البردوني.. شاعر الأسئلة.. الدكتور عز الدين إسماعيل
> البردوني.. شاعر الأسئلة.. الدكتور عز الدين إسماعيل
يقول علي الجندي في تقديمه لديوان البردوني المسمى (من أرض بلقيس): (إنه- أي شعر البردوني- بعيد عن التقليد، مستقل بمبانيه ومعانيه، لا تستطيع أن تقول إنه متأثر بشاعر آخر، أو أنه نموذج مكرر لقديم أو محدث، اللهم إلا لمحات هنا وهناك، تدل على أنه ذو نسب قريب بالعباس بن الأحنف، وإبراهيم ناجي، وأبي القاسم الشابي، وإنه يجري في حلبتهم دون أن يكون ظلالاً لهم أو صورة منهم).
وهذا القول يؤكد شيئاً بالغ الأهمية، ألا وهو خصوصية هذا الشعر، وهذه المزية هي الضمان لاهتمام الناس بهذا الشعر، حيث لا يغني عنه غيره من قديم أو حديث، وهي تغري الدرس الأدبي به، للوقوف على تجليات تفرده، وعلى أسرار هذا التفرد.
وانطلاقاً من اقتناعي بخصوصية هذا الشعر وتفرده، سأحاول هنا أن أقف على خاصية أراها أساسية في شعر البردوني، بل لعلها أول ما يميز هذا الشعر عن سواه، ألا وهي الاعتماد في مبنى هذا الشعر ومعناه على السؤال، كيف كان ذلك؟
السؤال بطبيعته جدل مع النفس ومع الآخر على السواء، ومن هنا كان السؤال وجوابه ركيزة أساسية تميز الخاصية الدرامية في أي عمل أدبي، سواء كان شعراً أو قصصاً أو مسرحاً، فحيثما كان هناك تصادم أو تفاعل أو مجرد مواجهة بين طرفين يستخدمان اللغة في هذه المواجهة، تتحقق الدراما، أو لنقل يتحقق الفعل ورد الفعل، على النحو الذي يجسد صور الحياة؛ إذ المتأمل في حياة البشر في جملتها يدرك أنها أفعال أحياناً وردود أفعال أحياناً أخرى، ولا مفر لها من ذلك.
وقد كان ارتباط القصيدة بأنا المتكلم (سواء أكانت هي أنا الشاعر أم أنا مصطنعة له) من شأنه أن يجعلها أحادية الصوت، متعالية على الواقع الحيوي الذي يجمع بين الأنا والآخر، ومنعزلة على نحو ما- عن درامية الحياة.
والبردوني – كما هو معروف- شاعر قصيدة بهذا تتكلم دواوينه الشعرية التي تضم عشرات القصائد، ولا شك في أن تقاليد هذا الجنس الأدبي ومقوماته المتوارثة منذ الزمن القديم قد شغلت حيزا كبيراً من ثقافته الشعرية، وبديهي أن التراث المتراكم عبر الزمن لهذا الجنس لم يكن كله أحادي الصوت، وإن كانت هذه الأحادية هي الأغلب، وفي هذا المنطق- على وجه التحديد- يمكن الوقوف على النقلة الجوهرية التي حققها البردوني في قصائده، حيث توارى إلى حد بعيد صوت الأنا المفرد، وصارت الغلبة في هذه القصائد، في الأعم الأغلب للصوت والصوت الآخر، للأنا والأنا، أو الأنا والأنت، فانتقلت القصيدة بذلك من “الغنائية” إلى “الدرامية”.
وعلى سبيل المثال هناك قصيدة بعنوان “سندباد يمني في مقعد التحقيق” وردت في ديوان “وجوه دخانية في مرايا الليل” ص42 للشاعر، تقوم على صوتين: صوت الأنا الشاعر، وصوت الآخر، المحقق، ويمكننا أن نقراها عندئذ على النحو الآتي:
ش: كما شئت فتش! أين أخفي حقائبي.
أتسألني من أنت؟
ق: أعرف واجبي.
أجب! لا تحاول! عمرك؟ الاسم كاملاً؟
ش: ثلاثون تقريبا.. (مثنى الشواجبي).
ق: نعم، أين كنت الأمس؟
ش: كنت بمرقدي.
وجمجمتي في السجن، في السوق شاربي.
ق: رحلت إذن، فيم الرحيل؟ أظنه جديداً.
ش: أنا فيه طريقي وصاحبي.
ق: إلى أين؟
ش: من شعب لثان بداخلي.
متى سوف آتي! حين تمضي رغائبي.
ق: جوازاً سياسياً حملت؟
ش: جنازة حملت بجلدي فوق أيدي رواسبي..
من الضفة الأولى رحلت مهدماً
الى الضفة الأخرى حملت خرائبي.
ق: هراء غريب لا أعيه.
ش: ولا أنا.
ق: متى سوف تدري؟
ش: حين أنسى غرائبي.
هذا الكلام هو بنصه كلام الفقرة الأولى من القصيدة، لم يزد ولم ينقص، ولمن شاء أن يرجع إلى الديوان ليقرأها.. في نسقها التقليدي.
وما دمنا في باب التمثيل فلنقرأ كذلك الفقرة الثالثة من هذه القصيد:
ق:وماذا عن الثوار؟ حتما عرفتهم!.
ش: نعم، حاسبوا عني، تغدو بجانبي.
ق:وماذا تحدثتم؟
ش: طلبت سجارة- أظن- وكبريتا.. بدوا من أقاربي.
شكونا غلاء الخبز.. قلنا ستنجلي.. ذكرنا قليلاً موت “سعدان مأربي”.
ق:وماذا؟
ش: وإنسانا الحكايات منشد:
“إذا لم يسالمك الزمان فحارب”.
ق: وحين خرجتم، أين خبأتهم؟ بلا مغالطة!.
ش: خبأتهم في ذوائبي.
ق: لدينا ملف عنك.
ش: شكراً، لأنكم تصونون ما أهملته من تجاربي.
هذا هو نص الفقرة بلا زيادة أو نقصان وقد عرضناه في صورته الحوارية الطبيعية والأمر في هذا النص وذاك لا يتعلق بالصورة الحوارية إلا بقدر ما تحقق هذه الصورة الخاصية الدرامية في هذا الحوار، إن تحليل العبارات المتداولة بين الطرفين هنا من شأنه أن يكشف عن بعد مهم في هذا الحوار، يتمثل في موقف الطرفين أحدهما من الآخر، أعني الموقف الشعوري الذي يكشف عن نوايا المحقق العدائية من جهة، وصلابة موقف الشاعر من جهة أخرى، من الواضح أن هناك مواجهة حادة إن لم نقل صراعاً بين الطرفين، فالحوار وحده ليس ضماناً دائماً لتحقق الدراما، وإن كان من أكثر أشكال الأداء اللغوي ملاءمة لها، ومن ثم يتعين فرق بين حوار البردوني هنا وحوار شاعر آخر، كعمر بن أبي ربيعة مثلاً، ذلك بأن حوار البردوني مؤسس تأسيساً درامياً من الطراز الأول، تكشف فيه الأسئلة والأجوبة عن الدوافع الخفية والتيارات المتعارضة، التي تحرك الطرفين أحدهما إزاء الآخر.
وهنا لا بد أن نلاحظ انه إذا صح أن الشعراء قد يستخدمون في الأغلب الأعم بنية السؤال/ الجواب في بعض قصائدهم فإن هذا الصنيع لا يشغل في المعتاد إلا حيزاً يسيراً من القصيدة، فضلاً عن أن النص/ السؤال وجوابه يأتي في صيغة السرد الملحمي (قلت لها.. قالت، أو قالت.. فقلت لها) كما هو الشأن عند عمر بن أبي ربيعة في القديم، وعبدالله الفيصل في الحديث، أما البردوني فالمواجهة عنده مباشرة، تعلن عن نفسها في الأبنية اللغوية التي كان “برتولد برخت” الكاتب المسرحي المعروف يراها محققة للمشهدية الدرامية، والتي ميزها هذا الكاتب عن سواها من الأبنية اللغوية بما يسماه الgestus حيث تقترن الكلمة بالفعل، ولا تكون مجرد حكاية له.
من هنا يمكننا أن نقرر أن بنية السؤال/ الجواب في صورتها الدرامية قد ملأت فضاء القصيدة، محققة “المشهدية الدرامية” (المواجهة العيانية) على مستوى النص كله، على نحو لا يمكن أن تحتمله القصيدة الغنائية، وقد كان لهذا أثره الواضح في الصيغ اللغوية التي ملأت فضاء القصيدة والتي قد يرى البعض من منطلق تقليدي أنها لغة فقيرة في شعريتها، أو مجافية لمألوف اللغة الشعرية، وأن هذا يصدق على هذه القصيدة كما يصدق على غيرها، ومن أمثلة هذه الصيغ قول الشاعر: “أين كنت الأمس” تحديت بالأمس الحكومة من الكاتب الأدنى إليك؟وماذا تحدثتم”.. والخ، وإنَّ هذه الصيغ وأمثالها قد تبدو جاسئة في السياق الشعري، لأنها تضحي بالجمالية الشكلية التقليدية للغة الشعر، لكنها تكتسب- في مقابل هذا- حيوية الأداء الدرامي.
وسأكتفي هنا- على مستوى السؤال- بتسجيل ظاهرتين أسلوبيتين ترتبطان على وجه الخصوص بالأداء الدرامي: الأولى تتمثل في صيغة السؤال الذي لم يتم، والأخرى تتمثل في صيغة السؤال التقريري الذي خلا من أداة الاستفهام، أو لنقل في إيجاز إنها تتمثل في العبارة التقريرية التي هي- مع ذلك- سؤال- ومن الواضح أن صورة السؤال على هذا النحو أو ذاك لا تحقق الصورة النموذجية لصيغة السؤال، بل تحدث خُرماً فيها، مرة من خلال عدم اكتمال العبارة، ومرة من خلال غياب الأدلة الدالة على السؤال.
وعدم اكتمال العبارة- سؤالاً كانت أو غير سؤال، وإن كان أكثر انتشاراً مع صيغة السؤال- يرتبط على وجه الخصوص بالحوار الدرامي، فما أكثر ما نقرأ في النصوص المسرحية أسئلة ما تكاد تبدأ حتى تنتهي، وإنما يحول دون اكتمالها مبادرة الطرف الآخر بالكلام، وكأنه عرف الصورة التي كان من المفترض أن ينتهي إليها السؤال في حال اكتماله، والمعنى الذي يهدف اليه السؤال في هذه الحال، ولأن اللغة في الدراما تكون خاضعة أساساً لمطالب الدراما، أي لما يستجيب لحالات المواجهة بين الأطراف المتقابلة، والمتصارعة، فإنها تكون على استعداد للتضحية بالصيغ المعيارية Standard للغة في مفهوم “موكارجو فسكي” والشيء نفسه يقال عن الجمل التقريرية التي تتحول إلى صيغ استفهامية، فهذا الطراز من الجمل مألوف في التعامل المباشر بين الناس في الحياة، ومألوف – من ثم- في الأعمال الدرامية، وفي حال ورود مثل هذه الجمل في نص كتابي لا بد لمعرفة أن الجملة استفهامية وليست تقريرية من قرينة، وفي حال تلقي النص مؤدى على المسرح تكون طريقة نبر الممثل لكلمات الجملة كفيلة بتحويلها إلى جملة استفهامية.
وسنكتفي الآن- نظرا للحيز المتاح- بالوقوف مع البردوني في قصيدة واحدة له بعنوان”بين الرجل والطريق” من ديوانه “وجوه دخانية في مرايا الليل” لنرى أمثلة لتحقق هذين الطرازين من صيغ السؤال الدرامية، في إطار هذه القصيدة القصيرة نسبياً (17 بيتاً) في الفقرة الأولى من القصيدة يقول الشاعر:
يا براميل القمامة إلى
أين تمضين؟ إلى دور الثقافة
كل برميل إلى الدور؟ نعم
وإلى المقهى..؟ جواسيس الخلافة
ثم ماذا؟ ورصيف مثقل
برصيف، يحسب الصمت حصافة
في السطر الأول هنا سؤال موجه إلى “براميل القمامات” إلى أين تذهب، وجواب عن هذا السؤال يحدد المكان الذي تذهب إليه بدور الثقافة، وإذا كنا نعرف أن المتحدث في القصيدة هو الذي يطرح السؤال فإننا لا نعرف من المجيب، فقد يكون شخصاً آخر، وقد يكون هو السائل نفسه، فليس غريباً أن يدور السؤال والجواب بخلد شخص واحد، ذكراً كان أو أنثى، وعلى كل فالشاهد الذي يعنينا هنا هو عبارة “كل برميل إلى الدور؟” فهي عبارة تقريرية في بنيتها اللغوية ومع ذلك أريد لها أن تكون سؤالاً؛ أي أن تتحول من الخبرية إلى الإنشائية، دون أي تعديل فيها، ودون إدخال أي أداة استفهام عليها، وبديهي أن وضع علامة للاستفهام بعده لا يزيد عن أن يكون مجرد مؤشر لضرورة قراءتها كما لو كانت سؤالا لكن ما يحمل حقا على عدها سؤالا هو القرينة المتمثلة في الإجابة: “نعم”.
ثم يأتي الشطر الثاني من البيت: “وإلى المقهى؟ جواسيس الخلافة” فنجد أن شبه الجملة (الجار والمجرور) المتمثل في “وإلى المقهى؟” قد صار سؤالا وهو صيغة في إطار اللغة المعيارية- أبعد ما تكون عن الدلالة على السؤال، إن القرينة تفرض على القارئ أن يكون شبه الجملة هذا سؤالاً فقد عرفنا من قبل أن “براميل القمامات” (من الواضح أنها تورية عن أدعياء الثقافة) قد ذهبت إلى دور الثقافة فلما جاءت عبارة “وإلى المقهى؟” عطفناها عليها، فأصبح السؤال هو: إذا كانت براميل القمامات قد ذهبت إلى دور الثقافة فمن ذا الذي ذهب إلى المقهى؟ يؤكد هذا ان يأتي الجواب: “جواسيس الخلافة”.
وعلى خلاف العبارات التقريرية التي قامت بوظيفة الاستفهام يأتي السؤال في مستهل البيت الثالث: “ثم ماذا..؟” وتتشكل بنية هذا السؤال- كما هو واضح- من حرف عطف (ثم) وأداة استفهام ( ماذا ) ولا شيء سوى هذا. ومعروف أن أداة الاستفهام تدخل على الكلام لتجعله سؤالا، ولكن لا كلام هنا، ومع أن جسم السؤال غائب فإن المتلقي يدرك أن هناك سؤالا، وأنه يستطيع في ضوء السياق العام- أن يملأ ذلك الفراغ، وأن يصنع للسؤال حضورا كاملا بأن يتصوره على نحو: “ثم ماذا هناك بعد أن ذهبت” براميل القمامات إلى دور الثقافة وذهب جواسيس الخلافة إلى المقهى؟” وإذا كنا نعرف أن اختزال كل ما يمكن اختزاله من الكلام سمة درامية من الطراز الأول، فهاهنا تتحقق هذه الدرامية من خلال اختزال الشاعر هذه الجملة الطويلة في حرف عطف وأداة استفهام.
وفي الفقرة الثانية من القصيدة يقول الشاعر:
ههنا قصف، هنا يهمي دم
ربما سموه توريد اللطافة
ما الذي؟ من أطلق النار؟ سدى
زادت النيران والقتلى كثافة
وهنا يأتي السؤال: “ما الذي؟” وكان الأولى أن يكون: ” ماذا؟ ” أو “من ذا الذي؟”. وعلى كل فالسؤال متروك للمتلقي، لكي يمارس في إيجاده أو تصوره تفاعلا حقيقيا يبادره به الشاعر، لقد بدت هذه الصيغة المختزلة وكأنها تقول للمتلقي: أنت قادر على أن تدرك جسم السؤال فما الحاجة إذن لذكره؟ وهذا التعويل على يقظة المتلقي وذكائه يمثل سمة درامية أخرى: في الكلام، تستفز نشاط المتلقي العقلي وفاعليته، وفي هذه الفقرة نفسها يَرد قوله:
وزحام السوق يشتد، بلا
نظرة عجلى، بلا أي انعطافة
لم يعد للقتل وقع؟ ربما
لم يعد للشارع الداوي رهافة
فنلتقي في الشطر الأول من البيت الثاني بمثال آخر للجملة التقريرية “لم يعد للقتل وقع” وقد أريد بها أن تقوم بدور السؤال دون أن تدخل عليها علامة استفهام.
والفقرة الثالثة من بيتين، هما:
ما الذي؟ موت بموت يلتقي
فوق موتي.. من رأى في ذا ظرافة؟
نهض الموتى، هوى من لم يمت
كالنعاس الموت؟ لا شيء خرافة
حيث تجتمع الظاهرتان الأسلوبيتان: في صدر البيت الأول يرد السؤال المختزل إلى ما يقرب من درجة الصفر “ما الذي؟” وفي الشطر الثاني من البيت الثاني ترد الجملة التقريرية “كالنعاس الموت” ليراد بها أن تكون سؤالاً.
ومرة أخيرة نقرأ في الفقرة الرابعة الختامية:
ههنا ألقى حطامي؟ حسنا
ربما يلفت عمال النظافة
فتواجهنا الجملة التقريرية “هاهنا ألقى حطامي” التي لم تعد بعد تقريرية حين أريد بها أن تكون سؤالاً.
إن العبارات التقريرية من قبيل “ههنا ألقي حطامي” و”كالنعاس الموت” و”لم يعد للقتل وقع”.. الخ، هذه العبارات التي أريد لها أن تتحول من التقرير إلى السؤال، تثير لدينا بالضرورة السؤال عن السر في استخدامها على هذا النحو الذي يجعلها ظاهرة أسلوبية لدى الشاعر، وفي تقديري أن هذه الظاهرة تعكس الموقف العقلي لدى الشاعر من الأشياء، أو لنقل إنها تعكس موقفه من الحقائق بعامة، فالأشياء التي تبدو صلبة في بادئ الأمر ما تلبث أن تتزعزع، والحقائق التي يلوح أنها من قبيل المسلمات ما تلبث أن تؤول إلى البطلان،وعندئذ يصبح كل شيء وتصبح كل حقيقة موضعاً للظنون أو الشكوك أو للتساؤل على أقل تقدير: هل القتل لم يعد له وقع حقاً؟ وهل الموت كالنعاس؟ وهلم جرا، وإن دل هذا أخيراً على شيء فإنما يدل على حالة من القلق تهيمن على رؤية الشاعر لنفسه، وللآخرين، وللحياة بعامة.
على أن الأسئلة، الكثيرة المنتشرة في فضاء شعر البردوني لا تقتصر وظيفتها على مجرد الدلالة، على ذلك البعد النفسي أو الوجودي، بل كان لها إلى جانب هذا وظيفة بنائية بارزة فيما يتعلق بتكوين القصيدة وتطورها، وعلاقة أجزائها بعضها ببعض.
وفي وسعنا الآن أن نقدم نماذج لأشكال القصائد التي أدت فيها الأسئلة لدى البردوني وظيفة بنائية محددة، تتجلى في نسق القصيدة وإن ظلت مجسدة لحمولتها الدلالية، والنموذج البنائي الأول يتمثل في القصائد التي تستهل بالسؤال ليعود السؤال فيبرز في نهايتها وكأنه يدور في فراغ، ومن ذلك قصيدة “فراغ” من ديوان “وجوه دخانية في مرايا الليل” ص87 حيث تبدأهكذا:
ماذا هنا أفعله؟
يشغلني.. أشغله
أعطيه نارَ داخلي
ما عنده يبذله
يجرحني، أحسه
يشربني آكله
يمتصني، أذيبه
يحرقني، أشعله
يذهلني عن عدمي
عن عمقه أذهله
من الواضح أن صيغة السؤال الاستهلالية هنا تنسحب على الجمل التقريرية التي وردت بعدها، وكأن السؤال عن “الفعل” “أفعله” إطلاقاً يتكرر ضمنا في تعينات لهذا الفعل تحدده مرة بعد أخرى، هي: ماذا يشغلني؟ ماذا أعطيه نار داخلي؟ ماذا يجرحني.. شربني؟ ماذا يمتصني.. يحرقني؟ ماذا يذهلني؟ فكل هذه العبارات إذن عبارات استفهامية وإن لم تدخل عليها أي علامة استفهام، لكنها صارت استفهامية بحكم توالدها من السؤال الأول: ” ماذا هنا أفعله؟ ” ولذلك صح أن نجري عليها جميعاً هذه الصيغة الاستفهامية، ويعزز هذا النهج أن الشاعر نفسه في الفقرة الثانية عاد فأبرز صيغ السؤال في موضع مماثل، حيث يقول:
ماذا هنا؟ أرفضه
ماذا هنا أقبله؟
من ذا هنا؟ يقتلني
من ذا هنا أقتله؟
وكان في وسعه أن يستغني عن تكرار صيغة السؤال على نحو ما ورد في المقطع الأول في مثل: يجرحني- أحسه، يشربني- آكله، يمتصني- أذيبه، يحرقني- أشعله، يذهلني.. أذهله.
وفي الفقرة الأخيرة من القصيدة- وهي من بيتين- يعود السؤال الأول:
ماذا أقول ياهنا؟
وما الذي أعمله
لينتهي الموقف كله بمفارقة صاعقة:
ماذا؟ ومثلي ميت
هذا الذي أسأله
فقرة واحدة من الفقرات الأربع المشكلة لهذه القصيدة هي التي خلت من الأسئلة في صورتها الظاهرة أو المقدرة، لتقدم إلى القارئ أربعة أبيات تقريرية من الطراز الأول، مخالفة بذلك إنشائية سائر الفقرات، تقول:
الوقت لا يمضي ولا
يأتي، خوت أرجله
قدامه رؤوسه
رؤوسه أسفله
أمامه وراءه
آخره أوله
لا ينتهي لغاية
لأن لا بدء له (87/88)
والقصيدة تحمل عنوان “فراغ” والفراغ هو المقابل المضاد للامتلاء، وهو معنى يدركه الإنسان على المستويين المادي والمعنوي، كما يكون العدم مقابل الوجود، فالوجود يدرك من خلال الموجود، سواء كان هذا الموجود عينيا أو وجوبياً، والموجود العيني يلزم لتعينه بعدان: مكاني وزماني، شأن كل حدث من أحداث الحياة، والعمل أو الفعل حدث، لأنه يمثل واقعاً في المكان وحركة في الزمان، والفقرات الثلاث التي تحمل أسئلة القصيدة تتعلق فيها هذه الأسئلة بالحدث في بعديه المكاني والزماني.
في بداية الفقرة الأولى نقرأ:
ماذا هنا أفعله؟
يشغلني، أشغله
وفي بداية الفقرة الثانية:
ماذا هنا أرفضه؟
ماذا هنا أقبله؟
فإذا عبرنا الفقرة الثالثة إلى الفقرة الرابعة والأخيرة رأيناها تبدأ هكذا؟
ماذا يقول ياهنا؟
وما الذي أعمله؟
وعندئذ تنفرد الفقرة الثالثة بالكلام عن البعد الزمني وحده، أي عن الوقت، وإذا كان الشاعر يبحث عما يخرجه من حال الفراغ القاتل إلى حال الفعل فإنه ما يلبث أن يدرك أن الزمن قد فقد خاصية الانسياب، وخاصية الحركة التي تعين “الفعل” في المكان.
في فقرات الأسئلة الثلاث تدور الأسئلة عن الأفعال الممكنة وردودها، عن ثنائية يمثل الشاعر أحد طرفيها، أما الفقرات الخاصة بالزمان فمقصورة عليه، حيث تنعدم الحركة في هذا الزمان، فهو لا يذهب ولا يجيء وآخرن هو أوله، فلا نهاية له ولا بداية.
لقد كانت الأسئلة منذ بداية القصيدة تفترض شأن كل الأسئلة طرفا آخر يتجه إليه السائل التماساً للمعرفة، أو يدخل معه في حوار صراع يحقق من خلاله الوجود في أكثر صوره امتلاء، لكن هذا الذي توسمه السائل ما يلبث في الفقرة الثالثة من القصيدة أن يصطدم بتقرير حاسم لا يقبل المراجعة أو المفاوضة (الوقت لا يمضي ولا يأتي) وفي هذا الإطار يتبين أن المسؤول لم يكن في حال أفضل مما كان عليه السائل، فكلاهما في ذلك الفراغ ميت (ومثلي ميت هذا الذي أسأله).
هذه الأسئلة جميعها في القصيدة، المنتشرة فيها منذ بدايتها حتى نهايتها، لم تكن برغم كثرتها وهيمنتها على ثلاثة أرباع القصيدة هي الهدف المحوري الذي تسعى القصيدة إلى تأكيده، بل كانت هذه الأسئلة أداة لتكريس معنى الفارغ مادياً ومعنوياً، الذي دل عليه توقف الزمن، بقدر ما كانت أداة ترابط بين أجزاء القصيدة، وإحكام لحركة توالدها وتطورها، في بنية دائرية يعود آخرها ليلتئم مع أولها، وليفضي- من خلال هذه الحركة الدائرية- بحمولتها المعنوية الدالة على الدوران في فراغ.
وننتقل الآن إلى النموذج البنائي الثاني في شعر البردوني، الذي يؤسسه السؤال في حال وقوعه في مفصل القصيدة.
وتتكون القصيدة التي يقوم بناؤها على أساس هذا النموذج من مقدمة تجريدية، تشغل فقرة من القصيدة، ويغلب عليها التعميم، في هذه الفقرة التمهيدية تكون المعاني كلية وعامة، والرؤية شمولية ولا ظهور فيها للأنا في حالة تساؤل أو دون تساؤل، بل يتعلق الحديث بالآخر، وهذا الطراز من التمهيد شائع في القصيدة العربية منذ القدم (نتذكر هنا- على سبيل المثال- بائية أبي تمام في فتح عمورية)، ولا طرافة في هذا، ثم يأتي بعد ذلك سؤال الشاعر أو أسئلته المنبثقة من تلك المنطقة التجريدية والمنعكسة عليها في الوقت نفسه، فيكون ذلك بمثابة الانتقال من الكلي العام إلى الفردي الخاص،وعلى هذا النحو تصنع هذه الأسئلة في موضعها مفصلاً مركزيا للقصيدة، حيث تعود فتتحكم في حركة المعنى في القسم التالي من القصيدة.
ويمكننا – للتمثيل على هذا – أن نرجع إلى قصيدة البردوني المسماة (في الغرفة الصرعى) في ديوانه (وجوه دخانية) ص59.
في مستهل هذه القصيدة فقرة من خمسة أبيات على النحو الآتي:
شيء بعيني جدار الحزن يلتمع
يهيم، يخبر عن شيء، ويمتنع
يريد يصرخ، ينبي عن مفاجأة
لكنه- قبل بدء الصوت- ينقطع
يغوص، يبحث في عينيه عن فمه
تغوص عيناه فيه، يقتفي، يدع
عما يفتش، لا يدري، يضيع هنا
يقوم يبحث عنهن وهو مضطجع
يومي إلى السقف، تسترخي أنامله
تمتد كالدود كالأجراس تنزرع
وهي ترسم صورة رجراجة ومبهمة، توشك أن تكون “سيريالية” أو “عبثية” لكنها تنضح على الرغم من هذا، أو قل نتيجة لهذا بمعاني الخوف والقلق والضياع،وعندئذ يأتي السؤال المفصلي في مستهل الفقرة التالية:
من أين ياباب يأتي الرعب؟ تلمحه
من أي زاوية يعشوشب الوجع؟
ومن هذا السؤال تتناسل كل المعاني التي نطالعها في سائر أبيات هذه الفقرة وفي الفقرة القصيرة التالية لها، وكلها تفصيل لحالات “الرعب” ومشاعر الألم. وفي ختام القصيدة تأتي فقرة من بيتين تقول:
في هذه الغرفة الصرعى أسى وقلق
يطول كالعوسج النامي ويتسع
الحزن يحزن من فوضى غرابته
فيها ويفزع من تهويشه الفزع
فإذا بنا أمام صورة قاتمة، يخيم عليها الحزن والقلق والفزع، تعيدنا مرة أخرى.. ولكن في وضوح إلى مرائي جدار الحزن في فقرة الاستهلال.
أما النموذج البنائي الثالث في شعر البردوني، المؤسس على عنصر السؤال، فنجد مثاله في قصيدته المسماة “غريبان” من ديوانه “السفر إلى الأيام الخضر” ص 81 حيث ترد صيغة السؤال في مستهل كل فقرة لتكون الفقرة نفسها امتداداً وتوليداً لما يستبطنه هذا السؤال.
الفقرة الأولى من هذه القصيدة تبدأ بهذا السؤال:
من ذلك الوجه؟ يبدو أنه “جندي”، لا بل “يريمي” سأدعو جد مبتعد..ثم تمضي أبيات الفقرة بيتاً بعد الآخر لكي تجلو صورة هذا الوجه، أي صورة صاحبه، ثم يأتي السؤال في مستهل الفقرة الثانية:
من أين يا ابني؟ ولا يرنو، واسأله
عن (مجلة الكويت العدد 227 الصادر في 1سبتمبر2002)