بناء القصيدة في شعر البردوني… الدكتور عبد الله البار
> بناء القصيدة في شعر البردوني… الدكتور عبد الله البار
ممّا لا شكَّ فيه عند العارفين بالفنّ أنّ لكلّ نوعٍ من أنواعه طرائق في البناء خاصّة، وأشكالاً من المعمار لا تتشابه. وهم يذهبون إلى أنّه مهمٌّ جدّاً في هذا الشأن أنْ لا يكون للفنّ – كائناً ما كان نوعه – مناصٌ من ذلك البناء وذلك المعمار، أو أصبح الفنّ هلاماً لاشكل له، وانساباً منسرحاً دون ضابط يضبطه، وتشكّلٍ يقيم كيانه.
ولقد يجد المرء في كتاباتٍ كثيرةٍ أقاويلَ عن تفكّك البناء في القصيدة العربيّة القديمة، وانعدام المعمار فيها، وجميعها قائمٌ على الاستقراء السريع المتعجّل، وعلى شيء من الغرض لا يخفى. أمّا تدبّر القصيدة القديمة بعينٍ منصِفةٍ متوسّمةٍ فيفضي إلى جلاء ظواهر من البناء الشعري فيها تدلّ على إحكامٍ في النسج واثقان في التشكيل.
وللقصيدة الحديثة طرائقها في البناء تنماز من طرائق البناء في القصيدة القديمة وتنبو عنها. لا أقول ذلك عن قصيدة (التفعيلة) خاصةً، ولكنني أضمّ إليها القصيدة المنظومة على البحر الواحد والقافية الواحدة اللذيْن نظمت عليهما القصيدة العربيّة القديمة. وهذه مسألةٌ تتجاوز(علم العروض) من حيث هو علمٌ محصورٌ في معرفة صحيح أشعر من منكسره كما قال علماؤه في تعريفه، لتتصل بسمات (الحداثة) عند الشعراء الملتزمين بالبناء العروضيّ القديم ذي البحر الواحد والقافية الواحدة. والشاعر الكبير عبد الله البردّونيّ واحدٌ من هؤلاء.
فكيف بنى قصيدته؟ أعلى النمط التقليديّ الموروث؟ أم نَهَجَ بها نهْجاً حديثاً؟
أكان بناؤه إيّاها بيتاً بيتاً؟ أم كان بناؤه إيّاها وحدةً وحدةً تتنامى حتّى تستقيم كياناً متّحد الأجزاء؟ وهل تداخلت في بنائه الشعريّ الأجناس الأدبيّة فتراءى متنوّعاً سرداً ودراماً وغناءً؟أو انفرد بطريقة في البناء غالبة عليه؟ وهل لتعدّد الأصوات وتداخلها في شعره صلةٌ بسمات البناء الشعريّ في قصائده؟ وما دلالة كلّ ذلك وسواه؟
أسئلة تنفتح على مزيدٍ من الأسئلة، ولا سبيل للعثور على الأجوبة إلا بالوقوف على قصائده وتحليلها ما أمكنت الاستطاعة من ذلك، وإنّي متخيّرٌ لهذا المقام قصيدة “لعبة الألوان” من ديوانه (زمان بلا نوعيّة) لجلاء بعض مظاهر بناء القصيدة في شعر البردّونيّ.
تفتتح القصيدة بجملة خبريّة تحمل يقيناً قاطعاً لا شكَّ فيه، ثمّ تتلوها جملٌ إنشائيّةٌ تدلّ على حيرةٍ وقلقٍ ورجاءٍ.
كان هذا ما جرى، ماذا سيجري
ماالذي يا ليل سل أوجاع فجري
إنّما أرجوك قل لي ما اسمه؟
هل له رائحةٌ يا ليل تغري؟
لا تشمّ الآن؟ قل ما لونه؟
لعبة الألوان أضحت لون عصري
كيف يبدو؟ كلّ ما ألمحه
أنّ شيئاً آتياً يشقي ويثري
ههنا إذاً راوٍ يروي ما حدث ويخبر عنه، لكنّه يتحوّل من كونه راوياً سلبياً إلى (بطلٍ) يعيش صراعاً بين المتناقضات فيخرج من يقينٍ لاشكَّ فيه إلى شكٍّ لا يقين له، وتلك سمة البطل المعاصر عند العارفين. ومن هنا حيرته، والتماسه النجاة من الآخرين من خلال الاستفهام عن جوهر القادم المجهول من أعماق الزمان ( ماذا سيجري؟ ما الذي يا ليل؟ قل لي ما اسمه؟ هل رائحة تغري؟ قل ما لونه؟).
وهنا يبني النصّ الأبيات بناءً خاصّاً فيُحدث لها نوعاً من الترابط والاتحاد.فترانا نخرج مع المتكلّم في النصّ في البيت الأوّل من نورٍ مبينٍ دالٍّ على يقينّ (كان هذا ما جرى)، إلى ظلامٍ دامسٍ باعثه الشكّ والحيرة والجهل بما يدور ( ماذا سيجري؟).ثمّ تتراءى لنا شبهة أملٍ في الخروج من تلك العتمة حين هتف الليل (سل أوجاع فجري) وكأنّه جهينة التي عندها الخبر اليقين،لكنّ المتكلّمَ ذاهلٌ عن ذلك منغمرٌ في حيرته وقلقه ورغبته في الكشف عن المجهول،فكثرت الأسئلة وتعدّدت، ولا جواب إ لاّ في حالين،أوّلهما حين كان محتوى الاستفهام لون القادم المجهول،فتراءى الجواب حادّاً كالنصل (لعبة الألوان أضحت لون عصري). وهو جوابٌ يحمل يقيناً مظلماً أسود تبدو فيه الحياة ختلاً ومراوغة تكون سبباً في الإصابة بالعمى والعجز عن التمييز بين المتناقضات،فلا تستبين جوهراً لأمرٍ ولا حقيقةً لغايةٍ.
وثانيهما حين كان الاستفهام عن شكل القادم المجهول فكان الجواب نبوءةً بأحوال الأحياء في قادم الأيام، وتراءى ذلك القادم من المجهول جحيماً لأقوام كما هو نعيمٌ لآخرين. وهنا تتجلّى مقابلةٌ سياقيّةٌ يفرزها النصّ حين يقول: (إنّ شيئاً آتياً يشقي ويثري)، حيث قابل بين (الشقاء) و(الثراء). وفي الأصل أنّ (الشقاء) يقابله لفظ (السعادة)، و(الثراء) يقابله لفظ (الفقر). لكنّ (الفقر) سببٌ في (الشقاء)،و(السعادة) نتيجةٌ (للثّراء)،وعلى هذا استخدم الشاعر المقابلة بين سببٍ ونتيجةٍ، أو بين شيء ومقارب ضدّه كما يقول الطرابلسيّ.
وكلتا الإجابتين تبعثان على الرهبة وتسوّغان القلق.
وإنّ التأمّل في لغة الخطاب هنا يكشف لنا أنّ استخدام الاستفهام تكرّر سبع مرّات في أربعة أبيات يشي بالقلق الداخليّ والحركة التي تنمّ عن حيرةٍ تبحث عن هداية، وشكٍّ ينقّب عن يقين. ولا يخلو استخدام (المقابلة) في الأبيات من تلك الدلالة. وهذا وذاك كانا وسيلة الشاعر في تجسيد النزعة الدراميّة في بناء النصّ، وهنا تنتفي الغنائيّة،وتخبو النجوى، وتصبح القصيدة أداة التعبير عن الرؤية والموقف لا تجسيداً لإحساسٍ وانفعالٍ. وإنّما تمّله ذلك من خلال بناء النصّ بناءً درامياً يجسد صراعاً ويقابل بين المتضادات.
ولتحقيق هذه الدراميّة في بناء القصيدة يعمد إلى تطوير الشخصيّات الفاعلة في قصيدته، فيتراءى (الليل) في المقطع الثاني منها بطلاً يصارع آخر يتقحّم هُدوءََه بقلقه، ويستفزّ صمته الناعم بأسئلته الضاجّة، فإذا الليل يشكو حالاً، ويحتار في أمرٍ، ويقر صورة عالَمٍ لم تكن مشهورةً من قَبْلُُُُ:
أيّها العفريت نم أقلقتني
ابتعد عن سرّتي، ماذا التجرّي؟
أصبَحَتْ سرّيّتي لافتةً
فوق وجهي،وجداراً فوق ظهري
كيف أُخفي والقناديل هنا
وعلى وجهي وكالات التحرّي
كلّ مستورٍ تعرّى، إنّما
سرق الأنظارَ تزوير التعرّي.
ولا يخفى (البعد الوجودي) في تشكيل شخصيّة (البطل) في هذا الموضع وسواه من القصيدة، وتلك سمةٌ في شعر البرد وني لا تغيب عن لبيب، غير أنّي منصرفٌ عنها لأنظر في طرائقه في بناء القصيدة من خلال قصيدته هذه.فأراه يعي أنّ البناء الدراميّ لا يستقلّ عن سواه من أنماط البناء الشعريّ، وإنّما له أنْ يمتزج معها لينمو (الحدث) ويمضي إلى غايته.وهو إنّما يصنع ذلك في قصيدةٍ لها من حيث هي جنسٌ أدبيٌّ عناصر تكوينها، وعلاقاتها الخاصّة. فيلتحم (البناء السرديّ) بالبناء الدراميّ في مواضع من القصيدة كما نجد في قوله:
هذه سيّارةٌ تدهمني
تلك أُخرى، في يد الشيطان أمري
متّ فوراً، كان قبري داخلي
غبتُ فيه لحظةً، واجتزتُ قبري
وهو إنّما يصنع ذلك تمهيداً لحدثٍ، وللانتقال من حالٍ إلى حالٍ آخر، ممّا يسهم في تطوير حدث القصيدة، والصعود بها إلى ذروتها المقصودة. ولذلك أضاف في المقطع الثالث شخصيّة أُخرى إلى ما قد سلف من شخصيّاتٍ، ورأينا بطل القصيدة وهو يتلمّس عند (الثريّا) يقيناً لا تجده هي في الأصل:
ليت شعري ا ثريا ما الذي
سوف يأتي بعد هذا؟ ليت شعري
فهي في حيرةٍ من أمرها، يملؤها الإحساس بالمتقابلات الضديّة، ويوهن من عزمها التأمّل في الاحتمالات القادمة، فلا تجرؤ على الجزم بالقول بحقيقةٍ واحدة:
ربّما يأتي الذي يُخمدني
ربّما يأتي الذي يشعل جمري
ربّما فاجأني ما أشتهي
ربّما لاقيت أزرى بعد مُزري.
وتلك هي الخطوة الأولى للاستسلام والرضى بالموجود دون قدرة على الثورة عليه،أو الإصرار على الظفر بالمشتهى ونيل المنشود. وهنا يتراءى(البعد الوجوديّ)ظاهراً في تشكيل شخصيّة البطل في شعر البردوني كما قد سلف. على أنّ لتكرار استخدام الحرف (ربّما) بمعنى الشكّ والظنّ والرجحان دلالته الأسلوبيّة ههنا.
والنص يخرج من(الإخبار) إلى (الإنشاء)،أو قلْ من (السرد) إلى (الدراما) دون أنْ يخلي (الخبر) من موقفٍ ذاتيّ يتمثّل في الانفعال بحال الآخر أو السخريّة منه، أو الاتحاد به في الرؤية والموقف:
الثريّا آه مثلي تمتري
قل لها يا (مشتري) ماذا ستشري؟
وإنّما يكون الفزع إلى الآخر طلباً للنجاة، لكنّه يتجلّى ههنا عن مفارقةٍ بندو فيها المستجير (بالمشتري) كالمستجير من الرمضاء بالنار، فالجرحان من ألمٍ، والدمعان كم وادٍ.
ربّما بعت مداري ليلةً
واشترى يوماً مهبّ الريح سرّي.
فتتماهى الشخوص في الموقف والرؤية، وتكتمل دورة الحدث الأولى فكان لابدّ من خلق شخصيّات أخرى مضادة لها في الهيئة والحال، فقال:
هذه نظّارةٌ ترنو إلى
وجه غيري وهي تشويني وتفري
جمرها يقرؤني من داخلي
وأنا في خارجي امتصّ حبري
وهنا يتداخل (السرد) و(الدراما) ثانيةً، وفي هذا ما ينبئك أنّ البردّونيّ لا ينظم صوراً متفرقة متبعثرة، وإنّما ينسج كياناً مترابطاّ متماسكاً وإنْ تراءت وحداته أشتاتاً.
وفي هذا الموضع تتداخل علاقتا (التشابه) و(التداعي) كما تداخل البناء السردي والبناء الدرامي في آنٍٍ.فيلجأ الشاعر إلى الصورة، ومنها ما كان بناؤه كنائيّاً رامزاً كقوله: (نظّارة ترنو إلى وجه غيري…)، وهي تتداعى مع صورة المخبر وهيئته كما تجلّت في العصر الحديث. ومنها ما كان بناؤه استعارياً كقوله: (تشوي وتفري، لها جمرها، الجمر يقرأ، ولامتصاص الحبر ههنا دلالته). وإنّ الإيغال في بناء الصورة الاستعاريّة شرط لازم لازبٌ لمقاربة البعد الشعريّ للقصيدة، والبعد بها عن روح السرد وخصائصه كما أوضح جاكوبسون بعض ذلك في أحاديث له تنظر في مظانها، أمّا أنا فيهمّني الالتفات إلى خلق هذه الشخصيّة في هذا الموضع من القصيدة، ودورها في حركة القصيدة واكتمال البناء.وإنّها شخصيّةٌ فاعلةٌ، وفاعليّتها كامنة في حثِّ (بطل القصيدة) على الخروج من حال الشكّ والحيرة إلى حال اليقين. فهذه (الشخصيّة النظّارة) بترصده وتتهدّده في صمتٍ، لكنّه صمتٌ حارقٌ يغزو أعماق البطل ويملؤه رعباً فيلجأ إلى آخرين يحررونه من حيرته وشكّه وجهله بالقادم من أعماق الغيب:
ما الذي يا ريح؟، مثلي لا تعي
ما الذي يا برق؟ يرنو وهو يسري
ما الذي يا آخر الليل ترى؟
ما الذي يا فجر؟ يومي سوف تدري
وهنا تبلغ الدرامية ذروتها، وتتراءى الأشطار جملاً متقابلة منشطرةً بين خبرٍ وإنشاء، فينبثق الاستفهام منها، ويسطع الجواب في آنٍ. ويتكرّر تركيب الكلام في نسقٍ متشابه يكسره الشاعر بما أومأ به (الفجر)، وهو آخر شخصيّات القصيدة ذات الفاعليّة الظاهرة، فظهرت جملته (سوف تدري) أملاً يقود إلى مشارف يقينٍ ومعرفةٍ نقّب عنهما بطل القصيدة في تعبٍ وضنى.ف ماذا لقيَ بعد ذلك؟ لقد وجد يقيناً لكنّه مشوبٌ بالظنّ، وهو ما لاقى هوى في نفس البطل لأنّه يتماهى مع رؤيته للحياة، وجوهر تلك الرؤية أنّ التحوّلَ لا يحمل مجداً، ولعلّه يكون سبباً في المهانة والازدراء:
ربّما أصبحت شيئاً ثانياً
تزدري ما كنت قبل الآن تطري
فارتضى البطل تلك النبوءة مستسلماً وقد هدّه البحث المضني عن حقيقة ذلك القادم من أعماق الغيب كيف يكون؟ وبدا اليقين صورةً من صور الحيرة التي كابدها بطل القصيدة من أولها حتّى منتهاها:
حسناً، من أسأل الآن؟ إلى
أيّ أكتاف الربى أحمل صخري؟
وهنا تُختتم القصيدة بالاستفهام كما اُفتتحت به. ومنه انبثقت الحيرة والشك والعجز عن الوصول إلى جوهر الأشياء وحقائقها، وإليها انتهت. وكأنّما أراد البردّوني لبناء قصيدته أنْ يكون منفتحاً لتنثال الأسئلة في أفئدة المتلقّين يجيبون عنها كما شاءوا وشاء لهم الوعيُ والإدراك. وفي هذا ما فيه من إتقان للصنعة الشعريّة، وإحكام البناء.
والسؤال الآن هو: إلى ماذا قصد البردوني حين بنى قصيدته على ذلك النحو من البناء؟ أتراه رام الدلالة على عبقريّةٍ في النظم وقدرةٍ على التشكيل؟ إنّ كان ذلك مبتغاه فهو عابثٌ لاهٍ، ولم يكن البردوني في شعره بالعابث اللاهي قطُّ.وعندي إنّه إنّما تغيّا من خلال هذا البناء بثَّ رؤيته وموقفه من أحداث زمانه وبلاده في عامٍ ملأ النفوس بالحيرة والشكّ، وحاصر الأفئدة بالقلق والظنون، فتراءى اليقين الجازم حلماً لايطال.فتماهت طرائق التعبير عن الرؤية في القصيدة مع حركة الوعي في المجتمع، وتراءى بناؤها صورة من صور الواقع المعيش يومذاك.
وتلك واحدةٌ من خصائص كلّ شاعرٍ عبقريّ عظيم. وما البردوني إلاّ واحدٌ من هؤلاء.