالٍ بيروتية.. في حقائب سائح عربي

    سواها، حلوة أطرى
    وهات زجاجة أخرى

    وثالثة ورابعة
    وأنت بعادتي أدرى

    ***
    لمسؤول ملايين
    أعدوا السهرة الكبرى

    لأمي للحم الناس
    من كل المدى أقرى

    مزاج السيد البرميل
    ضار، يعشق الاضرى

    فهاتوا الأغنج الأقوى
    وهاتوا الاسمن الصغرى

    لأن حقائب السلطان
    من حلواتنا أغرى

    ومن أجسادنا أملى
    فمن بجلودنا أحرى؟
    ***
    لأن بلاده جربى
    بدون إرادة، أثرى

    فأمسى الوحش، في (المبغى)
    وفي المذياع، ما أبرى

    ***
    وكانت تلبس اللحظات
    نهراً طائر المجرى

    وكان الليل يستلقي
    كسقف الحانة السهرى

    وكانت غرفتي العطشى
    بأظفار الأسى شجرا

    كعصفور بلا لون
    يجيء الحلم والذكرى

    كأشلاء من الأحجار
    تكبر، ترتدي تعرى

    كشرطيين يقتسمان
    فخذ أجيرة سكرى

    وكان السوق سيافاً
    حصاناً، من حلى كسرى

    وبحراً يمتطي مهراً
    ومهراً، يمتطي الصحرا

    وللابواب، أنفاس
    كسجن، يطبخ الأسرى

    وكانت أنجم تدنو
    تواسي الحانة الحسرى

    ***
    وشاب الليل، والسلطان
    في بوابة المسرى

    يغوص بعمق رجليه
    من اليمنى، إلى اليسرى

    ومن كبش، إلى شاة
    ومن أهنا، إلى أمرا

    لهذا ترتجيه (القدس)
    يرفع بيرق البشرى

  • 153 نار وقلب

    ديوان من أرض بلقيس >  نار وقلب

    يا ابنة الحسن والجمال المدلل
    أنت أحلى من الجمال وأجمل

    وكأن الحياة فيك ابتسام
    وكأن الخلود فيك ممثل

    كل حرف من لفظك الحلو فردوس
    ندي وسلسبيل مسلسل

    كلما قلت رف من فمك الفجر
    وغنى الربيع بالعطر واخضل

    أنت فجر معطر وربيع
    وأنا البلبل الكئيب المبلبل

    أنت في كل نابض من عروقي
    وتر عاشق ولحن مرتل

    كلما استنطقت معانيك شعري
    أرعد القلب بالنشيد وجلجل

    وانتزفت اللحون من غور أغواري
    كأني أذوب من كل مفصل

    وأغنيك والصبابات حولي
    زمر تحتسي قصيدي وتنهل

    وأناجي هواك في معرض الأو
    هام في شاطىء الظلام المسربل

    وفؤادي يحن في صدري الدامي
    كما حن في القيود المكبل

    وهواك الغضوب نار بلا نار
    وقلبي هو اللهيب المذلل

    أنت دنيا الجمال نمنمها السحر
    فأغرى بها الجمال وأذهل

    فتنة أي فتنة هز قيثا
    ري صباها ففاض بالسحر وانهل

    تسكر الكأس حين تسكرها الكأس
    وتسقي الرحيق أحلى وأفضل

    وفتون يهز شعري كما هز الن
    سيم البليل زهراً مبلل

    وألاقيك في ضميري كما لاقى ال
    فم المستهام أشهى مقبل

    في دمي من هواك حمى البراك
    ين العواتي وألف دنيا تزلزل

    وبقلبي إليك ألف عتاب
    وحوار وحين ألقاك أخجل

    أنا أهواك للجمال وللإل
    هام للفن للحوار المعسل

    والغرام الطهور أزكى معاني
    الحب. أسمى ما في الوجود وأنبل

    فانفحيني تحية وتلقي
    نغماً من جوانح الحب مرسل

  • 154 ليلة فارس الغبار

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  ليلة فارس الغبار

    مليت مملكة الجبين العالي
    فوقعت من رأسي، إلى سروالي

    كان المساء يجرني كذيوله
    وأجر خلف جنازتي، أذيالي

    أختال كالسلطان، حاشيتي الحصى
    تحتي – بلا فخر – حصان الوالي

    جيشي عفونات الأزقة تحتفي
    حولي، وراياتي خيوط سعالي

    * * *
    أهلاً، وكيف الحال شكراً أدعي
    ترف الامبر، حصافة (اللبرالي)

    أبدو كمالي، يعادي ما له
    وأفيق أسخر، بالفقير المالي

    لكنني أرمي، وراي حقيقتي
    وأجيد تمثيل المحب السالي

    * * *
    في طينة الحمى، أغيب دقائقاً
    عني وأصحو، يرتمي أمثالي

    أنسى تفاصيلي، كبدء رواية
    قبل البداية، ينتهي أبطالي

    وأعود، قدمي ورائي جبهتي
    نعلي وساقي، في مكان قذالي

    عريان يلبسني الذباب أحسني
    كالنعش، كالبئر العميق الخالي

    كسير ماخور، يجفف بعضه
    بعضاً، وينتظر النزيف التالي

    * * *
    هل كنت، أين أنا؟ أفتش لم أجد
    شخصي الجديد، ولا كياني البالي

    من أين يا جدران جئت؟ خلالها
    أمشي، وأرجلها تجوس خلالي

    كان الطريق بلا يدين، يقول لي
    خلطت يميني، حكمتي بشمالي

    لا درب غيري، منتهاي كأولي
    أنوي السؤال، يرد قبل سؤالي

    الشمس، تبحث عن جبين تزدهي
    فيه فتهوي، ترتدي أوحالي

    هل غير هذا يا طريق تقول لي؟
    أسألت؟ يمضي يحتذي أوصالي

    فأفر من فخذي إلى فخذي، ومن
    عرق إلى عرق، أجر خبالي

    * * *
    فوقي سوى رأسي، وشيء تحته
    رأسي، وفي جلدي، عجين آلي

    شيء كسقف السجن،ينفيني إلى
    غيري، ويرجعني إلى أسمالي

    * * *
    والآن هل خسرت هواتف أزمتي؟
    نامت وأسهرت الركام حيالي

    كانت، كواكب المخبرين عشيتي
    تجري ورايا، تهيء استقبالي

    وبلا عشاء بت ذاك لأنني
    بعد الغروب، لبست (امبريالي)

    * * *
    أعطيت قوت الشهر، أثمن تافه
    ليصير – أرخص ما يكون – الغالي

    أصبحت مكتشف التفاهة فاتحاً
    بعجين ثانيتين، جدب ليالِ

    * * *
    جربت قتل الوقت، لكن ها أنا
    بت القتيل، وما قتلت ملالي

    ماذا فعلت؟ أردت شغل بطالتي
    لكن أردت، وما عرفت مجالي

  • 155 فلسفة الفن

    ديوان من أرض بلقيس >  فلسفة الفن

    لا تقل ما دمع فنّي
    لا تسل ما شجو لحني

    منك أبكي وأغنيك
    فما يؤذيك مني

    سمني إن شئت نواحاً
    وإن شئت مُغني

    فأنا حيناً أعزيك
    وأحياناً أهني

    لك من حزني الأغاريد
    ومن قلبي التمني

    أنا أرضي الفن لكن
    كيف ترضى أنت عني

    كل ما يشجيك يبكيني
    ويضني ويعني

    فاستمع ما شئت واتركني
    كما شئت أغني

    * * *
    لا تلمني إن بكى قلبي
    وغناك بكايا

    لا تسلني ما طواني
    عنك في أقصى الزوايا

    ها أنا وحدي وألقا
    ك هنا بين الحنايا

    ها هنا حيث ألاقيك
    طباعاً وسجايا

    حيث تهوي قطع الظلما
    كأشلاء الضحايا

    وتطل الوحشة الخر
    سا كأجفان المنايا

    والدجى ينساب في الصمت
    كأطياف الخطايا

    والسكون الأسود الغا
    في كأعراض البغايا

    وأنا أدعوك في سري
    وأحلامي العرايا

    * * *
    يا رفيقي في طريق العمر
    في ركب الحياة

    أنت في روحيتي رو
    ح وذات ملء ذاتي

    جمعتنا وحدة العيش
    وتوحيد الممات

    عمرنا يمضي وعمر
    من وراء الموت آت

    نحن فكران تلاقينا
    على رغم الشتات

    نحن في فلسفة الفن
    كنجوى في صلاة

    أنا كأس من غنى الشو
    ق ودمع الذكريات

    فاشرب اللحن ودع في ال
    كأس دمع الموجعات

    هكذا تصبو كما شا
    ءت وتبكي أغنياتي

    * * *
    يا رفيقي هات أذنيك
    وخذ أشهى رنيني

    من شفاه الفجر أسقيـ
    ك وخمر الياسمين

    من معين الفن أرويـ
    ك ولم ينضب معيني

    لك من أناتي اللحن
    ولي وحدي أنيني

    ولك التغريد من فني
    ولي جوع حنيني

    ها أنا في عزلة الشعر
    كأشواق السجين

    حيث ألقاك هنا في خا
    طر الصمت الحزين

    في أغاني الشوق في الذكرى
    وفي الحب الدفين

    في الخيالات وفي شكوى
    الحنين المستكين

  • 156 يقظة الصحراء

    ديوان من أرض بلقيس >  يقظة الصحراء

    حي ميلاد الهدى عاماً فعاماً
    واملأ الدنيا نشيداً مستهاماً

    وامض يا شعر إلى الماضي إلى
    ملتقى الوحي وذب فيه احتراماً

    واحمل الذكرى من الماضي كما
    يحمل القلب أمانيه الجساما

    هات ردد ذكريات النور في
    فنك الأسمى ولقنها الدواما

    ذكريات تبعث المجد كما
    يبعث الحسن إلى القلب الغراما

    فارتعش يا وتر الشعر وذب
    في كئوس العبقريات مداما

    وتنقل حول مهد المصطفى
    وانشد المجد أغانيك الرخاما

    زفت البشرى معانيه كما
    زفت الأنسام أنفاس الخزاما

    وتجلى يوم ميلاد الهدى
    يملأ التاريخ آيات عظاما

    واستفاضت يقظة الصحرا على
    هجعة الأكوان بعثاً وقياماً

    وجلا للأرض أسرار السما
    وتراءى في فم الكون ابتساماً

    جل يوم بعث الله به
    أحمداً يمحو عن الأرض الظلاما

    ورأى الدنيا خصاماً فاصطفى
    أحمداً يفني من الدنيا الخصاما

    “مرسل” قد صاغه خالقه
    من معاني الرسل بدءاً وختاماً

    قد سعى – والطرق نار ودم
    يعبر السهل ويجتاز الأكاما

    وتحدى بالهدى جهد العدا
    وانتضى للصارم الباغي حساماً

    نزل الأرض فأضحت جنة
    وسماءً تحمل البدر التماما

    وأتى الدنيا فقيراً فأتت
    نحوه الدنيا وأعطته الزماما

    ويتيماً فتبنته السما
    وتبنى عطفه كل اليتامى

    ورعى الأغنام بالعدل إلى
    أن رعى في مرتع الحق الأناما

    بدوي مدّن الصحرا كما
    علم الناس إلى الحشر النظاما

    وقضى عدلاً وأعلى ملة
    ترشد الأعمى وتعمي من تعامى

    نشرت عدل التساوي في الورى
    فعلا الإنسان فيها وتسامى

    يا رسول الحق خلدت الهدى
    وتركت الظلم والبغي حطاما

    قم تجد في الكون ظلماً محدثاً
    قتل العدل وباسم العدل قاما

    وقوى تختطف العزل كما
    يخطف الصقر من الجو الحماما

    أمطر الغربُ على الشرق الشقا
    وبدعوى السلم أسقاه الحماما

    فمعاني السلم في ألفاظه
    حيل تبتكر الموت الزؤاما

    يا رسول الوحدة الكبرى ويا
    ثورة وسدت الظلم الرغاما

    خذ من الأعماق ذكرى شاعر
    وتقبلها صلاة وسلاما

  • 157 الأميرة.. وتحولات مرايا العشق

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  الأميرة.. وتحولات مرايا العشق

    كما ترين، حوِّلي
    لوِّني فمي، عمري الوجيع

    إليك يا أميرتي
    قلبي يؤجج الصقيع

    ولتجعلي، عشب دمي
    بعض شوارب الربيع

    ولتغزليني للربى
    جدائلاً من النجيع

    مدائناً، تعدو إلى
    أبواب عالم مريع

    حكاية، قاتية
    على مراتع القطيع

    خطورة سرية
    قبل حدوثها تشيع

    قصيدة بلا فم
    جنسية بلا ضجيع

    محبة فضيحة
    إدانةً، بلا شفيع

    عنقود طل في جنين
    كل نبتة يضيع

    * * *
    ما شئت مولاتي أرى
    ما تأمرين أستطيع

    فلتبدعيني، صيحة
    ولادة، موتاً فظيع

    بدءاً بلا بداية
    نبوة، بلا تبيع…

    سيفاً له، ألفا يد
    مقارعاً، بلا قريع

    طفولة، بلا صباً
    أمومة، بلا رضيع
    مسافراً، من نفسه
    في نفس غيره يميع

    شيئاً يضيع اسمه
    يعي أسامي الجميع

    من الرياح يشتري
    كل الذي لها يبيع

    جوعان يطعم الحصى
    لحماً ويأكل (الضريع)

    درباً إلى ثلاثة
    باباً إلى باب وسيع

    كما ترين، حوِّلي
    لوِّني فمي، عمري الوجيع

    (ابريل 1976)

  • 158 هذه أرضي

    ديوان من أرض بلقيس >  هذه أرضي

    زمجري بالنار يا أرض الجنوب
    والهبي بالحقد حبات القلوب

    واقذفي الحقد دخاناً ولهيب
    زمجري للثأر يا أرض الجنوب

    واركبي الموت إلى المجد السليب
    – زمجري

    واثأري يا أرض جدي وأبي
    – واثأري

    واعصفي بالغاصب المستعمر

    واملئي الروع دماءً وجراح
    إنما المجد نضال وسلاح

    ولك النصر وللعزم النجاح

    فاستعيدي كل شبر مستباح

    واركبي الهول وطيري للكفاح
    – زمجري

    أطلقيها ثورة كاللهب
    – أطلقي

    واعصفي بالغاصب المستعمر

    هذه أرضي وأرضي أبداً
    وأنا من صوتها الحر الصدى

    وهي في صوتي هتاف وندا
    سوف أشفي جرحها يوم الفدى

    فانفضي يا أرض أجدادي العدا
    – زمجري

    واثأري يا يقظة الثأر الأبي
    – واثأري

    واعصفي بالغاصب المستعمر

    واستثيري يا جراح الأبرياء

    وتقوي فالعلا للأقوياء
    وتأبي واشمخي بالكبرياء

    وأنفي سوط البغاة الأدعياء
    واقسمي بالشهداء الأوفياء
    – واقسمي

    أن أرضي لم تعد للأجنبي
    – زمجري

    زمجري بالنار يا أرض الجنوب
    – زمجري

    واعصفي بالغاصب المستعمر
    واعصفي

  • 159 من أرض بلقيس

    ديوان من أرض بلقيس >  من أرض بلقيس

    من أرض بلقيس هذا اللحن والوتر
    من جوها هذه الأنسام والسحر

    من صدرها هذه الآهات. من فمها
    هذي اللحون. ومن تاريخها الذكر

    من “السعيدة” هذي الأغنيات ومن
    ظلالها هذه الأطياف والصور

    أطيافها حول مسرى خاطري زمر
    من الترانيم تشدو حولها زمر

    من خاطر “اليمن” الخضرا ومهجتها
    هذي الأغاريد والأصداء والفكر

    هذا القصيد أغانيها ودمعتها
    وسحرها وصباها الأغيد النضر

    يكاد من طول ما غنى خمائلها
    يفوح من كل حرف جوها العطر

    يكاد من كثر ما ضمته أغصنها
    يرف من وجنتيها الورد والزهر

    كأنه من تشكي جرحها مقل
    يلح منها البكا الدامي وينحدر

    يا أمي اليمن الخضرا وفاتنتي
    منك الفتون ومني العشق والسهر

    ها أنت في كل ذراتي وملء دمي
    شعر “تعنقده” الذكرى وتعتصر

    وأنت في حضن هذا الشعر فاتنة
    تطل منه، وحيناً فيه تستتر

    وحسب شاعرها منها – إذا احتجبت
    عن اللقا – أنه يهوى ويدكر

    وأنها في مآقي شعره حلم
    وأنها في دجاه اللهو والسمر

    فلا تلم كبرياها فهي غانية
    حسنا، وطبع الحسان الكبر والخفر

    من هذه الأرض هذي الأغنيات، ومن
    رياضها هذه الأنغام تنتثر

    من هذه الأرض حيث الضوء يلثمها
    وحيث تعتنق الأنسام والشجر

    ما ذلك الشدو؟ من شاديه؟ إنهما
    من أرض بلقيس هذا اللحن والوتر

  • 160 التاريخ السري.. للجدر العتيق

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  التاريخ السري.. للجدر العتيق

    يريد أن ينهار هذا الجدار
    كي ينتهي، من خفية الانهيار

    يريد لكن، ينثني فجأة
    عن رأيه، يحسو حليب الغبار

    يهم أن يرثي، جداراً هوى
    يراه فوراً، صار ألفين دار

    عجيبة يا ريح… ماذا جرى؟
    تشابه الميلاد، والانتحار

    اختار هذا ما ترى.. من رأى
    قبلي ركاماً؟ أحسن الاختيار

    الانفجار المبتدي – عادة –
    يعطي رماداً، قد تسميه نار

    ألم تجرب؟ كلهم جربوا
    منهى التردي، أول الانفجار

    * * *

    برتد مدهوشاً، إلى جلده
    كهارب يخشى، سقوط الإزار

    كحقل دود، وسط رمانة
    كثوب لص، خارج من حصار

    يبدو كانسان، لاشواقه
    روائح الملهى، وشكل القطار

    عليه جلد ورقي له
    عشرون قرناً، تقبل الإعتصار

    كمدع – موطنه عنده
    على قميص العيد – ، احلى زرار

    * * *
    أنا هنا، اعلى الربى قامة
    يداي لا تلقى اليمين اليسار

    بل ليس لي كف لسيف، أما
    سنان (عمرو) ذاك ! أمضى الشفار

    في لحية (المريخ) ، لي مكتب
    نهد (الثريا) فوق بابي شعار

    لكني كالسهل، لا سور لي
    مفتح للفتح، والانجرار

    تصوروا، يوم اعتدى جيرتي
    انعلت وجهي، خيل حسن الجوار

    أهوى التساوي، قاطعاً كل من
    يبدو طويلاً، كي يساوي القصار

    يوم اشتكت قمع الخمار ابنتي
    انصفت، البست البنين الخمار

    وها هنا ينهي، لكي يبتدي
    يقص عن اصدائه، باختصار

    * * *
    يقعي كجنديين، عادا بلا
    نصر يبولان، دم الانتصار

    يشتاق لو يعدو، كسيارة
    لو يحمل البحر، كإحدى الجرار

    لو وجهه نعلا حصانين، لو
    ساقاه (مبغا) في قميص النهار

    لو تصبح الابحار بيدا، ولو
    عواصم الاصقاع، تمسي بحار

    يطير لكن، يرتئي نعله
    ترقيع رجليه، بماء الوقار

    لا شيء غير النعل، جذر له
    يلهي بهذا القش، ريح القرار

    * * *
    هل مت؟ يبو مت، لا إنها
    دعاية، زيف، دخان مثار

    (مسرور) تدري كيف إسكاتهم
    لا تبق حياً، صدقت (جلنار)

    تسد باب الريح، كي لا ترى
    إني دخان، من رؤى (شهريار)

    الشعب، داء الشعب تقتيله
    أشفى، ليبقى الأمن، والازدهار

    يهون حقد (الشمر) يا (كربلا)
    لو لم يكن في كفه (ذو الفقار)

    ماذا؟ اتدعو حكمتي فرصة
    للغزو؟ قل: صححت بدء المسار

    كيف ألاقي جبهة خارجي
    وفي قذالي، جبهة من شرار

    لا لم أمت جداً، أما رايتي
    خفاقة، فوق ظهور الفرار !

    حوافر المحتل، في شاربي
    لكنني أشبعت، منه الدمار

    لأنني جزءته… نصفه
    سيفي، ونصف داخلي مستشار

    وها هنا ينهي، يرى وجهه
    من منكبيه، في مرايا الفخار

    غني (أليزا) (جوليان) اخلعي
    عباءتي، ساقي أدرها، أدار

    يود لو ما بين فخذيه في
    إحدى يديه، خاتماً أو سوار

    جريدة، أخبارها عن حصى
    ينمو، وعن (ديك) تعشى (حمار)

    رواية، أبطالها عوسج
    يمشي، وأطيار تبيع المحار

    * * *
    لي جبهة من موقد (الشنفري)
    وجبهة مطبوخة، بالبخار

    في غير جلدي، أعشبت قامتي
    وكان جلدي، من شميم (العرار)

    رأسي سوى رأسي الذي كان لي
    يا سادتي بيني، وبيني قفار

    * * *
    بيني وبيني، من يسمى أنا
    فوق الأنا الثاني، أنا المستعار

    وههنا يصغي… أقلت الذي
    أعني؟ وهل أعني؟ هنا الابتكار

    * * *
    يود لو كفاه، أشهى صدى
    لمعزف، لو مقلتاه (هزار)

    لو قلبه منديل، (عرافة)
    لو أنفه، مروحة الانتظار

    يريد ما ليس يعي، يبتدي
    يعي وقد فات، أوان البذار

    الموسم الوهمي، لأغبى المنى
    يعطي – قبيل الحرث – وهم الثمار

    * * *
    ماذا أنا؟ شيء مسيخ بلا
    عرق، بلا شيء، يسمى إطار

    قد كان ينمو الطفل، واليوم لا
    ينمو صغير، كي يطول الكبار

    يعود ينهي الكأس، من بدئها
    فيبتدي قبل الشراب الخمار

    هل كنت أحكي؟ مطلقاً… من حكى
    في داخلي كان ينام الحوار

    * * *
    يريد أن ينهار، خصر الضحى
    والليل كي ينهار، هذا الجدار

    (فبراير1976)

  • 161 في الشاطئ الثاني

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  في الشاطئ الثاني

    يا وجهها في الشاطئ الثاني
    أسرجت للإبجار أحزاني

    أشرعت يا أمواج أوردتي
    وأتيت وحدي فوق أشجاني

    ولم أتيت؟ أتيت ملتمساً
    فرحي وأشعاري وإنساني

    ***
    من أين؟ لا أرجوك لا تسلي
    تدرين.. وجه الريح عنواني

    لو كان لي من أين قبل هنا
    قدرت أن التيه أنساني

    من أين ثانية وثالثة
    أضنيت بحث الرد أضناني

    من قبري الجوال في جسدي
    من لا متي من موت أزماني

    من أخبرتني عنك؟ لا أحد
    من دلني..؟ عيناك… شيطاني

    قلقي حنين العمر عفرتتي
    في البحث عن تربيتك الحاني

    عن نبض أعراقي وعن لغتي
    عن منبتي من عقم أكفاني

    أعلى أفنى هًهٌنا عطشأً
    جوعاً؟ وفي كفيك بستاني

    ***
    حان اقترابي منك… أين أنا؟
    ألشوق أقصاني وأدناني

    من أين لي يا ريح معجزة
    يا موج أين رأيت رباني؟

    يا صحبها من أين مد
    يداً يا عطرها من أين ناداني؟

    ألشاطئ اللهفان يدفعني
    وأخاف هذا المعبر القاني

    من أين يا جدلي أمد فمي
    ويدي إلى بستانك الهاني؟

    من أين؟ إن البعد قربني
    من أين؟ إن القرب أقصاني

    ***
    اليوم كان البدء يا سفري
    وغداً سألقاها وتلقاني

    فلتنتظرني حيث أنت غداً
    يا وجهها في الشاطئ الثاني

    دمشق أكتوبر 1974م

    ** ** **

  • 162 ثرثرات محموم

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  ثرثرات محموم

    كان يحكي.. يبكي.. يجيب.. ينادي
    يدعي.. يشتكي.. يصافي.. يعادي

    مرحباً(سعيداً).. خذ نور عيني
    أسكتي.. هات بندقي يا (عبادي)

    غادرت عمقها البحار وجاءت
    ركبت ظلها الرمال الحوادي

    ***
    هل تخافين أن أموت؟ حياتي
    لم تحقق شيئاً يثير افتقادي

    كنت كالآخرين، أمشط شعري
    أنتقي بزتي، أبيع كسادي

    أشتري(ربطة)، وأصحو بكاس
    وبكاس أطفي شموع سهادي

    واوالي بلا اعتقاد وأنوي
    سحق من لم يتاجروا باعتقادي

    كل هذا عمري.. وعمر كهذا
    لا يساوي.. عذاب يوم ولادي

    إسقني يا (صلاح).. زد..من دعاني؟
    يا عيال الكلاب: ردوا جوادي

    كيف أقضي ديني وليس ببيتي
    غير بيتي ومعزف غير شادي

    والذي كان والدي..صار طفلي
    من أداري عناده أو عنادي؟

    ***
    لبست قامة الرياح جبيني
    نسي الليل رجله في وسادي

    ***
    زوجت بنتها بعشرين الفاً
    باع(ناجي سعيد) (زيد الجرادي)

    كل آت مضى.. أتى كل ماض
    ضاع في كل رايح كل غادي

    (ما كفى واحد كفى اثنين)..
    قالوا أكلوني.. ويحذرون ازدرادي

    ولأني مجوف مثل غيري
    بعت وجهي لوجه مائي وزادي

    أليساري رزق اليميني.. وقالوا:
    أجود الخبز من طحين التعادي

    من سيعطي (سعداً) حساما بصيراً
    ثالث الساعدين ذيلن جيادي

    ***
    ذات يوم كانت سمرات (صنعاء)
    من نبيذ ومن زهور نوادي

    تتهادى النجوم في كل درب
    كالغواني فأين ذاك التهادي؟

    سألوا من أنا.. وصرحت باسمي
    كاملاً.. أنكروا بأني (مرادي)

    ***
    قلت (أبي).. (عنسي).. (زبيدي) أشاروا
    ألريالات نسيتي وبلادي

    أضحكتهم كتابة أسمي… وفوراً
    بيضت خضرة النقود مدادي

    ***
    عنده نعجة فأمسي مديراً..!
    نهد أنثى مؤهل غير عادي

    ألحليب الذي يسمى جلوداً
    طازجات.. أمسي سرير (ابن) هادي

    قبل بدء الزواج طلقت.. صارت
    كل زوجاتهم.. خيول رقادي

    كان يخشى أبي فسادي ويبني
    يوم عرسي رفضت.. عاش فسادي

    كنت أعتادها (غزالاً).. فاضحت
    (فاتناَ).. ودع الهوى يا فؤادي

    ***
    من أراد النجاة.. مات ليحيا
    والذي لم يمت… إلى الموت صادي

    سلحونا(شيكي) وقالوا عليكم
    وعليكم… حسب القرار القيادي

    كان(يحيى) كالتيس يعدو ويثغو
    و(مثنى) يلقى خطاباً زيادي

    وهجمنا… متنا قليلاً… أفقنا
    موتنا كان مولداً لا إرادي

    ورجعنا… وللصخور عيون
    كالصبايا وللروابي أيادي

    ***
    إن تحت القناع والوجه وجهاً
    يختفي تحت ظهره… وهو بادي

    صاحب الواديين دون تمن
    نال ألفاَ… وباع مليون وادي

    ***
    بدء ليلي حبُ، بدون عشاء
    نصف يومي هوى… وخبز معادي

    هل سأعتاد وجه غيري بوجهي؟
    زعموا… ربما أخون اعتيادي

    قلت لي: أن ذا (أكيداً) ولكن
    أي شيء مؤكد يا (حمادي)؟

    ***
    آه… ماذا أريد؟ أدري وأنسى
    ثم أنسي.. أني نسيت مرادي

    ***
    كان يحكي… وفتحتا مقلتيه
    مثل ثقبين.. في جدار رمادي

    يناير1974م
    ***

  • 163 خوف..

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  خوف..

    هذي الأكاذيب الجديدة
    موت له أيد، عديده

    تنبت أوكارا، طوابيراً
    عمارات، مديده….

    تردي…. وفوراً ترتدي
    وجه الشهيد، صبا الشهيده

    حلق المرثي، تستعير
    وتحتذي، لحم القصيده

    تهمي مؤكدة الخطوره
    وهي لا تبدو، أكيده

    غير الذي تبدي، تريد
    ولا تراها، كالمريده

    يدعونها: دعماً، مساعدة
    مبادرة، حميده

    هو حقيبة رحالة
    بين (الرشيدة) و(الرشيده)

    وعداً.. موافقة،
    مناورة، زيارات مفيده

    هبة بلا عوض.. قروضاً، ذات
    آجال، بعيده

    لكن لماذا يغدقون؟
    أشم رائحة المكيده

    وأرى مؤامرة، لها
    شكل الإخوة، والعقيده

    تدنو كمشفقة، كعاشقة،
    كقاتلة، عنيده

    ماذا أسميها؟ تبلدني،
    أساميها البليده

    وتزيد من أميتي
    هذي الإذاعة، والجريده

    هذي الدرامات التي
    تبدو بطولتها، مجيده

    أأخاف من كرم المساعد؟
    أم أخاف من (السعيده)؟

    (مارس 1976)

  • 164 ألوان من الصمت

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  ألوان من الصمت

    مثل طفل حالم يصحو ويغفو
    يرسب الصمت بعينيه ويطفو

    ينطوي خلف تلوي جلده
    كعقاب ينتوي الفتك ويعفو

    ويهمس الإنشاد.. ينسى صوته
    يتزيا بالهوى يحنو.. ويجفو

    يحتسي أنفاسه.. يرسلها
    زمراً كالنحل ترتد وتهفو

    ينحني.. يرحل في لحيته جاثياً
    ينجر.. يغبر.. ويصفو

    بعضه ينسل منه.. بعضه
    يمتطي أطراف كفيه ويقفو
    ***
    صرخة المذياع تدمي هجسه:
    قاتلوا في (قبرص) اليوم وكفوا

    (الفيتكنج) استحالوا شجراً
    هبطوا كالجمر كالعقبان خفواً

    ***
    إرتدى أبطال سيجون الحصى
    دخلوا الأعشاب كالأعشاب جفوا

    ***
    حشدت (واشنطن) الموت سدى
    ركض الأموات أخطاراً وحفوا

    أنبتت كل حصاة موكباً
    كعفاريت الربى اصطفوا وصفوا

    وثبوا كالسيل، كالسيل انثنوا
    تحت أمطار اللظى احمروا ورفوا

    ***
    قرر الأقطاب حلا حاسما..
    للمآسي لحظة، تابوا وعفوا

    استشفوا أن إقلاق الأسى
    يطلق الأطفال.. هذا ما استشفوا

    إنتهت أخبارنا فانتظروا
    واستراحوا ساعة، غنوا وزفوا

    يخلع الصمت هنا ألوانه
    يتعب التمزيق فيها ثم يرفو

    اغسطس1974م

  • 165 أصيل من الحب

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  أصيل من الحب

    قد كان لا يصحو ولا يروى
    واليوم لا يسلو ولا يهوى

    ينسى، ولكن لم يزل ذاكراً
    حبيبة، كانت له السلوى

    ***
    وكان إن مر اسمها أزهرت
    في قلبه الأشواق النجوى

    وانثالث الساعات من حلوه
    أحلام عشاق بلا مأوى

    وكانت الحلوى لطفل الهوى
    والآن.. لا خلا، ولا حلوى
    ***
    وكان يشكو إن نأت أو دنت
    لأنها تستعذب الشكوى

    كانت لديه الكل لا مثلها
    لا قبلها لا بعدها حوا

    فأصبحت واحدة لا اسمها
    أحلى ولا مجنونها أغوى

    ***
    يود أن يهوى فيخبو الهوى
    ويشتهي ينسى فلا يقوى

    فلم يعد في حبه صادقا
    وليس فيه كاذب الدعوى

    أصيل حب يستعيد الضحى
    وينطوي في الليلة العشوى

    19/2/1974م

  • 166 وجوه دخانية في مرايا الليل

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  وجوه دخانية في مرايا الليل

    الدجى يَهمي.. وهذا الحزن يَهمي
    مطراً من سُهده، يظما ويُظمي

    يتعب اللَّيل نزيفاً… وعلى
    رغمه يدمى، وينجر ويدمي

    يرتدي أشلاءه، يمشي على
    مُقلتيه حافياً، يهذي ويومي

    يرتمي فوق شظايا جلده…
    يطبخ القيح، بشدقيه ويرمي

    * * *
    أيها اللَّيل.. أنادي إنما
    هل أنادي؟ لا… أظن الصوت وهمي

    إنه صوتي… ويبدو غيره
    حين أصغي باحثاً عن وجه حلمي

    من أنا؟… أسأل شخصاً داخلي
    هل أنت أنا؟ ومن أنت؟ وما اسمي؟

    * * *
    أيها الحارس تدري مَن أنا؟
    إشتروا نومي.. طويل ليل همي

    ألانِّي حارس يا سيدي؟
    زوَّجوها ثانياً، ألمال يعمي

    مَن أنا؟.. أللَّيل يبني للرؤى
    قامة للرمح، من جلدي وعظمي

    لا تعي سكران؟ تسع ألعنت
    أول الأخبار، ما سموه رسمي

    مَن أنا؟.. صار ابن عمي تاجراً
    واشترى شيخاً ثري، بنت عمي

    هل تنام الصبح؟ سيارتها
    عبرت قدام عيني، فوق لحمي

    إصغِ لي أرجوك؟..أغرى أمها
    شيَّدتْ قصرين، من أشلاءِ هدامي

    * * *
    من أنا يا تكس؟ أفلست وما شبعوا..
    مَن مِن حماة الأمن يحمي؟

    مِن هنا، سر، ها هنا قف، رخصتي
    ما الذي حمَّلت، فتش، هات قسمي

    خمسة للقات، خمسون لهم…
    وانتهى دخلي، وأنهى السِّلُّ أُمي

    * * *
    عاجن الفرن.. أتدري؟ سنة
    وأنا أعجن أحزاني وغمِّي

    من أنا؟ كانت ترى والدتي
    ذُلَّ بعض الناس، تحت البعض حتمي

    غبت عن قصدي!… رفيقي غائب
    من ليالٍ، رأيه في الحبس (جَهمي)

    ما الذي أفعله؟، كلٌّ له
    شاغل ثانٍ، وفهم غير فهمي

    ذاخلي يسقط في خارجه
    غربتي أكبر من صوتي، وحجمي

    (نُقُمٌ) يرنو بعيداً،سيدي
    هل ترى في ضائع الأرقام، رقمي؟

    طحنت وجهي- لأني جبل
    خيلُ كِسرى، عجنته خيل نظمي

    أعشبت أرمدة الأزمان في
    مُقلتي، جلمدت شمسي ونجمي

    تذهب الريح، وتأتي وأرى
    جبهتي فيها وهذا حدُّ علمي

    مِن هنا أسأله، من ذا هنا؟
    غير ثوبٍ، فيه ما أدعوه جسمي

    مَن أنا والليلة الجرحى على
    رغمها تهمي، كما أهمي برغمي؟

    هل كفى يا أرض غيثاً، لم تعد
    تغسل الأمطار، أوجاعي وعُقمي

    إبريل 1975م

  • 167 في الغرفة الصرعى

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  في الغرفة الصرعى

    شيء بعيني جدار الحزن يلتمع
    يهم، يخبر عن شيء، ويتمنع

    يريد يصرخ، ينبي عن مفاجأة
    لكنه قبل بدء الصوت، ينقطع

    يغوص يبحث في عينيه عن فمه
    تغوص عيناه فيه، يقتفي، يدع

    عمَ يفتش؟ لا يدري، يضيع هنا
    يقوم يبحث عنه، وهو مضطجع

    يومي إلى السقف، تسترخي أنامله
    تمتد كالدود، كالأجراس تنزرع

    * * *
    من أين يا باب يأتي الرعب؟ تلمحه
    من أي زاوية، يعشوشب الوجع؟

    يمشي على فمه،هذا السكون،على
    أطراف أرجله، يهوي ويرتفع

    يصفر كالسل، يهمي من عباءته
    ينحل كالقش كالأسماك يجتمع

    كمومس، باغت البوليس مرقدها
    كمقبلين على أشلائهم، رجعوا

    كميتين، يمدون الأكف إلى
    موت جديد يمني، وهو يبتلع

    * * *
    الصمت يسقط، كالأحجار باردة
    على الزوايا، ولا يشعرن ما يقع

    تصغي إلى بعضها الجدران، واجفة
    تئن تحمر، كالقتلى وتمتقع

    * * *
    في هذه الغرفة الصرعى،أسى قلق
    يطول كالعوسج النامي ويتسع

    الحزن يحزن، من فوضى غرابته
    فيها ويفزع، من تهويشه الفزع

    (ديسمبر 1975)

  • 168 بين ضياعين

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  بين ضياعين

    كل ما عندنا يزيد ضياعا
    والذي نرتجيه ينأى امتناعا

    نتشهى غداً، يزيد ابتعاداً
    نرجع الأمس.. لا يطيق ارتجاعا

    بين يوم مضى ويم سيأتي
    نزرع الريح نبتنيها قلاعا

    والذي سوف نبتنيه يولي
    هابراً.. والذي بنينا تداعي

    ***
    نمتطي موجة إلى غير مرسى
    إن وجدنا ريحاً فقدنا الشراعا

    وإلينا جاء الشراة تباعا
    حبلت أخصب الجيوب تباعا

    لا يحس الذي اشترانا لماذا
    والذي باع ما درى كيف باعا!

    فتهاوى الذي تلقى وأعطى
    وشمخنا مستهزئين جياعا..!

    1974م

  • 169 أمسية حجرية

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  أمسية حجرية

    كغراب، يرتمي فوق جراده
    سقطت وجعي، تدلت كالوساده

    كنسيج الطحلب الصيفي نمت
    أعشبت فيها، وفي وجهي البلاده

    وعلى الجدران، والسقف ارتخت
    مثل فخذي مرأة بعد الولادة

    تحتسيني، تحتسي هادئة
    مثل من صار لديه القتل عاده

    ترتدي الانقاض والشوك على
    جيدها من اعين الموتى قلاده

    * * *
    كنت أذوي، باحثاً عن مطلع
    كان يهذي عابر، (فرحان غاده)

    سأسميه (ظفاراً) (مذحجاً)
    لو أتت أنثى أسميها (سعاده)

    هل لها، أو هل له مستقبل؟
    هل ولدنا نحن، في حضن الرغاده؟

    أمنت (سيجون) (بيروت) ابتدت
    ترتمي ترمي، بلا أدنى هواده

    نفس ذاك الدور (يحيى) قالها:
    كيف أضحى نابهاً، كير الحداده

    * * *
    كنت أصغي… يا دجى: قافية
    لمحة يعطي، حكايات معاده

    كان مخمور يدوي: من أنا
    إنني (عنترة) هاتوا القياده

    ردني (ابليس) عن أبوابه
    وثناني الشيخ، عن بيت العباده

    * * *
    كنت أفنى… كان يغزو جارة
    فاري يروي، اعاجيب الاراده

    بعد مضغ القات، – فيما يدعي –
    يغتذي (كبشاً) يعب الشاي (ساده)

    يخطف البكرين، من برجيهما
    لبطولات الهوى – طبعاً – رياده

    * * *
    حارس يبتز ما يحرسه
    ويدين الصبح (سعداً) أو (قتاده)

    راح يحكي: إنه يلقى الذي
    كابد (الفاروق) ، في عام الرماده

    يا دكاكين… ويوحي: رشوة
    في عهود المال، تزداد النكاده

    كنت أنهي الشطر… جار يبتدي
    خصمه، اشبعت للقاضي المزاده

    شاهد محترف ألبسة
    حضرة القاضي، قميصاً من زهاده

    يستوي في الدمن السمسار، من
    يلهم الهجو، ومن يغري الاشادة

    قال لي: من أنت؟ نذل إنني
    مثله مستعمر، باسم السياده

    طفل جاري كان يستسقي… أنا
    كنت أرجو، لحظة حبلى جواده

    * * *
    من هنا؟ كلب يهوْهِي، هرة
    تتنزى، منزل يشدو (حماده)

    شارع يبكي الضحايا، مكتب
    يمنح الجاني، وساماً وشهاده

    جثث تهوي، بلا فائدة
    خنجر دام، له كل الافاده

    زادت الامسية الوجعى أسى
    مثل غيري لم أزد، أنت الزياده

    أترى الصرعى؟ لهم بدء، متى؟
    ينضجون الآن، في جوف الاباده

    كنت أفنى..لم تجب، كنت على
    زعمها أزداد، نضجاً وإجاده

    (يونيه 1975)

  • 170 يوم 13حزيران

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  يوم 13حزيران

    جبينه دبابة واقفة
    أهدابه..دبابة زاحفة

    ليس له وجه.. له أوجه
    ممسوحة كالعملة التالفة

    ساقاه جنزيران.. أعراقة
    إذاعة مبحوحة راجفة

    تلغو كما تسقي الرياح الحصى
    تحمر كالجنية الراعفه

    بعد قليل.. مئتا
    مرة وعد كسكر الليلة الصائفه

    وبعد عشرين احتمالأ، بدت
    ولادة مكرورة زائفه

    حماسة صفراء معروقة
    أنشودة مسلولة واجفه

    شيء بلا لون.. بلا نكهة
    ماذا تسميه؟ اللغى الواصفة

    يا عم: دبابات.. إني أرى
    هذا انقلاب- جدتي عارفة

    نفس الذي جاء مراراً كما
    تأتي وتمضي دورة العاصفة

    وسوف يأتي.. ثم يأتي إلى
    أن تستفيق الثورة الوارفه

    ***
    لا يركب الشعب إلى فجوة
    دبابة… لا يمتطي قاذفه

    الشعب لا هثاً، صابراً
    ممتطياً أوجاعه النازفه

    يأتي.. كما تأتي سيول الربى
    نقية خلاقة جارفه

    يبرعم الشوق الحصى تحته
    والشمس في أجفانه هاتفه

    وتهجس الأعشاب في خطوة
    هجس المجاني لليد القاطفة

    ***
    يا عم: دبابات قل: لعبة
    سخيفة كاللعبة السالفة

    لكن لماذا لم تثر لفتة؟
    ولا استفزت لمحة كاشفه

    لأن من كانوا مضوا وانثنوا
    طائفة ولت بدت طائفة

    ألمنتهي أمسى هو المبتدي
    والصورة المخلوقة الخالفه

    قد يستعير العزف غير اسمه
    لكنها نفس اليد العازفه

    ***
    دبابة أخرى.. وأخرى..ولا
    ألقى رصيف نظرة خاطفة

    لم تلتفت دار.. ولا بقعة
    بدت على أمن ولا خائفة

    شيء جرى لم يستدر شارع
    ولا انجلت زاوية كاسفة

    ماذا جرى؟ لم يجر شيء هنا
    صنعاء لا فرحى.. ولا آسفة

    القات ساه.. والمقاهي على
    أكوابها محنية عاكفة

    ***
    ماذا جرى؟ لا حس عما جرى
    ولا لدية ومضة هادفة

    ماذا يعي التاريخ؟ ماذا رأى؟
    ولى بلا ذكرى.. بلا عاطفه

    1974م

  • 171 الهدهد السادس

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  الهدهد السادس

    من أين لي يا (مذحجية)
    وتر كقصتك الشجية؟

    أين انطفت عيناك؟.. اسكت
    أين جبهتك الأبية؟

    اسكت… اتبتدعين يوماً
    جبهة أعلى طرية؟

    اسكت… رجعت إلى التعقل
    لا أريد العبقرية

    أوليس فلسفة الهزيمة
    أن أموت تعقليه؟

    وهل العمالة حكمة؟
    وهل الشجاعة موسمية؟

    اسكت… ولكن لست من
    أبطال تلك المسرحية

    بعد الغروب سترغبين
    كشمسك البكر الجريه

    اسكت… لأن الجو أحجار
    حلوق بربرية

    الشعر أقوى فاعزفي
    رئتيك أو موتي شقية

    * * *

    ألصمت يعشب طلحلياً
    حمى. ذيولآ، عوسجيه

    وقرون أشباح كأبواب
    السجون العسكرية

    سقف من الحيات
    والأيدي وألوان المنية

    يطفو ويركض يمتطي
    عينيه يسقط كالمطيه

    * * *

    ماذا هنا؟.. شيء كلا شيء
    شظايا متحفية

    ألليل يبحث عن ضحى
    والصبح يبحث عن عشية

    هرب الزمان من الزمان
    خوت ثوانيه الغبية

    من وجهة الحجري يفر
    إلى شناعته الخفية

    حتى الزمان بلا زمان
    والمكان بلا قضية

    * * *

    ألتابعون بلا رؤوس
    والملوك بلا رعية

    والمستغل بلا امتياز
    والفقير بلا مزية

    * * *

    من ذا هنا:؟ (صنعا) بلا
    صنعا، وجوه أجنبيه

    متطوعون وطيعات
    أو صياء بلا وصية

    حرم من الشعر المسرح
    والعيون الفوضوية

    خبراء في عقم الإدارة
    وافدون بلا هوية

    ومسافرون بلا ودا
    ع واصلون بلا تحية

    ومؤمركون إلى العظام
    لهم وجوه فارسية

    ومؤمركات يرتدين
    قميص (ليلى العامرية)

    كتل من الإسمنت
    لابسة جلودا آدمية

    تسعون فوجاً والمسا
    فة في بدايتها القصية

    يا (هدهد) اليوم، الحمولة
    فوق طاقتك القوية

    هذي حقائبك الكبار
    تنم عن خبث الطويه

    ***
    هل جئت من سبأ؟
    وكيف رأيته؟..أضحى سبيه

    ولى، عليه عباءة…
    من أغنيات (الدودحيه)

    سقط المتاجر، والتجارة
    والمضحى، والصحية

    حتى البقاع هربن من
    أسمائهن الحميرية

    ***
    هل للقضية عكسها؟
    هل للحكاية من بقية؟

    كل الحلوق أقل من
    هذي الجبال اليحصبيه

    كل السلاح أقل من
    هذي الملايين العصية

    ***
    (صنعا) من أين الطريق؟
    إلى مجالك النقية

    وإلى بكارتك العجوز
    إلى أنوثتك الشهية

    يا زوجة السفاح والسمسار
    يا وجه السبيه

    سقطت لحى الفرسان
    والتحت المسنة والصبية

    فبراير 1974م

  • 172 ابن فلانة

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  ابن فلانة

    لا تسل من أنا… فلاسمي صلات
    بالتي أرضعته ذوب المهانة

    كيف أحكي… فلاناً أبن فلان
    ورفاقي يدعونني أبن فلانة

    إن رأؤني أبدو رصيناً أشاروا
    علمته تلك البتول!.. الرصانه

    وإذا لاحظوا قميصي جديداً
    رددوا: فوق ركبتيها خزانة

    دخلها كل ليلة نصف ألف
    أحسنوا الظن تهمة لا إدانة

    ولديها كما يقولون جيش
    دربته خبيرة في المجانة

    وهي سمسارة لكل دعي
    فوق هذا… وللعدى قهرمانة

    أعجبت سادة النقود فأعطوا
    وجدوا عندها أحط استكانة

    إن تخفوا دلت بأخزى إبانة
    حسناً.. إنها عليهم دليل

    نحن ندري… هل أبدعوا غير هذا
    وأنتزاف البلاد في كل حانه

    كان يحكي هذا…. وهذا يليه
    ويداجي هذا بخبث الرزانة

    ألف أم روت حكايات أمي
    لبنيها فرددوا في أمانة

    * * *

    بيتها أشهر البيوت جميعاً
    وله دون كل بيت حصانه

    إنني ساقط… لأن لأمي
    عند أغني الرجال أعلى مكانة

    * * *

    لا تلح لي بأسمي… فإني جبان
    حين تبدو بفضل تلك الجبانة

    يا التي يخبروني عنها كثيراً
    اتركيني… ودعت دار الإهانة

    صرت غيري… رميت باسمي ورائي
    وسأعتاد جدتي بالمرانة
    1974م فبراير

    ** ** **

  • 173 غريبان.. وكانا هما البلد

      غريبان.. وكانا هما البلد

    مَن ذلكَ الوجهُ…؟ يبدو أنَّهُ “جنديٌّ”
    لا… بل “يريميٌّ” سأدعو، جدًّا مبتعدٍ

    أظنُّهُ “مكردُ القاضي” كقامتهِ
    لا… بل “مثنى الرداعي”، “مرشد الصيدي”

    لعلَّهُ “دبعيٌّ” أصلُ والدهِ
    من “يافعَ” أمهُ من سورةِ المسدِ

    عرفتُهُ يمنيًّا في تلفتهِ
    خوفٌ… وعيناهُ تاريخٌ من الرمدِ

    من خضرةِ القاتِ في عينيهِ أسئلةٌ
    صفرٌ تبوحُ كعودٍ نصفِ متقدٍ

    رأيتُ نخلَ “المكلا” في ملامحهِ
    شممتُ عنبَ “الحشا” في جيدهِ الغيدِ

    من أينَ يا بُنيَّ؟ ولا يرنو وأسألهُ
    أدنو قليلاً: صباحَ الخيرِ يا ولدي

    ضميتهُ ملءَ صدري… إنَّهُ وطني
    يبقى اشتياقي… وذوبي الآنَ يا كبدي

    “يسعدُ صباحكَ” يا عمي أتعرفني؟
    فيكَ اعتنقتُ أنا قبلتُ منكَ يدي

    لاقتْ “بكيلا”، “حاشداً”، “عدنا”
    ما كنتُ أحلمُ أن ألقى هنا بلدي

    رأيتُ فيكَ بلادي كلها اجتمعتْ
    كيفَ ألتقي التسعةَ المليونَ في جسدٍ

    ***

    عرفتُ من أنتَ يا عمي، تلالَ “بنا”
    “عيبانَ” أثقلهُ غابَ من البردِ

    “شمسانَ” تنسى الثريا فوقَ لحيتهِ
    فاهاً وينسى ضحى رجليهِ في الزبدِ

    “بينونَ” عريانٌ يمشي ما عليهِ سوى
    قميصهِ المرمريِّ الباردِ الأبديِّ

    صخرٌ من السدِّ يجتازُ المحيطَ إلى
    ثانٍ ينادي صداهُ: من رأى عمدي؟

    ***

    ما أسمُ ابنِ أمي؟ “سعدٌ” في “تبوكَ” وفي
    “سيلانَ”، “يحيى”، وفي “غانا”، “أبوسندِ”

    وأنتَ يا عمُّ؟ في “نيجيريا”، “حسنٌ”
    وفي “الملاوي” دعوني “ناصرَ العندي”

    سافرتُ في سنةِ “الرامي” هربتُ على
    عمي غداةَ قبرنا “ناجي الأسدي”

    من بعد عامينِ من أخبارِ قتلِ أبي
    خلفَ “اللحية” في جيشٍ بلا عددٍ

    أيامَ صاحوا: قوى “الإدريسي” احتشدتْ
    وقابلوها: بجيشٍ غير محتشدِ

    رحلتُ في ذلكَ التاريخِ أذكرهُ
    كأنَّها ساعةٌ يا “سعدُ” لم تزدِ

    صباحَ قالوا: “سعودٌ” قبلَ خطبتها
    حُبلى، و”حيكانُ” لم يحبلْ ولم يلدِ

    و”الدودحية” تهمي في مراتعنا
    أغاني العارِ والأشواقِ والحسدِ

    ودعتُ أغنامي العشرينَ “محصنةً”
    حتى أعودَ… وحتى اليومَ لم أعدِ

    من ماتَ يا بُنيَّ؟ من الباقي؟ أتسألني
    فصولُ مأساتنا الطوليِّ بلا عددِ

    ***

    ماذا جرى في السنينِ الستِّ من سفري
    أخشى وقوعَ الذي ما دارَ في خلدي

    مارستَ يا عمُّ حربَ السبعِ متقداً
    تقودني فطنةٌ أغبى من الوتدِ

    كانت بلا أرجلٍ تمشي بلا نظرٍ
    كان القتالُ بلا داعٍ سوى المددِ

    وكيفَ كنتم تنوحونَ الرجال؟ بلا
    نوحٍ نموتُ كما نحيا بلا رشدِ

    فوجٌ يموتُ وننساهُ بأربعةٍ
    فلم يعدْ أحدٌ يبكي على أحدِ

    وفوقَ ذلكَ ألقي ألفَ مرتزقٍ
    في اليوم يسألني… ما لون معتقدي

    بلا اعتقادٍ… وهم مثلي بلا هدفٍ
    يا عمُّ… ما أرخصَ الإنسانَ في بلدي

    والآنَ يا بُنيَّ؟… جوابٌ لا حدودَ لهُ
    اليومَ أدجي لكي يخضرَّ وجهُ غدي

  • 174 مناضل في الفراش

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  مناضل في الفراش

    من أنت ماذا تساوي؟
    وكل ما فيك خاوي

    تحس جلدك ثلجاً
    مطيناً وهو كاوي

    تئن. تخفي ضجيجاً
    أنت الصدى وهو عاوي

    * * *

    ألداء فيك عنيد
    يقوى ولكن تقاوي

    لا تستطيع توالي
    ولا تطيق تناوي

    * * *

    وكنت تضني الدواهي
    تعيي حلوق المهاوي

    تنوي قبورك لكن
    تجتازها غير ناوي

    تدوس هولا وتدمي
    هولا عنيف المساوي

    تلوح للقبض وهماً
    وتختفي في الملاوي

    فمن رصيفين تأتي
    إلى صيفين تأوي

    تبدو بكل مكان
    تخفي بسحر سماوي

    * * *

    والآن تسطو عليهم
    وأنت وحدك ثاوي

    كسلان كالجذع تقوى
    عليك أدنى الهراوي

    لا تشتهي أي شيء
    وكل ما فيك طاوي

    تعب عشرين قرصاً
    وأنت كالأمس ذاوي

    لا الطب يعرف داء
    ولا الدواء يداوي

    * * *

    كل القلاع اللواتي
    أقلقتها في تهاوي

    فأهدأ فخطوك ماض
    والدرب مصغ وراوي

    سبتمبر1974م
    ** ** **

  • 175 شاعر.. ووطنه في غربة

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  شاعر.. ووطنه في غربة

    كان صبح الخميس أو ظهر جمعة
    أذهلتني عني عن الوقت لوعه

    دهشة الراحل الذي لم يجرب
    طعم خوف النوى ولا شوق رجعه

    حين نادت إلى الصعود فتاة
    مثل أختي بنية الصوت، ربعه

    منذ صارت مضيفة لقبوها
    (سوزنا) وأسمها الطفو لي (شلعه)

    * * *

    إن عصرية الأسامي علينا
    جلد فيل عل قوام أبن سبعه

    هل يطري لون العناوين سفراً
    ميتاً زوقته آخر طبعه

    * * *

    حان أن يقلع الجناحان… طرنا
    حفنه من حصى على صدر قلعة

    مقعدي كان وشوشات بلادي
    وجه أرضي في أدمعي ألف شمعه

    ووصلنا… قطرت مأساة أهلي
    من دم القلب دمعة بعد دمعه

    * * *

    زعموني رفعت بند التحدي
    واتخذت القتال بالحرف صنعه

    فليكن… ولأمت ثلاثين موتاً
    كلها خضت ستة هاج تسعه

    كلما ذقت رائعاً من مماتي
    رمت أقسى يداً وأعنف روعه
    * * *

    الأني يا موطني… أتجزأ
    قطعاً من هواك في كل رقعه

    نعتوني مخرباً أنت تدري
    أنها لن تكون آخر خدعه

    عرفوا أنهم أدينوا فسنوا
    للجواسيس تهمة الغير شرعه

    عندما تفسد الظروف تسمي
    كل ذكرى جميلة سوء سمعه

    يظلم الزهر في الظلام ويبدو
    مثل أصفى العيون تحت الأشعة

    * * *

    يا رحيلي هذي بلادي تغني
    داخلي تغتلي تدق بسرعة

    كنت فيها ومذ تغيبت عنها
    سكنتني من أرضها كل بقعه

    التقت في (صعده) و(المعلا)
    ألقطاعات داخلي صرن قطعه

    صرت للموطن المقيم بعيداً
    وطناً راحلاً، أفي الأمر بدعه!؟

    أحتسي موطني لظى، يحتسيني
    من فم النار جرعة إثر جرعه

    في هواه العظيم أفنى، وأفنى
    والعذاب الكبير أكبر متعه

    1973/1974م
    ** ** **

  • 176 بين المدية والذابح

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  بين المدية والذابح

    وحشة الخارج تعوي حوله
    ثم تنفيه إلى داخله

    غربة الداخل ترميه… إلى
    مائج يبحث عن ساحله

    راحل منه إلية… دربه
    شارد أضيع من راحلة

    بعضة يسأله عن بعضة
    ردة أخير من سائله

    * * *

    باحث عن قتلة يعدو على
    مدية الذبح إلى قاتلة

    يأكل الموت بقايا عمره
    ويغني في يدي آكلة

    فمه أصغر من صيحته
    عبئه أكبر من حامله

    25/9/1974م
    * * *

  • 177 صنعاء في.. طائرة

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  صنعاء في.. طائرة

    على المقعد الراحل المستقر
    تطيرين مثلي… ومثلي لهيفة

    ومثلي… أنا صرت عبد العبيد
    وأنت لكل الجواري وصيفة

    كلانا تخشبنا الأمنيات
    وتعصرنا الذكريات العنيفة

    فقدنا الخليفة… مذ باعنا
    إلى كل سوق… جنود الخلفية

    * * *

    أصنعا إلى أين..؟ أمضي أعود
    لأمضي… كأني أؤدي وظيفة

    ملكت المطارات والطائرات
    وأكلي “جراد” لأني سخيفة

    ومملكتي هودجٌ من رياح
    تروح عجولاً… وتأتي خفيفة

    أتبكين؟ لا.. لا ومن تؤسفين
    إذا أنت مقهورة أو أسيفه

    وماذا سيحدث لو تصرخين
    وتستزلين الدموع الكثيفة

    سيرنو إليك الرفيق اللصيق
    وينساك حين تمر المضيفة

    ويعطيك قرصين من أسبرين
    فتى طيب… أو عجوز لطيفة

    وقد لا يراك فتى أو عجوز
    ولا يلمح الجار تلك الضعيفة

    أتصغين..؟ لا صوت غير الضجيج
    وغير اختلاج الكؤوس المطيفة

    فقد أصبحت رؤية الباكيات
    لطول اعتياد المآسي أليفة

    * * *

    تخافين… ماذا؟ على أي شيء
    تظنين؟.. أصبحت أنت المخيفة

    فلم يبق شيء عزيز لديك
    أضعت العفاف ووجه العفيفة

    على باب “كسرى” رميت الجبين
    وأسلمت نهديك يوم “السقيفة”

    وبعت أخيراً لحى “تبعٍ”
    وأهداب “أروى” وثغر “الشريفة”

    * * *

    أتعطيك “واشنطن” اليوم وجهاً؟
    خذي.. حسناً.. جربي كل جيفة

    فقد تلفتين بهذا السقوط
    كأخبار منتحرٍ في صحيفة

    * * *

    أصنعا… ولكن متى تأنفين
    يقولون قد كنت يوما منيفة

    متى منك تمضين عجلى إلي؟
    ترين اخضرار الحياة النظيفة

    أمن قلب أغنيةٍ من دموعٍ
    ستأتين..؟ أم من حنايا قذيفة

    مايو 1974م
    ** ** **

  • 178 السفر إلى الأيام الخضر

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  السفر إلى الأيام الخضر

    يا رفاقي.. إن أحزنت أغنياتي
    فالمآسي.. حياتكم وحياتي

    إن همت أحرفي دماً فلأني
    يمني المداد… قلبي دواتي

    أمضغ القات كي أبيت حزيناً
    والقوافي تهمي أسى غير قاتي

    أنا أعطي ما تمنحون احتراقي
    فالمرارات بذركم ونباتي

    غير أني ومدية الموت عطشي
    في وريدي أشدو فألغي وفاتي

    فإذا جئت مبكياً فلأني
    جئتكم من مماتكم ومماتي

    عارياً.. ما استعرت غير جبيني
    شاحباً.. ما حملت غير سماتي

    جائعاً… من صدى (أبن علوان) خبزي
    ظامئاً من ذبول (أروى) سُقاتي

    * * *

    ربما أشتهي وأنعل خطوي
    كل قصر يومي إليك فتاتي؟

    أقسم الجد… لو أكلنا بثدي
    لقمة من يد… أكلت بناتي

    * * *

    قد تقولون ذاتي الحس… لكن
    أي شيء أحس..؟ من أين ذاتي؟

    كل هذا الركام جلد عظامي
    فإلى أين من يديه انفلاتي؟

    يحتسي من رماد عينيه لمحي
    يرتدي ظل ركبتيه التفاتي

    تحت سكينة تناءى اجتماعي
    وإلى شدقه تلاقي شتاتي

    آخر الليل… أول الصبح.. لكن
    هل أحست نهودها أمسياتي؟

    * * *

    هل أداري أحلامكم فأغني؟
    للأزاهير والليالي شواتي…

    عندما يزهر الهشيم سأدعو:
    يا كؤوس الشذى خذيني وهاتي

    ألشتاء الذي سيندى عقيقاًُ
    يبتدي موسم الورود اللواتي…

    ليس قصدي أن تيأسوا لخطاكم
    قصة من دم الصخور العواتي

    * * *

    يا رفاقي في كل مكسر غصن
    إن توالى الندى ربيع، مواتي

    يرحل النبع للرفيف ويفني
    وهو يوصي: تسنبلي يا رفاتي

    والروابي يهجسن: فيم وقوفي
    هًهُنا يا مدى… سأرمي ثباتي؟

    سوف تأتي أيامنا الخضر لكن
    كي ترانا نجيئها قبل تأتي

    أغسطس1974م
    ** ** **

  • 179 قبل الطريق

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  قبل الطريق

    قبل الطريق أبتدي
    سيري رحيل أحرفي

    أجيء قبل مولدي
    بعد مدى تخلفي

    مفتشاً عن جبهتي
    وعن عروق معزفي

    وعن عيون مربعي
    وعن نهود مصيفي

    * * *

    أصيح للربى أقفزي
    وللحدائق أزحفي

    وللضفاف أبحري
    وللبحار كفكفي

    وللغصون سافري
    وللعروق رفرفي

    وللحقول حلقي
    وللمقابر اهتفي

    وللعواصف ارقدي
    وللحجارة أعصفي

    * * *

    أحسها جميعها
    تدوي: سئمت موقفي

    مللت طول وقفتي
    وملني توقفي

    هل أبتدي تحركي؟
    تعلمي أن تعرفي

    وجربي أن ترفضي
    وحاولي أن تجرفي

    تغيري وغيري
    تجددي وفلسفي

    وأحرقي ما أخرجوا
    وألفو وألفي

    كي تولدي جديدة
    قبل الولادة أتلغي

    واستحث رحلتي
    أضيع في تقصفي

    لا خطوة تدلني
    ولا طريق يقتفي

    أمد صوتي معبراً
    وأمتطي تلهفي

    واجتلي عوالماً
    منفية وأنتفي

    محملاً جنية
    حبلى ووجها متحفي

    جلد الرصيف مئزري
    لون الرياح معطفي

    جنسيتي غرابتي
    مملكتي تطرفي

    مدينتي قصيدة
    أشعلها وأنطفي

    حبيبة تميتني
    دقائقاً وتختفي

    حريقة تشربني
    أشربها وأشتفي

    * * *

    أجس نبض نجمة
    على جبيني تنكفي

    أغيب في تمزقي
    كي يهتدي تكسفي

    أكتوبر1973م
    ** ** **

  • 180 الغزو من الداخل

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  الغزو من الداخل

    فظيع جهل ما يجري
    وأفظع منه أن تدري

    وهل تدرين يا صنعا
    من المستعمر السري

    غزاة لا أشاهدهم
    وسيف الغزو في صدري

    فقد يأتون تبغاً في
    سجائر لونها يغري

    وفي صدقات وحشي
    يؤنسن وجهة الصخري

    وفي أهداب أنثى في
    مناديل الهوى القهري

    وفي سروال أستاذ
    وتحت عمامة المقري

    وفي أقراص منع الحمل
    في أنبوبة الحبر

    وفي حرية الغثيان
    في عبثية العمر

    وفي عود احتلال الأمس
    في تشكيلة العصري

    وفي فنية الويسكي
    وفي قارورة العطر

    ويستخفون في جلدي
    وينسلون من شعري

    وفوق وجوههم وجهي
    وتحت خيالهم ظهري

    غزاة اليوم كالطاعون
    يخفي وهو يستشري

    يحجر مولد الآتي
    يوشي الحاضر المزري

    فظيع جهل ما يجري
    وأفظع منه أن تدري

    * * *

    يمانيون في المنفى
    ومنفيون في اليمن

    جنوبيون في (صنعاء)
    شماليون في (عدن)

    وكالأعمام والأخوال
    في الإصرار والوهن

    خطى (أكتوبر) انقلبت
    حزيرانية الكفن

    ترقى العار من بيع
    إلى بيع بلا ثمن

    ومن مستعمر غاز
    إلى مستعمر وطني

    لماذا نحن يا مربى
    ويا منفى بلا سكن

    بلا حلم بلا ذكرى
    بلا سلوى بلا حزن؟

    * * *

    يمانيون يا (أروى)
    ويا (سيف بن ذي يزن)

    ولكنا برغمكما
    بلا يمن بلا يمن

    بلا ماضِ بلا آت ٍ
    بلا سر بلا علن

    * * *

    أيا (صنعا) متى تأتين؟
    من تابوتك ِ العفن

    تسائلُني أتدري؟ فات
    قبل مجيئه ِ زمني

    متى آتي ألا تدري
    إلى أين انثنت سفني

    لقد عادت من الآتي
    إلى تاريخها الوثني

    فظيع جهل ما يجري
    وأفظع منه أن تدري

    * * *

    شعاري اليوم يا مولاي
    نحن نبات إخصابك

    لأن غناك أركعنا
    على أقدام أحبابك

    فألهناك قلنا: الشمس
    من أقباس أحسابك

    فنم يا (بابك الخرمي)
    على (بلقيس) يا (بابك)

    ذوائبها سرير هواك
    بعض ذيول أربابك

    وبسم الله جل الله
    نحسو كأس أنخابك
    * * *

    أمير النفط نحن يداك
    نحن أحد أنيابك

    ونحن القادة الغطسى
    إلى فضلات أكوابك

    ومسؤولون في (صنعا)
    وفراشون في بابك

    ومن دمنا على دمنا
    تموقع جيش إرهابك

    لقد جئنا نجر الشغب
    في أعتاب أعتابك

    ونأتي كلما تهوى
    نمسح نعل حجابك

    ونستجديك ألقاباً
    نتوجها بألقابك

    فمرنا كيفما شاءت
    نوايا ليل سردابك

    نعم يا سيد الأذناب
    إنا خير أذنابك

    فظيع جهل ما يجري
    وأفظع منه أن تدري

    نوفبر1973م
    ** ** **

  • 181 الوجه السبئي.. وبزوغة الجديد..

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  الوجه السبئي.. وبزوغة الجديد..

    يقولون، قبل النجوم ابتديت
    تضيء، وتجتاز، لولا، وليت

    وكنت ضحى (مارب) فاستحلت
    لكل بعيد سراجاً، وزيت

    يقولون، كنت، وكنت، وكنت
    وفي ضحوة العمر، أصبحت ميت

    ولم يبق منك، على ما حكوا
    سوى عبرة، أو بقايا صويت

    و (نونيَّة) شبَّها (دِعبل)
    وأصدأ (بائيةٍ) (للكُميت)

    ***
    ولكن متى مُتَّ؟ كنت (بُخيتاً)
    فصرت شعوباً، تسمى (بخيت)

    لا اسمك امتد فيهم، رأوك
    هناك ابتديت، وفيك انتهيت

    ***
    فأين ألاقيك هذا الزمان
    وفي أي حقل؟ وفي أي بيت؟

    ألاقيك، أرصفة في (الرياض)
    وأوراق مزرعة في (الكويت)

    ومكنسة في رمال الخليج
    وشت عن يديك، وأنت اختفيت

    وإسفلت أسواق مستعمر
    أضأت مسافاتها، وانطفيت

    ورويتها من عصير الجبين
    وأنت كصحرائها، ما ارتويت

    ***
    فكنت هنالك، سر الحضور
    و(شيكاً) هنا، كل فصلين (كيت)

    بريداً: لنا شجن، كيف (سعد)
    و(أروى)؟ وهل طال قرناً(سُبيت)
    ***
    ولكن متى مت، ينبي العبير
    على ساعديك، وعن ما ابتنيت

    وما دمت تبني، وتهدي سواك
    سيحكمون، منك إليك اهتديت

    ومن تجربات النهايات، جئت
    وليداً، وقبل البزوغ انتقيت

    أمثل الربيع، لبست المغيب
    وأنضر من كل آت أتيت

    (سبتمبر 1976)

  • 182 في وجه الغزوة الثالثة

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  في وجه الغزوة الثالثة

    حسناً… إنما المهمة صعبه
    فليكن… ولنمت بكل محبه

    يصبح الموت موطناً..حين يمسي
    وطن أنت منه، أوحش غربه

    حين تمسي من هضبة بعض صخر
    وهي تنسى، أن اسمها كان هضبه

    فلتصلب عظامنا الأرض، بدري
    كل وحش… أن الفريسة صلبه

    ولنكن للحمى الذي سوف يأتي
    من أخاديدنا… جذوراً وتربه

    مبدعات هي الولادات… لكن
    موجعات… حقيقة غير عذبه

    ***
    ولماذا لا تبلع الصوت؟.. عفواً
    من توقى إرهابهم، زاد رهبه

    كيف نستعجل الرصاص ! ونخشى
    بعد هذا، نباح كلبٍ وكلبه

    هل يرد السيول وحل السواقي؟
    هل تدمي قوادم الريح، ضربه؟

    أنت من موطن يريد… ينادي
    من دم القلب، للمهمات شعبه

    ***
    اتفقنا… ماذا هناك؟ جدار
    بل جبين، عليه شيء كقبه

    ربما (هرة) تلاحق (فاراً)
    ربما كان طائراً خلف حبه

    إنما هل يرى التفاهات حي؟
    تلتقي أحدث الخطورات قربه

    هل ترى من هناك؟ غزواً يقوي
    قبضتيه، يحد مليون حربه

    يحتذي (البنكنوت) يومي اليه
    وعليه من البراميل جبه

    أنه ذلك الذي جاء يوماً
    والى اليوم، فوقنا منه سبه

    ***
    قبل عام واربعين اعتنقنا
    فوق (أبهى) عناق غير الاحبه

    والتقينا به (بنجران) حيناً
    والتقينا بقلب (جيزان) حقبه

    والتقينا على (الوديعة) يوماً
    والمنايا على الرؤوس مكبه

    جاء ذلك البقاع… خضنا، هربنا
    وهي تعدو وراءنا مشرئيه

    إنها بعض لحمنا، تتلوى
    تحت رجليه، كالخيول المخبه

    في حشاها، منا بذور حبالى
    وجذور وردية النبض خصبه

    ***
    ما له لا يكر كالأمس؟ أضحت
    بين من فوقنا، ونعليه صحبه

    إنهم يطبخوننا، كي يذوفوا
    عندما ينضجوننا، شر وجبه

    خصمنا اليوم غيره الأمس طبعاً
    البراميل أمركت (شيخ ضبه)

    عنده اليوم قاذفات ونفط
    عندنا موطن، يرى اليوم دربه

    عنده اليوم خبرة الموت أعلى
    عندنا الآن، مهنة الموت لعبه

    صار أغنى، صرنا نرى باحتقار
    ثروة المعتدي، كسروال (قحبه)

    صار أقوى… فكيف نقوى عليه
    وهو آت؟ نمارس الموت رغبه

    وندمي التلال، تغلي فيمضي
    كل تلٍ دامٍ، بألفين ركبه

    ويجد الحصى القتال، ويدري
    كل صخر، أن الشجاعة دربه

    يصعب الثائر المضحي ويقوى
    حين يدري، أن المهمة صعبه

    (فبراير 1975)

  • 183 الآتون من الأزمة

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  الآتون من الأزمة

    يا حزانى.. يا جميع الطيبين
    هذه الإخبار… من دار اليقين

    قرروا الليلة… أن يتجروا
    بالعشايا الصفر… بالصبح الحزين

    فافتحوا أبوابكم، واختزنوا
    من شعاع الشمس، ما يكفي سنين

    وقعوا مشروع تقنين الهوى
    بالبطاقات، لكل العاشقين

    ما ألفتم مثلهم أن تعشقوا
    خدر الدفء، لكم عشق ثمين

    ***
    قرروا بيع الأماني والرؤى
    في القناني، رفعوا سعر الحنين

    فتحوا بنكين للنوم، بنوا
    مصنعاً، يطبخ جوع الكادحين

    إنكم أجدر بالسهد الذي
    يعد الفجر بوصل الثائرين

    ***
    بدأوا تجفيف شطآن الأسى
    كي يبيعوها، كأكياس الطحين

    علوا الإمراض… أعلوا سعرها
    كي يصير الطب، سمساراً أمين

    حسناً… تجويعكم… تعطيشكم
    إنما الخوف، على الوحش السمين

    ***
    شيدوا للأمن، سجناً راقياً
    تستوي السكين فيه والطعين

    إن مجانية الموت على
    رأيهم حق لكل العالمين

    أزمة النفط، لها ما بعدها
    إنكم في عهد، (تجار اليمين)

    فا اسبقوهم يا حزانى، وارفعوا
    علم الإصرار وردي الجبين

    واحرسوا الأجواء، منهم قبل أن
    يعلنوها، أزمة في الاوكسحين

    ***
    إنهم أقسى وأدرى، إنما
    جربوا، معرفة السر الكمين

    عندما تدرون، من بائعكم
    يسقط الشاري، وسوق البائعين

    عندما تدرون من جلادكم
    يحرق الشوك، ويندى الياسمين

    عندما تأتون في صحو الضحى
    تبلع الأنقاض، كل المخبرين

    إنكم آتون، في أعينكم
    قدر غاف، وتاريخ جنين

    (نوفمبر 1974)

  • 184 مسافرة بلا مهمة.. ورقة من التاريخ

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  مسافرة بلا مهمة.. ورقة من التاريخ

    يا رؤى الليل.. يا عيونَ الظهيرةْ
    هل رأيتُنَّ موطني والعَشيرهْ؟

    هل رأيتُنَّ يحصباً أو عسيراً؟
    كان عندي هناكَ أهلٌ وجيرَهْ

    ودوالٍ تشقَرُّ فيها الليّالي
    ويمدُّ الضُّحى عليها سريرَهْ

    وروابٍ عيونُهُنَّ شموسٌ
    وعليهِنَّ كلُّ نجمٍ ضفيرَهْ

    وسفوحٌ تهمي ثُغاءً وحباً
    وحقولٌ تروي نبوغَ الحظيرَهْ

    وبيوتٌ ينسى الضيوُف لديها
    قلقَ الدارِ.. وانتظارَ المديرَهْ

    ***
    يا رؤى، يا نجومُ.. أين بلادي؟
    لي بلادٌ كانت بشبه الجزيره

    أخبروا أنها تجلّتْ عروساً
    وامتطَتْ هُدهداً، وطارت أسيرهْ

    وإلى أينَ يا نجومُ..؟ فتومي
    ما عرفنا – يا أختُ – بدء المسيرهْ

    من أنا يا مدى..؟ وأنكرُ صوتي
    ويعبُّ السّفارُ وجهَ السفيرهْ

    مَن أشاروا عليَّ كانوا غباءً
    ليتُهمْ موضعي وكنتُ المشيرهْ

    كيفَ اختارُ.. كيف؟ ليس أمامي
    غيرُ دربٍ، فليس في الأمرِ حيرَهْ

    رحلَتْ مثلما يحثُّ سُراهُ
    موكبُ الريح في الليالي المطيرَهْ

    وارتدى (الفار) ناهديها وأنست
    هجرةُ المنحنى خطاها الأخيرَهْ

    ***
    ورووا: أشأمَتْ على غير قصدٍ
    ثمّ أمستْ على (دمشقَ) أميرَهْ

    قلعتي – يا شامُ – ريحٌ.. وريحٌ
    زرعتني هنا.. كروماً عصيرة

    وبرغمي نزلتُ غيرَ مكاني
    مثلما تلتقي العظامُ النثيرَهْ

    وبلا موسمٍ تنامت وحيتْ
    بالرياحين والكؤوس النضيرةْ

    (وسقتْ من أتى البريص إليها
    بردى.. خمرةً، ونعمى وفيرَهْ)

    وعلَتْ جبهةُ (الخورنَق)تاجا
    يا (سنمار) أيّ عقُبى مثُيرَهْ؟!

    وهَمَتْ كالنجومِ سعداً ونحساً
    وعطايا وحشيةً ومُجيرَهْ

    (أنتَ كالليلِ مُدركي من أمامي
    وورائي.. كل النواحي ضريرَهْ)

    وحكَوْا: انها ثياب سواها
    جملّتْها.. وأنها مستيعرهْ

    فرأوها وصيفةً عندَ (روما)
    ورأوْها في باب (كسري) خفيره
    وبعيراً لبنتِ (باذانَ) حيناً
    وأواناً.. تحتَ (النجاشي) بعيرهْ

    عندما أحرقتْ (بنجرانَ) غزواً
    كان ينوي.. صارت رماد الجزيره

    أطفأت بالثقاب مدَّ جحيم
    أتراها ملومةً أم عذيرَهْ..؟

    فتهاوت حصى وطارتْ عيوناً
    هربَتْ من وجوهها مستجيرَهْ

    وإلى أينَ ثانياً يا منافي
    والإجابات كالسؤالِ مريرَهْ؟

    ***
    نزلتْ (يثرباً) هشيماً فكانت
    بالعناقيد والرفيف بشيرةْ

    فتناغى النخيلُ من أينَ جاءتْ
    هذه الكرمةُ العجوزُ النكيرة؟

    جئتُ يا عمُّ من جدوري أرَجَى
    تربةً من رمدا حزني قريرهْ

    ***
    وتجلت في ذلك القفر دُوراً
    وقطوفاً تومي بأيد منيرهْ

    ونخيلاً من السيّوف المواضي
    وسيوفاً من القوافي الجهيرهْ

    وارتمت في (حُرى) طريقاً وكهفاً
    ثم أضحتْ منذورةً ونذيرهْ

    ومُصلّى، وخندقاً، وحصوناً
    ونبياً، وسورةً مستطيرةْ

    ***
    وليالٍ مضتْ وجاءت ليالٍ
    وانقضتْ عسرةٌ وجاءتْ عسيرةْ

    فانتضتْ في يد (السقيفه) (سعداً)
    أكبرُ القومِ.. للأمورِ الكبيرةْ

    ***
    يا قريشُ اذكري نمتنا جميعاً
    صحبةٌ سمحةٌ وقربى أثيرهْ

    فلك السبقُ والجبينُ المحلّى
    وأنا الجبهةُ الشموخُ النصيره

    أنتِ أمّارةٌ.. أنا – ثم قالوا:
    سكتتْ قبلَ أن تقولَ – وزيرهْ

    ***
    دهشةُ البدِ ضيّعتْ منْ خطاها
    أولَ الدربِ وهي حيرى حسيرهْ

    وجهُها غاصَ في غبارِ المرايا
    واسمُها ضاعَ في الأماسي الغفيرةْ

    أينَ (سعدٌ) قالوا: رماهُ عشاءً
    ماردُ من (قُبا) يسمى (بجيرَهْ)

    وحكَوْا: أنها استعارتْ وجوهاً
    خبأتْ تحتها الوجوهَ الكسيرَهْ

    ***
    وإلى أين ثالثاً..؟ هل لسيري
    وانثنائي مهمة بي جديره؟

    ًأصبحَ الصارمُ اليماني يكفّي
    (مِروَداً) في يدي فتاةٍ غريرَهْ

    وطغتْ ردّةٌ فعادتْ نبيّاً
    ونخيلاً منَ السيوفِ الشهيرهْ

    ***
    وإلى أين رابعاَ..؟ لقتال
    جنحت خيله وشبت نفيره

    من رآني خضت الفتوحات لكن
    عدت منها إحدى السبايا الطيريره

    وإلى أين خامساً.. يا قوافي؟
    هاجر الحب والروابي الخضيره

    فأتت ثانياً (دمشق) غراما
    قمري الجبين باكي السريره

    ***
    قصر (أم البنين) هذا عليه
    – حسبما أخبرت – سمات كثيره

    جربت أعسر الفتوح خيولي
    فلأ جرب هذي الفتوح اليسيره

    لم أجد (روضه) فأدركت أزهى
    لعبة حلوة.. ولكن خطيره

    وعلى موعد رقت في ثوان
    كتف القصر بالهوى مستنيره

    فتن فوق ما يظن التمني
    غرفة فوق وصفها بالوثيره

    لحظة التوى السرير ضريحاً
    خشبياً يموت.. يطوي زفيره

    إيه (وضاح) دونك البئر فانزل
    قطعة دون وصفها بالحقيره

    ولهت (ديدمونة) في علاها
    (وعطيل) الهوى صريع الحفيره

    هكذا أخبروا.. لأن بلادي
    خنجر الآخرين وهي العقيره

    ***
    ما الذي جد؟ أعول الثأر حتى
    ليس يدري قبيله ودبيره

    فارتقى (هاشم) و(مروان) ولي
    وهي ملغية الحساب.. هجيره

    من أنا..؟ وانجلت لها من بعيد
    لوز (همدان) كالنجوم الصغيره

    ذكرت أن موطناً كان فيها
    نسيت بدأه.. وتنسى مصيره

    فانثنت (هاديا) وقالت ترابي
    – يا كنوز الرشيد – اغلى دخيره

    ***
    حقبة… والتوت ربى من أفاع
    غادرات وهي الضحايا الغديرة

    توجت.. أسقطت على غير هدي
    وأنتقت دون رؤية أو بصيره

    فانتهت فاطيمة وهي (أروى)
    ظاهراً.. خلفه سجل وسيره

    وتسمت (بالقرمطي) ولكن
    أنقصتها الممارسات القديره

    فنفت وادعت.. كما شاء داع
    لبست وجهها…وأخفت ضميره

    وأسرت قدسا وأبدت شعاراً
    خلفه – لو علمت – ألف شعيره

    واستحرت خلف (النجاحي) وأدمى
    في رباها خيوله وحميره

    ***
    ثم صارت (مهدية) (ورسولا)
    نزلت وادياً أضاعت شفيره

    فأقامت في كل صقع إماما
    هيأت نعشه وحاكت حريره

    وتساقت دماَ وشوقاً إليه
    وهي أظما إلى المياه النميره

    ***
    من أتى..؟ عاصف من الترك طاغ
    فلأمزق حلوقه وهديره

    إنه يقذف السعير المدوي
    فلأردد إلى حشاه سعيره

    وأعدت له القبور إلى أن
    دفنت عهده أجدت نظيره

    ***
    وتراخى عهد عثير الليالي
    وارتخت تحت ركبتيه عثيره

    وبلا يقظة أفاقت ومدت
    (حزيزاً) شعلة إلى (ضبر خيره)

    ***
    وهناك انطفت وأطفت وقالوا:
    خبزت للخلود أشهى فطيره

    وحكوا: أنها أرادت.. ولكن
    جيدها المنحني قد اعتاد نيره

    وطوت أربعاً وعشراً، مناها
    مسرعات لكن خطاها قصيره

    ***
    ربما تخدع البروق عيوني
    ربما تحتها غيوث غزيره

    أي شيء أريد؟ ما عدت أغفو
    أقلق العصر مرقدي وشخيره

    ***
    هنا أنهت الإمامات، هبت
    من أساها تقود أبهى مسيره

    هل (أيلول) مولداً وربيعاً
    لم تزل تحمل الفصول عبيره

    وقلاعاً تثني المغيرين صرعى
    وتلالا مججات مغيره

    ***
    ثم ماذا أسمت (سعيداً) (نبيلاً)
    ودعت (شعلة) (هدى) أو (سميره)

    غيرت شعر جلدها وهي لما
    تتغير ول تغير وتيره

    فترة واجتلت قناعا يحلي
    جبهات إلى القفا مستديره

    أصبحت أطوع المطايا ولكن
    بالتواء الدروب ليست خبيره

    ***
    فلأسافر كعادتي كل قفر
    ذبت في نبته سكنت صفيره

    ورمادي خلفي يعد رجوعي
    يعجن الريح باحثاً عن خميره

    ***
    رحل النبع من جذوري فهيا
    يا هشيم الغصون نتبع خريره

    وإلى أين – يا منافي.. أخيراً..؟
    وتشظت في كل منفى أجيره

    هكذا ما حرى لأن بلادي
    ثروة الآخرين، وهي الفقيره

    ***
    يوليو 1973م

  • 185 أحزان وإصرار

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  أحزان وإصرار

    شوطُنا فوقَ احتمالِ الاحتمالْ
    فوقَ صبرِ الصبرِ.. لكن لا انخذالْ

    نغتلي.. نبكي.. على من سقطوا
    إنما نمضي لإتمام المَجالْ

    دمُنا يهمي على أوتارنا
    ونغنّي للأماني بانفعالْ

    مُرةٌ أحزانُنا.. لكنها-
    يا عذاب الصبرِ – أحزانُ الرجالْ

    نبلعُ الأحجار.. ندمى إنما
    نعزفُ الأشواق.. نشدو للجمالْ

    ندفنُ الأحبابَ.. نأسى إنما
    نتحدّى.. نحتذي وجهَ المحالْ

    * * *
    مذْ بدأنا الشوطَ.. جوهرنا الحصَى
    بالدمِ الغالي وفردسنا الرمالْ

    وإلى أينَ…؟ عزفنا المبتدى
    والمسافاتُ – كما ندري – طوالْ

    وكنيسانَ انطلقنا في الذرُّى
    نسفحُ الطيبَ يميناً وشمالْ

    نبتني لليمن المنشود من
    سُهُدنا جسراً وندعوهُ: تعالْ

    * * *
    وانزرعنا تحتَ أمطار الفناءْ
    شجراً ملء المدى.. أعيْا الزوالْ

    شجراً يحضنُ أعماقَ الثرى
    ويُعير الريحَ أطرافَ الظِّلالْ

    واتقدنا في حشى الأرضِ هوىً
    وتحوّلنا حقولاً.. وتلالْ

    مشمشاً.. بُناً.. وروداً.. وندىً
    وربيعاً.. ومصيفاً وغلال

    نحن هذي الأرض.. فيها نلتظي
    وهيَ فينا عنفوانٌ واقتتال

    من روابي لحمنا هذي الربا
    من ربا أعظمنا هذي الجبالْ

    * * *

    ليس ذا بدء التلاقي بالردى
    قد عشقناه وأضنانا وصِالْ

    وانتقى منْ دمنا عمَّتَهُ
    واتخذنا وجهَهُ الناريْ نِعالْ

    نعرفُ الموتَ الذي يعرفُنا
    مَسّنا قَتْلاَ.. ودسناهُ قتالْ

    وتقحمنا الدوّاهي صورَاً
    أكلتْ منّا.. أكلناها نضالْ

    موتُ بعضِ الشّب يُحيي كلّهُ
    إنّ بعض النقص روح الاكتمالْ

    * * *

    هاهنا بعضُ النجومِ انطفأت
    كي تزيدَ الأنجمُ الأخرى اشتعالْ

    تفقدُ الأشجار منْ أغصانها
    ثمّ تزدادُ اخضراراً واخضلالْ

    إنما.. يا موتُ.. هل تدري متى
    ترتخي فوقَ سريرٍ من مَلالْ؟

    في حنايانا سؤالٌ.. ما لهُ
    من مجيب.. وهو يغلي في اتصالْ

    ولماذا ينطفي أحبابُنا
    قبلَ أن يستنفذَ الزيتَ الذبالْ؟

    ثمّ ننسى الحزنَ بالحزن ومَنْ
    يا ضياع الردّ – ينسينا السؤالْ..؟

    مايو1973م

  • 186 من بلادي عليها

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  من بلادي عليها

    قلْ لها.. قبلَ أن تعضَّ يديها
    هل غرامُ الذئاب يحلو لديها؟

    وهي ليستْ شاةٌ.. ولكن لماذا
    تتوالى هذي الهدايا إليها؟

    مقلتاها أظما من الرملِ…. ماذا
    يرشفُ المرتوونَ من مقلتيها
    ***
    عشُ هذا الزمان يخلع وجهاً
    ويغطي وجهاً.. ويبُدي وجيها

    إنهم عاشقونَ.. فليخدعوها
    لن يلاقوا أعزَّ من جانبيها

    تحتسي منهمُ الجنيهات لكنْ
    لا ترى عشقَهُمْ يساوي الجنُيها

    تمتطي كفُّها الهدايا.. ولكنْ
    كلّ مُهدٍ لا يمتطي منكبيها

    فهي أشقى من عاشقيها وأقوى
    غيرَ أنّي أخافُ منها عليها

    فبراير 1974م

  • 187 سندباد يمني في مقعد التحقيق

    ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل >  سندباد يمني في مقعد التحقيق

    كما شئت فتش… أين اخفي حقائبي
    اتسألني من أنت؟.. اعرف واجبي

    أجب، لا تحاول، عمرك، الاسم كاملاً
    ثلاثون تقربياً.. (مثنى الشواجي)

    نعم، أين كنت الأمس؟ كنت بمرقدي
    وجمجمتي في السجن في السوق شاربي

    رحلت إذن، فيما الرحيل؟ اظنه
    جديداً، أنا فيه طريقي وصاحي

    الى أين؟ من شعب لثان بداخلي
    متى سوف آتي ! حين تمضي رغائبي

    جوازاً سياحياً حملت؟.. جنازة
    حملت بجلدي، فوق ايدي رواسبي

    … من الضفة الأولى، رحلت مهدما
    الى الضفة الاخرى، حملت هرائبي

    هراء غريب لا أعيه… ولا أنا
    متى سوف تدري؟ حين أنسى غرائبي

    تحديت بالأمس الحكرمة، مجرم
    رهنت لدى الخباز، أمس جواربي

    من الكاتب الأدنى إليك؟ ذكرته
    لديه كما يبدو، كتابي وكاتبي

    لدى من؟ لدى الخمار، يكتب عنده
    حسابي، ومنهى الشهر، يبتز راتبي

    قرأت له شيئاً؟ كؤوساً كثيرة
    وضيعت أجافني، لديه وحاجبي

    قرأت – كما يحكون عنك – قصائدا
    مهربة… بل كنت أول هاربي

    أما كنت يوماً طالباً؟… كنت يا أخي
    وقد كان أستاذ التلاميذ، طالبي

    قرأت كتاباً، صرت بعده
    حمار اًو حماراً لا أرى حجم راكبي

    ***
    أحبيت؟ لا بل مت حباً… من التي؟
    أحببت حتى لا اعي، من حبائبي

    وكم مت مرات؟… كثيراً كعادتي
    تموت وتحيا؟ تلك إحدى مصائبي

    ***
    وماذا عن الثوار؟ حتماً عرفتهم !
    نعم، حاسبوا عني، تغدوا بجانبي

    وماذا تحدثتم؟ طلبت سجارة
    أظن وكبريتاً.. بدوا من أقاربي

    شكونا غلا الخبز… قلنا ستنجلي
    ذكرنا قليلاً… موت (سعدان ماربي)

    وماذا؟ وأنسانا الحكايات منشد
    (إذا لم يسالمك الزمان فحارب)

    وحين خرجتم، أين خبَّأتهم، بلا
    مغالطة؟ خبأتهم، في ذوائبي

    لدينا ملف عنك… شكراً لأنكم
    تصونون، ما أهملته من تجاربي

    لقد كنت أمياً حماراً وفجأة…
    ظهرت اديباً… مذ طبختم مآدبي

    خذوه… خذوني لن تزيدوا مرارتي
    دعوه… دعوني لن تزيدوا متاعبي

    (يوليو 1975)

  • 188 أغنية من خشب

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  أغنية من خشب

    ل ماذا العدوُّ القصيّ اقتربْ؟
    لأن القريبَ الحبيبَ اغتربْ

    لأن الفراغَ اشتهى الامتلاءَ
    بشيء فجاء سوى المرتقبْ

    لأنّ الملقِّن واللاعبين
    ونظّارةَ العرضِ هُم مَن كتبْ

    لماذا استشاط زحامُ الرماد؟
    تذكّرَ أعراقَهُ فاضطربْ

    لأن “أبا لهبٍ” لم يمُتْ
    وكلّ الذي ماتَ ضوءُ اللهبْ

    فقامَ الدخانُ مكانَ الضياء
    لهُ ألفُ رأسٍ وألفا ذنَبْ

    ***
    لأنّ الرياحَ اشترتْ أوجُهاً
    رجاليةً والغبارَ انتخَبْ

    أضاعتْ “أزالٌ” بنيها غدَتْ
    لكلّ دَعيٍّ كأمٍ وأبْ

    وأقعتْ، لها قلبُ فاشيّةٍ
    ووجه عليه سماتُ العرَبْ

    ***
    فهل تلكَ صنعا؟ يفرُّ اسمُها
    أمامَ التحديْ،. ويعوي النّسَبْ

    وراءَ الستارِ الظفاري عيونٌ
    صليبيّةٌ وفمٌ مكتسَبْ

    عجوزٌ تئنُّ بعصر الجليد
    وتلبسُ آخرَ ما يُجتلبْ

    ***
    لماذا الذي كان ما زالَ يأتي؟
    لأنّ الذي سوفَ يأتي ذهبْ

    لأنَّ الوجوهَ استحالَتْ ظهوراً
    تفتّشُ عن لونها المغتصَبْ

    لأنّ المغني أحَبْ كثيراً
    كثيراً، ولم يَدرِ ماذا أحَبْ

    ***
    لماذا تُمنّي الظروفُ الحنينَ
    فتغري وتعرض غيرَ الطلبْ؟

    ***
    تغلُّ العواسجُ في كلّ آنٍ
    وفي كلِّ عامٍ يغلُّ العنبْ

    لماذا ، لماذا ركامٌ يمرُّ
    ركامٌ يلي دون أدنى سببْ؟!

    ويستنفز الغضبُ الحمحمات
    قليلاً، ويعتادُ يعيا الغضبْ

    ويحصي الطريق.. جدارٌ مشى
    جدارٌ سيمشي، جدارٌ هرَبْ

    ولا شيء غيرُ جدارٍ يقومُ
    بوجهي.. وثان يعدُّ الركبْ

    وتحكي0 أعاجيب مَن أدبروا
    وجاؤوا – شبابيك (بئر العزَبْ)

    ولم يمضِ شيءٌّ يسمّى غريباً
    ولم يأتِ شيءٌ يسمّى عجبْ

    لأن الصباح دجى، والدُّجى
    ضُحىً، ليس يدري لماذا غرَبْ

    فلا الصدقُ يبدو كصدقٍ ولا
    أجاد أكاذيبهُ مَنْ كذَبْ

    ***
    لماذا؟ ! ويمحو السؤالُ السؤالَ
    وينسى الجوابُ اسمَهُ واللّقبْ

    ويُضني المغنّي يديهْ وفاهُ
    وشيءٌ يجلمدُ حسَّ الطرَبْ

    فتمضي القواربُ مقلوبةً
    وتأتي وينسى المحيطُ الصخَبْ

    ويصحو الغرامُ يرى أنّهُ
    على ظهرِ أغنيةٍ من خشَبْ

    فبراير 4791م

  • 189 يداها

    ديوان السفر إلى أيام الخضر >  يداها

    مثلما يبتدئُ البيتُ المقفّى
    رحلةً غيميةً تبدو وتخفى

    مثلما يلمسُ منقارُ السنى
    سَحَراً أرعشَ عينيهِ وأغفَى

    هكذا أحْسُو يديكِ إصبعاً
    إصبعاً أطمعُ لو جاوَزْنَ ألفا

    مثلَ عنقودين أعيا المُجتني
    أيَّ حبّاتهما أحلى وأصفى

    هذه أملى، وأطرى أختُها
    تلك أشهى، هذه للقلبِ أشفى

    هذه أخصبُ نضجاً إنني
    ضعتُ بين العشرِ لا أملك وصفا
    ***
    حلوةٌ تُغري بأحلى، كلها
    هتفتْ كلني وصدّتْ وهي لهفى

    تلكَ أصبى، تلك أنقى إنما
    لم أفكرْ أن في البستان أجفى

    أنتَ من أينَ؟ – كنبظي وتَرٍ
    ودنتْ شيئاً – أنا من كلّ منفى

    صمتَتْ بعدَ سؤالٍ قرأتْ
    من صداهُ.. قصّتي حرفاً فحرفا
    دمشق 1974م

  • 5 يوم المفاجأة

    ديوان في طريق الفجر >  يوم المفاجأة

    جمالٌ! أيأتي؟ أجل! ربَّما
    وتستفسر الأمنيات السّما

    أيأتي؟ ويرنو السؤال الكبير
    يزغرد في مقلتيه الظّما

    فيخبره الحلمُ إخبارَ طفلٍ
    يَروضُ على اسمِ أبيه الفما

    * * *

    وفي أيّ حين؟ وصاح البشير
    فجاءت إليه الذُّرى عُوّما

    وأرخى عليه الضُّحى صَحْوَهُ
    ودلّى سواعدَهُ سُلَّما

    وحيّاه شعب رأى في الشروق
    جنى الحلم من قبل أن يحلُما

    فأيُّ مفاجأةٍ باغتتهُ
    كما تفجأ الفرحةُ الأيِّما؟

    فماد ربيع على ساعديهِ
    وفجرٌ على مقلتيهِ ارتمى

    ولبَّى الهتافُ المدوِّي هناك
    هتافاً هنا، وهنا مُفْعَما

    يلبي ويدعو فيطغى الضّجيج
    ويعلو الصّدى يعزف الأنجما

    تثير الجماهير في جوِّهِ
    من الشّوقِ أجنحةً حُوَّما

    وتسأل في وجههِ موعداً
    خصيباً وتستعجل الموسما

    وتحدو غداً فوق ظنّ الظنون
    وأوسع من أمنيات الحمى

    * * *

    جمالٌ! فكلُّ طريق فمٌ
    يُحَيِّي وأيدٍ تبث الزهَرْ

    ترامت إليهِ القرى والكهوف
    تولِّي جموعٌ وتأتي زمَرْ

    وهزَّت إليهِ حشود الحسان
    مناديل من ضحكات القمرْ

    ولاقته “صنعاء” لقيا الصغّار
    أباً عاد تحت لواء الظّفرْ

    تلامسه ببَنان اليقين
    وتغمس فيه ارتياب البصرْ

    وتهمس في صخَب البشريات
    أهذا هو القائد المنتظَر؟

    أرى خلف بسمته “خالداً”
    وألمح في وجنتيه “عُمر”

    وتدنو إليه تناغي المنى
    وتَشتَمُّ في ناظريه الفكرْ

    * * *

    أهذا الذي وسعت نفسُه
    هوى قومه وهموم البشر؟

    أظلَّ فأومى انتظار الحقول
    وماج الحصى واشرأبَّ الحجرْ

    وهنأت الرّبوةُ المنحنى
    وبشَّرت النّسْمَةُ المنحدرْ

    وأخبر “صِرْواحُ” عنه الجبالَ
    فأورق في كل نجمٍ خبرْ

    وأشرق في كلّ صخرٍ مصيفٌ
    يعنقدُ في كلّ جوّ ثمرْ

    * * *

    وأعْلَتْ زنودُ الرُّبى وَحدةً
    سماويّةَ الأمِّ طهر الأبِ

    نمتها المروءات في “مأربٍ”
    وأرضعها الوحي في “يثربِ”

    وغنَّى على صدرها شاعرٌ
    وصلَّى على منكبيها نبي

    وردَّدها الشرقُ أغرودةً

    فعبَّ صداها فم المغربِ

    * * *

    ودارت بها الشمس من موسمٍ
    سخيٍّ إلى موسمٍ أطيبِ

    إلى أن غزتها سيول التتار
    ورنَّحها العاصف الأجنبي

    تهاوت وراء ضجيج الفراغ
    تفتّش عن أهلها الغُيَّبِ

    وتبحث عن دارها في الطُّيوف
    وتستنبئ اللَّيل عن كوكبِ

    وتحلم أجفانها بالكرى

    فتخفق كالطّائر المتعَبِ

    هناكَ جثث في اشتياق المعاد
    تحدّق كالموثق المغضبِ

    فتلحظ خلف امتداد السنّين
    على زرقة “النِّيل” وعداً صبي

    تمرُّ عليه خيالات “مصر”
    مرور الغواني على الأعزبِ

    رأت فمه برعماً لا يبوح
    ونيسان في قلبه مختبي

    وكان انتظاراً فحنَّت إليهِ
    حنين الوليد إلى المرضعهْ

    ودارت نجوم وعادت نجوم
    وأهدابها ترتجي مطلعهْ

    وكانت تواعدها الأمسيات
    كما تعد البيدر المزرعهْ

    ولاقته يوماً وكان اسمه
    “جمالاً” فلاقت صباها معهْ

    * * *

    هنا لاقت الوحدة ابناً يسير
    فتمشي الدُّنا خلفه طيِّعهْ

    ومهداً صبوراً سقاها النِّضال
    فأهدت إلى المعتدي مصرعهْ

    غذاها دم “النيل” خصب البقاء
    ولقَّنها الفكرةَ المبدعهّ

    وعلَّمها من عطايا حشَاه
    وكفّيْهِ أن تبذل المنفعهْ

    ومن جوّه رفرفات الحَمامِ
    ومن رمله طفرةَ الزَّوبعهْ

    وقطَّرها في خدود النجوم
    صلاةً وأغنيةً ممتعهْ

    وأطلع للعرب أقباسَها
    شموساً بصحو المنى مشبَعهْ

    هناكَ أفقنا على وحدةٍ
    يمدُّ الخلودُ لها أذرعَهْ

    فصارت مبادئنا في السَّلام
    وألوية النَّصْر في المَعْمَعَهْ

    إبريل 1964م

  • 6 فجران

    ديوان من أرض بلقيس >  فجران

    من ساحة الأصنام والأوثان
    من مسرح الطاغوت والطغيان

    من غاية الوحشية الرعنا ومن
    دنيا القتال ومواطن الأضغان

    من عالم الشر المسلح حيث لا
    حكم لغير مهند وسنان

    بزغت تباشير السعادة والهدى
    بيضا كطهر الحب في الوجدان

    وأهل من أفق الغيوب على الدنا
    فجران فجر هدى وفجر حنان

    يا فرحة العليا أهل محمد
    وعليه سيما المجد كالعنوان

    وأطل من مهد البراءة والسما
    والأرض في كفيه تعتنقان

    * * *

    ماذا ترى الصحرا؟ أنواراً سائلاً
    أم أنه حلم على الأجفان

    فتحت نواظرها فضج سكونها
    ما لي أرى ما لا ترى عينان

    وتلفتت ربوات مكة في السنا
    حيرى تكابد صمتها وتعاني

    وتكاد لولا الصمت تسأل جوها
    ماذا ترى ومتى التقى فجران؟

    وتيقظ الغافي يرى ما لا ترى
    في الوهم روح الملهم الفنان

    نزل البسيطة بالسلام محمد
    كالنصر عند مخافة الخذلان

    يا صرعة الطاغوت أشرق بالهدى
    رجل الهداية والرسول الباني

    فإذا الجزيرة فرحة وصبابة
    والجو عرس والحياة أغاني

    وإذا العداوة وحدة وأخوة
    والبعض حب والنفور تداني

    هتفت شفاه العبث فانتفض الثرى
    وتدافع الموتى من الأكفان

    زخرت وضجت بالحياة قبورها
    واهتاجت الأرواح في الأبدان

    وتلاقت الدنيا يهنئ بعضها
    بعضاً فكل الكائنات تهاني

    ولد الرسول من الرسول ومن رأى
    طفلاً له عليا الخلود مغاني

    يسعى إلى العليا وتسعى نحوه
    فكأنَّ بينهما هوى وأماني

    من ذلك الطفل الذي عصم الدما
    وحمى الضعيف من القوي الجاني

    وتناجت الأكباد حول جلاله
    بالحب نجوى الحور والولدان

    * * *

    من ذلك الطفل الفقير يشع من
    عينيه تاريخ وسفر معاني

    ما شأن هذا الطفل ما آماله؟
    فوق المنى والشأن والسلطان

    هذا اليتيم وسوف يغدو وحده
    رجل الخلود وواحد الأزمان

    وتحقق الأمل الجميل واينعت
    روح الخلود في أجل كيان

    حمل الرسالة وحده ومضى على
    حد السيوف وألسن النيران

    عبر المهالك والسلام سلاحه
    يدعو إلى الحسنى، إلى الإحسان

    وإلى الأمانة والبراءة والتقى
    ومحبة الإنسان للإنسان

    وإلى التآخي والتصافي والوفا
    والبر والعيش الظليل الهاني

    فتجاوبت حوليه أحقاد العدا
    وتفجرت في الدرب كالبركان

    فمشى على نار الحقود كأنه
    يمشي على الأزهار والغدران

    وعدا الحقيقة حوله تجتاحهم
    همجية دموية الألوان

    وغواية تصبي الغوي كأنها
    شيطانه توحي إلى شيطان

    ومحمد يلقي الأشعة هًهُنا
    وهنا ويفتح مقلة الوسنان

    فطغت أعاديه عليه فردهم
    بالآيتين: الصبر والإيمان

    واقتاد معركة الفدا متفانياً
    إن الجهاد عقيدة وتفاني

    والحق لا تحميه إلا قوة
    غضبى كألسنة اللهيب القاني

    والأرض أم الناس ميدان الوغى
    والعاجزون فريسة الميدان

    والمجد حظ مدرب ومسلح
    والموت حظ الأعزل المتواني

    رفع الرسول لوا النبوة بالهدى
    وحمى الهدى بالرمح والفرسان

    وغزا البلاد سهولها ووعورها
    بالقوتين: السيف والقران

    وتراه إن لمست يداه بقعة
    نشأت على الإصلاح منه يدان

    وإذا أتت قدماه أرضاً أطلعت
    خطواته فجراً بكل مكان

    وإن الزعامة قوة وعدالة
    وشجاعة سمحا وقلب حاني

    * * *

    يا خير من حمل الرسالة والتقى
    في عزم روح في أرق جنان

    ذكراك آيات الزمام كأنها
    أنشودة العليا بكل زمان

    * * *

    أمحمد خذ بنت فنِّي إنها
    أخت الزهور بريئة الألحان

    وعليك ألف تحية من شاعر
    في كل عضو منه قلب عاني

    ** ** **

  • 7 الربيع والشعر

    ديوان من أرض بلقيس >  الربيع والشعر

    وافاك مجتمع البلاد فرنما
    وصبا إليك مسبحاً ومتمتما

    وتدافعت(صنعاء) إليك كأنها
    حسناء مغرمة تغازل مغرما

    وهفت إليك كأنها مسحورة
    ملتاعة الأعصاب ملهبة الدما

    ورأت ولي العهد فازدانت به
    فكأنها قبس يسيل تضرما

    وترقصت ربواتها الفرحى كما
    رقصت على الأفلاك أقمار السما

    لقيت ولي العهد دنياها كما
    لقي العطشان الجدول المترنما

    وصبت نواحيها وجن جنونها
    فرحاً وكاد الصمت أن يتكلما

    وتجاذبتك هضابها وسهولها
    شغفاً كما جذب الفقير الدرهما

    نظرت بنور البدر فجر حياتها
    ورأت به الأمل الحبيب مجسما

    بدر مطالعة القلوب ونوره
    يوحي إلى الأوطان أن تتقدما

    فكأنه فجر يفيض أشعة
    جذلاً وفردوس يفيض تبسما

    وكأنه وهج إلهي السنا
    ومنابر تمحو دياجير العمى!

    وكأنه بفم الربيع نشيده
    خضراء نقشها الصباح ونمنما

    وروى فم التاريخ سحر جمالها
    فكراً مجنحة ووحياً محكما

    وكأنه قلب يذوب تأوهاً
    للبائسين ويستفيض ترحما

    فإذا رأى متألماً شاهدته
    متوجعاً مما به متألما

    حتى تراه لكل عين ماسحا
    عبراتها ولكل جرح بلسما

    وأحق أبناء البسيطة بالعلا
    من شارك العاني وآسى المعدما

    وأذل أهل الأرض قلباً من رأى
    عبث الظلوم وذل عنه وأحجما

    وإذا تسامى الظلم طاطأ رأسه
    متهيباً وكفاه أن يتظلما

    أمحمد من أنت؟ أنت عدالة
    وصبابة حرى بأحشاء الحمى

    وعواطف تندى وإنسانية
    عصما توشحت السمو الأعصما

    ولدتك آفاق المعالي والعلا
    شعلا كما تلد السماء الأنجما

    غناك شعري والربيع وصفوه
    أهدى إليك زهوره والعندما

    حياك ميلاد الربيع بطيبه
    وشدتك أشعاري نشيداً ملهما

    فاسلم تقبلك القلوب وترتو
    من فيض بهجتك الأمني والظلما

    ** ** **

  • 9 تائه

    ديوان من أرض بلقيس >  تائه

    تائه كالجنون
    خلف ما لا يكون

    تائه كالرجا
    في زوايا السجون

    كخيال اللقا
    حول وهم الجفون

    كرياح الضحى
    في صخور الحزون

    كأنين الشتا
    فوق صمت الغصون

    كطيوف المسا
    في متاه العيون

    وحده يرتمي
    خلف طيف الفتون

    بين خفق الرؤى
    وضجيج السكون

    آه يا قلبه
    حرقتك الشجون

    جف خمر الهوى في كؤوس اللحون

    ظامي يرتوي
    بسراب الظنون

    ما له هان أو
    ما له لا يهون

    كفنت صوته
    وصداه السنون

    واختفى ظله
    في غبار القرون

    كوعود المنى
    في الزمان الخؤون

    ** ** **

  • 10 لا تسل عني

    ديوان من أرض بلقيس >  لا تسل عني

    لا تسل عني ولا عن ألمي
    فلقد جل الأسى عن كلمي

    وتعايا صوتي المجروح في
    عنفوان الألم المضطرم

    ضقت بالصمت وضاق الصمت بي
    بعد ما ضاقت عروقي بدمي

    فدع التسآل عما بي فقد
    ألجمت هيمنة الصمت فمي

    وتهاديت كأني أمل
    يرتمي فوق بساط العدم

    ودمي يصرخ في جسمي كما
    تصرخ الثكلى ببيت المأتم

    وأراني آه مهزوم المنى
    وأنا أحنو على المنهزم

    أرحم المحروم إحساساً ولم
    تدر كفي كيف شكل الدرهم

    وأنا أحنو على العاني وبي
    حسرة العاني وجوع المُعدم

    وأنا في عزلتي السودا وفي
    قلبي الدامي قلوب الأمم

    وتآويه الحيارى تلتقي
    في أحاسيسي وفي روحي الظمي

    آه كم وقعت آلامي على
    عودي الباكي جريح النغم

    وعبرت العمر مخنوق الإبا
    مطلق الحس حبيس القدم

    قلق اليقظة مذعور الكرى
    ذاهل الفكر شريد الحلم

    حائر الخطو كأني مذنب
    ميت الغفران حي الندم

    وكأني قصة مبهمة
    في حنايا كبرياء الظلم

    وضجيج صامت تكنفه
    لجة الآلام والليل العمي

    وعلى صدري توابيت الشقا
    كالعفاريت الحيارى ترتمي

    كلما ساءلت نفسي من أنا
    صمتت عني صموت الصنمِ

    لا تسل عني فآلام الورى
    بضلوعي كاللهيب النّهِمِ

    وغِنا شعري بُكا عاطفتي
    وتباكي جرحي المبتسم

    ** ** **

  • 11 فارس الآمال

    ديوان في طريق الفجر >  فارس الآمال

    أخى أدعوك من خلف اتقادي
    وأبحث عن لقائك في رمادي

    وينطبق الحريق عليَّ.. قبراً
    فيمضغني ويعيا بازدرادي

    وأحيا في انتظارك نصف ميتٍ
    ورائحةُ الرَّدى مائي وزادي

    وأرقب “فارس الآمال” حتى
    أخالُ إزايَ حمحمة الجيادِ

    وترفعني إليك رؤى ذهولي
    فتتكئ النّجومُ على وسادي

    وأهوي عنك أصفع وجه حظي
    وأعطي كلّ “جنكيزٍ” قيادي

    وعاصفة الوعيد تهزّ حولي
    يد “الحجاج” أو شدقي “زِيادِ”

    * * *
    فتخفق منك في جدران كوخي
    طيوف كالمصابيح الهوادي

    فتشدو كلّ زاويةٍ وركنٍ
    ويبدع عازفٌ ويجيد شادي

    ويلمع وهم خطوك في الروابي
    فترقص كالجميلات الخرِادِ

    ويجمع جيرتي فرح التلاقي
    ويختلط احتشادٌ باحتشادِ

    ويظما الشوق في عيني “سعيدٍ”
    فيندى الوعد من شفتي “سُعادِ”

    * * *
    وتعوي الرّيح تنثر وسْوَساتي
    وُرَيقاتٍ تحنُّ إلى المدادِ

    وتخنق حلم جيراني وحلمي
    وتسلب حيَّنا صمت الحدادِ

    ويحترق الطريق إليك شوقاً
    فتطفئِه أعاصير العوادي

    وتَقْبر فيه قافلةَ الأماني
    وتُردي الصَّوتَ في فم كلِّ حادي

    * * *
    ويسأل هل تعود إلى حمانا؟
    فتسعد سمَّرٌ ويضيءُ نادي

    مزارعنا إلى لقياك لهفَى
    وبيدرنا يتوقُ إلى الحصادِ

    أترحل تستنفزُّ الفجر حتى
    شققت دجاه – تُبتَ عن المعادِ

    أتأبى أن تعود ألا تُلَبِّي
    ندائي هل دريت من المنادي؟

    سؤال عنك يحفر كلَّ تلٍ
    ويسبر عنك أغوار الوهادِ

    أفتّش عنك أطياف العشايا
    وأهداب النّسيمات الغوادي

    وتنأى عن مدى ظني فأمضي
    إليك على جناحٍ من سهادِ

    وأهمس أين أنت؟ وأيّ تربٍ
    نما واخضرَّ من دمكَ الجوادِ

    أيسألك النضال دماً شهيداً
    فتسقيه وأنت تموت صادي؟

    أجب حدّث فلم يخمدك قتلٌ
    فأنت الحيُّ والقتلى الأعادي

    أحسك في براءة كلّ حيٍّ
    صبِىً وأحسُّ نبضك في الجمادِ

    وأشتمّ اختلاج صداك حولي
    يمنِّيني ويعبق في فؤادي

    فأدنو من نجيعك أصطليهِ
    وأشعل من تلظّيهِ اعتقادي

    * * *
    أتسأل كيف جئت إليك إنّي
    أفتِّش في دمائك عن بلادي؟

    وأنضج من شذاها ذكرياتي
    وأقبس من تحدّيها عنادي

    أتأبى أن تجيب؟ ومن يحلِّي
    بغارِ النَّصرِ هامات الجلادِ؟

    وهل ارتدُّ عنكَ بلا رجاءٍ؟
    يعاتبني ويُخحلني ارتدادي؟

    أتدري أنَّ خلفَ الطين شعباً
    من الغربانِ يفخر بالسّوادِ؟

    يموت توانياً ويعيش وهماً
    بلا سببٍ لا أدنى مرادِ

    يسير ولايسير: يُبيدُ عهداً
    ويأكل جيقة العهد… المبادِ

    يبيع ويشتري بالغبن غبناً
    ويجترّ الكساد إلى الكَسادِ

    وتهدي خطوه جثثٌ كُسالى
    تفيقُ من الرقاد إلى الرقادِ

    تعيد تثاؤباً أو تبتَديهِ
    كأسمار العجائز في البوادي

    * * *
    “أعبدَ الله” كم يشقيك أنّا
    ضحايا العجز أو صرعى التمادي؟

    أينبض في ثَراكَ الشعب يوماً
    فتورقُ ربوة ويرفُّ وادي

    وتعتنق الأخوّة والتّصافي
    ويبتسمُ الوداد إلى الودادِ

    رحلت إليك أستجدي جواباً
    وأستوحيك ملحمة الجهادِ

    ذو القعدة سنة 1381هـ

  • 12 لا ارتداد

    ديوان في طريق الفجر >  لا ارتداد

    5/1/1383هـ
    28/5/1963م
    الدرب شياطين فرحى
    زمر تهذي مرحى مرحى

    وتخوض الدرب فتسلبه
    رؤياه أعينه القرحى

    وتحوّل هجعة.. تربته
    تسهيداً، ولياليه.. الذبحا

    والشهب حنين مصلوبٌ
    ظمأنٌ يجترع “المِلحا”

    فتئن الريح.. تمازحهُ
    وتلّون أذناه المزحا

    والآفاق الوسنى ورقٌ
    محيت، أو أوراق.. تمحى

    والحيُّ سكون مصفرٌ
    كخطايا تستجدي الصفّحا

    وتموت الشكوى في فمهِ
    فيكلّفُ رعشتهَ البوَحا

    إصغاءٌ لم يسمع شدواً
    غنّاه ولم يذكر.. نَبحا

    صمتٌ؛ إغفادٌ؛ ثلجيٌ
    لم يلمح في الحلم الصبُّحا

    * * *
    فتثاءب حولَيه جبلٌ
    وتنهدّ فاجتر السفّحا

    وتلظى دمه فامتدت
    كالجذوة قامتهُ السمّحا

    وتسّلقت الأطبافُ إلى
    عينيهِ تقتبسُ اللّمحا

    * * *
    فرنا والظلمةُ مشنقةٌ
    بجراح الأنجمِ مبتلّة

    ودخانٌ عملاقٌ يرخي
    فوق التِّيه العاني ظلّه

    ويروع الحلمُ فباغتهُ
    تيّار الصحّو على غفله

    وتلوّى حيناً في دَمِهِ
    وهوى أشلاءً منحلّهْ

    وتعالتْ أحلامُ الوادي
    تومي كعناقيد النّخلَهْ

    وأفاقَ ثراه كموعودٍ
    بالموتِ: أبلَّ من العِلَّهْ

    وتمطّى يَبْدأ ميلاداً
    خصباً نيْسانيَّ الحُلَّهْ

    واهتزَّ كأسخى مزرعةٍ
    حبلى تتمخّض بالغَلَّهْ

    وافترَّ وباحت شفتاهُ
    للبيدر بشرى مخضلَّهْ

    ومنىً كتبسمِ زنبقةٍ
    فتَحت شفتيها للنَحلهْ

    وأعاد الجوّ حكايتهُ
    كحديث الطّفل إلى الطفلَّهْ

    وكغنج الوعد على ثغرٍ
    خمريٍ يستهوي القُبْلَهْ

    وأسال الجوُّ مباهجهُ
    كالشلاَّلات المنهلَّهْ

    وغلا في الثلَّج دمٌ حيٌّ
    فأحال برودتَهُ شُعْلَهْ

    * * *
    وامتدَّ عموداً جمريّاً
    واحمرَّ بعيْنَيْهِ الأرقُ

    ماذا؟ من أذكى الرمل هنا؟
    فهفا يخضر وينطلق

    وتَنادى التربُ فمقبرةٌ
    تدوي ورمادٌ يحترقُ

    وهنا احتشد العدم الغافي
    كالصيفِ يفوح ويأتلقُ

    يلد الميعادُ بجبهَتهِ
    تأريخاً يبدعه العرقُ

    ويوشّحه أفقٌ صحوٌ
    بالدفءِ، ويحضنه أُفقُ

    وتوالى موكبه الشّادي
    فتغنَّت وازدهت الطرقُ

    وتعنقدت الشُّهب السَّكرى
    بيديْهِ واخضرّ الشَّفقُ

    يمضي يجتّر مواسمهُ
    ويزغرد حوليَهِ العبقُ

    ويجنِّح فجراً مِعطاءً
    ينصبُّ وفجراً… ينبثقُ

    فتغيم هنالك أسئلةٌ
    “تلغو” هل يرتدُّ الغسَقُ؟

    وتهزُّ بقيّةَ أشباحٍ
    تطفو فيرسِّبُها الغَرَقُ

    وتُزَوِّرُ بوحاً مسلولاً
    بسعال الدّعوى يختنقُ

    فتضجُ الرّبوات الجذلى
    لم يخفق في الموتى الرَّمقُ

  • 13 سكرة الحب

    ديوان من أرض بلقيس >  سكرة الحب

    كم أغنيك آه كم
    أسفح الروح في النغم

    وأناجيك والدجى
    بيننا تائه أصم

    والوجود الكبير في
    سكرةِ الصمت والظلم

    وأنادي كأنني
    معدم يسأل العدم

    * * *

    وأناجي يا ربة الحسن والأشواق
    حولي مدلَّهات صوادي

    وخيالي يسمو بأجنحة الحب
    بعيداً إلى وراء البعاد

    ومعانيك نغمة رددتها
    نغماتي على فم الآباد

    وصلاة تفجر الطهر في محراب
    حبي والسحر في إنشادي

    والهوى في فمي نشيد ندى
    وصلاة قدسية في فؤادي

    وأنا في هواك أمضي بجوع
    الحب والأغنيات مائي وزادي

    فاشتري شجون حبي وزيدي
    في جنون، وحرقتي واتقادي

    فجنون الغرام عقل جديد
    طائر في مسابح الوحي شادي

    أنا أهواك للمعاني فزيديني
    غراماً يذيب قلب الجماد

    * * *

    وافعمي مهجتي هوى
    ملهبا ثائر الضرم

    واشعليني صبابة
    وأملأي خاطري حمم

    واجهدي في تألمي
    لذة الحب في الألم

    عذبيني وعذبي
    فعذاب الهوى حكم

    * * *

    أضرمي لوعتي تفه بالأغاني
    والحوار الأنيق زاهي البيان

    فأجل الغرام وجد بلا وصل
    وشوق تموت فيه الأماني

    وصليني أو فاهجريني فحسبي
    منك فن الهوى وحلم التداني

    أنا حسبي من الهوى أن يحس القلب
    فيه قلباً من الحب ثاني

    إنما الحب شرعة القلب والطبع
    فزيدي صبابتي وافتتاني

    وانتفاض الغرام في الروح معنى
    الروح معنى الحياة في الإنسان

    ما أمر الهوى وأحلى معانيه
    وأسمى صبابة الفنان!

    أنا لولاك ما انتزفت شبابي
    نغماً خالداً خلود المعاني

    لا ولا ذبت في فمم الحب شدواَ
    قدسيَّ الصدى ندى الحنان

    * * *

    ونشيداً متيماً
    مغرم الصوت والصدى

    يحتسيه الهوى كما
    تحتسي الزهرة الندى

    كلما استنطق الجوي
    صمت أوتاره شدا

    وتندى عواطفاً
    عاشقات وغردا

    * * *

    وتغني كأنه بلبل الفجر يبث
    الصباح شكوى الليالي

    فأسمعي لوعتي بأنفاس أوتا
    ري فأني سكبت فيها انفعالي

    واحتسي من كؤوس حبي لحوناً
    وأرقصي رقصة الصبا والدلال

    وأسكريني يا هالة الحب بالحـ
    ـب وبالسحر من كؤوس الجمال

    سكرة القلب بالهوى سكرة الأزهار
    بالعطر والندى والظلال

    سكرة الحب سكرة الفجر بالأنـ
    ـوار سُكْرُ القلوب بالآمال

    أنا منْ عشت في هواك أغنيـ
    ـك وأروي الغرام للأجيال

    ومعاني هواك في ثغر لحني
    بسمات بيض كأزهى اللآلي

    كالشذا في فم الربيع المندى
    كالمنى في خواطر الأطفال

    ** ** **

  • 14 قالت الضحية

    ديوان في طريق الفجر >  قالت الضحية

    كيف كنتم أيام كنت مثيره؟
    حشرات حوالي وكنت أميره

    كنت أمشي فتفرشون طريقي
    نظرات مستجدياتٍ كسيره

    وشجوناً حمراً وشوقاً رخيصاً
    ونداءً وثرثراتٍ كثيره

    تتناجون بينكم: أتراها
    بنت “كسرى” أم “شهرزاد” الصغيره؟

    لو رأى “شهريار” طيف صباها
    باع فيها سلطانه وسريره

    وتحومون تزرعون رمال الجوع
    نجوى وأمنيات وفيره

    ليتها لي أو ليت أني طريقٌ
    لخطاها تمد فيه المسيره

    ليتني مشطها فأشتم منها
    شعرها أو أكون فيه ضفيره

    ليتني ثوبها، ويهمس ثانٍ
    يدعي أنه مناها… الكبيره

    آخر العهد بيننا سمر الأمس
    شكوت الهوى وبثت سعيره

    لا تقولوا: سامرت وهماً فما زال
    على ساعدي دفء السميره

    فيلبيه ثالث: ليت أني
    نقطة فوق خدها مستديره

    ويجاريها رابعٌ: فيغني
    ليتني البحر وهي فيَّ… جزيره

    ويعيد المنى أديبٌ شجيٌ
    ليتها جدولٌ أناغي… خريره

    هكذا كنتم أمامي وخلفي
    غزلاً مغرياً وكنت… غريره

    ولأني أنثى وأمي عجوزاً
    مات عنها أبي، سقطت أجيره

    * * *
    كيف أروي حكايتي؟ وإلى من؟
    كيف تشكو إلى العقور العقيره

    نشأت قصتي وكان أبي كهلاً؟
    وقور السمات نذل السريره

    يشتري كل حظه من عجوزٍ
    بالأساطير والغيوب خبيره!

    كان زور المديح يحلب كفيه
    ويعطيه وسوسات خطيره

    فيرى أن قومه أهملوه
    فأضاعوا أنقى وأغلا ذخيره

    فتمنَّى قتل الألوف ولكن
    بغية صعبة القياد عسيره

    فالتوى يذبح الصغار من الأطفال
    أو يخطف الصبايا النظيره

    ويرابي بالبائسات وراء الحي
    والهينمات تخفي… نكيره

    واحتمى بالصلاة لم يدن منه
    بصر الحي أو ظنون البصيره

    فانثنى ليلةً كما يخبط المخمور
    في الوحل، والسماء مطيره

    قلقاً تجرح الفراغ خطاه الحسيره
    وهو يصغي إلى خطاه الحسيره

    وصفير السكون ينفخ أذنيه
    فيرتاب، يستعيد صفيره

    وتمادى تنهد الجو حوليه
    ووالى شهيقه… وزفيره

    ورمى خلفه وبين يديه
    عاصفاً أدمت البروق هديره

    وعلى المنحنى حفيرة صخرٍ
    جاءها فانطوت عليه الحفيره

    وهنا انتهى أو انقضت الجن
    عليه كما تقول: العشيره

    زعموه كان يصيح من الصخر
    ويرجو أصداءه أن تجيره

    لست أدري كيف انتهى؟ مات
    يوماً ورمى عبئه علينا… ونيره

    * * *
    فتبنى الضياع طفلاً كسيحاً
    وأنا، والأسى وأماً فقيره

    فسهرنا نشقى ونسترجع الأمس
    ونبكي أبي ونرويه سيره

    كان يشتري الحظوظ من أم يحيى
    كل يوم كانت له كالمشيره

    كان يمتد هاهنا كل ليلٍ
    وهنا يرتمي… قبيل الظهيره

    * * *
    كنت في محنتي كزنبقة الرمل
    أعاني جفافه… وهجيره

    فأشرتم إليَّ بالمغريات الخضر
    والبيض، والوعود الغزيره

    وملأتم يدي وأشعلتموني
    شمعةً في دجى الخطايا الضريره

    وعلى رغم عفتي، رغم أمي
    وأبي عدت مومساً سكيره

    ولهونا حيناً وأشتى ربيعي
    فتعريت أرتدي زمهريره

    وانصرفتم عني أما كنت يوماً
    عندكم منية الحياة الأثيره؟

    وزعمتم بأنني كنت وحلاً
    آدمياً أما شربتم عصيره؟

    وأشعتم في الحي أني شرٌ
    يتفادى دنوه… ونذيره

    فتوقَّى حتى خيال وجودي
    وهو حيٌ على الحياة الجريره

    * * *
    كيف أبقى هنا وأنصاف ناسٍ
    جيرتي، ليس لي رفاق وجيره

    وغدي رهبة ويومي انتحارٌ
    واحتقارٌ، والأمس ذكرى مريره

    وهنا جينا خطاه إلى الأمس
    وأمجاده عظامٌ نثيره

    دفن الأمس جثةً من دنايا
    وانثنى يستعير منها مصيره

    فهو حي من الجليد المدمى
    يجتني لصه ويجفو خفيره

    يدعي المجد وهو مقبرةٌ تهتز
    خلف التراب وهي قريره

    يزدريني وحدي وإني وإياه
    ضحايا شروره المستطيره

    يزدريني وتوبتي وحناني
    فوق أهدابه صلاهٌ منيره

    هل أنادي الضمير والخلق فيه؟
    لم أجد فيه خلقه أو ضميره

    * * *
    أيها الآكلون عرضي لأني
    كنت ألعوبةً لديكم أسيره

    حقروني يا دود لو لم تكونوا
    حقراءً ما كنت يوماً حقيره

    لاتقولوا: كانت بغيّا، أمَا الفجَّار
    كثرٌ والفاجرات كثيره؟

    لست وحدي كم البغايا ولكن
    تلك مغمورة وهذي شهيره

    صدقوني إن قلت في دوركم مثلي
    فلست الأولى ولست الأخيره

    كل حسناء زهرةٌ: يرد الزهـ
    ـر عنه حتى الذباب المغيره؟

  • 15 ليلة الذكريات

    ديوان من أرض بلقيس >  ليلة الذكريات

    دعيني أنم لحظة يا هموم
    فقد أوشك الفجر أن يطلعا

    وكاد الصباح يشق الدجى
    ولم يأذن القلب أن أهجعا

    دعيني دعيني أنم غفوة
    عسى أجد الحلم الممتعا

    دعيني أطل على الصباح
    ومازلت في أرقي موجعا

    ومازال يتعبني مضجعي
    ويضني تقلبي المضجعا

    لك الله يا ليلة الذكريات
    ولي، ما أمر وما أفزعا!

  • 16 شمسان

    ديوان في طريق الفجر >  شمسان

    سنة 1373هـ

    حرق “الجنوب” قذائف في مهجتي
    تغزو الحدود وتحرق الأسدادا

    وحدي وفي أرض الجنوب عشيرتي
    تتطلب السقيا وترجو الزادا

    وتسير في الأصفاد تائهة الخطى
    تستنجد الأغوار والأنجادا

    فمتى تحرق بالدما أصفادها
    وتبيد من صنعوا لها الأصفادا

    دعني ألمها في القيود… لعلها
    تتذكر الآباء… والأجدادا

    ولعلها ترنو إلى تاريخنا
    فترى الفتوح وتعرف القوادا

    فعلى ربى التاريخ مجد جدودنا
    يهدي البنين ويرشد الأحفادا

    أدنى المواطن مواطنٌ إن هزه
    جرح الكرامة للصراع تمادى

    وأذل ما في الأرض شعب يجتدي
    مستعمراً ويؤله استبدادا

    ويئن من جلاده وهو الذي
    صنع الطغاة وسلح الجلادا

    في الناس أندالٌ وأوغد أمةٍ
    من ولت الأنذال والأوغادا

    “صرواح” يا شمم البطولة لم يزل
    “شمسان” يسطع باسمك الأطواد

    * * *

    “شمسان” زمجر بالأباء وارعدت
    هضباته تتحرق استشهادا

    أنف الدخيل فسر إليه وشد في
    زنديك منه سواعداً وزنادا

    واذر العداة على السفوح وفي الربى
    مزقاً كما تذرو الرياح رمادا

  • 17 مدرسة الحياة

    ديوان من أرض بلقيس >  مدرسة الحياة

    ماذا يريد المرء ما يشفيه
    يحسو روا الدنيا ولا يرويه

    ويسير في نور الحياة وقلبه
    ينساب بين ظلاله والتيه

    والمرء لا تشفيه إلا نفسه
    حاشا الحياة بأنها تشقيه

    ما أجهل الإنسان يضني بعضه
    بعضاً ويشكو كل ما يضنيه

    ويظن أن عدوه في غيره
    وعدوه يمسي ويضحي فيه

    غر ويدمي قلبه من قلبه
    ويقول: إن غرامه يدميه

    غر وكم يسعى ليروي قلبه
    بهنا الحياة وسعيه يظميه

    يرمي به الحزن المرير إلى الهنا
    حتى يعود هناؤه يرزيه

    ولكم يسيء المرء ما قد سره
    قبلا ويضحكه الذي يبكيه

    ما أبلغ الدنيا وأبلغ درسها
    وأجلها وأجل ما تلقيه

    ومن الحياة مدارس وملاعب
    أي الفنون يريد أن تحويه

    بعض النفوس من الأنام بهائم
    لبست جلود الناس للتمويه

    كم آدمي لا يعد من الورى
    إلا بشكل الجسم والتشبيه

    يصبو فيحتسب الحياة صبيةً
    وشعوره الطفل الذي يصيبه

    * * *
    قم يا صريع الوهم واسأل بالنهى
    ما قيمته الإنسان ما يعليه

    وأسمع تحدثك الحياة فإنها
    أستاذة التأديب والتفقيه

    وأنصت فمدرسة الحياة بليغة
    تملي الدروس وجل ما تمليه

    سلها وإن صمتت فصمت جلالها
    أجلى من التصريح والتنويه

    ** ** **

  • 18 حيرة الساري

    ديوان من أرض بلقيس >  حيرة الساري

    صاحبي غامت حوالينا النواحي
    أي معدى تبتغي أيَّ مراح ِ

    قف بنا حتى يمرَ السيلُ من
    دربنا المحفوفِ بالشر َ الصراح ِ

    أين تمضي؟ والقضا مرتقب
    ومتاح والرجا غير متاح ِ

    والدجى الأعمى يغطي دربنا
    برؤى الموتى وأشلاء الأضاحي

    أين تمضي؟ وإلى أين بنا
    جدتِ الظلما فدع حمق المزاح ِ

    أظلم الدربُ حوالينا فقف
    ريثما تبدو تباشير الصباح ِ

    * * *

    وهنا نادى على الدرب فتى
    صوته بين اقتراب ٍ وانتزاح ِ

    يحمل المصباح في قبضته
    وينادي الركب من خلف الجراح ِ

    فتلفتنا إليه فانطوى
    صوته بين الروابي والبطاح

    واحتوى الصمت الندا واضطربت
    حول مصباح الفتى هوج الرياح ِ

    * * *

    يا رفيقي هذه ليلتنا
    عاقر سكرى بآثام السفاح ِ

    والعفاريت عليها موكب
    يرتمي في موكبٍ شاكي السلاح ِ

    و الأعاصير تدوي في الربا
    وتميت العطر في صدر الأقاحي

    وغصون الروضٍِ عراها الهوا
    ورمى عن جيدها كل وشاح ِ

    والرياض الجرد لهفى لم تجد
    لطف أنسام ولا نجوى صُداح ِ

    نام عنها الفجر والطير فلا
    همس منقار لا خفق جناح ِ

    * * *

    يا رفيقي في السرى هل للسرى
    آخر؟ هل للظلام الدرب ماحي؟

    تلك كأس العمر جفت وهوت
    وهواناً في شفاه الكأس صاحي

    هل وراء العمر عمر شائقٌ؟
    هل وراء اليأس طلَّ منْ نجاح

    أي ركب من هنا يسري وما
    باله يسري إلى غير فلاح

    وطريق السفر شوك ودم
    يصرع الهول به ساحاً بساح

    تعب الركب وكل الدرب من
    ضجة السفر وضوضاء التلاحي

    “حيرة الساري” متى يغفي؟ متى
    يستريح الدرب من ركب الكفاح؟
    ** ** **

  • 19 حكاية سنين

    ديوان مدينة الغد >  حكاية سنين

    مِنْ أينَ أبتدىءُ الحكايه؟
    وأضيعُ في مَدِّ النِّهايَهْ

    وأَعي نهايةَ دَورِهَا
    فتعودُ من بدءِ البدايَهْ

    تَصِلُ الخطيئةَ بالخطيئةِ
    والجنايةَ بالجنايَهْ

    مِنْ عهِد مَنْ وُلِدوا بلا
    سببٍ وماتوا دونَ غايَهُ

    المُسبلينَ على الذِّئابِ
    البيضِ أَجنحةَ الرَّعايَهْ

    الناسجينَ عُروقَهُمْ
    لمواكبِ الطَّاعونِ رايهْ

    من حوَّلوا المُستنقعاتِ
    الجائعاتِ إلى النِّفايَهْ

    أنصافُ آلهةٍ مُطَوَّقَةٌ
    بأسلحةِ العِنايهْ

    ووجوهُهُمْ كاللَّافتاتِ
    على مواخيرِ الغِوايهْ

    كانوا ملوكاً ظلُّهُمْ
    حَرَمٌ ورُقيتهم حِمايَهْ

    فلحومُنا لخيولِهم
    مرعىً وأعظُمُنا سِقايَهْ

    وبيادِرٌ تُعطيهِمُ
    حبَّاتِ أعْيُنِنَا جِبايَهْ

    واللهُ والإسلامُ في
    أبواقِهِمْ بعضُ الدِّعايَهْ

    أيامَ كانت للذُّبابِ
    على الجراحاتِ الوِصايَهْ

    أيامَ كان السِّلُّ يأكُلُنَا
    وليسَ لنا دِرايَهْ

    وأبي يُعلِّمُنا الضَّلالَ
    ويسألُ اللهَ الهِدايَهْ

    ويعيذُنا ب(المُصْطَفى)
    والصَّالحين وكُلِّ آيهْ

    ويقولُ:؟ إِعتادوا الطَّوى
    كَمْ عادةً بدأتْ هِوايَهْ

    ويعودُ يَشكو والسُّعالُ
    يرضُّ في فمِهِ الشِّكايَهْ

    مِنْ ها هُنَا ابتدت الرِّوايَةُ،
    أينَ أينَ مَدى الرِّوايَهْ؟

    ***

    أَأَقُصُّها؟ بعضي يُهيِّئني
    وبعضي بزدريني

    وبرغمِ إرهاقي أخوضُ
    مَجَاهلَ السِّرِّ الكمِينِ

    وظلالها خلفي وقُدَّامي
    كأمسيةِ الطَّعينِ

    فأتيهُ فيها كالتفات
    الطَّيفِ للطَّيفِ الحَزينِ

    وأعافُها فيشُدُّني
    أرَقِي ويعزفُني حَنيني

    وتُزَقْزِقُ الخَلَجَاتُ في
    رأسي كعصفورٍ سجينِ

    ماذا يُعاودُني؟ كشعوذِة الرُّؤى،
    كصدى اليقينِ؟!

    ويديرُ كأساً من دمِ
    الذِّكرى وحشرجةِ الأنينِ

    فَتُهيجُني، ومُنايَ يحفرُ
    في حريقي عن معيني

    والحرفُ يمزحُ في فَمِي
    والسُّهدُ يلهثُ في جَبيني

    ومَدى السُّرى يطفو ويرسبُ
    في فمِ الوهمِ الضَّنين

    ويمدُّ أغنيةً تَحِنُّ
    إلى الصَّدى، وإلى الرَّنينِ

    ولِمَنْ اُلَحِّنُ هَجْعةَ الأشباحِ
    والرُّعبِ الدَّفينِ؟

    لمواكبِ التَّاريخِ يَرْويِها
    الأمينُ عن الأمينِ

    ولِأُمِّيَ اليمنِ العجوزِ
    ولابنيَ اليمنِ الجَنينِ

    كانت مواقعُ خَطْوِهِ
    طيناً توحَّلَ فوقَ طِينِ

    ***

    أتقولُ لي، ومتى ابتدَتْ
    سخريَّةُ القدرِ البَليدِ؟

    وإلى بدايتِهَا أعودُ
    على هُدى الحلمِ الشَّريِد

    مُنْذُ انحنى مغنى (عُلَيَّةَ) (1)
    واستكانَ حِمى (الوليدِ)

    واستولَدَ السُّحبَ الحَبَالى
    ألفُ (هارونِ الرَّشيِد)

    حتى امتطى (جنكيز)
    عاصفةَ الصَّواهِلِ والحديدِ

    وهنالكَ انتعلَ (التَّتارُ)
    معاطِسَ الشَّمَمِ العنيدِ

    وتموكَبَتْ زُمَرُ الذِّئابِ
    على دَمِ الغنمِ البَديدِ

    فاستَعْجَمَ (الضّاد) المبينُ
    ورايةُ الفتحِ المَجِيدِ

    أين العروبةُ؟ هَلْ هُنا
    أنفاسُ (قيسِ) أو (لبيدِ)

    أين التماعاتُ السُّيوفِ
    ودفءُ رنَّاتِ القَصيدِ؟

    لا ها هُنَا نارُ القِرى
    تهدي، ولا عبقُ الثَّريدِ

    لا مستعيدَ، ولا اختيالُ الشَّدوِ
    في شفتيْ (وَحِيدِ) (2)

    فتلامَعَتْ أيدي علوج (التُّركِ)
    تومِىءُ من بعيدِ

    وتقولُ: يا ريحُ ابدئي صَخَبي،
    ويا دُنيا: أعيدي

    وتَمدُّ تَلمسُ مِنْ هُنَاكَ
    ذوائبَ اليمنِ السعيدِ

    حيثُ اختلاجاتُ الغروبِ
    على الرُّبى، لفتاتُ غيدِ

    حيثُ المزارعُ، وانتظارُ
    الجوعِ حبَّاتِ الحَصِيدِ

    حيثُ الصراعُ على السَّفاسف،
    والزِّحامُ على الزَّهيدِ

    ومضى العُلوجُ إليه كالإعصارِ،
    كالسَّيلِ الشَّديدِ

    وبرغمِهِ أَدْموْا إلى
    (صنعاء) بيداً بعدَ بيدِ

    فتثاءَبَتْ أبوابُها
    لزحوفِ (أبرهة) الجَديدِ

    ***

    وهنا انحنى (نقمُ) الصَّبُورُ
    وأذعنت كثبانُ (مِيدي)

    وتهافَتَ الأجدادُ، فاتَّكلَ
    المُطيقُ على القعيدِ

    وتخدَّروا بروائحِ المَوتى
    وعهدِهِمُ الرَّغيدِ

    وكما تُقلِّدُ أمُّ أُمِّي
    لثغةَ الطِّفلِ الوليدِ

    راحوا يُعيدون المُعاد
    عن (الحسينِ) وعن (يزيدِ)

    عن مُهرِ (عنترةٍ) وعن
    صمْصَامَةِ الشَّيخ الزَّبيدِي

    عن(شهرزاد) و(بابِ خيبر)
    و(ابنِ علوان) النَّجيدِ (3)

    وغذاؤهم زجلُ ( الخفنجي)
    واللحومُ بِكلِّ عيدِ (4)

    ومصيرُهُمْ حُلْمٌ على
    أهدابِ شيطانٍ مَريدِ

    وتَمَلْمَلوا يوماً وفي
    نظراتِهم كسلُ الوعيدِ

    فمَحَوْا دُخانَ (التُّركِ)
    وارتدّوا إلي الغسقِ الحميدي

    فتَخَيَّروا للحُكمِ أوثاناً
    مِنَ الدَّمِ والجليدِ

    أهواءهُم كمساربِ الحيَّاتِ
    في الغارِ المدِيدِ

    أو كالمقابرِ، يبتلِعْنَ
    ويَسْتَزِدنَ إلى المَزِيدِ

    كانوا عبيدَ خُمولِهِمْ
    والشَّعْبُ عِبدانُ العَبيدِ

    كانوا يُعيرونَ المُدى
    شرعيَّةَ الذَّبحِ المُبيدِ

    أو يَقتلونَ ويَخرُجونَ
    يُرحِّمون على الفقيدِ

    خلفَ الدُّخانِ يُمَثِّلونَ
    روايةَ (اليمنِ) الشَّهيدِ

    ***

    أتقولُ لي؟ وهل انْطَفَتْ
    في ذلكَ العهدِ النُّجومُ؟

    دفَنَ الغبارُ هواءَهُ
    فتَجَلْمَدَتْ فيهِ الغُيومُ

    وتهدَّج الرَّاوي كما
    يستعطفُ الأُمَّ الفطيمُ

    واجترَّ نَبرَتَهُ، وقال
    وكفَّنَ الزَّمنَ السُّهومُ

    تمشي الفصولُ كَمَا يُخشْخِشُ
    في يدِ الرِّيح الهشيمُ

    أنَّى أَصَخْتَ فلا صدىً
    يُنبي، ولا يوحي نسيمُ

    إلاَّ رفاتُ البائدين
    تقيَّأتهُنَّ الجحيمُ

    وعلى امتدادِ التِّيهِ يزعقُ
    (هدهدٌ) ويصيحُ (بُومُ)

    وهناكَ كانَتْ قريةٌ
    تجثو كما ارتَكَمَ الرَّميمُ

    جَوْعى ويطبُخُها الهجيرُ
    وتحتسي دَمَها السَّمُومُ

    نَسِيَتْ مواسِمَها فأشتَتْ
    قبلَ أَنْ تَلِدَ الكُرومُ

    تروي حكاياها الثقوبُ
    فيسعُلُ الجوُّ الكليمُ

    ووراءَ تلويحِ الطِّلاءِ
    مدينةٌ جَرحى تَؤومُ

    تَبْيَضُّ من بعدٍ كما
    يتكلَّفُ الضِّحكَ اللئيمُ

    وعلى الشوارعِ تنعسُ الذِّكرى،
    ويصفرُّ الوجومُ

    وعلى تجاعيدِ الرَّمادِ
    يُهَيْنِمُ الثَّلجُ البهيمُ

    وتُغوِّرُ السَّنةُ العجوزُ
    وتبدأُ السَّنةُ العقيمُ

    حتى تفجَّرَ ليلةً
    حَدَثٌ كما قالوا: عظيمُ

    فهوى كما زَعَموا (الحرامُ)
    وناحَ (زمزمُ) و(الحَطيمُ)

    ***

    ماذا جرى؟ مَنْ يخلفُ
    المَرحومَ؟ من أتقى وأخشى؟

    أو تحسبُ الجوَّ الكفيفَ
    محا الدُّجى، أو صارَ أعشى؟

    ألقتْهُ غاشيةٌ إلى
    أُخرى إلى أدجى وأعشى

    فجنازةُ (المنصورِ) أمسِ
    غَدَتْ (ليحيى) اليومَ عَرْشا

    فأجالَ سُبحَتَهُ وزادَ
    على امتدادِ الغشِّ غِشّا

    واذا بعجلِ (التُّركِ) عادَ
    على الضَّحايا العُزْلِ وَحْشا

    يُردي ويجهرُ أو يحوكُ
    مكايداً حُمراً ورَقْشا

    وعلاهُ (جوخٌ) فاختفت
    أظفارُهُ وأجادَ بَطْشا

    وعمامةٌ كُبْرى تُتَوِّجُ
    رأسَ طاعونٍ مُوَشَّى

    وتزينهُ، للعاثرينَ
    كما يَزِينُ الدَّفنُ نَعشا

    فيشقُّ للشَّعبِ القُبورَ
    ويستحيلُ الشَّعبُ رَفْشَا

    وضحيَّةٌ تَروي هوى
    جلَّادِها وتموتُ عَطْشى

    ويجودُ للكفِّ الذي
    يُعطيهِ تمزيقاً ونَهْشا

    ويعودُ يَستجدي الرَّغيفَ
    ويُرهِقُ التَّفتيشَ نَبشا

    ماذا يقولُ؟ أيرتجي؟
    مولاهُ، هل يُعطيهِ قِرشا؟

    لا الجوعُ أنطقَهُ وإنْ
    نمَّ الذُّبولُ بهِ وأفشى

    أتراهُ لمْ يحملْ فَماً
    فيبوحُ إطراقاً ورَعْشا

    ويُحِسُّ أذرَعَهُ وأرجلَهُ
    أمام الرِّيحِ قَشَّا

    يهوي وتبلعُ ما يريدُ
    ضراعةٌ مسختهٌ كَبْشا

    وجهٌ كأقدمِ دِرْهَمٍ
    لم يُبقِ فيهِ المَسحُ نَقشا

    سنواتُ (يحيى) تستقي
    دَمَهُ، ويرجوه ويَخشى

    ***

    ويديرُ أسئلةً، ويحذر
    همسَهُ ويعي انكسارهْ

    ويهمُّ حقدُ هوانِهِ
    فتفرُّ مِنْ دمِهِ الجسَارهْ

    ويمدُّ عينيْه كَمَا
    ترنو إلى السِّنَّوْرِ (فارَهْ)

    فتشدُّ نَقْنَقَةُ الطُّبولِ
    إليه أُبَّهةَ الحَقَارَهْ

    وغداة يومٍ أَوْمضَتْ
    من حيثُ لا يَدري إشارَهْ

    فأطلَّ نجمٌ مِنْ هُنَاكَ
    ومِنْ هُنَا لَمَعَتْ َشرارَهْ

    حتى تنهَّدَ (حِزْيَزٌ)
    وتناشد الصَّمتُ انفجارَهْ (5)

    نبضَ الهدوءُ الميْتُ واحمرَّت
    على الثَّلجِ الحَرارَهْ

    ماذا؟ وأقمرتِ النَّوافذُ
    والسُّطوحُ بكُلِّ حارَهْ

    وتناغمت (صنعاء) تسألُ
    جارةٌ، وتُجيبُ جارَهْ

    حُرَّيةٌ (دستورُ) صُغناهُ
    وأعليْنا شِعارَهْ

    (سَجِّل مكانكَ) وانبرى
    التاريخُ يحتضنُ العِبارَهْ (6)

    وأطلَّ جوُّ لم تلدْ
    أُمُّ الخيالاتِ انتظارَهْ

    وهُناكَ أدركَ (شهرزاد)
    الصُّبحُ، فارتقبتْ نهارَهْ

    وانثالَ أسبوعٌ، تَزِفُّ
    عرائسُ الفجرِ اخضرارَهْ

    وتلاهُ ثانٍ لحَّنَتْ
    بُشراهُ أعراقَ الحجارَهْ

    حتى تبدَّى ثالثْ
    لمَحَتْ ولادتهُ انتحارَهْ

    حَشَدَ الخريفُ إزاءَهُ
    همجيَّةَ الرِّيحِ المُثارَهْ

    وتلاقَتِ الغلواتُ حَوْليهِ،
    وأشعلتِ الإغارَهْ

    ماذا جرى يا (شهرزادُ)؟
    تَضَاحَكي، يا لِلمَرارَهْ !

    عشرون يوماً، وانثنى
    الماضي، فردَّينا الإعارَهْ

    ***

    من ذا أطلَّ؟ وأجهشَ
    الميدانُ أحمد و (الوِشاحُ)

    أسطورةُ الأشباح دقَّ،
    طبولَهُ ساحٌ، وساحُ

    يسطو، فتعتصرُ الرُّبى
    يَدَهُ، ويسبِقُهُ الصِّيَاحُ

    ويَزُفُّ أعراسَ الفُتوحِ
    إلى مقاصِرهِ السِّفاحُ

    (عوج بن عنق) شقَّ أنفَ
    الشمسِ منكبُهُ الوَقاحُ

    الجنُّ بعضُ جنودِهِ
    والدَّهرُ في يدِهِ سِلاحُ

    أو هكذا نَبَحَ الدُّعاةُ
    وعَمَّمَ الفزعَ النُّباحُ

    فاحمرَّ من وهجِ المذابحِ
    في ملامحِهِ ارتياحُ

    واغبَرَّ بالذَّبحِ المَسيرُ
    ومادَ بالجُثَثِ الرَّواحُ

    وسرى، وعادَ (السِّندبادُ)
    ودربُهُ الدَّمُ، والنُّواحُ

    خمسٌ من السَّنوات لا
    ليلٌ لهُنَّ ولا صباحُ

    يَبِسَتْ على السُّهدِ العيونُ
    وأقعدَ الزَّمنَ الكِسَاحُ

    (ناشدتكِ الإحساسَ يا أقلامُ)
    واختنق الصُّداحُ (7)

    لم ينبضِ الوادي ولَمْ
    ينبُتْ لعصفورٍ جَناحُ

    فتناوَمَ التاريخُ والتأمت
    على الجمْرِ الجِراحُ

    لكِنْ وراء السَّطحِ أسئلةٌ،
    يَجِدُّ بها المُزاحُ

    أو يَنطوي صوتُ النَّبيِّ
    وتدَّعي فمهُ (سَجاحُ)

    فدوى (الزُّبيريُّ) الشَّريدُ
    وأفشتِ الوعد الرياح

    وتناقلَ الجوُّ الصَّدى
    فَزَقَا التَّهامسُ والطِماحُ

    ماذا تقولُ الرِّيحُ؟
    فالغاباتُ تومىءُ والبِطاحُ

    ويُحدِّق الراعي فتخبرهُ
    مراتِعهُ الفِساحُ

    سَتَكِلُّ يوماً (شهرزاد)
    ويسكتُ السَّمرُ المُباحُ

    ***

    فإذا (الثُّلايا) والبُطولة
    يركُلانِ شموخَ (صالهْ) (8)

    فتضاءلَ (الفيلُ) المُخَدَّرُ
    وارتدى جلدَ (الثُعالَهْ)

    وكموعدِ الرؤيا أراحَ
    الجنَّ، واطَّرحَ الجلالَهْ

    وانحطَّ تاجٌ، وارتقى
    تاجٌ، عموداً من عَمالَهْ

    ماذا يرى (صَبِرٌ)؟ وغاصت،
    خلف جفنيْه الدلاله

    وكما تميدُ على شحوبِ
    السِّجنِ أروِقَةُ المَلالَهْ

    مَضَتِ اللَّيالي الخمسُ
    أجهلَ بالمصيرِ من الجهالَهْ

    فتحسَّسَ الفيلُ المهيضُ،
    قواهْ، وابتدرَ العجالَهْ

    وعَلَا الجوادَ، وموَّجَ الصَّمصامَ،
    واكتسحَ الضَّحالَهْ

    والشُّارعُ المَشْلولُ يزمُرُ،
    للبطولةِ والسَّفالَهْ

    وكما انتهى الشَّوطُ ابتدا
    يُذكى الدَّمُ الغالي مجالَهْ

    فيمدُّ عفريتُ الدُّخانِ
    على أشِعَّتِهِ، ظِلالَهْ

    ويخافُ أنْ يَلِدَ (الثُّلايا)
    قبرهُ، ويرى احتمالَهْ

    فتُعَسكِرُ الأشباح في
    أهدابِ عينيه خيالَهْ

    مَنْ ذا؟ ويَتَّهِمُ الصَّدى
    وتدينُ يمناهُ شِمالَهْ

    فانهارَ (شمشونٌ) وناءَ
    برأسِهِ، ووعى انحلالَهْ

    واستنزفَ الفلكُ المُعطَّلُ
    عن جناحيهِ البَطالَهْ

    وانساقَ يَغْزِلُ كُلَّ حينٍ
    كوكباً، ويديرُها لَهْ

    ويَشِبُّ نجماً، لم يَعُدْ
    من نبضِهِ إلَّا ثُمالَهْ

    وهنا تلفَّت موعدٌ
    في أعينِ القِمَمِ المُشالَهْ

    وتدافعَ الزَّمنُ الكسيحُ
    على جناحٍ من عُلالَهْ

    وانثالَ كالرِّيح العجولِ
    يلوِّنُ الفَلَكُ اشتعالَهْ

    وتساءلت عيناهُ، مَنْ ذا
    ها هُنَا؟ فرأى حِيالَهْ

    إشراقةَ (العُلُفيِّ) إطراقَ
    (اللُّقيّةِ) وانفعالَهْ

    فرمى على زنديْهما الجُلَّى
    وأعباءَ الرِّسالَهْ

    ***

    والى العشي تعاقدا
    واستبطأا سير الثواني

    الساعةُ المكسالُ مثلُ الشَّعبِ،
    تجهلُ ما تُعاني

    أيكونُ مُستشفى (الحُدَيدة)
    مولدَ الفَجرِ اليماني

    وعلى امتدادِ اليومِ ضمَّهُمَا
    التَّفَرُّقُ والتَّداني

    يتفرَّقانِ مِنْ الشُّكوكِ
    وللمُنى، يتلاقيانِ

    يتخوَّفانِ فيُحجِمان
    ويذكُران فيهزآنِ

    هل بُحتَ بالسِّرِّ المُخيفِ
    إلى فُلانٍ أو فُلان؟ِ

    إنِّي أُحاذرُ مَنْ رأيتُ
    على الطَّريقِ ومَنْ يراني

    كَمْ طال عمرُ اليومِ، لِمْ
    لا يختفي قبلَ الأوانِ؟

    حتى ارتمى الشَّفقُ الغريبُ
    على سريرٍ مِنْ دُخانِ

    وكأنَّ هُدبيْ مقلتيْهِ
    شاطِئانِ مُعلَّقانِ

    نظرا إليهِ، يُفتِّشانِ
    عن الصَّباحِ ويسألانِ

    وكما أشارَ (الهندوانةُ)
    أبدَيَا بعضَ التَّواني

    ومشى الثلاثةُ شارعيْنِ
    مِنْ المشانقِ والأماني

    ودعا النَّفيرُ، فسارَ (أحمدُ)
    سيرَ مُتَّهمٍ مُدانِ

    يرنو، أيلمحُ حُمْرَةً؟
    كلَّا، وتَلمعُ نجمتانِ

    فيمورُ داخلَ شَخصِهِ
    شخصٌ غريبُ الوجهِ ثاني

    ويَعي ضمانَ مُنجِّميهِ
    فيستريحُ إلى الضَّمانِ

    ودنا فماجَ البابُ وانهالَ
    السُّكونُ على المكانِ

    مِنْ أينَ نَبْغَتُهُ؟ ويمَّمْ
    فجأةً، قِسْمَ الغواني

    فتنادتِ الطَّلقاتُ فيهِ
    كالزَّغاريدِ القواني

    وانهدَّ قهَّارُ البنادقِ
    كالجدارِ الأرجواني

    أتَرى حصادَ القبرِ يرجعُ
    كالرَّضيعِ بلا لِبانِ

    وعلى يقينِ الدَّفنِ ردَّ
    بنبضتيْن مِنْ البَنانِ

    فتطلَّعتْ مِنْ كُلِّ أُفقٍ
    تسألُ الشُّهبَ الرَّواني

    كيفَ انطفا الشهبُ (الثلاثةُ)
    في ربيعِ العُنفوانِ

    وتراجعَ (الباهوتُ) يحرقُ
    بالمواجعِ وهو فاني

    يحيا ولا يحيا يموتُ
    ولا يموتُ بِكُلِّ آنِ

    فتبرَّجَتْ مأساةُ (واق الواق)
    تُغدِقُ كالجنانِ (9)

    وتجولُ تظفرُ مِنْ ذوائِبها
    غروباً مِنْ أغاني

    وتهزُّ نَهديْهَا اعتلاجاتُ
    المَحَبَّةِ والحنانِ

    فاخضرَّ عامٌ بالمواعدِ
    واحتمالاتِ العِيانِ

    وأهلَّ عامٌ عَسجَدِيُّ اللَّمحِ
    صخريُّ اللِّسانِ

    فرمى إلى حَلقِ التُّرابِ
    بقيَّةَ البَطلِ الجَبَانِ

    وهنا ابتدا فصلٌ تروَّى
    فيهِ إبداعُ الَّزمانِ

    ***

    ماذا هُنا؟ (سبتمبرٌ)
    أشواقُ آلافِ اللَّيالي

    حُرَقُ العصافيرِ الجياع
    إلى البيادرِ والغِلالِ

    بثَّ المسَامِرَ والرؤى العطشى
    وأخيلةَ الخيالِ

    خفْقُ النوافذِ وارتجافاتُ
    الرِّياح على التِّلالِ

    وتطلُّعُ الوادي وأسئلةُ
    النُّجومِ إلى الجبالِ

    وتلهُّفُ الكأس الطريحِ
    إلى انهدالاتِ الدَّوالي

    كان احتراقاتِ الإجابةِ
    وابتهالاتِ السُّؤالِ

    وتلفّت الآتي، إلى
    آثارِ أقدامِ الأوَالي

    عشرينَ عاماً قُلَّباً
    حَبِلَت بِهَا أُمُّ النِّضالِ

    نسجَتْهُ مِنْ شَفَقِ المقاصلِ
    والجراحاتِ الغَوالي

    حتى أطلَّ على عُقابٍ
    مِنْ أساطيرِ المُحالِ

    في كُلِّ ريشةِ جانحٍ
    مِنْهُ (أبو زيدِ الهِلالي)

    في النَّفخةِ الأولى رمى
    بالعرشِ أغوارَ الزَّوالِ

    وأمالَ زوبعةَ الرِّمالِ
    إلى سراديبِ الرِّمالِ

    يُعطي المواسمَ والمَحَبَّةَ
    باليمينِ وبالشِّمالِ

    أنَّى مشى، أجنى (الوليد)
    من المُنى وأجدَّ بالي

    موجٌ سماويُّ النَّضارة
    شاطئاهُ من اللآلي

    ماذا هُنا! (سبتمبرٌ)
    أتقولُ لي، أجلى المجالي

    شيءٌ وراءَ تَصَوُّرِ
    الدُّنيا وأبعادِ الجمالِ

    فوقَ احتمالاتِ الرَّجاءِ
    وفوقَ إخصابِ النَّوالِ

    ***

    أتقولُ لي؟ وهل انتهى
    في جُثَّةِ الأمسِ النُّزوعُ؟

    شاءَ الرُّجوعَ وسلَّحَتهُ
    البِيدُ، فانتحرَ الرُّجوعُ

    وزَوَتهُ حُفَرتُهُ وأطبقَ
    فوقَ مرقدِه الهُجوعُ

    وعَلا الدَّخانُ أزقَّةَ البترولِ،
    فانتبه الصَّريعُ

    واهتاجَ ثانيةً فمَدَّ
    زنودَهُ (النيلُ) الضَّليعُ

    وأحاطتِ الخضراءَ مِنْ
    أقوى سواعدِهِ دُروعُ

    وارتدِّ ظِلُّ الأمسِ والتحمَ
    التَّوقُّعُ والوقوعُ

    فتنادتِ النِّيرانُ والتقتِ
    المَصَارعُ والجُموعُ

    وانجرَّ عامان نجومهُمَا
    وشمسهُمَا النَّجيعُ

    فبِكُلِّ رابيةٍ إلى
    لحمِ ابنها ظمأٌ وجوعُ

    وبِكُلِّ مُنعرجٍ إلى
    تمزيق إخوته ولوعُ

    فهُنالك انقصفت يدان
    وثَمَّةَ انتثرت ضُلوعُ

    وهناكَ خرَّت قِمَّةٌ
    وهُنا هوى تلٌّ مَنيعُ

    فلكُلِّ شبرٍ مِنْ دمِ الشُّهداءِ،
    تاريخٌ يَضوعُ

    أرأيتَ حيثُ تساقطوا
    كيفَ ازدهى النَّصرُ المُريعُ

    حيثُ اغتلى الوادي ولفَّ
    (عَلِيّاَ) الصَّمتُ الجَزُوعُ (10)

    رَضِعَ الدُّجى دمَهُ فأشمسَ
    قبلَ أن يَعِدَ الطُّلوعُ

    حيثُ التقى (الحمزيَّ) ذابَ
    الغيمُ واحترقَ الصَّقيعُ

    حيث انطفا (سندٌ) تدلَّتْ أنجمٌ،
    وعَلَتْ شُموعُ

    حيث ارتمى (الكبسيُّ) أو
    رَقَ منجمٌ، وشدا ربيعُ

    وأعادتِ الأحداثُ
    سيرتَها فأرعدَتِ الرُّبُوعُ

    وتعطَّشَ الميدانُ فانفجر
    الضُّحى ودوى الهزِيعُ

    ومشَتَ على دَمِهَا الذِّئابُ
    وغاصَ في دمِهِ القطيعُ

    حتى توارى الأمسُ
    زغرَدَتِ المآتمُ والدُّموعُ

    وهَفَتْ أغانيها، تَضِجُّ
    (ليسلَمَ الشَّرفُ الرَّفيعُ)

    وتبوحُ للنَّصرِ انطلِقْ
    فمجالُكَ الأبدُ اللَّموعُ

    ولمُرضعي (سبتمبر)
    دَمَهم، لقد شبَّ الرَّضيعُ

    ***

    أتظُنُّ رابيةً تتوقُ
    إلى دِمٍ أغلى يسيلُ؟

    أو ما ارتوي عطشُ الرِّمال
    واُتخِمَ العَدَمُ الأكولُ؟

    يا للأسى، كيف استطبَّ
    مماتَهُ (اليمنُ) العليلُ

    ورنا السؤالُ إلى السؤالِ
    وبغتةً وَجمَ السَّؤولُ

    ماذا اسْتَجدَّ فباحتِ الأصداءُ،
    وارتجفَ الذُّهولُ

    لبَّى الدَّم الغالي دمٌ
    أغلى إلى الدَّاعي عَجُولُ

    مَنْ ماتَ؟ واسْتَحْيا السؤالُ
    وأطرقَ الرَّدُّ الخجولُ

    أهُنَا (الزبيريُّ) المُضرَّجُ؟
    بَلْ هُنَا شعبٌ قتيلُ

    وأعادتِ القِمَمُ الحكايةَ
    واستعادتْها السُّهولُ

    من ذا انطوى؟ علّمٌ
    خيوطُ نسيجِه الألمُ البتولُ

    في كُلِّ خَفقٍ مِنهُ (جبريلٌ)
    وفي فَمِهِ رَسُولُ

    بدأ الرَّعيلُ بهِ السُّرى
    فكبا وسارَ بهِ رَعيلُ

    وخبا وراءَ حنينِهِ
    جيلٌ، وأشرقَ فيهِ جِيلُ

    وعلى الحرابِ أتمَّ أشواطاً،
    مَداها المُستحيلُ

    وعلى سنى ميلادِهِ الثَّاني
    تكاتفتِ الفُلولُ

    لفَظَ البِلىَ غُربان (واقِ الواقِ)
    وانثنتِ ( المَغولُ)

    فاحتزَّ رحلتَهُ الرَّصاصُ
    النَّذلُ والطِّينُ العَميلُ

    فغفا وصِدْقُ الفجرِ في
    نظراتِهِ سَحَرٌ بليلُ

    أتقول ُعاجلَهْ الأفولُ؟
    فكيفَ أشعَلَهُ الأفولُ؟

    فعلى الجبالِ مِنَ اسمه
    شُعَلٌ مُجنَّحةٌ تَجولُ

    وصدىً تعنقِدُهُ الرُّبى
    وهوىً تُسَنبِلُهُ الحقولُ

    وبِكُلِّ مرمى ناظرٍ
    مِنْ لَمْحِهِ صَحْوٌ غَسيلُ

    كيف انتهى ولخطوِهِ
    في كُلِّ ثانيةٍ هَدِيلُ

    هو في النَّهارِ الذِّكرياتُ
    وفي الدُّجى الحُلْمُ الكحيلُ

    وهُنا ضُحىً مِنْ جُرحِهِ
    وهُناك من دمِهِ أصيلُ

    غربَ الشَّهيدُ وبينَهُ
    والمُنتهى الموعودِ (مِيلُ)

    مَنْ ذا يَكِرُّ إلى مَدَاهُ؟
    وقد خَلا مِنْهُ السَّبيلُ

    فليبتهِجْ دَمُهُ إلى
    أبعادِ غايتهِ وصولُ

    أو ما رأى الشهداءَ كيفَ؟
    اخضوضرتْ بهِمُ الفصولُ

    فرشوا (السَّعِيدةَ) بالرَّبيع
    ليهنَأ الصَّيفُ البذولُ

    ومضوا لوِجْهَتِهم ويبقى
    الخِصبُ إن مَضَت السُّيولُ

  • 20 كاهن الحرف

    ديوان مدينة الغد >  كاهن الحرف

    من تغني هنا؟ وتبكي علاماً؟
    كل شيء لا يستحق اهتماماً

    ألقضايا التي أهاجتك أقوى
    من أغانيك من نواح ألأيامي

    خلف هذا الجدار تشدو وتبكي
    والزوايا تندى أسى وجثاماً

    هذه ساعة الجدار كسول
    ترجع القهقرى وتنوي الأماماً

    والثواني تهمي صديداً وشوكاً
    وستهمي وليس تدري إلى ما؟

    والحكايا رؤى سجين أقروا
    شنقه بعد سجن ِ عشرين عاماً

    والمحبات والتلاقي رماد
    والأغاني برد القبور القدامى

    والصبيحات كاليتامى الحزانى
    والليالي كأمهات اليتامى

    عبثاً تنشد الكؤوس لتسلى
    مات سحر الكؤوس مل الندامى

    كل حين وكل شبر زحام
    من ركام الوحول يتلو زحاماً

    من تعني يا (كاهن الحرف) ماذا؟
    هل سعال الحروف يشجي الركاماً

    سبتمبر 1969م

  • 21 من رحلة الطاحونة إلى ميلاد الثاني

    ديوان مدينة الغد >  من رحلة الطاحونة إلى ميلاد الثاني

    من الفجر حتى الفجر ننجر كالرحى
    إلى أين يا مسرى ومن أين يا ضحى

    أضعنا بلا قصد طريقاً أضاعنا
    ولاح لنا درب بدأناه فأنحمى

    وشوشنا تلويح برق أهاجنا
    وولى ولا ندري إلى أين لوحا

    وقلنا كما قال المجدون من غفا
    عن الفوز لم يظفر ومن جد أفلحا

    إذا لم نجد في أول الشوط راحة
    فسوف نلاقي آخر الشوط أروحا

    ورحنا نسقي الرمل أمواه عمرنا
    فيظمأ ويرويه إلى أن ترنحا

    ***
    سرينا وسرنا نطحن الشوك والحصى
    ونحسو ونقتات الغبار المجرحا

    ومن حولنا الأطلال تستنفر الدجى
    وترخي على الأشباح غاباً من اللحى

    هنا أو هنا، يا زحف نرتاح ساعة
    تعبنا وأتعبنا المدار المسلحا

    كطاحونة نمضي ونأتي كمنحنى
    يشد إلى رجليه تلاً مجنحا

    ***
    فيا ذكريات التيه من جر قبلنا
    خطاه وأمسى مثلنا حيث أصبحا

    ركضنا إلى الميلاد قرناً وليلة
    ولدنا فكان المهد قبراً تفتحاً

    ومتنا كما يبدو رجعنا أجنة
    لنختار ميلاداً أشق وانجحا

    2/8/1969م

  • 22 هو… وهي

    ديوان من أرض بلقيس >  هو… وهي

    لاقيتها وهي تهواني وأهواها
    فما أحيلى تلاقينا وأحلاها!

    وما ألذ تدانيها وأجملها
    وما أخف تصابيها وأصباها

    فهي الربيع المغنى وهي بهجته
    وهي الحياة ومعنى الحب معناها

    وإنها في ابتسامات الصبا قبلٌ
    سكرى تفيض بأشهى السكر رباها

    وفتنة من شباب الحسن رقمها
    فنُ الصَبا وحوار الحب غناها

    لاقيتها وأغادير الهوى بفمي
    تشدو وتشدو وتستوحي محياها

    غازلتها فتغاضت لحظة ودنت
    وعنونت با بتسامات الرضا فاها

    ** ** **

  • 23 حلوة الأمس

    ديوان مدينة الغد >  حلوة الأمس

    أي شوق إليك أي اندفاعه
    فلماذا استحال جوعي قناعه

    لم تكوني شهية الدفء لو لم
    ترتعش في دمي إليك المجاعة

    كنت يا حلوتي أضن اشتهائي
    بعد أن تبذلي يزيد فظاعة

    غير أني طين يئج وتطفي
    ناره تفلة تسمى أضطجاعة

    ***
    قد تقولين سوف أناى ويظما
    ثم يأتي وتجتدي في ضراعة

    ربما أشتهيك عاماً وأنهي
    شوق عامين في مدى ربع ساعة

    “حلوة الأمس” ما تزالين أحلى
    إنما في تصوراتي الشناعة

    ما اختتمنا تمثيل دور بدأنا
    منه فصلاً لكن فقدنا البراعة

    ***
    هل تخيفينني بإسعاد غيري
    صدقيني إذا أدعيت المناعة

    فلتخصي بما لديك فلاناً
    أو فلاناً أو فلتكوني مشاعة

    5/7/1968م
    * * *

  • 24 ما لي صمت عن الرثاء

    ديوان من أرض بلقيس >  ما لي صمت عن الرثاء

    يقولون لي ما لي صمت عن الرثاء
    فقلت لهم إن العويل قبيحُ

    وما الشعر إلا للحياة وإنني
    شعرت أغنى ما شعرت أنوحُ

    وكيف أنادي ميتاً حال بينه
    وبيني تراب صامت وضريحُ

    وما النوحُ إلا للثَكالى ولم أكن
    كثكلى على صمت النُعوس تصيحُ

    ** ** **

  • 25 ثكلى بلا زائر

    ديوان مدينة الغد >  ثكلى بلا زائر

    بنات عيسى وأبنه المغرب
    لبسن ألوان الربيع الصبي

    رجعن بعد”النقش” من بابنا

    يركضن ، يضحكن، بلا موجب

    وموكبت “بلقيس” من صنفها
    عشراً، وقادت رحلة الموكب

    ورحن من سوق إلى شارع
    على شظايا أعين العزب

    يسخرن حيناً من هوى معجب
    وتارة يبحثن عن معجب

    يبدين أطراف الحلى عنوة
    وغفلة يسفرن، للأجنبي

    و”أم نشوان” احتلت فانثنت
    حسناء، بين البكر والثيب

    * * *
    فكيف ألقي العيد يا والدي؟
    أقوى من النسيان ذكرى أبي

    جاءت قبيل الأمس أمي “تقي”
    في لهفة الأم، وعنف الغبي

    فاحمر من تقبيلها مدمعي
    وانهد من تربيتها منكبي

    وهدأتني أمس “وهاسة”
    يا بنتي ارتاحي غداً وأطربي

    لا تحرمي طفليك، عيديهما
    لاقيهما فرحى ، ولو ، جربي

    ما أنت أولي امرأة فارقت
    أباً، جرى هذا، لبنت النبي

    * * *
    ولفني ليل كسول، بلا
    قلب، بلا حلم ، بلا كوكب

    وأصبح العيد فماح الصبا
    من ملعب داو ٍ، إلى ملعب

    وثرثر المذياع ، ملء المدى
    يا عيد ، يا عيد، ولم يتعب

    واستنطق “الحيمي” فتفراقه
    وصاح وابناه مع (القعطبي”

    زمر وحشد هًهُنا أو هنا
    مدافع كالأحمق المغضب

    لا، لن أطيق اليوم أمواجه
    من صخب عال ٍ إلى أصخب

    أغلقت باب البيت في وجهة
    فانسل من شباكه الأشيب

    هربت من تلويح كفيه، من
    عينيه، فانثال على مهربي

    كيف يرى “ثكلى بلا زائر”؟
    وأين من أضوائه أختبي

    اليوم”عيد الله” يا والدي
    فأين أنت اليوم؟ تهتم بي

    تجيئني قبل الضحى كي أرى
    أثمار حلمي في السنى المذهب

    تلتذ باسمي تستجيد ابنتي
    يتمتم ابني باسمك الأعذب

    تقول “كعكي” لم تذق مثله
    “كقهوتي” في العمر لم تشرب

    يعيدني تدليلك المشتهى
    صبيه كطائر الأزغب

    زوار جاراتي أتوا وانثنوا
    وأنت لم تقبل ولم تذهب

    فرحت أضني البحث فيمن مضى
    أو من أتى عن وجهك الطيب

    لكل بنت والدٌ أو أخ
    إلا أنا، يا ليت يدري أبي

    حتى أبو “سعدى” أتى بعدما
    غاب ثلاثين ، ولم يكتب

    وعاد من “غانا” أخو “زهرة”
    وعم (أروى) عاد من (يثرب)

    أبي، أتدري من ينادي؟ أما
    تشتم ريح الدار كالغيب

    عمي الذي أوصيته لا تسل
    عن فرخة، في ذمة الثعلب

    لو شم كفي لاحتسي خاتمي
    لومس رجلي، لاحتوي جوربي

    في آخر السبعين ، لكنة
    أصبي إلى اللدغ من العقرب

    ومت أنت الغض ، وأبن البلى
    كالبغل يا للموقف الأغرب

    كيف نجا اللص ومات الذي
    يستغفر الله ولم يذنب

    عفواً، فلا تدري، ولا علم لي
    كيف يعادي الموت أو يجتبي

    مارس سنة 1969م
    ** ** **

  • 26 هموم الشعر

    ديوان من أرض بلقيس >  هموم الشعر

    لمن الهيامُ؟ لمن تذوب هُياما؟
    ولمن تصوغ من البكا أنغاما

    ولمن تسلسل من ضلوعك نغمه
    حيرى تناجي الليل والأحلاما

    ونشائداً جرحى اللحون كأنها
    من رقة الشكوى قلوبُ يتامى

    يا شاعرً الآلام كمْ تدمى وكمْ
    تبكي وتحتمل الهموم جساما

    خفف عليك وعش بقلبك وحده
    واسأل نهاك لم البكا وعلاما؟

    واربأ بنفسك فهي أسمى غاية
    من أن تذوب صبابة وغراما

    كمْ همت بالآلام تشدو باسمها
    وعلى الأنين تدلل الآلاما

    بلواك يا بن الشعر فجر شاعرٌ
    يهدي إليك الوحي والإلهاما

    وبكاك ترنيم الخلود إذ اشتكى
    غنى الحياة ورقص الأياما

    في قلبك الهموم ألفُ خميلة ٍِ
    تلدُ الهموم أزاهراً وخُزامى

    جلَّت هموم الشعر إن دموعها
    فنُ يدير من الدموع مُداما

  • 27 حماقة وسلام

    ديوان مدينة الغد >  حماقة وسلام

    ماذا ترى؟ وهنا يريد،
    وطاقة تمتص طاقة

    وأفاقة كالسكر…
    أو سكر أمر من الإفاقة

    جيلاً يوثق بين مصرعه،
    ومحياة.. العلاقة

    ويريق آلاف الكؤوس،
    أسى على الكأس المراقة

    تشتد فيه قوى الفتى
    و وتميع في دمه الرشاقة

    * * *
    جيل التحرر والهوى
    عبد التفاهة والأناقة

    جيل التفتح والتمزق
    والحداثة والعتاقة

    حيران يغمره الشروق،
    ولا يرى أي ائتلاقه

    ومرفه للجوع في
    ذرات طينته… عراقه

    غضبان يبلع بعضه
    بعضاً، ويفخر بالصفاقة

    وسينتهي.. وجد السلاح،
    وليس تنقصه الحماقة

    ليت الذي دفع السلاح
    إلية، علمه اللباقة

    حتى يعي من يستفز،
    ومن يلاقي في طلاقة

    حتى يوالي عن هدى
    يقظٍ، ويكره عن لياقة

    من لا تعلمه العداوة
    فهو أجهل بالصداقة

    11/10/1968م

  • 28 نحن أعداؤنا

    ديوان مدينة الغد >  نحن أعداؤنا

    لأنا رضعنا حليب الخنوع
    تقمصنا من صبانا الخضوع

    فجعنا ليكتظ جلادنا
    ويطغى وننسى بأنا نجوع

    وحين شعرنا بنهش الذئاب
    شددنا على الجرح نار الدموع

    ورحنا نجيد سباب الدجى
    ولم ندر كيف نضيء الشموع

    نفور وتطفئنا تفلةٌ
    فنمتص إطفاءنا في خشوع

    ولما سمعنا انفجار الشعوب
    أفقنا نرى الفجر قبل طلوع

    ويوماً ذكرنا بأنا أ ُناس
    فثرنا ومتنا لتحيى الجموع

    ولكن لبسنا رداء الأباة
    وفي دمنا المستضام الهلوع

    فحين انتوينا شروع المسير
    حذرنا المغبات قبل الشروع

    وقلنا أتى من وراء الحدود
    جراد غريب فأشقى الربوع

    وليس عدانا وراء الحدود
    ولكن عدانا وراء الضلوع

    فقد جلت الريح ذاك الجراد
    فكنا جرداً وكنا الزروع

    * * *
    ومن ذا أتي بعد؟ غاز تصول
    يداه ويرنو بعيني “يسوع”

    عرفناك يا أروع الفاتحين
    إلى أين؟ ليس هنا من تروع

    أنلقاك يا “عنتر” أبن السيوف
    بغير المواضي وأقوى الدروع

    وكانت بروق الدم المفتدي
    وعوداً تعي وغيوباً تضوع

    هناك انتصرنا بذرنا الربيع
    ولكن جنينا شتاء القنوع

    وقفنا نحوك لأبلى القبور
    وجوهاً نعصر طلاء الصدوع

    وليس عدانا وراء الحدود
    ولكن عدانا وراء الضلوع

    ***
    ترى كيف نمضي وهل خلفنا؟
    منوع وبين يدينا منوع

    وأين وصلنا؟ هنا لم نزل
    نبيع المحيا ونشري الهجوع

    ***
    فهل خلفنا شاطئ يا رياح!
    أقدامنا مرفأ يا قلوع؟

    وصلنا هنا لا نطيق المضي
    أماماً ولا نستطيع الرجوع

    فلم يبق فينا لماض هوى
    ولم يبق فينا لآت نزوع

    إبريل 1969م

  • 29 ميلاد الربيع

    ديوان من أرض بلقيس >  ميلاد الربيع

    ولد الربيع معطر الأنوار
    غرد الهوى ومجنح الأشعار

    ومضت مواكبه على الدنيا كما
    تمضي يد الشادي على الأوتار

    جذلان أحلى من محاورة المنى
    وأحبٌ من نجوى الخيال الساري

    وألذُ من سحر الصَبا وأرق من
    صمتِ الدموع ورعشه القيثار

    هبط الربيع على الحياة كأنه
    بعْثٌ يعيدُ طفولة الأعمار

    فصبت به الأرض الوقور وغردت
    وتراقصت فتن الجمال العاري

    وكأنه في كل وادٍ مرقص
    مرح اللحون معربدً المزمار

    وبكل سفحٍ عاشقٌ مترنم
    وبكل رابية لسان قاري

    وبكل منطعف هديرُ حمامه
    وبكل حانية ٍ نشيدُ هزار

    وبكلٌ روض ٍ شاعرٌ يذرو الغنا
    فوق الربا وعرائس الأزهار

    وكأن أزهار الغصون عرائس
    بيض معندمة الشفاء وعواري

    وخرائد زهرُ الصبا يسفرن عن
    ثغر لؤليَّ وخد ناري

    من كل ساحرة الجمال تهزها
    قبل الندى وبكا الغدير الجاري

    وشفاه أنفاس النسيم تدبٌ في
    بسماتها كالشعر في الأفكارٍ

    فِتنٌ وآيات تشعُ وتنتشي
    كالحور بين تبسمٍ وجوار

    ناريةُ الألوان فردوسية
    ذهبية الآصال والأسحار

    آذارُ يا فصل الصبابة والصَّبا
    ومراقص الأحلام والأمطار

    يا حانة اللحن الفريد وملتقى
    نجوى الطروب ولوعة المحتار

    أجواؤك الفضية الزرقا جلت
    صور الهنا وعواطف الأقدار

    ومحا هواك هوا الشتا القاسي كما
    يمحو المتابُ صحيفة الأوزار

    في جوك الشعري نشيد حالم
    وعباقر شمُ الخيال عذاري

    * * *

    ما أنت إلا بسمة قدسيةُ
    ريا الشفاه عميقة الأسرار

    وبشائر مخضلة وترنم
    عبقٌ أنيق السحر والسَّحَّار

  • 30 الحريق السَّجين

    ديوان في طريق الفجر >  الحريق السَّجين

    3/1/1383هـ
    26/5/1963م

    هناك وراء الأنين أنين التراب حريقٌ سجين

    يهدهد خلفح امتداد الغيوم صباحاً دفين

    يمد نهود أغانيه، يرضعن حلم الأنين

    وتحضر بين جناحي صداه رمال السنين

    على وجهه من سهاد الل يالي ذهولٌ حزين

    وجوعٌ إلى لا مدى حنينٌ ينادي حنين

    * * *

    وشوقٌ يفتش في كل طيفٍ على الجنة الضائعه

    وينهض من عثرات التراب منىً ضارعه

    ويحسو الفراغ ويسقيه أغنيةً رائعه

    ويستورد الريح أنف اس رغبته الجائعه

    * * *

    ويوقد أشلاءه للرؤى والصدى العائد

    ويطمع أن يستفز ضمير الدجى…. الحاقد

    وحشرجة الشهب فيه بقايا دمٍ جامد
    ويعطي عيون الجليد رؤى الموسم الواعد

    وتعوي الرياح فيخفق كالطائر البارد

    ويعيا جناحٌ فيسمو على جانحٍ واحد

    * * *

    يدلل فوق انتظار الربى منية كادحه

    ويسقي الحنان قبوراً هناك معذبةً صائحه

    تعالج أوجاعها المعضلات “بيس” و”الفاتحه”

    وتخشى خيال الشروق فتغلق حفرتها النازحه

  • 31 سوف تذكرين

    ديوان مدينة الغد >  سوف تذكرين

    ذات يوم ستذكرين ارتجافي
    بين كفيك وانهيال اعترافي

    وسؤالي من ذا هنا وارتياعي
    من سؤالي وخشيتي أن تخافي

    واقترابي حتى شممت وعودي
    بأسى جيئتي وهز انصرافي

    ***
    وورائي ذكرى تعض يديها
    وأمامي طيفٌ كوحش خرافي

    من ورآني من أين جئت وأمضي
    كالصدى كاغتراب ريح الفيافي

    أي جدلى رجعت عنها ومنها
    وإليها جنازتي وزفافي

    والذي كان منزلي قبل حين
    جئته فاستحال منفي المنافي

    إنما سوف تذكرين وقوفي
    بين كفيك أجتدي أو أصافي

    ***
    ذات يوم سترحمين احتراقي
    بعدما ذبت واعتصرت جفافي

    وتقولين كان عصفور حب
    ظامئاً كيف عز عنه ارتشافي

    كان يأتي والجوع يشوي يديه
    وعلى وجهة اصفرار القوافي

    واختلاجاته تسلي غروري
    وانكساراته تحت انعطافي

    كان يقتاده عبيري فيدنو
    ثم يثنية ضعفه عن قطافي

    ***
    وتعودين تذكرين التماسي
    ورجوعي وكيف كنت أوافي

    وتودين لو بذلت ولكن
    عند أن تجدبي وأرضي عفافي

    2/2/1969م

  • 32 بين أختين

    ديوان مدينة الغد >  بين أختين

    أيقول إني ربما
    سلخته من دعوى الشهامه

    لو يجتديها هل تجود
    ولو أبت يا للندامه

    كانت مطلقة فهل
    تأبى الذلول المستهانه

    لكن لماذا يشتهيها كم
    يلح بلا سآمه

    أو ما تلوح كأختها
    أو أنها أجلى قسامه

    وأبض أفناناً وأعرض
    مئزراً وأمد قامه

    في عنفوان السبع
    والعشرين أمرح من غلامه

    لو لم تكن أخت التي
    في داره لرمي احتشامه

    * * *
    أيطيق لو سخرت به
    حمل القطيعة والملامه

    أو لو حكته لأختها
    لاستعجلت يوم القيامه

    لكن رفيف ثمارها
    يدعوه ينتظر اقتحامه

    * * *
    أترده لن تستحيل
    لبوءة هذي الحمامه

    أو لم تعده دلائلٌ
    منها ملونة الوسامه

    * * *
    ضحكت له يوم الخميس
    وضحكة الأنثى علامه

    وأحسها لمحت هواه
    بعين زرقاء اليمامه

    أيام وعكة أختها
    جاءت وطولت الإقامه

    وبدت أرق من الندى
    وتكلفت كذب الصرامه

    وغداة زار شقيقها
    كانت أرق من المدامه

    حيته حين أتى وقالت
    حين عاد مع السلامه

    سلم على تقوى وزادت
    دفء نبرتها رخامه

    فنوى تصيدها غداً
    أو بعد ولتقم القيامه

    * * *
    وأختار حلته ونمق
    فوق جبهته العمامه

    وأتى يغني “يا عروس الروض”
    أو يا ريم رامه

    أو يشرئب كظامئ
    بيديه يعتصر الغمامه

    حتى دنا من دارها
    حيته آيات الفخامه

    من ذا هنا؟ خرجوا أتدري
    عاد خالي من تهامه

    كيف العيال؟ وأين أختي
    عند عمتها كرامه

    ودعته ضحكتها فهم
    وعادة خور ” النعامه”

    ودنت كأجنى كرمة
    تلهو بنهديها أمامه

    وأراد فاستحيا على
    شفتيه مشروع ابتسامه

    1/7/1968م

  • 33 ضائع في المدينة

    ديوان مدينة الغد >  ضائع في المدينة

    سوف أبكي ولن يغير دمعتي
    أي شيء من وضع غيري ووضعي

    هل هنا أو هناك غير جذوع
    غير طين يضج، يعدو ويقعي

    لو عبرت الطريق عريان أبكي
    وأنادي، من ذا يعي، أو يوعي؟

    يا فتى! يا رجال! يا.. يا وأنسى
    في دوي الفراغ صوتيي وسمعي

    ***
    ربما قال كاهن ما دهاني؟
    ومضى يستعيذ من شر صنعي

    ربما استفسرت عجوز صبياً
    ما شجاني، وأين أمي وربعي

    أو رمى عابر إلى التفاتاً
    واختفى في لحاق جمع بجمع

    ***
    إنما لو لمست جيب غني
    في قوى قبضته قوتي، ومنعي

    لتلاقي الزحام حولي يدوي
    مجرم، واحتفى بركلي وصفعي

    ولصاح القضاة ما أسمي وعمري؟
    من ورائي؟ ما أصل أصلي وفرعي

    ما الذي يا فلان يا أبن فلان؟
    ولهوا ساعة بخفضي ورفعي

    وهذي المدعي بقتلي لأني
    خنت، حاولت مكسباً غير شرعي

    وزرعت اللصوص في كل درب وعلي
    ابتلاع أشواك زرعي

    فيقص القضاة أخطار أمسي
    وغدي وانحراف وجهي وطبعي

    عندهم من سوابقي نصف سفر
    وفصول أشد، عن خبث نبعي

    وسأدعى تقدمياً خطيراً
    أو أسمى تآمرياً، ورجعي

    وهنا سوف يحكمون بسجني
    ألف شهر، أو يستجيدون قطعي

    وسأبكي ولن يغير دمعي
    أي شيء من وضع غيري ووضعي

    25/4/1969م
    ** ** **

  • 34 أين مني

    ديوان من أرض بلقيس >  أين مني

    أين مني حنانها أين مني
    ملتقاها لم يبق إلا التمني

    وشجون تهفو بقلبي إليها
    وظنون تقصي مرادي وتدني

    هي أدنى إليَّ من سر قلبي
    وهي في القرب أبعد الناس عني

    وهي في خاطري وأشكو نواها
    وأقاسي ظلم الهوى والتجني

    فاسمعيني يا حبيبة الروح نجوى
    خاطري وارقصي على شجو لحني

    إنني يا حبيبتي شاعر الـ
    ـحب وللحب أغنياتي وفني

    يجرح الحب أغنياتي فيصبيـ
    ـها ويبكيني الهوى فأغني

    حين يضنيني الغرام أغنيـ
    ـه وأسمى الغرام ما كان مضني

    ساجليني يا ربة الحسن أشوا
    قي وعاني معي الغرام المعني

    إنني يا آلهة الحسن أهوا
    ك وإن الهوى من الحسن يغني

    إنني ظامئ إليك وكم أظما
    وأظما وفيك خمري ودنِّي

    في معانيك سكرة الحب والفن
    وفيها رقص الخيال المغني

    وفتون حي يموج على أعـ
    ـطاف حسنا يجل عن كل حسن

    إنها كل ما أريد من الدنـ
    ـيا وما يشتهي يقيني وظني

  • 35 عند مجهولة

    ديوان مدينة الغد >  عند مجهولة

    هذه الأمسية الكسلى الغريبة
    مرح خاب ولذات كئيبة

    ألسقوف الخرس أيد لا ترى
    ووراء الباب أنفاس مريبة

    والزوايا أذرع مجهولة
    والكوى عينا رقيب أو رقيبة

    ربما أخطأت لكن قلق
    يعتريني واحتمالات قريبة

    * * *
    أللقاء الحلو مر هًهٌنا
    وتناجى الحب دقات رتيبة

    هذه الساعات أنس خائف
    ومنى خمرية جذلى رهيبة

    أين طعم الخمر والحب إلي
    ولي الكأس ملأى والحبيبة

    يا حنان الغنجا إلي
    أين تمضي بي لياليك العجيبة

    هًهُنا يا شهرزاد انطفأت
    نار جدبي وابتدت نار خصيبة

    * * *
    إنما من أنت قولي لي أما
    خلف برق الأنس أمطار المصيبة

    بالهوى من أنت يا مجهولة
    دون أن أدعوها كانت مجيبة

    فلتكوني من تريدين لقد
    كنت مصدوراً فأصبحت الطبيبة

    29/10/1969م

  • 36 كيف أنسى

    ديوان من أرض بلقيس >  كيف أنسى

    هيهات أن أنسى هواك وكلما
    حاولت أن أنسى ذكرتك مغرماً

    يا للشجون وكيف أنسى والأسى
    يقتات أوصالي وينتزف الدما

    يا أخت روحي وابتسام طفولتي
    وبكا شبابي آه ما ألقى وما

    خلفتني وحدي ألوك حُشاشتي
    أسفاً وأفنى حُرقةَ وتضرما

    وحدي مع الأمل الذبيح تطوف بي
    ذكر متيمةٌ يشقن متيما

    واليوم إني حول قبرك صامت
    أقتات من جوعي وأستقي الظما

    وأقبلُ القبر الحبيب ومنيتي
    لو أن لي في كل جارحة فما
    وأسائل الصمت الرهيب كأنني
    جوعان محتضر يسائل معدما

    * * *

    يا من أناديها ويخنقني البكاء
    ويكاد صمتُ الَدمعِ أنَ يتكلما

    فارقت في مثواك رفق أبوتي
    وفقدت عطف الأم فيكِ مجسما

    يا قلبي الدامي وآه وأين منْ
    فاضت عليَّ عواطفاً وترحما

    غابت وغبت وكلما فارقتها
    لاقيتها في الذكريات توهما

    ما لي أناجيها وكيف وكلما
    ناجيتها ناجيتُ قبراً أبكما

    * * *

    وافيت قبركِ: والسكون يلفهُ
    وسكينة الأجداث تحيي المأتما

    فسألت وأرتجف السؤال متى اللقا
    فعصى الجواب لسانه وتلعثما

    فذكرت أن الموت خاتمةُ اللقا
    فقتلت آمالي وليت وربما

    وتألمت روحي ووجداني إلى
    أن كادت الآلام أن تتألما

    * * *

    يا روع قلبي كيف أنسى روضة
    حضنت صبا عمري فرف منعما

    كم دللتني بالحنان ولم تكنْ
    أمي وقد كانت أرق وارحما

    حتى عميت فكاد يعميها البكاء
    وحنانها الباكي يشاركني العمى

    * * *

    كم صارعت عنت الخطوب وما
    مضت من ظالم إلا تلقت أظلما

    ومشت على شوك الحياة وهولها
    وكأنها كانت تدوس جهنما

    فرمت إلى حضنٍ الممات كيانه
    وتبدلت بالكدً عيشا أنعما

    وتبرمت بحياتها الضنكى ومنْ
    برمت به متعُ الحياة تبرما

    وحييت بعد مماتها ميْت الهنا
    حياً أموت تأوهاً وتألما

    ** ** **

  • 37 سيرة الأيام

    ديوان مدينة الغد >  سيرة الأيام

    ربما لا تطيق مثلي قراراً
    فلنسافر… تساؤلاً وادكارا

    يا صديقي الحنين.. من أين تدري؟
    كيف عاد الضحى؟ وأين توارى؟

    أتراه نهار الأمس… المولي
    عاد أشهى صباً، وأسخى انهمارا

    هل رماد الضحى، يحول رداء
    للعشايا، لكي يعود نهارا

    ألعشايا صبح كفيف يدلي
    شوقه من رماد عينيه نارا

    يسحب الظل، والطيوف الحزانى
    ويعاني شوق الطيور الأسارى

    ثم يأتي… كما مضى… في ذهول
    شفقي ، يدمي ، ويندى افترارا

    يا صديقي… وهل يعي كيف أغفي
    جمر أجفانه وكيف أنارا

    وهل الشمس طفلة، أو عجوز
    تستعير الصبا، وتغوي المدارا

    أتراها عصرية، أم تراها
    متحفاً دايرا، يوشي الجدارا

    ما الذي تدعي؟ لها كل يوم
    مولد، كيف “يا فقيه بخارى”

    أو ما أزوجت (وروما) جنين
    و(أبو الهول) في حنايا الصحارى

    أو ما أدفأت (ثبيراً) ولما
    يلد الغيب (يعرباً) أو(نزارا)

    فليكن… إنما الأصالات أبقى
    جدة ، والنضار يبقى نضاراً

    يا صديقي… فكيف يدعون هذا
    مستعاداً، وذاك يدعى ابتكاراَ

    ربما لم يجد شيء، ولكن
    نحن نرنو، بناظرات السكارى؟

    والربيع، الذي نرى اليوم، هل كان
    الربيع ، الذي رأينا مراراً

    وسنلقاه، بعد (كانون) أملي
    بالرؤى من عيون أحلى العذارى

    والمصيف الذي تراه كباراً
    كان ذاك الذي شهدنا صغاراً

    ولماذا صمت، ترنو يميناً
    في شرود، وتستدير يساراً

    كيف نغضي، وللسؤالات ركض
    تحت أهدابنا، يخوض الغماراً؟

    هل تحس الحقول ما سر(نيسان)؟
    ومن أين عاد يهمي اخضراراً

    كيف أصغت إليه؟ هل ضج يا أشواك
    موتي… وبارك (الجلناراً)

    أي فصل من الفصول التوالي
    أسكت(البوم) وأستعاد (الهزارا)؟

    أين يمضي الزمان: هل سوف يطوي
    سفره، أو يعي فيشكو العثارا؟

    ربما… إنما… لماذا ننادي؟
    ويضيع الصدى، فنرجو القفاراً

    أتظن الرياح، تدري إلى أين؟
    ومن أين، تستهل المساراً؟

    أتراها، تعطي الربى جانحيها
    ذات يوم، وتستعير الوقاراً؟

    يا صديقي… أنا وأنت اشتهاء
    نحتسي الملح، أو نلوك الشفاراً

    طال فينا جوع السؤال فأطعمناه
    (كانون) واعتصرنا الغباراً

    واجتداناًولائماً عاجلات
    فطبخنا على النجوم الحيارى

    كل ما عندنا نداء بلا رد
    سؤال، يتلو سؤال، مثاراً

    من دعانا؟ ومن ننادي؟ أصخنا
    وانتظرنا، حتى حرقنا انتظاراً؟

    فلننم… والنعاس يروي حكايانا،
    ويرخي قبل الشروع الستاراً

    مارس 1968م

  • 38 ذات يوم

    ديوان مدينة الغد >  ذات يوم

    أفقنا على فجر يوم صبي
    فيآ ضحوات المنى أطربي

    * * *
    أتدرين يا شمس ماذا جرى؟
    سلبنا الدجى فجرنا المٌختبي!

    وكان النعاس على مقلتيك
    يوشوش ، كالطائر الأزغبِ

    أتدرين أنّا سبقنا الربيع
    نبشر بالموسم الطيبِ؟

    وماذا؟ سؤال على حاجبيك
    تزنبق في همسك المذهبِ؟

    وسرنا حشوداً تطير الدروب
    بأفواج ميلادنا الأنجب

    وشعباً يدوي: هي المعجزات
    مهودي، وسيف (المثنى) أبي

    غربت زماناً غروب النهار
    وعدت، يقود الضحى موكبي

    * * *
    أضانا المدى، قبل أن تستشف
    رؤى الفجر، أخيلة الكوكبِ

    فولى زمانٌ، كعرض البغي
    وأشرق عهدٌ، كقلب النبي

    طلعنا ندلي الضحى ذات يوم
    ونهتف: يا شمس لا تغربي

    سبتمبر1962م
    ** ** **

  • 39 الحب القتيل

    ديوان من أرض بلقيس >  الحب القتيل

    يا حيرتي أين حبي أين ماضيه
    وأين أين صباه أو تصابيه

    قتلت حبي ولكني قتلت به
    قلبي ومزقت في صدري أمانيه

    وكيف أحيا بلا حبُ ولي نفسِ
    في الصدر أنشره حياً وأطويه

    قتلت حبي ولكن! كيف مقتله؟
    بكيت حتى جرى في الدمع جاريه

    أفرغت من حدق الأجفان أكثره
    دمعاً وألقيت في النسيان باقيه

    ما كنت أدري بأني سوف أقتله
    أو أنني بالبكا الدامي سأفنيه

    وكم بكيت من الحب العميق إلى
    أن ذاب دمعاً فصرت اليوم أبكيه

    وكم شدوت بواديه الوريف وكم
    أفعمت كأس القوافي من معانيه

    وكم أهاب بأوتاري وألهمني
    وكم شربت الأغاني البيض من فيه

    واليوم واريت حبي والتفت إلى
    ضريحه أسال الذكرى وأنعيه

    قد حطم اليأس مزمار الهوى بفمي
    وقيد الصمت في صوتي أغانيه

    إن الغرام الذي قد كنت أنشده
    أغاني الروح قد أصبحت أرثيه

    ويلي وويلي على الحب القتيل ويا
    لهفي على عهده الماضي وآتيه

    ما ضرني لو حملت الحب ملتهباً
    يُميت قلبي كما يهوى ويحييه

  • 40 سفاح العمران

    ديوان مدينة الغد >  سفاح العمران

    يا قاتل العمران.. أخجلت
    المعاول.. والمكينة

    ألآن في فمك النفوذ
    وفي يديك دم الخزينة؟

    جرحت مجتمع الأسى
    وخنقت في فمه.. أنينه

    وأحلت مزدحم الحياة
    خرائباً ثكلى طعينه

    ومضيت من هدم إلى
    هدم كعاصفة هجينيه

    وتنهد الأنقاض في
    كفيك أوراق ثمينه

    وبشاعة التجميل في
    شفتيك كأس أودخينه

    سل ألف بيت عطلت
    كفاك مهنتها الضنينه

    كانت لأهليها متاجر
    مثلهم صغرى أمينه

    كانوا أحق بها كما
    كانت لمثلهم قمينه

    فطحنتها… ونفيتهم
    من للضحايا المستكينة؟

    أخرجتهم كاللاجئين
    بلا معين أو معينه

    وكنستهم تحت النهار
    كطينة تجتر طينه

    فمشوا بلا هدف بلا
    زاد سوى الذكرى المهينة

    يستصرخون الله والإنسان
    والشمس الحزينة

    وعيون أم النور خجلى
    والضحى يدمي جبينه

    والريح تنسج من عصير
    الوحل قصتك المشينة

    * * *
    من أنت؟ شيء عن بني
    الإنسان مقطوع القرينة

    ذئب على الحمل الهزيل
    تروعك الشاه السمينة
    عيناك مذبحة مصوبة
    ومقبرة كمينه

    ويداك، زوبعتان
    تنبح في لهاثهما الضغينة

    يا وارثاً عن فأر(مأرب)
    خطة الهدم اللعينة

    حتى المساجد رعت فيها
    الطهر، أقلقت السكينة

    يا سارق اللقمات ، من
    أفواه أطفال المدينة

    يا ناهب الغفوات من
    أجفان “صنعاء” السجينة

    من ذا يكف يديك عن
    عصر الجراحات الثخينة

    من ذا يلبي لو دعت
    ها ذي المناصات الدفينة
    من ذا يلقن طفرة
    الإعصار أخلاقاً رزينة

    نأت الشواطئ يا رياح
    فأين من ينجي السفينة؟!

    مارس 1967م

  • 41 أم في رحلة

    ديوان مدينة الغد >  أم في رحلة

    هل هذا طفلك؟ واقتربت
    كالطفل تناغي وتنادي:

    طفلي هل أعجب سيدتي؟
    حلو كهدايا الأعياد

    وكأول إحساس الأنثى
    برنو المعجب والصادي

    ما أسم المحروس؟ أجب يا بني
    (نعمان) كجد الأجداد

    أهلاً(نعمان) فيستحي
    ويرفرف كالورد النادي

    فتحاكي لثغته الخجلى
    وتغمم كالنبع الشادي

    ما أروعه يا عم وما
    أسخى عينيه بإسعادي

    أولادي الأربعة اختلطوا
    فيه ما أحلى أولادي

    عيناه كعيني (عائشة)
    خداه كخدي (عباد)

    فمه يفتر كثغر (لمى)
    زنداه كزندي (حماد)

    ***
    شكل حلو ما أجمله
    كالطيف كأطيار الوادي

    كالحب كدغدغة الذكرى
    كالحلم كهمس الميعاد

    أشتم حليبي..في فمه
    قبلاتي أنفاس بلادي

    وتمد إلي ملامحه
    فرحي وعذاب الميلاد

    زهوي بالحمل كجاراتي
    صرخات المهد وأجهادي

    وتعيد إليً طفولته
    صغري وطفولة أندادي

    فكأني ولداتي نشدو
    أو نركض كالسيل العادي

    ***
    (نعمان) أعاد صبا عمري
    يا عم ، وأيقظ إيقادي

    كهوى كلت أنشودته
    وتلظى رجع الإنشاد

    خلفي يا عم نداءات
    وأمامي سحر الإبعاد

    أمضي وأعود وأطفالي
    أسفاري أشواقي معادي

    لا تأسي يا بنتي إني
    سافرت العمر بلا زاد ٍ

    خضت الخمسين بلا ولد
    يرجى وبلا أمل حادي

    وأتى الأولاد بلا رزق
    وبلا طرق وبلا هادي

    فصبرنا صبر الدرب على
    أقدام الرائح والغادي

    واستنجدنا المولى حتى
    لبانا أسخى إنجاد

    ***
    أتحبين ابني؟ كل أبن
    في الأرض وكل الأحفاد

    ***
    عفواً يا عم أنا أم
    أولاد الغير كأولادي

    سبتمبر 1967م

  • 42 وحدي هنا

    ديوان من أرض بلقيس >  وحدي هنا

    وحدي هنا يا ليل وحدي
    ما بين آلامي وسهدي

    وحدي وأموات المنى
    والذكريات السود عندي

    وكأن أشباح الدٌجى
    حولي أماني مستبد

    تطوي أحاسيسي وتنشر
    ها وتخفيه وتبدي

    والليل يلهوبي كما
    يهوى التجني والتعدي

    فكأنني في كفه
    عرض الكريم بكف وغد

    يا ليل لي قلب يحن
    إلى العُلا بأحر وجد

    أهوى العلا ويردني
    عجزي وإن العجز مردي

    لا اليأس يسليني عن العلـ
    ـيا ولا الأمال تجدي

    بيني وبين مآربي
    أقصى النوى وأشق بعد

    ما فات مجدي إنما
    في ذمة الأيام مجدي

    وغداَ وما أدنى غداَ
    مني سأوفي المجد وعدي

    وألقن التاريخ آياتي
    ويروي الخلد خلدي

    وأشيد مني أمة
    تهدي إلى العليا وتهدي

    إني على عهد العلا
    فلتذكر العليا عهدي

    ** ** **

  • 43 ليلة خائف

    ديوان مدينة الغد >  ليلة خائف

    كانت قناديل المدينة
    كالشرايين النوازف

    والجو يلهث كالمداخن
    فوق أكتاف العواصف

    وهناك مذعور بلا
    حان ٍ على الأشواك عاكف

    كالطائر المجروح في
    عش بأيدي الريح واجف

    السقف ينذره ويصمت
    أو يوسوس كالزواحف

    والظل يلمحه وفي…
    عينيه تحترق الهواتف

    والباب يلغط بالوعيد
    وينتقي أعتى الرواجف

    ماذا هناك؟ وروعة
    شيء كلعلعة القذائف

    فأحس أفواج (التتار)
    طوائفاً تتلو طوائف

    ورأى النوافذ أعينا
    كالجمر مطفأة العواطف

    أين المفر؟ وهم وأستاني
    وأحجم نصف تألف

    فيفر وهو مسمر
    والبيت يهرب وهو واقف

    ومضت نجوم مطفآت
    وانثنت أخرى كواسف

    فروت إليه الريح خفلقة
    معزوف ونحيب عازف

    وعلى اختناق لهاثه
    ضحى بصوت غير آسف

    وهنا تحدى الرعب عينيه
    إغفاء كأسحار المصائف

    وتبنت الأحلام هجعته
    وبدلت المواقف

    فانهار قطاع الطريق
    وأسكت الجو العواصف

    ورأى فراديسها تدلله
    تمد له المقاطف

    وبرعمه عصف التيقظ
    بالعلالات الخواطف

    فأفاق ربع مخدر
    ثلثي صريع نصف خائف

    نوفمبر 1967م

  • 44 كلمة كل نهار

    ديوان مدينة الغد >  كلمة كل نهار

    كيف اشرأب (ظفار) وانتحى (صبر)
    يوم التقى الشعب والآمال والقدر

    وكيف عاد ل(صنعا) العجوز صبا
    أطرى وأشمس في أرجائها السمر

    وكيف يا (نقم) المولود كيف همت؟
    أصداؤه الخضر حتى أورق الحجر

    وكيف أنكرت يا (صرواح) كل صدى
    حتى تورد في أهدابك الخبر

    وكان يوم نشور الشعب منتظراً
    وافى كما أنهل في ميعاده المطر

    أطل فاحتضنته كل رابية
    وبشر الوادي الممتد منحدر

    وسار والفجر في كفيه ألوية
    ومن جراح الضحايا خلفه سحر

    فهنأت جارة أخرى وهنأها
    جار وزغردت الشرفات والجدر

    وهًهُنا غمغم التاريخ: أين أنا؟
    من قائد الزحف سيف الله أو عمر؟

    ماذا هنا اليوم، يا دنيا؟ هنا يمن
    طفل على شفتيه يبسم الظفر

    هذا النشور أو الميلاد مد فماً
    إلى الأعالي فدلى نهده القمر

    مضى وكل طريق تحت موكبه
    شدو وكل حصاة حوله وتر

    ***
    وذات يوم ربيعي الضحى نبحت
    (صنوان) عاصفة تعوي وتنفجر

    من ذا أهاج رماد الأمس فاشتعلت
    في أعين الريح من ذراته شرر

    أهذه الحرب يا تاريخ كيف ترى
    من خلف (جنات عدن) أو مات (سقر)

    ومر عام جحيمي روائحه
    دم بحشرجة البترول متزر

    ودب ثان ٍ خريفي المدى قلق
    يفني ويفني ويحيا وهو ينتحر

    وطال كالسهد حتى أنهد في دمه
    تثاءبت من بقايا وجهه الحفر

    وغاب خلف الشظايا فابتدت سنة
    تعبئ النار ثدييها وتعتصر

    فأجهد الموت شدقية وقبضة
    حتى تجلمد في أنيابه الضجر

    وقال كل نهار: لن تنال يد
    من ثورة مات في ميلادها الخطر

    سبتمبر 1967م

    ** ** **

  • 45 عندما ضمَّنا اللقاء

    ديوان من أرض بلقيس >  عندما ضمَّنا اللقاء

    كيف أنسى منكِ الحور البديعاَ
    واللقاء الغض والجمال الرفيعا

    كيف أنسى ولا نسيت وعندي
    ذكريات حرَّى تذيب الضلوعا

    كيف أنسى ولست أنسى لقاء
    ضم قلباً صبّاً وقلباً صديعا

    ووصالاً كانت تفيض معانيه
    علينا سكينة وخشوعا

    عندما ضمنا اللقاء في ذراعية
    نسينا ما في الوجود جميعا

    وصبونا وعناق الحب حباَ
    مثلماً عانق الصباح الربيعا

    وامتزجنا والحب يضفي علينا
    صبوات مرحى وجوداً وديعا

    وبنان الهوى تغازل قلبينا
    كما غازل النسيم الشموعا

    قأدرنا من الغرام حواراً
    عاطفياً يصبي الهوى والولوعا

    وعتاباً يكاد من رقة الألفاظ
    يجري على الشفاهِ دموعا

    * * *

    كم تساءلت عن لقانا وكم ساءلت
    عن صفوة الظلام المريعا

    وذكرت الوصال ذكرى غريب
    يتشّهىَّ أوطانه والربوعا

    * * *

  • 46 سباح الرماد

    ديوان مدينة الغد >  سباح الرماد

    يريد ويمضي إلى لا مراد
    يخوض إلى الوعد موج الرماد

    ويرمي سفينته للحريق
    وتنشد أهدابه: لا ارتداد

    فيقذفه سفر حالم
    إلى سفر من رؤى (شهرزاد)

    وتجتره من غيوم الصديد
    بلاد من الطيب في لا بلاد

    ينم عليها اختلاج البروق
    فتمتد عيناه في.. لا امتداد

    فتبصقه الريح من كل فج
    وتمضغ في مقلتيه.. العناد

    وتسأله: هل يعود إلى
    مصيف رباه ودفء الوهاد؟

    فيسألها: هل له منزل
    على شرفتيه انتظار المعاد؟

    فتخبره: أن دنياه ريح
    ودوامة من طيوف السهاد

    ضجيج فراغ يلوك صداه
    ويوهم شدقيه بالازدراد

    ووديانه في ضياع الضياع
    وموعده رحلة (السندباد)

    يغازل خلف امتداد الخيال
    مدى للفتون عليه احتشاد

    سواعده سلم للشموس
    وأهدابه لثريا وساد

    ذوائبه لجج من رحيق
    وأحضانه الخضر صيف جواد

    لوافته من أغاني الطيوب
    وأبوابه أذرع من وداد

    حنون الممرات جدرانه
    نجوم كسالى تدير الرقاد

    أكتوبر سنة 1963م

  • 47 ليالي السجن

    ديوان من أرض بلقيس >  ليالي السجن

    نزلت ليالي السجن بين جوانحي
    فحملت صدري للهموم ضريحا

    وجثت على قلبي كأني صخرة
    لا تفهم التنويه والتلميحا

    فدفنت في خفق الجراح تألمي
    حياً وألحدت الأنين صحيحا

    وحملت دائي في دمي وكأنني
    في كل جارحة حملت جريحا

  • 48 ذكريات شيخين

    ديوان مدينة الغد >  ذكريات شيخين

    كان يا “عمرو” هنا بيت المرح
    زنبقي الوعد صيفي المنح

    الطيوف الحمر والخضر على
    مقلتيه كعناقيد البلح

    أشمست فيه الليالي… والمدى
    بثريات دواليه اتشح

    كان مضيافاً إذا ما جئته
    شع كالفجر وكالورد نفح

    فانمحى: يا للتلاقي بعدما
    نزح الرواد عنه ونزح!

    * * *
    يا ترى من أين تمشي؟ هًهُنا
    قام حي وهنا أرسى مصح

    وعهدنا منزلاً قزماً هنا
    من ترى عملقة حتى طمح؟

    واستراحت هًهُنا مقبرة
    قرب العمران منها فاكتسح

    ووراء السور أرسى مصنع
    وهناك امتد سوق وانفسح

    أين نحن الآن؟ وأرى عهدنا
    وجهة وانطفأت فيه اللمح

    أنكر(النهرين) وجهينا ومن
    قبلة أنكرنا (باب السبح)

    من يقوينا وكنا زمناً
    كبغال (الروم) أو خيل(جمح)

    ***
    هًهُنا نجلس يا (عمرو) نرى
    ما اقتنى التاريخ من واطرح؟

    خط آثار خطانا زمن
    بيديه وبرجليه مسح

    فانحنى (عمرو) وقال: أذكر لنا
    يا (علي) الأمس وأترك ما اجترح

    أمسنا كان كريماً معدماً
    وزمان اليوم أغنى وأشح

    كيف كنا ننطوي خلف اللحى
    ونواري من هوانا ما افتضح

    يوم أعلت (روضة) برقعها
    واستجدنا ما اختفى مما أتضح

    أطعمتنا.. وألحت في النوى
    عن يدينا وتشهينا ألح

    فترددنا على جار لها
    نشتري التبغ ونظري ما أمتدح

    وأطلت ذات صبح مثلما
    يرتدي صحو الربى (قوس قزح)

    فارتعشنا وانجلت دهشتنا
    ثم أومأنا إليها بالسبح

    فاقتفتنا وتركنا للهوى
    كل أمر وأطعنا ما اقترح

    ومضى عامان لا ندري متى
    جد حادي العمر أو أين مزح؟

    كيف كنا قبل عشرين نعي
    همسة الطيف وإيماء الشبح

    ونغني كالسكارى قبل أن
    يعد العنقود أشواق القدح

    ثم أصبحنا نشازاً صوتنا
    في ضجيج اليوم كالهمس الأبح

    كل شيء صار ذا وجهين لا
    شيء يدري أي وجهيه أصح؟

    يا (علي): أنظر ألاح المنتهى
    لا انتهى المسعى ولا الساعي نجح!

    لم نعد نهنأ ولا نأسى ذوت
    خضرة الأنس خبت نار الترح

    أو خبا الحس الذي كنابه
    نطعم الحزن ونشتم المرح

    لم يعد شيء كما نألفه
    فعلام الخزن أو فيم الفرح؟

    ***
    دخلت (صنعاء) باباً ثانياً
    ليتها تدري إلى أين افتتح

    أبريل سنة 1967م

  • 49 مآتم وأعراس

    ديوان في طريق الفجر >  مآتم وأعراس

    29 شعبان 1382هـ

    يناير سنة 1963م

    كيف كنا يا ذكريات الجرائم
    مآتماً في الضياع يتلو مآت

    مكيف كنا قوافلاً من أنينٍ
    تتعايا هنا كشهقات نادم

    وقطيعاً من البراءات يهوي
    من يدي ذابحٍ إلى شدق لاقم
    ومضينا يسوقنا سيف جلادٍ
    وتجترنا سكاكين ظالم

    * * *

    ضاع في خطونا الطريق فسرنا
    ألماً واجماً على إثر واجم

    والسكون المديد يبتلع الحلم
    ويسري في وهمنا وهو جاثم

    والدجى حاقد يبيع الشياطين
    فنشري من القبور التمائم

    وخطانا دم تجمد في الأشواك
    جمراً وفي الصخور مياسم

    ورياح الثلوج تشتم مسرانا
    فتشوي وجوهنا بالشتائم

    * * *

    كيف كنا نقتات جوعاً ونعطي
    أرذل المتخمين أشهى المطاعم؟

    وجراحاتنا على باب “مولانا”
    تقيم “الذباب” منها ولائم

    وهو في القصر يحتسي الشعب خمراً
    ودماً والكؤوس غضبى لوائم

    ويرائي وفي حناياه دنيا
    من ضحايا وعالمٌ من مآثم

    فنفديه وهو يغمد فينا
    صارماً مدمناً ويستل صارم

    ويشيد القصور من جثث الشعب
    المسجى ومن رفات المحارم
    ويغطي بالتاج رأساً خلاياه
    وأفكاره ذئابٌ حوائم

    وتلال من الحراب وكهفٌ
    من ضوارٍ وغابة من أراقم

    * * *

    كيف كنا ندعوه مولى مطاعاً
    وهو “للإنجليز” أطوع خادم

    هدنا الضعف فادعى قوة “الجن”
    وبأس الردى وفتك الضياغم

    فتحاماه ضعفنا واتخذناه
    إلهاً من “شعوذات” المزاعم

    عملق الدجل شخصه وهو قزمٌ
    تتظناه قاعداً وهو قائم

    وصبي الشذوذ وهو عجوزٌ
    نصف ميتٌ… وباقيه… نائم!

    وأثيمٌ أيامه… للدنايا
    ولياليه للبغايا… الهوائم

    ويداه يدٌ تجرح شعباً
    ويدٌ تقطف الجراح “دراهم”

    * * *

    ويولي على الوزارات والحكم
    رجالاً كالعانسات النواقم

    ولصوصاً كأنهم قوم “ياجوج”
    صغار النهى كبار العمائم

    وطول الذقون شعثاً “كأهل
    الكهف” بل كالكهوف صمٌ أعاجم

    يحكمون الجموع والعدل يبكي
    والمآسي تدمي سقوف المحاكم

    تارة يرقصون فوق الضحايا
    وأواناً يشرعون المظالم

    فيسمون شرعةَ الغاب حزماً
    إن أصابوا فالذئب أحزم حازم

    ويصلون والمحاريب تستفتي
    متى تصبح الأفاعي… حمائم؟

    ويعودون يلفظون الحكايا
    مثلما تنثر النثيل البهائم

    ويميلون يعبرون الرؤى خيراً
    وشراً من خاطر الغيب ناجم

    كلهم متحف الغباء… وكلٌ
    يدعي أنه محيط المعاجم

    فيلوكون من “مريض” التواريخ
    حروفاً من فهرسات… التراجم

    وينيلون “باقلا” ثغر “قسٍ”
    ويعيرون “مارداً” جود “حاتم”

    كيف هُنَّا فقادنا أغبياءٌ
    ولصوص متوجون أكارم؟

    وصغار مؤنثون وغيدٌ
    غاليات الحلى رخاص المباسم

    * * *

    هكذا كان حاكمونا وكنا
    فنحرنا فينا خضوع السوائم

    وانتظرنا الصباح حتى أفقنا
    ليلةٍ وهو ضجةٌ من طلاسم

    أترى قامت القيامة أم هب
    العفاريت يطحنون القماقم؟

    وأصخنا نفسر الوهم بالأوهام
    والظن بالظنون الرواجم

    ووراء الضجيج إيماء رعدٍ
    يزرع الشهب في يديه خواتم

    والدجى يعلك السكون ويعدو
    مثلما الخيول الشكائم

    وسألنا ماذا؟ فأومت طيوفٌ
    زاهرات البنان خضر المعاصم

    وتحدى صمت القبور دويٌ
    شفقي الصدى عنيد الغمائم

    والعيان الكبير ميعاد رؤيا
    أنكرت صدقه العيون الحوائم

    وإذا فاجأ اليقين على الشك
    حسبت اليقين تهويل واهم

    * * *

    وهنا حرق الغيوم انفجار
    والصدى يعزف اللهيب ملاحم

    فتراخى “قصر البشائر” كالشيخ
    ولاذت جدرانه بالدعائم

    واحتمى بالقوى فضج عليه
    لهبٌ عارمٌ يلبيه عارم

    وحريق يدمي قواه ويمضي
    وحريق جهنمي… يهاجم

    فارتمى في اللظى كما ترتمي الأفيال
    حمر الرؤوس جرحى القوائم

    وتعالى الدخان والنار فالليل
    نهار صحو الأساير غائم

    وتنادى الشروق من كل أفقٍ
    ثورة فانبئي الربى يا نسائم

    فإذا مأتم المآتم أعراس
    نشاوى مزغرداتٌ نواغم

    * * *

    أشرق الثائرون فالموت عرسٌ
    وأنين الحمى لحون بواسم

    وارتعاش الخريف دفءٌ ربيعـ
    ـيٌ، وصيفٌ داني العناقيد دائم

    والجراح التي على كل شبرٍ
    أثمرت فجأةً وكانت براعم

    * * *

    من رأى الثائرين زحفاً من الخصب
    وزحفاً من شامخات العزائم؟

    وصباحاً ضافي الشروق مطلاً
    وصباحاً في شاطىء الليل عائم

    وشباباً توهجوا فانطفى “نيرون”
    وانهار أغبر الوجه فاحم

    واستثاروا دفء الحياة فمات الم
    وت، وانقض عرشه وهو رافم

    وأطلت وجوههم من وراء
    الليل، كالصحو من وراء الغمائم

    ومشوا تزرع الدروب خطاهم
    موسماً طيباً يجر مواسم

    وشموساً هواتفاً وانتصاراً
    حاسماً يهتدي على إثر حاسم

    والضحى في الدروب يمرح كالأ
    فراح، في أعين الصبايا النواعم

    * * *

    فتهادت مواكب الشعب ألواناً
    كنيسان مائج الحسن فاغم

    وتوالت حشوده الكثر تشدو
    فالربى والسهول شادٍ وباغم

    ونسينا في غمرة البشر… عهداً
    أسود القلب أحمر السيف قاتم

    كلما عب جيفةً مد للأخرى
    كؤوساً كحنجرات… الضراغم

    كان حكامه ذباباً عليها
    من صديد الجراح أخزى المعالم

    وذئاباً بلهاً وكنا قطيعاً
    قسمونا واستجمعونا غنائم

    * * *

    فانقسمنا برغمنا وسألنا
    أين أين القربى؟ وأين المراحم؟

    أوما نحن إخوة أمنا الخضراء؟
    فيم اختصامنا؟ من نخاصم؟

    أنجبتنا هذي البلاد فأنهت
    بدع الفن قبل بدء العوالم

    وغذتنا تآخيا كان أبقى
    من ربى ريفها ووهج العواصم

    * * *

    فمضوا يطعموننا الحقد حتى
    جهل المرء قصد وهو عالم

    وتمادوا في الهدم حتى كسرنا
    معول الحقد في يدي كل هادم

    ودفناً حكم الشذوذ رفاتاً
    واحتشدنا نتوج الشعب حاكم

    والتقينا نمد للفجر أفقاً
    من دم التوأمين “عادٍ” و”هاشم”

    ومراحاً من تضحيات “البلاقيس”
    ومغذى من تضحيات “الفواطم”

    فانطلق حيث شئت يا فجر إنا
    قد فرشنا لك الدروب جماجم

    وزحفنا نهدي الهدى ومددنا
    من قوانا إلى الأعالي سلالم

    وسمونا صفاً مبادئه الحب
    وغاياته سماء المكارم

    * * *

    وأضأنا حتى انثنى سارق الإسلام
    عريان يحتمي بالهزائم

    واشرأبت أرض النبي تدوي
    من “سعودٌ”؟ أطفى أغشم غاشم!

    وغبي سلمٌ لكل عدو
    وهو حرب على أخيه المسالم

    من رآه يرجو “حسيناً” ويهذي؟
    من يقينا هولاً من النار داهم؟

    فيعود الجوع عنه سؤالاً
    هل لطاغٍ من غضبة الشعب عاصم؟

  • 50 ذهول الذهول

    ديوان مدينة الغد >  ذهول الذهول

    لديه أحلى الحكايا شكول
    تثير فيها عنفوان الفضول

    يخبرها.. يسألها.. ينتقي..
    من قصة الأشواق الفصول

    وكيف؟ ينسل إليها إذا
    تثاءب الباب وأومأ الدخول
    وغاب في التفكير واعتاده
    ظل دخاني كوجه العذول

    ماذا؟ إذا لا حت له فجأة
    وأنكرته واحتمت بالأفول

    لا لم يغب عن بالها إنه
    كان لها جاراً عطوفاً وصول

    لكن أتدري أن أشواقه
    كما تكب العاصفات السيول؟

    ألا ترى أن اختلاجاته
    أمامها شهق الحريق الأكول؟

    وكان يخشى بين جيرانها
    جاراً ترابي الأماني ختول

    يحمحم الشيطان في صدره
    وبين فكيه يصلي بتول

    واستنطق الباب ومد المنى
    وهو احتراق وانتظار سؤول

    واستنزلتها قبضتا وهمه
    فضمها قبل احتمال النزول

    * * *
    من ذا؟… وإذ لاحت رماه إلى
    شموخ نهديها الخيال العجول

    وأقبلت في موكب من شذى
    ملحن الخطو طروب الذبول؟

    مفاصل الممشى على خطوها
    عادت صنوجاً واستحالت طبول

    ومقلتاها تغزلان الرؤى
    حمائماً زرقاً وصحواً كسول

    كيف يناجيها؟ ألا تنطوي
    أحرفه تحت اصفرار الذبول

    فينحني خجلان لكنها
    حسناء يرضيها اللهيف الخجول

    ماذا يلاقي؟ شعلة بضة
    من الصبا والكبرياء الملول!

    دفئاَ وإشراقاَ كما يرتمي
    فجر الربى فوق اخضرار السهول

    يحبو على أهدابها موعد
    طفل ويسترخي عليه الخمول

    في أي زاه من تهاويلها
    يرسو وفي أي اخضرار يجول

    يذهلة عن بعضها بعضها
    فما الذي يغوي؟وماذا يهول؟

    * * *
    وعاد يحكيها لناي الهوي
    ويسأل الأشباح ماذا يقول؟

    هل يخبر الأشواق عنها كما
    يخبر عن (جنات) عدن الرسول

    ووجهة أسئلة حوم
    ظوامي يمتصهن النحول

    يخفقن كالأوراق يسألن عن
    روائح الأنثى رياح القبول

    * * *
    وكان يطوي شارعاً جوة
    غاب كثيف من زنود (المغول)

    كالنعش يستلقي عليه الدجى
    وتعجن السحب عليه الوحول

    وساءل الدرب التفات الحصى
    من ذلك الآتي؟ كطيف الطلول!

    يمد رؤياه إلى لا مدى
    ويذرع الأوهام عرضاً وطول

    عهدته مر عشاء وفي
    عينيه من أطياف (قيس) فلول

    وزار داراً بين جدرانها
    صيف نبيذي الجنى والحقول

    مضى إليها ذاهلاً وانثنى
    عن بابها وهو ذهول الذهول

    فبراير سنة 1964م

  • 51 لص في منزل شاعر

    ديوان مدينة الغد >  لص في منزل شاعر

    شكراً دخلت بلا إثارة
    وبلا طفور أو غراره

    لما أغرت خنقت في
    رجليك ضوضاء الإغارة

    لم تسلب الطين السكون
    ولم ترع نوم الحجارة

    كالطيف جئت بلا خطى
    وبلا صدى وبلا إشارة

    أرأيت هذا البيت قزماً
    لا يكلفك المهارة؟

    فأتيته ترجو الغنائم
    وهو أغرى من مغارة

    * * *
    ماذا وجدت سوى الفراغ
    وهرة تشتم فأرة

    ولهاث صعلوك الحروف
    يصوغ من دمه العبارة

    يطفي التوقد باللظى
    ينسى المرارة بالمرارة

    لم يبق في كوب الأسى
    شيئاً حساه إلى القرارة

    * * *
    ماذا؟ أتلقى عند صعلوك
    البيوت غنى الإمارة

    يا لص عفواً إن رجعت
    بدون ربح أو خسارة

    لم تلق إلا خيبة
    ونسيت صندوق السجارة

    شكراً أتنوي أن تشرفنا
    بتكرار الزيارة

    نوفمبر 1966م

  • 52 أنا الغريب

    ديوان من أرض بلقيس >  أنا الغريب

    غبت في الصمت والهموم الضًواري
    والأماني والذكريات السواري

    وتغلفت بالوجوم وواريـ
    ـت همومي في صمتي المتواري

    وخنقت اللحون في حلقٍِ مزما
    ري وأغفى على فمي مزماري

    وانطوت في فمي الأغاني وماتت
    نغمي في حناجر الأوتار

    وتلاشى شعري ونام شعوري
    نومةَ الليل فوق صمت القفار

    وتفانى فني ولم يبقى إلا
    ذكريات الصدى شجو ادكار

    وخيال النحيب في عودي البا
    كي وطيف النشيج في أسراري

    وكأني تحت الدياجير قبرٌ
    جائع في جوانح الصمت عاري

    وأنا وحدي الغريب وأهلي
    عن يميني وإخوتي عن يساري

    وأنا في دمي أسير، وفي أر
    ضي شريد مقيد الأفكار

    وجريح الإبا قتيل الأماني
    وغريب في أمتي ودياري

    كل شيء حولي عليَّ غضوب
    ناقم من دمي على غير ثار

  • 53 عازف الصمت

    ديوان في طريق الفجر >  عازف الصمت

    17 ذي القعدة سنة 1382هـ
    11 أبريل سنة 1963م

    أطلت هنا وهناك الوقوف
    تلبي طيوفاً وتدعو طيوف

    وفي كل جارحة منك… فكرٌ
    مضيء وقلب شجيٌ شغوف

    تغني هنا وتناجي هناك
    وتغزل في شفتيك الحروف

    وتهمس حتى تعير الصخور
    فماً شادياً وفؤاداً عطوف

    وتعطي السهول ذهول النبي
    وتعطي الربى حيرة الفيلسوف

    تلحن حتى تراب القبور
    وتعزف حتى فراغ الكهوف

    وتفني وجوداً عتيقاً حقيراً
    ويبني وجوداً سخياً رؤوف

    وتغرس في مقلتيك الرؤى
    كروماً تمد إليك القطوف

    وترنو، وترنو وعيناك شوقٌ
    هتوفٌ يناجيه شوقٌ هتوف

    وأنت حنينٌ ينادي حنيناً
    وألف سؤال يلبي ألوف

    ودنياك عشٌ يغني ثراه
    فتخضر أصداؤه في السقوف

    * * *

    وحين تفيق وتفنى رؤاك
    وينأى الخيال المريد العزوف

    ترى هاهنا وتلاقي هنا
    صفوفاً من الوحل تتلو صفوف

    عليها وجوهٌ أراق النفاق
    ملامحها، وأضاع الأنوف

    وقتلى دعوها ضحايا الظروف
    وكانوا الضحايا وكانوا الظروف

    أكانوا ملاهي صروف الزمان؟
    وأولى وأخرى ملاهي الصروف

    وتشتم فوق احرار التراب
    صدىً غائماً من أغاني السيوف

    وتلمح فوق امتداد الدروب
    سياط الخطايا تسوق الزحوف

    ومقبرةً يظمأ الميتون
    عليها ويحسون وعداً خلوف

    ومجتمعاً حشرياً يحن
    على غير شيء حنين الألوف

    ويعدو على دمه كالذئاب
    ويلقى الذئاب لقاء الخروف

    * * *

    ف ماذا هنا من صنوف السقوط؟
    أحط الصنوف وأخزى الصنوف

    هنا الأرض مستنقع من ذبابٍ
    هنا الجو أرجوحة من كسوف

    يطبل للخائنين الطريق
    كأن حصاه استحالت دفوف

  • 54 وطني

    ديوان في طريق الفجر >  وطني

    سنة 1373هـ

    وطني أنت ملهمي
    هزج المغرم الظمي

    أنت نجوى خواطري
    والغنا الحلو في فمي

    ومعانيك شعلةٌ
    في عروقي وفي دمي

    أنت في صدر مزهري
    موجة من ترنم

    وصدى مسكرٌ إلى
    عالم الخلد ينتمي

    ونشيد… معطرٌ
    كالربيع… المرنم

    وهتافٌ مسلسل
    كالرحيق… المختم

    * * *

    إيه يا موطني أفق
    من كراك… المخيم

    طالما تهت في الدجى
    والظلام المطلسم

    وقطعت المتاه في
    مأتم بعد مأتم

    وتمشيت في اللظى
    وعلى الشوك… ترتمي

    أنت تجثو على اللظى
    وعلى الشوك… ترتمي

    ساسك الجوع والشقا
    والنظام الجهنمي

    إن بلواك منك هل
    أنت من أنت تحتمي؟

    فتوثب إلى العلا
    وثبة الفارس الكمي

    وخض النار واحتمل
    كبرياء… التألم

    واصرع الظلم تكتفي
    ذل شكوى التظلم

  • 55 أصيل القرية

    ديوان مدينة الغد >  أصيل القرية

    تدلى كمزرعة من شرر
    معلقة بذيول القمر

    وحام كغاب من الياسمين
    تندى على ظله واستعر

    فمالت تودعه ربوة
    وتهتز كاللهب المحتضر

    كحسناء عرّى العتاب الخجول
    هواها وبالبسمات استتر

    تعابثه وتباكي الطيور
    وتستعبر الرابيات الأخر

    ومدت له القرية الهينمات
    كلغو الرؤى كاصطخاب (التتر)

    وأعلت له جوقة من دخان
    ومعزوفة من خوار البقر

    فرف كأجنحة من نضار
    كأردية من دموع الزهر

    وعراه صحو المدى فارتدى
    لهيب ذوائبه واتزر

    تهادى يجمّع من كل أفق
    صدى عمره ولهاث البشر

    يحبو كموج يمد.. يديه
    إلى شاطئ من مزاح القدر

    وأرسى على كتفي شاهق
    كأرجوحة من ذهول الفكر

    يلملم من جمرتي مقلتيه
    حبالاً يخيط شراع السفر

    ويجبل آثار أقدامه
    أباريق حب ونجوى سهر

    وأغفي فنادى الرواح الرعاة
    فعادوا ثنى وتوالوا زمر

    وناشت خطاهم هدوء التراب
    ورعش الكلا وسكون الحجر

    ونقّر خطو القطيع الحصى
    كما ينقر السقف وقع المطر

    وشد الرعاة إلى الراعيات
    شباب المنى وملاهي الصغر

    وكانت(غزال) غناء الرعاة
    وصيف الربى وشذا المنحدر

    مآزرها من رنو الحقول
    إليها ومن قبلات النهر

    وقامتها من عمود الصباح
    ذوائبها من خيوط السحر

    * * *
    وكانت تماشي (مثنى صلاح)
    وتقرأ في وجه (تقوى) الأثر

    ولما دنا الحي ضجت (سعاد)
    أضاع (حسين) الخروف الأغر

    فمن من رآه؟ تعالوا نعد
    مواشينا قبل تيه النظر

    ولما أتموا حكت (وردة)
    و(فرحان) عن كل وادٍ خبر

    فأخبر: أين ذوى مرتع؟
    وأين زكا مرتع وازدهر؟

    وفي أي شعب؟ تمد الذئاب
    حلاقمها من وراء الحذر

    * * *
    ومروا كحقل تلم الرياح
    وريقاته وتميل الثمر

    كقيثار هاوٍ؟ دؤوب يلح
    على وتر؟ ويدمي وتر

    وأدمى الوداع نداء العيون
    ولون ظل الغروب الخفر

    * * *
    وحيا فم القرية العائدين
    ونادى ممر ولبى ممر

    وأخفى (علياً) مضيق طويل
    ووارى (ثقى) شارع مختصر

    ودارت ثوانٍ فران السكون ينوع
    بالذكريات السمر

    ففي مسمر ذكرت (مريم)
    أباها وناحت كيوم انتحر

    وفي مسمر بث (سعد) أباه
    شجون الزواج واغضى البصر

    وثرثر في كل بيت حديث
    وأحزن كل حديث وسر

    (فأم ثريا) تفوق الرجال
    وتوحي أمر… وأحلى الذكر

    فكيف تجلت مساء الزفاف
    وفي الصبح مات أبوها الأبر

    (وأم علي) تربي الدجاج
    وتكدح خلف ارتعاش الكبر

    ترفع أسمال أطفالها
    وتحسو عروق يديها… الإبر

    (وحسان) خان غرور البنات
    به وانتقى أم إحدى عشر

    وباع (رجا) أخته في (الرياض)
    بألفين للتاجر المعتبر

    ومات (ابن سرحان) يوماًوعاد
    يخبر جيرانه عن سقر

    وأصغى السكون إلى كل بيت
    كحيران ينوي وينسى الوطر

    وأغفي رفاق الهوى والقطيع
    على موعد الملتقى المنتظر

    وليلتهم ذكريات وحلم…
    كلمع الندى في اخضرار الشجر

    طيوف كما حث سرب الحمام
    قوامه خلف سرب عبر

    وكلت رياح وجنت رياح
    ونجم تأنى ونجم طفر

    وفتش عن قدميه الدجى
    ودب كأعمى يجوس الحفر

    فأذكى هنا جمرات السهاد
    وأعطى هناك الرؤى والخدر

    وأفنى هزيعاً وأدمى هزيعاَ
    فعاد الأصيل الموّلي سحر

    مارس 1967م

  • 56 حيث التقينا

    ديوان من أرض بلقيس >  حيث التقينا

    هَهٌنا كان يناجينا الغرامُ
    ويناجي المستهامَ المستهامُ

    هَهُنا رفً بقلبينا الصبا
    وتبنانا التصافي والوئامُ

    عقد الحبٌ فؤادينا كما
    يعقد الهدبً إلى الهدب المنامُ

    فتلاقينا بأحضان الصفا
    والصًبا خمرٌ وثغرُ الحبٌ جامُ

    وتجاذبنا أحاديث الهوى
    وسهرنا وليالينا نيامُ

    وتمنينا الأغاني واللقا
    في شفاهِ الكأس لحنٌ ومدامُ
    والصبابات الظوامي حولنا
    تشرب اللحن فيهتاج الأوامُ

    هَهُنا غنى الهوى الطفل لنا
    وطواه هَهُنا عنا الفطامُ

    وانقضى صفو التلاقي وذوت
    في صبا الحبُ أمانيه الجسامُ

    وانتهى العهد كأنْ لمْ يبتدئ
    أو تلاقى البدء فيهِ والختامُ

    وانطفا فجر أمانينا ولمْ
    ينطف الشوق ولمْ يخبُ الضرامُ

    بدت اللقيا وولتْ هَهُنا
    فعلينا وعلى اللقيا السلامُ

    ضمًنا هذا المقام المشتهى
    ثم أقصاني وأقصاك المقامُ

    فهنا يا أخت ناغينا الهوى
    وهنا ولًى وغطاه القتامُ

    واختفى الأنس وذكراه على
    مسرح العمر شعاعٌ وظلامُ

    ومن الحبٌ ابتهاج وأسى
    ومن الذكرى دموع وابتسامُ

    كلُنا يهوى الهنا لكننا
    كلما رمنا الهنا غاب المرامُ

    هَأنا حيث التقينا وعلى
    خاطري من صور الأمس ازدحامُ

    أسأل الذكرى عن الحب وهل
    للهنا في شرعةِ الحب دوامُ

    هأنا في منزل اللقيا وفي
    جوه من عهدنا الفاني حطامُ

    أسأل الصمت على الجدران هل
    للهوى عهدٌ لديه أو ذمامُ

    ويكادُ الصمتُ يروي حبنا
    قصة لو طاوع الصمت الكلامُ

    ** ** **

  • 57 صدى

    ديوان مدينة الغد >  صدى

    من ذا يناديني؟ أحس نداء
    يعتادني فيحيلني أصداء

    خلفي وقدامي يزنبق دفئه
    وينرجس اللفتات والإغراء

    فأشد أنفاسي وأعراقي إلى
    فمه وأغزل من شذاه رداء

    من ذا؟ ويلثمه التساؤل والمنى
    يحفرن عنه الحيرة الشقراء

    والباب يلثغ باللقاء وينطوي
    في صمته يتحرق استجداء

    والسهد يلهث في الرفوف ويحتسي
    أنفاسه ويجرجر الإعياء

    فأقول للجدران: من؟ وتقول لي:
    من؟ والكوى تتساجل الإيماء

    وتمد أذرعها إلية وتنحني
    تصغي وتجمع ظلها أشلاء

    والليلة الكحلى تصيخ إلى الصدى
    فتحيلها معزوفة سمراء

    وتميس من خلف الثقوب كناهد
    خجلى تريد وتحدر الإفشاء

    من ذا يناديني؟ ويدنو من يدي
    حتى أهم بلمسة يتناءى

    كيف استسر؟ واستحيل ترقباً
    شرهاً يداري السهد والإغفاء

    حتى يعود.. أكاد أهتف باسمه
    ويريبني فأضيع الأسماء

    من أين يدعوني؟ وأنبش لهفتي
    عن نبعه؟ وأفتش الإصغاء

    وأمد أسئلة يمني بعضها
    بعضاً ويضحك بعضها استهزاء

    من أين باح؟ أمن هناك؟ ربما:
    أم أنه من هًهٌنا يتراءى

    من حيث لا أدري وأدري أنه
    يعتادني فيحيلني أصداء

  • 58 ثائران

    ديوان في طريق الفجر >  ثائران

    17 رجب سنة 1382هـ

    13 ديسمبر سنة 1962م

    من جمالٌ ومن أُسمِّي جمالا؟
    معجزات من الهدى تتوالى

    وشموخاً يسمو على كل فكرٍ
    وعلى كل قمةٍ… يتعالى

    من “جمال”؟ حقيقة تنثني
    عنها الخيالات يحترقن انفعالا

    وعنادٌ أعيا البطولات حتى
    رجع الموت عنه يشكو الكلالا

    * * *

    موكب من مشاعلٍ إنطفا الحساد
    من نفخه وزاد اشتعالا

    وتدلت أضواؤه كالعناقيد
    فأذكت في كل عين ذبالا

    وتملا ثوار “صنعا” هداه
    فاستطاروا يحرقون الضلالا

    والتقوا يغسلون بالنار دنيانا
    ويمحون بالدم الأوحالا

    وأضاءوا والليل يبتلع الشهب
    وأم الهلال تطوي الهلالا

    فتناغى ومض المآذن: ماذا؟
    أي فجرٍ أشتم فيه “بلالا”؟
    * * *

    ووراء الحنين شعب مسجى
    ملَّ موت الحياة، ملَّ الملالا

    والرؤى تسأل الرؤى كيف ضج
    الصمت، واستفسر الخيال الخيالا

    من أطلوا كصحو نيسان يكسون
    الربى الجرد خضرةً واخضلالا

    ومضى الثائرون يفدون شعباً
    يتحدون باسمه الآجالا
    كالقلاع الجهنميات ينقضون
    يرمون بالجبال الجبالا

    ويشبون ثورةً رمت التاج
    وهبت تتوج… الأجيالا

    ومشت والشروق في خطوها الج
    بار، ينثال في الدروب انثيالا

    ومددنا المنى فكانت عطاءً
    سرمدياً تجاوز الآمال

    فطفرنا إلى الحياة كموتى
    دفعتهم قبورهم… أطفالا

    * * *

    وبدأنا الشوط الكبير وأعددنا
    لأحداث الكبار…. “جمالا”

    واهتدينا به فكان دليلاً
    وأباً يحمل الجهود… الثقالا

    وبلونا في أباً لم تزده
    لهب الحادثات إلا صقالا

    ودروب الكفاح تنبيك عنه
    كم طواها وأتعب الأهوالا

    وثنى الموت في “القناة” وألقى
    في أساطيله الحريق… ارتجالا

    ورمى الغزو والغزاة رماداً
    تخبر العاصفات عنه والرمال

    وفلولاً تكابت الروح فيها
    مثلما تكبت العجوز السعالا
    * * *

    لا تسل “بور سعيد” وأسأل عداه
    كيف أدمى اللظى وجال وصالا

    وتحدى الردى الغضوب و”مصرٌ”
    خلفه تسحب الذيول اختيالا

    وانتظار الفرار والنصر وعدٌ
    يحتمي بالمحال يدني… المحالا

    والضحى يرتدي رداءً من النار
    ويرخي من الدخان… ظلالا

    ومنايا تمضي وتأتي منايا
    وقتالاً دامٍ يثير قتالاً

    وسؤالٌ يمضي وما من جوابٍ
    وجواب يأتي يعيد السؤالا

    فإذا “ناصر” يقود تلالاً
    من شباب القوى تدك تلالا

    وجحيماً تحتل أجساد من جاؤوا
    يرومون عنده…. الإحتلالا

    وأباة لا يعتدون ويهدون
    إلى المعتدي الأثيم الزوالا
    ويطيرون يضفرون النجوم الخضر
    “غاراً” يكللون النضالا

    وإذا النصر بين كفي “جمالٍ”
    ينحني خاشعاً ويندى ابتهالا

    * * *

    من “جمالٌ”؟ سل البطولات عنه
    كيف أغرت به العدى الأنذالا؟

    فتبارت أذناب “لندن” تزري
    باسمه فازدهى اسمه وتلالا

    وأجادوا فيه السباب ولكن
    يحسن الشتم من يسيء الفعالا

    كيف يخشى أذيال لندن من صب
    على لندن المنايا العجالا…؟

    إن من تضرب الرؤوس يداه
    لا يبالي أن يركل الأذيال

    * * *

    يا لصوص العروش عيبوا “جمالاً”
    واخجلوا أنكم قصرتم وطالا

    فسقطتم على الوحول ذباباً
    وسما يعبر الشموس مجالا

    واكتملتم نقصاً وزاد كمالاً
    ومدى النقص أن يعيب الكمالا

    فبنى أمةً وشدتم عروشاً
    خائناتٍ تبارك القتالا

    وقصوراً من الخنا مثقلاتٍ
    بالخطايا كالعاهرات الحبالى

    فسلوا عنكم الليالي السكارى
    والحسان المدللات الكسالى

    وضياع الحمى وما لست أدري
    ودنايا شتَّى عراضاً طولا

    لا تضيقوا فإن للشرف العالي
    رجالاً وللدنايا رجالا

    لا تضيقوا إن العروبة تدري
    من “جمال” وتعرف “السلالا”

    بطل الثائرين وافى أخاه
    والبطولات تجمع الأبطالا

    أخوان تلاقيا فاشرأبت
    “وحدة” العرب تنحر الإنفصالا

    فاهتفي يا حياة إنا اتحدنا
    في طريق المنى وزدنا اتصالا

    والتقى “النيل” و”السعيدة” جسماً
    صافحت كفه اليمين الشمالا

  • 59 فجر النبوة

    ديوان من أرض بلقيس >  فجر النبوة

    صور الجلال وزهوةُ الأمجاد
    سكبتْ نميرَ الوحي في إنشادي

    صورٌ من الأمس البعيدِ حوافلٌ
    بالذكريات روائحٌ وغوادي

    خطرتْ تعيد مشاهد الماضي إلى
    اليوم الجديد إلى الغد المتهادي

    حملتْ من الميلاد أروع آيةِ
    غمرتْ متاهَ الكون بالإرشاد

    زمَرُ من الذكرى تروح وتغتدي
    وتشقٌ أبعاداً إلى أبعادِ

    وتزفُ وحي المولد الزاهي كما
    زف النسيمُ شذا الربيعِ الشادي

    * * *

    يا فجر النبوة ميلاد النبوة هذهِ
    ذكراكَ فجرٌ دائمُ الميلاد

    وتهلل الكونُ البهيجُ كأنهُ
    حفلُ من الأعراسٍ والأعيادِ

    وأفاقتِ الوثنيةُ الحيري على
    فجر الهدى وعلى الرسولِ الهادي

    فمواكب البشرى هناك وهَهُنا
    تُُنْبي الوجود بأكرام الأولاد

    والمجدُ ينتظرُ الوليد كأنهُ
    والمجد والعليا على ميعاد

    وترعرع الطفلُ الرسولُ فهبَ في
    دنيا الفساد يبيدُ كل فسادِ

    وسرى كما تسري الكواكبُ ساحراً
    بالشوك بالعقبات والإنجادِ

    بالغدر يسعى خلفهُ وأمامه
    بالهول بالإبراق بالإرعادِ

    لا… لمْ يزلْ يمشي إلى غاياتهِ
    وطريقهُ لهبٌ من الأحقاد

    فدعا قريشاَ للهدى وسيوفها
    تهفو إلى دمهِ من الأغمادِ

    فمضى يشقُ طريقهُ ويطيرُ في
    أفقِ العلا والموت بالمرصادِ

    ويدوس أخطار العداوة ماضياً
    في السير لا واهِ ولا متمادي

    لا يركب الأخطار إلا مثلها
    خطرٌ يعادي في العلا ويعادي

    نادى الرسولُ إلى السعادة والهنا
    فصغتْ إليه حواضرٌ وبوادي

    وتصاممت فئة الضلالة واعتدت فأتى
    إليها كالأتي العادي

    واهتاجتِ الهيجا فأصبحتِ العدا
    خبراً من الماضي وطيف رقادِ

    لا تُسكتُ الأوغاد إلا وثبةٌ
    ناريةٌ غضبى على الأوغادِ

    ومن القتال دناءةٌ وحشيةٌ
    حمقى ومنه عقيدة ومبادي

    * * *

    خاض الرسولُ إلى العلا هول الدُجى
    ولظى الهجير اللافحِ الوقادِ

    واقتاد قافلة الفتوح إلى الفدى
    والمكرماتُ دليلها والحادي

    وهفا إلى شرف الجهادِ وحولهُ
    قومُ تفور صبابةُ استشهادِ

    قومُ إذا صرخ العراك توثبوا
    نحو الوغى في أهبةِ استعداد

    وتماسكوا جنباً لجنب وارتموا
    كالموج في الإرغاء والإزبادِ

    وتدافعوا مثلَ السيول تصبها
    قممُ الجبال إلى بطون الوادي

    وإذا تساجلت السيوف رأيتهم
    خُرساً وألسنة السيوف تنادي

    همُ في السلام ملائكٌ ولدى الوغي
    جن تطيرُ على ظهور جيادِ

    وهمُ الألى الشم الذين تفتحتْ
    لجيوشهم أبواب كل بلادِ

    الناشرون النور والتوحيد في
    دنيا الظلال وعالم الإلحادِ

    الطائرون على السيوف إلى العلا
    والهابطون على القنا الميادِ

    * * *

    بعث الرسولُ من التفرق وحدة
    ومن العدا القاسي أرقً ودادِ

    فتعاقدت قوم الحروب على الصفا
    وتوحدت في غايةٍ ومرادِ

    وتحركت فيها الأخوة مثلما
    تتحرك الأرواح في الأجسادِ

    ومحا ختام المرسلين عن الورى
    صلف الطَغاة وشرعةَ الأنكادِ

    فهناك تيجان تخرُ وهَهُنا
    بين السكون مصارعُ استبدادِ

    وهناك آلهة تئن وتنطوي
    في خزيها وتلوذ بالعبَّادِ

    والمرسلُ الأسمى يوزع جهدهُ
    في الحق بين هدايةِ وجهادِ

    حتى بنى للحق أرفع ملًةِ
    ترعى حقوق الجمع والأفرادِ

    وشريعةٍ تمضي بها جيلٌ إلى
    جيلٍ وآزال إلى آبادِ

    * * *

    يا خير منْ شرع الحقوق وخير منْ
    آوى اليتيم بأشفق الإسعادِ

    يا منْ أتى بالسلم والحسنى ومنْ
    حقنَ الدما في العالم الجلادِ

    أهدي إليك ومنك فكرة شاعرِ
    درس الرجال فهامَ بالأمجادِ

    ** ** **

  • 60 خدعة

    ديوان مدينة الغد >  خدعة

    من تمنحين الضحكة الواعدة
    والهزة المعطاءة الناشدة

    سدى تمدين إليه اللظى
    لن تستحر الكومة الخامدة

    قد أصبح الجوعان يا روحه
    شبعان تزدان له المائدة

    ألجمرات الخضر في لمسه
    تثلجت واحدة واحده

    تساءلي: أين اختفى وجهه؟
    كيف انطفت أعراقه الواقدة؟

    وفتشي عينيه هل فيهما
    حتى رماد الجذوة البائدة

    من ذا تثيرين، كما تقتفي
    صبية عصفورة شاردة

    يداه في مجناك لكنه
    ريان، يحسو قهوة باردة

    وكان لا يصحو ولا يرتوي
    من دفء هذي الثروة الحاشدة

    عودي إلى الأمس تريه كما
    كان اجتداء أو منى ساهدة

    أو حاولي أن تصبحي لعبة
    أخرى ومدي نظرة كائدة

    فالحلوة الأولى على نضجها
    وخصبها كالسلعة الكاسدة

    فكيف والأخرى غداً عنده
    أولى فيا للخدعة الخالدة!

    ماذا تقولين أكل الذي
    يبني وتبنين بلا قاعدة

    مايو سنة 1965م

  • 61 لنعترف

    ديوان في طريق الفجر >  لنعترف

    أين أضعنا يا رفاق السماح
    فجراً أفقنا قبل أن يستفيق

    نستقيه من خلف الليالي الشحاح
    دماً ويستقينا خيال الرحيق

    وفجأة من شاطىء الليل لاح
    وغاب فيه كالوليد… الغريق

    لا تغضبوا ضاع كرجع الصداح
    في ضجة الفوضى وسخف النعيق
    * * *

    “لنعترف” أنا أضعنا الصباح
    فلنحترق حتى يضيء… الطريق

    ألم نؤجج نحن بدء الكفاح؟
    فلنتقد حتى مداه… السحيق

    لن ننطفي ما دام فينا جراح
    مسهدات في انتظار الحريق

    لن ننطفي رغم احتشاد الرياح
    فبيننا والنصر وعد وثيق

    وفجرنا الآتي يمد الجناح
    لنا ويومي باختلاج البريق

  • 62 شعري

    ديوان من أرض بلقيس >  شعري

    غردْ فأنتِ الحبٌ والأحلامُ
    إنْشِد يُصفقْ حولكَ الإعظامُ

    يا كافراَ بالصمتِ والإحجامِ طرْ
    وأهتفْ فداكَ الصَمتُ والإحجامُ

    واسبحْ بآفاقٍ الجمالٍ وطُفْ كما
    تهوى ويهوى جوَهُ البسامُ

    * * *

    يا شعري الفواحَ غردْ تحتفل
    فيك العطورُ وتعبقُ الأنسامُ

    لك منْ شفاه الفجر منتزهٌ وفي
    صدر المروج مراقصٌ وهيامُ

    في كل رابيةِ لقلبكَ خفقةٌ
    وبكلٌ وادٍ حرقةٌ وضرامُ

    ولصوتكَ الحاني بأجفانٍ الُُربا
    غزَلٌ وفي قلبِ الربيعِ غرامُ

    بستانُك الغبرا ومسرحُكَ الفضا
    فلكَ الوجودُ مسارحٌ ومقامُ

    * * *

    شعري وأنت الفنٌ أنت رحيقُة
    شفتاكَ كأسُ واللحونُ مُدامُ

    حلقتُ فوق مسابح الأوهام لمْ
    تلمحْ خيالَ جناحيكَ الأوهامُ

    والماردُ العملاقُ يكتسحُ العلا
    فتظلُ تهذي خلفهُ الأقزامُ

    * * *

    شعري تبناك الخلود فأنتَ في
    ربواتهِ الأنعامُ والنَغَام

    جسمتَ أنفاس الشذا فترنحتْ
    فيك الطيوب كأنها أجسامُ

    وغمستَ قلبك في الحياة وصغتها
    لحناً صداهُ وصوتهُ الإلهامُ

    وجلوت ألوان الطبيعة مثلما
    يجلو الفتاة بفنهِ الرسامُ

    شعري تناجى الحسنُ فيه والهوى
    وتناغتِ الآمال والآلامُ

    و تحاصرتْ فيه المُنى وتعانقتْ
    في صدرهِ القُبلاتُ والتهيامُ

    فإذا بكى أبكى القلوبَ وإن شدا
    رقصت ليالي الدًهرِ والأيامُ

    * * *

    ظمآن يرتشفُ الجمالَ وكلما
    أروى أو اماَ صاحَ فيه أوامُ

    فلهُ وراءَ المجد أمجادٌ ومنْ
    خلفِ المرامِ مطامحٌ ومرامُ

    سيظلٌ يشدو كالجداولِ لا ولمْ
    ينضبُ غناُه ولمْ يجفً الجامُ
    * * *

    لا! لمْ ينمْ شعري! ولمْ يصمتْ ولمْ
    تصمتْ على أوتارهِ الأنغامُ

    لمْ يستكنْ وتري ولمْ يسكتْ فمي
    فلتخرس الأفواه والأقلامُ

    ** ** **

  • 63 آخر جديد

    ديوان مدينة الغد >  آخر جديد

    مولاتي يا أحلى الأحلى
    عندي لك أخبار عجلى

    قالوا عن “حورية” امتلأت
    فتناً أغلى ما في الأغلى

    نهداها: كبر شموخهما
    خداها نظرتها النجلا

    إنى خطرت لبست حقلاً
    من غزل وانتعلت حقلاً!

    فهنا وهناك لمشيتها
    تاريخ يستهوي النحلا

    أملاه يوماً منعطف
    والريح أعادت ما أملى

    وثريا أجنت وحواها
    عش فاخضوضر واخضلا

    وحكى عن “مريم” جيرتها
    ميعاداً ولقاء نذلا

    حتى عرّاها أخوتها
    من أكفان الحسب الأعلى

    وانحلت عن (يحيى) قمر
    واستهوت مطلاقاً كهلاً

    ***
    لكن أأقص لغاليتي
    من آخر أخباري فصلاً

    إني وحدي والبرد على
    أنقاضي يسقط كالقتلى

    أجتر الطين وأعزفه
    وأغني للريح الثكلى

    ***
    بالأمس شذا المذياع هنا
    فشممتك أغنية جذلى

    وكزهر الرمان اختلجت
    شفتاك وخفتك الخجلى

    وتناغى الطيب كعزاف
    ولدت قيثارته الحبلى

    وكأن لقاء يحضننا
    أرجو فتجيدين البذلا

    ***
    واليوم تقمصني قلق
    مجنون لم يعرف مهلا

    فتقاذفني التجوال كما
    تستاق العاصفة الرملا

    فعبرت زقاقاً مأهولاً
    وزقاقاً هرماً منحلاً

    وتراباً ينسج أقنعة
    لوجوه لم تحمل شكلاً

    وطريقاً سمحاً أسلمني
    لمضيق يلتحف الوحلا

    وإلى سوق في آخره
    منعطف ينشدني أهلاً

    وسألت هنالك “فلفلة”
    عن دارك فادعت الجهلاً

    أولا تدرين تلقاني
    عبق من شرفتك انهلاً

    وهناك جثوت أعب صدى
    حياً وأعيد صدى ولى

    وإخال الممشى يسترخي
    ويلحن خطرتك الكسلى

    فأصيح إلى ما لا أدري
    وأضم الهرة والطفلاً

    ورآني الباب فمد على
    كتفي الخضرة والظلا
    وحكى لي كيف تلاقينا
    في تلك الأمسية الكحلى

    ومتى تأتين؟ أيخبرني؟
    وتلعثم بالخبر الأجلى

    ***
    والآن رجعت كما تسري
    في الغاب القافلة العزلى

    هذا ما جدّ ولا أدري
    ماذا سيجد ومايبلى

    إبريل 1965م

  • 64 أم يعرب

    ديوان مدينة الغد >  أم يعرب

    حيث الغبار الأهوج
    على الرياح ينشج

    وحيث تشمخ الدمى
    ويستطيل العوسج

    هناك حيث يدعي
    على القشور البهرج

    جزيرة تطفو على
    صحو الربى وتدلج

    مطلة كأنها
    نعش أشم أبلج

    تمضي به حنيّة
    جرحى وتل أعرج

    سمراء حلمها على
    أيدي الرياح هودج

    ومررد من الهوى
    ومرتع مضرج

    تجثو كذاهل إلى
    ما لا يرى يحدج

    كجائع يشتم من
    حوليه لحماً ينضج

    تهوي وظل نفسها
    يخيفها ويزعج

    فتحبل الرؤى على
    أهدابها وتخدج

    على الفراغ تنطفي
    وللفراغ تسرج

    على اصفرار وجهها
    تعملق التشنج

    فبعضها لبعضها
    توحش مهيجُ

    يومي إلى ركامها
    ركامها المدجج

    فترجع (البسوس) في
    أحشائها تهملج

    ويعصر التحامها
    دماءها ويمزج

    وتنثني يهزها تبجح محشرج

    تقص عن جدودها
    كم أخمدوا وأججوا

    وأبدعوا مقابراً وأسقطوا وتوجوا

    واتخموا سوق الردى
    وأكسدوا وروجوا

    وأين صال “جرهم” وأين جال “خزرج”

    فيشرئب “هاشمُ”
    من رملها “ومذحجُ”

    فتغزل الحياة من
    ثلج البلى وتنسج

    سل الرياح: هل لها
    خلف الرؤى توهج

    هل يستفز وجهها
    إلى الضحى التبرج

    هناك ذر برعم
    فأومأ التأرج

    إلى نهود هضبة
    يحيلها الترجرج

    تثير موعداً على
    عينيه طيف أدعج

    هناك: نبض مولد
    يريبه التحرج

    تلجلجت بنانه
    فأفصح التلجلج

    وكرمه عيونها
    أحلام أنثى تزوج

    ومنحنى يخضر في
    حروفه التهدج

    وواحة حبلى تعي:
    متى؟ وكيف تنتج؟

    فتبتدي جزيرة
    أخرى أجد أبهج

    لها طفولة على
    ركض البزوغ تدرج

    على امتداد حضنها
    تندى الحصى وتهرج

    وينتشي “عرارها”
    ويفرح البنفسج

    فللكوى تلفت
    وللربى تموج

    أغسطس 1964م

  • 65 من ذا هنا

    ديوان في طريق الفجر >  من ذا هنا

    ذوالحجة سنة 1372هـ

    من أنادي؟ وأنت صما سميعه
    بين صوتي وبين أمي قطيعه

    من أنادي؟ من ذا هنا؟ لم يجبني
    آه، إلا صمت القبور الصديعه

    يا بلادي: وأنثني أشغل التفتيش
    عني، وعن بلادي الصريعه

    كيف ماتت؟ كما يموت شباب العطر
    في صفرة الغصون الخليعه

    من درى كيف أطبقت مقلتيها
    ورمى الليل حلمها في مضيعه؟

    أوكلت أمرها الطغاة… كراعٍ
    نام واستودع الذئاب قطيعه

    وتعامت فاستعبدتها عبيد اللهو
    باسم الهدى وباسم الشريعه

    وانزوت وحدها تئن وتستلقي
    وراء الحياة، خلف الطبيعه

  • 66 لست أهواك

    ديوان من أرض بلقيس >  لست أهواك

    لستُ أهواكِ قد خلعتُ الهواءَ
    واحتقرتُ الفتونَ والإغراءَ

    لستُ أهواكِ قد صحوتُ من الحـ
    ـبُ ومزقتُ صبوتي والصباءَ

    ونفختُ الغرامَ من حبةَ القلب
    كما تنفخُ الرَياح الهباءَ

    وترفعتُ عن إرادتكِ البلـ
    ـها ورضتُ الجناحَ أغزو السماءَ

    فاخدعي من أردتِ غيري من النا
    س فإني وهبتُ قلبي العلاء

    واخجلي أنتِ والهوى واستكيني
    واخلعي عن كيانكِ الكبرياء

    إنني قدْ فرغتُ منكِ وبعثر
    ت بقايا صبابتي أشلاءَ

    * * *

    آه كمْ عشتُ في هواكِ وكمْ
    مرَغتُ فيه فتوتي والإباءَ

    كم تغنيت في هواكِ وسلسلتُ
    دمي في فمِ الغرامِ غناء

    وأرقتُ الدموعَ منكِ ولكنْ
    غسلَ الدمعُ حرقتي والعناءَ

    واسْتدرَ البكا هواكِ من القلـ
    ـب فأفنى الهوى وأبقى العزاءَ

    وبكاء ُ المحبَ يستنزفُ الشو
    ق نشيجاً والذكريات بكاءَ

    لستُ أهواكِ قد نحرتُ صباباتي
    كما ينحر القنوط الرجاءَ

    ونسيتُ اللَقاء وعفتُ التلاقي
    والتصابي والحسنَ والحسناءَ

    * * *

    فامضٍِ يا حبُ قد رجعتُ إلى العقـ

    ـلِ المصفَّى يديرني كيفَ شاءَ

    ويل ويل الغرام من يقظة اللـ
    ـب إذ اللبُ بالفؤادِ تناءى

    وإذا صارعتْ قوى العقل قلباً
    عبقرياً زادتْ قواهُ قواءَ

    ** ** **

  • 67 الحكم للشعب

    ديوان في طريق الفجر >  الحكم للشعب

    26 سبتمبر 1962م

    لن يستكين ولن يستسلم الوطن
    توثب الروح فيه وانتخى البدن

    أما ترى كيف أعلا رأسه ومضى
    يدوس أصنامه البلها ويمتهن

    وهب كالمارد الغضبان متشحاً
    بالنار يجتذب العليا ويحتضن

    فزعزعت معقل الطغيان ضربته
    حتى هوى وتساوى التاج والكفن

    وأذَّن الفجر من نيران مدفعه
    والمعجزات شفاهٌ والدنا أذن

    تيقظت كبرياء المجد في دمه
    واحمر في مقلتيه الحقد والإحن

    * * *

    يا صرعة الظلم شق الشعب مرقده
    وأشعلت دمه الثارات والضغن
    ها نحن ثرنا على إذعاننا وعلى
    نفوسنا واستثارت أمنا “اليمن”

    لا “البدر” لا “الحسن” السجان يحكمنا
    الحكم للشعب لا “بدرٌ” ولا “حسن”

    نحن البلاد وسكان البلاد وما
    فيها لنا، إننا السكان والسكن

    اليوم للشعب والأمس المجيد له
    له غدٌ وله التاريخ… والزمن

    فليخسأ الظلم ولتذهب حكومته
    ملعونةً وليول عهدها النتن

    * * *

    كم كابد الشعب في أشواطه محناً
    ماذا ترى؟ أنضجته هذه المحن!

    كم خادعته بزيف الوعد قادته
    هيهات أن يخدع الفهامة الفطن

    لن ينثني الشعب هز الفجر غضبته
    فانقض كالسيل لا جب ولا وهن

    حن الشمال إلى لقيا الجنوب وكم
    هزت فؤاديهما الأشواق والشجن

    وما الشمال؟ وماهذا الجنوب؟ هما
    قلبان ضمتهما الأفراح والحزن

    ووحد الله والتاريخ بينهما
    والحقد والجرح والأحداث والفتن

    * * *

    “شمسان” سوف يلاقي صنوه “نقماً”
    وترتمي نحو “صنعا” أختها “عدن”

    المجد للشعب والحكم المطاع له
    والفعل والقول وهو القائل اللسن

  • 4510 لعينيك يا موطني

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  لعينيك يا موطني

    لأني رضيع بيانٍ وصرف
    أجوع لحرفٍ، وأقتات حرف

    لأني ولدت بباب النحاة
    أظل أواصل هرفاً بهرف

    أنوء بوجهٍ، كأخبار كان
    بجنبين من حرف جر وظرف

    * * *

    أعندي لعينيك يا موطني
    سوى الحرف، أعطيه سكباً وغرف؟

    أتسألني: كيف أعطيك شعراً؟
    وأنت تؤمل، دوراً وجرف

    أفضل للياء وجهاً بهيجاً
    وللميم جيداً، وللنون طرف

    أصوغ قوامك من كل حسنٍ
    وأكسوك ضوءاً ولوناً وعرف

    * * *